الدمقرطة العربية إعادة تفكير ام ثورات للتغير؟
مرسل: السبت مارس 05, 2011 8:45 pm
ماجد الشيخ
تؤكد الثورات الشعبية العربية أن الاستبداد لا يمكن له أن يواصل تعايشه مع دمقرطة شكلانية موحى بها من الخارج، وأن التغيير على درب الإصلاح السياسي والاقتصادي، لم يعد ممكنا دون التغيير الجذري لسلطات الأنظمة القائمة منذ عشرات السنين. من هنا ضرورة إعادة التفكير في الدمقرطة العربية، حيث الانتخابات الشكلية بروتينيتها وبقوانينها المعلبة والجاهزة، تهيمن في فضاء الديمقراطية دون أن تقاربها وإن بشكل نسبي. ما حتّم بلورة هذا الاتجاه التغييري، عبر الثورات الشعبية التي رأيناها تتفجر؛ في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ونرى ملامح وإرهاصات لها في عدد من دول المنطقة، عربية وغير عربية، قابلة لأن تبلور اتجاهاتها وتوجهاتها نحو هبات أو انتفاضات شعبية، يمكنها أن تتحول إلى ثورات ديمقراطية سلمية في مستقبل يبدو قريبا.
هذا هو منطلق كتاب الدكتور العربي صدّيقي في طبعته الأولى (تشرين الأول/أوكتوبر) 2010 الصادر عن مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وترجمة الدكتور محمد شيا. نقول منطلق، لأن المؤلف كاد يقارب المآلات التي يمكن أن تفضي إليها الأوضاع العربية المأزومة، وقد أفضت إلى عدد من الثورات حتى الآن.
انتخابات.. ولا ديمقراطية
في غياب مقابل محلي أصيل للدراسات الأورو – أميركية في مسألة الانتقال إلى الديمقراطية، سيبقى من الصعب في المنطقة العربية مشاهدة إصلاحات بمنظار غربي حصرا، فما يميز "علم الانتقال العربي" الناشئ، حتى الآن، هو عودته باستمرار إلى الأطر والمفاهيم النظرية الغربية، التي لا تنجح دائما في تفسير الخصوصيات العربية؛ فالتقليد الأكاديمي الغربي بخصوص الدمقرطة في الوطن العربي، ما يزال يتجاهل التصورات المحلية للمسألة، كما أن التصورات المحلية، وفي الجهة المقابلة، لا تخرج عن إطار الممارسة المعرفية للمركزية الأوروبية – نظرية التبعية أو الدمقرطة، إلاّ أن مدخلا كهذا يفتقر بوضوح إلى الروح النقدية.
وفي صدد النزاع حول الدمقرطة، يؤكد المؤلف أن الدول والمجتمعات العربية عالقة في دوامة التحديات التي جلبتها المسيرة العالمية للدمقرطة إلى المنطقة العربية، فيما يرى أن التحليلات الراهنة للديناميات المعقدة الخاصة بالحركة العربية، نحو لبرلة البنى السلطوية لمختلف الدول البوليسية، ما تزال مجتزأة: نظرا إلى اختلاف الرؤى بين العرب إلى الديمقراطية "كزوجين يستحيل التعايش بينهما" إلى حد امتداد "هذا الوهم البائس ليشمل أيضا تناقض الإسلام مع الديمقراطية".
وهنا يجادل العربي صدّيقي في كتابه هذا، بأن البحث عن ديمقراطيات مما يسميه "الموجة الثالثة" في الوطن العربي هو تمرين عقيم، وبدون نتيجة، إذ يجب الاعتراف بأن الوطن العربي لا يملك في المكان والزمان رصيدا من اللبرلة، يمكن مقارنته بنجاحات بلدان جنوب أوروبا وشرقها. على أن قياس الديمقراطية بواسطة الاختيار الانتخابي وحده، قياس مشكوك في صدقيته. وباستعادة رؤية هانتيغتون وميله البنيوي إلى إعلاء شأن الاختيار الانتخابي وأولويته، وفي اعتباره أن إجراء الانتخابات هو "جوهرالديمقراطية". إلاّ أن ثلاثين عاما من الانتخابات في مصرتؤيد أكثر مما تدحض ملاحظات أودونيل (غليرمو) النقدية حيال التعزيز غير الجدي، وبخاصة حين تتعايش الأنشطة الانتخابية مع الاستبداد في ما يُزعم أنه ديمقراطيات جديدة، لم تنجح الانتخابات في الوطن العربي في زحزحة التفرد والاستئثار بالسلطة الفعلية، و"الانتخابات بدون ديمقراطية" هي ما يميز الاصلاحات السياسية العربية.
