بعد خطف ناقلة النفط العملاقة التابعة لشركة أرامكو السعودية على يد قراصنة بحر ينطلقون من موانئ صومالية, لم يعد الأمر مجرد ظاهرة قرصنة بحرية بقدر ما بات مشكلة إقليمية ودولية تهدد أمن البحار وطرقها الاستراتيجية, فهؤلاء القراصنة الذين أعادونا إلى أجواء القرون الوسطى وأشهر صورها قراصنة البحار بقائدهم ذي القدم الخشبية الذي يخفي عينه العوراء بربطة سوداء كما كان يفعل وزير حرب العدو الصهيوني الأسبق والشهير موشي ديان, وهم يجوبون البحار المفتوحة ويقومون بسلب السفن دون خوف أو خشية من قانون. هؤلاء القراصنة الجدد جاء خطفهم الناقلة السعودية لكي يؤكد أن ما يجري في القرن الإفريقي من عمليات قرصنة بحرية بات قضية جدية وخطيرة, ويبرز ذلك قدرتهم على الاستيلاء على ناقلة نفط بهذا الحجم, وعلى بعد 800 كيلو متر من سواحل كينيا ووسط بحر يعج بالسفن الحربية الأمريكية والأوروبية والهندية. وخطف هذه الناقلة الضخمة لم يكن بالتأكيد قد جرى في جنح ظلام ولا بعملية خاطفة لا تلفت نظر من يجوبون بحر القرن الإفريقي, بل تم في وضح النهار وبعملية لم تستغرق أكثر من 15 دقيقة, كما قيل, ومن ثم تم اقتيادها بكل ضخامتها وبطء حركتها كل هذه الأميال وإيقافها قبالة ساحل مرفأ هرارديري شمال الصومال وكأنهم يقودون قارب صيد صغيرا, أليس الأمر محيرا ويطرح عديدا من علامات الاستفهام حول قدرات وإمكانات وتجهيزات هؤلاء القراصنة المفترض أنهم بدائيون؟
المسألة في تصوري ذات مضامين أكبر من مجرد عمليات قرصنة للحصول على فدية مالية, وأبعد من كونها جماعات خارجة على القانون, وهنا لنزح قليلا نظرية المؤامرة ونرى الأمر بواقعية مجردة, فنحن في عالم لم تعد فيه الأحداث تحدث وتجري هكذا بتلقائية, فعالمنا اليوم بات محكوما بمصالح يقاتل الجميع من أجلها, وجزء من هذه المصالح يتطلب تهيئة ظروف معينة لخدمتها, وعلى خلفية ذلك بدأ يُسمع همس من بعيد أن عملية ضبط الأمن البحري تتطلب تدويل البحر الأحمر, وحين الحديث عن مثل هذا التدويل تظهر دولة العدو الإسرائيلي كعنصر فاعل فيه, فمن له مصلحة في هذا التدويل؟ من له مصلحة هو من يرعى ويقف خلف عمليات القرصنة البحرية, ثم جاء أمر آخر يثير الريبة حين أعلنت إحدى كبرى شركات النقل البحري تغيير خطوط سيرها من قناة السويس لرأس الرجاء الصالح جنوب القارة الإفريقية. وهنا أيضا نسأل من له مصلحة في الضغط على مصر تحديدا بتحويل خط سير السفن التجارية بعيدا عن قناة السويس وإفقاد مصر دخلا يتجاوز 15 مليون دولار يوميا؟ أعتقد أن هذه القرصنة البحرية المتركزة في واحد من أهم الممرات المائية الاستراتيجية في العالم تفوق إمكانات وقدرات مجموعات صومالية يمكن لها أن تمارس مثل هذه القرصنة.
بقدر ما دول المنطقة, خاصة دول القرن الإفريقي وتلك المطلة على البحر الأحمر مطالبة بالتحرك السريع والحاسم لوضع حد لهذه المشكلة, بقدر ما هي مطالبة بأن تكون المعالجة جذرية حتى لا تكون جزئية ووقتية, فظاهرة القرصنة البحرية التي ظهرت أخيرا لا يمكن عزلها عن الحالة الصومالية بعمومها, فالوضع الصومالي أهمل بكل أسف منذ اندلاع الفوضى في هذا البلد منذ عام 1991 بعد وفاة الرئيس الصومالي القومي محمد سياد بري, وهو ما أدى إلى زوال الدولة الصومالية وتنازع ما عرف بأمراء الحرب على توزيع تركة الدولة الصومالية فيما بينهم والتصارع حولها حتى أصبح الصومال بلدا بلا دولة, ولا مؤسسات ولا نظام, فدبت فيه الفوضى فتحول من دولة إلى دويلات تمتد وتنكمش كل منها حسب مد وجزر قوتها, ومن رحم هذه الفوضى, التي قاربت عقدين من الزمن ظهرت جماعات مختلفة حتى ظهرت أخيرا جماعة قرصنة بحرية.
لا شك أن الإهمال الذي عاشه الصومال وتركه طوال هذه السنين نهبا للعصابات المسلحة والحروب الأهلية, تقع مسؤوليته على المجتمع الدولي عامة وعلى دول الإقليم خاصة, فالصومال بلد عضو في الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي ويحتل موقعا استراتيجيا في منطقة القرن الإفريقي مؤثرا ومهما, وكان يفترض ألا يترك هذا البلد نهبا للفوضى وينزلق ليكون بؤرة قلق وحاضنا لتكون جماعات منفلتة بعيدا عن وجود دولة ونظام مركزي, فالموقع الاستراتيجي لبلد مثل الصومال يجعله بيئة مناسبة لتشكل كل ألوان الجماعات والتجمعات العقائدية والنفعية معا, والحل الأساسي لن يأتي من الخارج بل من الداخل, أي أن يُعمل عربيا وإفريقيا على دعم حكومة مركزية قوية قادرة على فرض الهيبة والنظام وقمع كل من يخرج على القانون, أما ترك الأمر لمجتمع دولي ثبت عدم جدواه والشك في مصداقيته، وتحركه مصالح قوى كبرى, فلن يؤدي إلى نتيجة, بل سيعقد الوضع ويزيد طينته بللا.