وما يعكس "قصة" الانتخابات في الوطن العربي، أن الانتخابات تضع في السلطة الأوتوقراطيين والمتعصّبين الأيديولوجيين والإثنيين وغلاة المتدينين، بدلا من أن تشيع عمليتي الاندماج وتوسعة المصالح، حيث أضحت "الانتخابات المقننة" والموجهة بقوانين سلطوية، هي من تمد من أمد تسلط الأوتوقراطيين على السياسة (خذ مثلا بن علي في تونس، ومبارك في مصر، وعبدالله صالح في اليمن، والبشير في السودان) على عكس المثال ذاك، لم يُسلّم الضباط العرب السلطة إلى حكومات مدنية، لقد أصبحوا هم أنفسهم السلطة المدنية (مثلا اليمن، ليبيا، السودان 1989، تونس). إن خلع البزة العسكرية وارتداء ملابس مدنية لا يشكلان انتقالا ديمقراطيا.
وأمام تساؤل الدمقرطة وكيف تتدمقرط البلدان، أو كيف يجري نزع التسلطية فيها، يرى المؤلف "أن قلة هي المقاربات البارزة في شرح الانتقال الديمقراطي التي تميل إلى الخروج بخلاصات نظرية، استنادا فقط إلى بضع وقائع متفرّدة في الوطن العربي، وبالرغم من كثرة الدراسات الأكاديمية في مسألة تغيير النظام، فإنه لا يوجد حتى الآن "وصفة" عالمية للشروط التي تؤدي إلى توسيع المشاركة والمنافسة وإلى تقلص السلطوية"، ولعل ما جرى في تونس، وما يجري في مصر، وما يعتمل في بلدان أخرى، يكون نوعا من وصفات محلية لكل تجربة في تغيير النظام أو في توسيع المشاركة الشعبية في سلطة يجري تداولها، ولا تبقى حصرا بشخص أو بعائلة أو بنخب.
إصلاح تحت الضغط
وبذا يرى المؤلف أن رحلة الديمقراطية والدمقرطة في الوطن العربي، ومعهما معتقداتهما ونصوصهما المفاهيمية والمؤسساتية، تشهد على حقيقة أن الوطن العربي ليس في حالة "منفى" في ما خص السعي نحو الحكم الرشيد، المشكلة هي في مكان آخر، حيث يوضّح الكتاب "أن الدمقرطة العربية تتبع، كما يبدو، مسارا دائريا؛ وبالتالي، فإن الانتخابات لا تهجر إلى الأبد النقطة التي انطلقت منها الأطقم الأوتوقراطية الحاكمة، وفي السلطة، الأسر نفسها غير الخاضعة للمساءلة. وفي الواقع، يمكن التساؤل عما إذا كان مصطلح "الثورة الثالثة" يمكن أن يطبّق على المبادرات السياسية الراهنة على امتداد المشهد السياسي العربي، بدون الوقوع في احتمال تعظيم أهمية المبادرات تلك. وربما يكون الوطن العربي، وعلى نحو غير مستقر، على شفا موجة من الدمقرطة، كما أنه يصعب وضع حدود زمنية دقيقة لاتجاهات الإصلاح العربي" إذ يمكن ملاحظة أن ما جرى ويجري في تونس وفي مصر، وما قد تحذو حذوه بلدان أخرى، هي موجات من الإصلاح العربي المفروض بقوة الثورات والانتفاضات الشعبية.
وفي رصده التفصيلي لصعود ما يسميه "الانتخابوية" في سائر أجزاء الوطن العربي، وتفسيره التفجّر الانتخابي، يعتبر أنه الدليل الملموس، العلني، والأكثر وضوحا، على إن إصلاحا نوعيا هو قيد التحقّق، ولكنه لم يتحقق، فالتعطش للتغيير مطلب صارخ. أما "الانتخابوية" فلم تتمكن حتى الأن من وضع حد للأوضاع البائسة التي يشهدها الوطن العربي، ومع ذلك تتمدد الانتخابات اليوم، وهي ربما تقارب حد تكوين "موجة" من الإصلاحات. لكن "الانتخابوية" في حقبة 1998 – 2008، وبمعزل عن أنها تكاد تبدو في روتينيتها وكأنها ديمقراطية، تبقى قشرة ديمقراطية لمضمون غير ديمقراطي.
وفي تناوله لموضوع الدمقرطة بواسطة العدوى في الوطن العربي، يقول المؤلف أن موجة الدمقرطة الرابعة في الدوائر الجيو – سياسية للشرق الأوسط العربي، لم تؤت ما كان مرجوّا منها. ويعيدنا هذا إلى مسألة الانفصال بين النظرية والممارسة، فالدروس التي تنطبق على منطقة ما قد تكون بالنسبة إلى منطقة أخرى ذات قيمة محدودة فحسب. وهي تعبّر عن بعض المفارقة القديمة الدائمة حول مدى انطباق الكلي على الجزئي، ربما كان للموجة الرابعة انطلاقة شاملة ناجحة في منطقة جنوب أوروبا، لتنتشر من ثم إلى أميركا الجنوبية اللاتينية، وشرق أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وأجزاء من إفريقيا. ومع ذلك فإن شموليتها تلك لا تعني عالميتها. ولهذا وفي صدد موضوع العدوى من داخل الوطن العربي، يشدّد المؤلف على أن المشكلة هنا هي أن لا وجود لـ "نماذج دمقرطة" مشعة في المنطقة.
ولذا.. يمكن فهم "الانتخابوية" باعتبارها إدارة الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي، وفق نمط فوق – تحت ومن الخارج، إلاّ أن هناك قوى موجودة تحت، وهي تضغط بقوة على المركز، فالمنتفضون من أجل الخبز، والمدونون، والمقترعون على "الأون لاين" كلهم أمثلة تشير إلى أن مجتمعات الوطن العربي ليست سلبية، على ما أبرزته بوضوح في الآونة الأخيرة وفي وقت قصير ثورة الشعب التونسي وثورة الشعب المصري وثورة الشعب الليبي وثورة الشعب اليمني، وثورات شعوب بالانتظار.
أخيرا.. يؤكد الكتاب على أن التغيير السياسي في الوطن العربي وعلى المدى القصير، يتغذى ولو في حدود وتحت السيطرة، من ظاهرة انتفاضات الخبز، أكثر مما يتغذى من إعادة التشكيل الإرادي لعلاقات القوة القائمة الفردية والثابتة، في عالم معولم يتداخل فيه صنع القرار الاقتصادي مع الإملاءات التي يفرضها سوق عالمية خارجة عن السيطرة، ربما يشهد الوطن العربي مزيدا من انتفاضات الخبز، على أن تسييس وتجذر هذه الانتفاضات سوف يظهران مطالب التغيير، ويوسّعان منها باتجاه نقل التركيز من الاقتصادي إلى السياسي، وهو ما نراه اليوم أمام أعيننا في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والعراق، وما ترهص به أوضاع العديد من بلدان الوطن العربي، على الرغم من التراجعات الاستباقية التي رأينا أنظمة عدة تلجأ إليها، قبل أن يصلها طوفان الثورة الشعبية والانتفاضات الجماهيرية، تلك التي لا عاصم لها منها، مهما اتخذت من إجراءات شكلانية، أو سياسات ترقيعية، فالمطلوب؛ تغيير جذري يطيح كل النظام القديم، وأشباه الطبقات القديمة التي حوّلت مجتمعاتها، باستبدادها المقيم، أو بالسكوت على استبدادية قوى دينية وغير دينية، امتهنت وتمتهن الفتن والحروب الأهلية، سلوكا عمليا لتطبيق شريعتها المضادة لكل الشرائع البشرية.
تؤكد الثورات الشعبية العربية أن الاستبداد لا يمكن له أن يواصل تعايشه مع دمقرطة شكلانية موحى بها من الخارج، وأن التغيير على درب الإصلاح السياسي والاقتصادي، لم يعد ممكنا دون التغيير الجذري لسلطات الأنظمة القائمة منذ عشرات السنين. من هنا ضرورة إعادة التفكير في الدمقرطة العربية، حيث الانتخابات الشكلية بروتينيتها وبقوانينها المعلبة والجاهزة، تهيمن في فضاء الديمقراطية دون أن تقاربها وإن بشكل نسبي. ما حتّم بلورة هذا الاتجاه التغييري، عبر الثورات الشعبية التي رأيناها تتفجر؛ في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، ونرى ملامح وإرهاصات لها في عدد من دول المنطقة، عربية وغير عربية، قابلة لأن تبلور اتجاهاتها وتوجهاتها نحو هبات أو انتفاضات شعبية، يمكنها أن تتحول إلى ثورات ديمقراطية سلمية في مستقبل يبدو قريبا.
هذا هو منطلق كتاب الدكتور العربي صدّيقي في طبعته الأولى (تشرين الأول/أوكتوبر) 2010 الصادر عن مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وترجمة الدكتور محمد شيا. نقول منطلق، لأن المؤلف كاد يقارب المآلات التي يمكن أن تفضي إليها الأوضاع العربية المأزومة، وقد أفضت إلى عدد من الثورات حتى الآن.
انتخابات.. ولا ديمقراطية
في غياب مقابل محلي أصيل للدراسات الأورو – أميركية في مسألة الانتقال إلى الديمقراطية، سيبقى من الصعب في المنطقة العربية مشاهدة إصلاحات بمنظار غربي حصرا، فما يميز "علم الانتقال العربي" الناشئ، حتى الآن، هو عودته باستمرار إلى الأطر والمفاهيم النظرية الغربية، التي لا تنجح دائما في تفسير الخصوصيات العربية؛ فالتقليد الأكاديمي الغربي بخصوص الدمقرطة في الوطن العربي، ما يزال يتجاهل التصورات المحلية للمسألة، كما أن التصورات المحلية، وفي الجهة المقابلة، لا تخرج عن إطار الممارسة المعرفية للمركزية الأوروبية – نظرية التبعية أو الدمقرطة، إلاّ أن مدخلا كهذا يفتقر بوضوح إلى الروح النقدية.
وفي صدد النزاع حول الدمقرطة، يؤكد المؤلف أن الدول والمجتمعات العربية عالقة في دوامة التحديات التي جلبتها المسيرة العالمية للدمقرطة إلى المنطقة العربية، فيما يرى أن التحليلات الراهنة للديناميات المعقدة الخاصة بالحركة العربية، نحو لبرلة البنى السلطوية لمختلف الدول البوليسية، ما تزال مجتزأة: نظرا إلى اختلاف الرؤى بين العرب إلى الديمقراطية "كزوجين يستحيل التعايش بينهما" إلى حد امتداد "هذا الوهم البائس ليشمل أيضا تناقض الإسلام مع الديمقراطية".
وهنا يجادل العربي صدّيقي في كتابه هذا، بأن البحث عن ديمقراطيات مما يسميه "الموجة الثالثة" في الوطن العربي هو تمرين عقيم، وبدون نتيجة، إذ يجب الاعتراف بأن الوطن العربي لا يملك في المكان والزمان رصيدا من اللبرلة، يمكن مقارنته بنجاحات بلدان جنوب أوروبا وشرقها. على أن قياس الديمقراطية بواسطة الاختيار الانتخابي وحده، قياس مشكوك في صدقيته. وباستعادة رؤية هانتيغتون وميله البنيوي إلى إعلاء شأن الاختيار الانتخابي وأولويته، وفي اعتباره أن إجراء الانتخابات هو "جوهرالديمقراطية". إلاّ أن ثلاثين عاما من الانتخابات في مصرتؤيد أكثر مما تدحض ملاحظات أودونيل (غليرمو) النقدية حيال التعزيز غير الجدي، وبخاصة حين تتعايش الأنشطة الانتخابية مع الاستبداد في ما يُزعم أنه ديمقراطيات جديدة، لم تنجح الانتخابات في الوطن العربي في زحزحة التفرد والاستئثار بالسلطة الفعلية، و"الانتخابات بدون ديمقراطية" هي ما يميز الاصلاحات السياسية العربية.
وما يعكس "قصة" الانتخابات في الوطن العربي، أن الانتخابات تضع في السلطة الأوتوقراطيين والمتعصّبين الأيديولوجيين والإثنيين وغلاة المتدينين، بدلا من أن تشيع عمليتي الاندماج وتوسعة المصالح، حيث أضحت "الانتخابات المقننة" والموجهة بقوانين سلطوية، هي من تمد من أمد تسلط الأوتوقراطيين على السياسة (خذ مثلا بن علي في تونس، ومبارك في مصر، وعبدالله صالح في اليمن، والبشير في السودان) على عكس المثال ذاك، لم يُسلّم الضباط العرب السلطة إلى حكومات مدنية، لقد أصبحوا هم أنفسهم السلطة المدنية (مثلا اليمن، ليبيا، السودان 1989، تونس). إن خلع البزة العسكرية وارتداء ملابس مدنية لا يشكلان انتقالا ديمقراطيا.
وأمام تساؤل الدمقرطة وكيف تتدمقرط البلدان، أو كيف يجري نزع التسلطية فيها، يرى المؤلف "أن قلة هي المقاربات البارزة في شرح الانتقال الديمقراطي التي تميل إلى الخروج بخلاصات نظرية، استنادا فقط إلى بضع وقائع متفرّدة في الوطن العربي، وبالرغم من كثرة الدراسات الأكاديمية في مسألة تغيير النظام، فإنه لا يوجد حتى الآن "وصفة" عالمية للشروط التي تؤدي إلى توسيع المشاركة والمنافسة وإلى تقلص السلطوية"، ولعل ما جرى في تونس، وما يجري في مصر، وما يعتمل في بلدان أخرى، يكون نوعا من وصفات محلية لكل تجربة في تغيير النظام أو في توسيع المشاركة الشعبية في سلطة يجري تداولها، ولا تبقى حصرا بشخص أو بعائلة أو بنخب.
إصلاح تحت الضغط
وبذا يرى المؤلف أن رحلة الديمقراطية والدمقرطة في الوطن العربي، ومعهما معتقداتهما ونصوصهما المفاهيمية والمؤسساتية، تشهد على حقيقة أن الوطن العربي ليس في حالة "منفى" في ما خص السعي نحو الحكم الرشيد، المشكلة هي في مكان آخر، حيث يوضّح الكتاب "أن الدمقرطة العربية تتبع، كما يبدو، مسارا دائريا؛ وبالتالي، فإن الانتخابات لا تهجر إلى الأبد النقطة التي انطلقت منها الأطقم الأوتوقراطية الحاكمة، وفي السلطة، الأسر نفسها غير الخاضعة للمساءلة. وفي الواقع، يمكن التساؤل عما إذا كان مصطلح "الثورة الثالثة" يمكن أن يطبّق على المبادرات السياسية الراهنة على امتداد المشهد السياسي العربي، بدون الوقوع في احتمال تعظيم أهمية المبادرات تلك. وربما يكون الوطن العربي، وعلى نحو غير مستقر، على شفا موجة من الدمقرطة، كما أنه يصعب وضع حدود زمنية دقيقة لاتجاهات الإصلاح العربي" إذ يمكن ملاحظة أن ما جرى ويجري في تونس وفي مصر، وما قد تحذو حذوه بلدان أخرى، هي موجات من الإصلاح العربي المفروض بقوة الثورات والانتفاضات الشعبية.
وفي رصده التفصيلي لصعود ما يسميه "الانتخابوية" في سائر أجزاء الوطن العربي، وتفسيره التفجّر الانتخابي، يعتبر أنه الدليل الملموس، العلني، والأكثر وضوحا، على إن إصلاحا نوعيا هو قيد التحقّق، ولكنه لم يتحقق، فالتعطش للتغيير مطلب صارخ. أما "الانتخابوية" فلم تتمكن حتى الأن من وضع حد للأوضاع البائسة التي يشهدها الوطن العربي، ومع ذلك تتمدد الانتخابات اليوم، وهي ربما تقارب حد تكوين "موجة" من الإصلاحات. لكن "الانتخابوية" في حقبة 1998 – 2008، وبمعزل عن أنها تكاد تبدو في روتينيتها وكأنها ديمقراطية، تبقى قشرة ديمقراطية لمضمون غير ديمقراطي.
وفي تناوله لموضوع الدمقرطة بواسطة العدوى في الوطن العربي، يقول المؤلف أن موجة الدمقرطة الرابعة في الدوائر الجيو – سياسية للشرق الأوسط العربي، لم تؤت ما كان مرجوّا منها. ويعيدنا هذا إلى مسألة الانفصال بين النظرية والممارسة، فالدروس التي تنطبق على منطقة ما قد تكون بالنسبة إلى منطقة أخرى ذات قيمة محدودة فحسب. وهي تعبّر عن بعض المفارقة القديمة الدائمة حول مدى انطباق الكلي على الجزئي، ربما كان للموجة الرابعة انطلاقة شاملة ناجحة في منطقة جنوب أوروبا، لتنتشر من ثم إلى أميركا الجنوبية اللاتينية، وشرق أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وأجزاء من إفريقيا. ومع ذلك فإن شموليتها تلك لا تعني عالميتها. ولهذا وفي صدد موضوع العدوى من داخل الوطن العربي، يشدّد المؤلف على أن المشكلة هنا هي أن لا وجود لـ "نماذج دمقرطة" مشعة في المنطقة.
ولذا.. يمكن فهم "الانتخابوية" باعتبارها إدارة الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي، وفق نمط فوق – تحت ومن الخارج، إلاّ أن هناك قوى موجودة تحت، وهي تضغط بقوة على المركز، فالمنتفضون من أجل الخبز، والمدونون، والمقترعون على "الأون لاين" كلهم أمثلة تشير إلى أن مجتمعات الوطن العربي ليست سلبية، على ما أبرزته بوضوح في الآونة الأخيرة وفي وقت قصير ثورة الشعب التونسي وثورة الشعب المصري وثورة الشعب الليبي وثورة الشعب اليمني، وثورات شعوب بالانتظار.
أخيرا.. يؤكد الكتاب على أن التغيير السياسي في الوطن العربي وعلى المدى القصير، يتغذى ولو في حدود وتحت السيطرة، من ظاهرة انتفاضات الخبز، أكثر مما يتغذى من إعادة التشكيل الإرادي لعلاقات القوة القائمة الفردية والثابتة، في عالم معولم يتداخل فيه صنع القرار الاقتصادي مع الإملاءات التي يفرضها سوق عالمية خارجة عن السيطرة، ربما يشهد الوطن العربي مزيدا من انتفاضات الخبز، على أن تسييس وتجذر هذه الانتفاضات سوف يظهران مطالب التغيير، ويوسّعان منها باتجاه نقل التركيز من الاقتصادي إلى السياسي، وهو ما نراه اليوم أمام أعيننا في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والعراق، وما ترهص به أوضاع العديد من بلدان الوطن العربي، على الرغم من التراجعات الاستباقية التي رأينا أنظمة عدة تلجأ إليها، قبل أن يصلها طوفان الثورة الشعبية والانتفاضات الجماهيرية، تلك التي لا عاصم لها منها، مهما اتخذت من إجراءات شكلانية، أو سياسات ترقيعية، فالمطلوب؛ تغيير جذري يطيح كل النظام القديم، وأشباه الطبقات القديمة التي حوّلت مجتمعاتها، باستبدادها المقيم، أو بالسكوت على استبدادية قوى دينية وغير دينية، امتهنت وتمتهن الفتن والحروب الأهلية، سلوكا عمليا لتطبيق شريعتها المضادة لكل الشرائع البشرية.