- السبت مارس 12, 2011 2:19 pm
#33318
الثورات الشعبية في العالم العربي .. رؤية شرعية
د. محمد المصلح *
كشفت الثورات الشعبية العربية المتتابعة الراهنة بدءا من الثورة الشعبية التونسية الباسلة.. ظاهرة جديدة في المشهد العربي ملفتة ومبشرة للغاية.. تتمثل هذه الظاهرة في كون هذه الثورات في الأصل ما هي إلا انتفاضات شبابية تمتاز بمجموعة من الصفات المشتركة المبهرة والتي هي ــــ في تقديرنا ــــ سر قوتها وفاعليتها، رغم وجود فروق فيما بين هذه الثورات يميز بعضها عن بعض.. من أبرز تلك الصفات المشتركة التي تمتاز بها هذه الثورات: أنها في الأساس حركات شبابية مستقلة وراقية، وذات روح معنوية عالية ومتقدة، وتتبنى استراتيجيات جديدة وفاعلة، وبعقلية حرة وواعية بامتياز.
إن هذه الظاهرة لجديرة بالدراسة المعمقة حيث إنها ذات دلالات كبيرة تستوجب التوقف عندها وتحليلها واستخلاص النتائج والدروس والعبر منها، ومن ثم إعادة مراجعة قراءة كامل المشهد العربي بتحولاته المتسارعة ومستقبله القريب والبعيد ومن جميع جوانبه في ضوء تلك النتائج، بما في ذلك مراجعة النظرة التقليدية السائدة عن شبابنا بشكل خاص وعن الشعوب العربية بشكل عام.
ومن المفارقة الملفتة في هذا السياق، والتي تستدعي الأسف الشديد في ذات الوقت، أن كثيرا من مواقف الرموز والنخب الدينية والفكرية والمجتمعية ــ والتي يفترض في الأصل أن تقوم بالتشجيع والتوجيه والترشيد والتنظير والإسناد والتأييد لشباب الثورات ومسيراتهم المباركة ــ لا ترقى ألبتة إلى مستوى تلك المواصفات الحيوية التي جسدها شباب الثورات الراهنة في مسيراتهم.. بل الأدهى من ذلك والأمرّ؛ أن من بين مواقف هؤلاء الرموز ما قد يُربك بعض أولئك الشباب ومناصريهم، ويضعف من معنوياتهم، ويشوّش عليهم مسيراتهم.. الأمر الذي قد يُنذر بأن تؤتى هذه الثورات من مثل تلك المواقف بأكثر مما قد تؤتى من المواجهات المباشرة لها من قبل النظم التي يثورون ضدها.
هذه المفارقة المؤسفة تفرض على كل صاحب قلم حر ومتجرد أن يسند الثورات الشعبية العربية الراهنة بكل ما أوتي من حجة وبيان، وينتصر لها، ويصد عنها أي تشويش قد يربكها أو يهدد مستقبلها.. وهذه محاولة لتقديم سند شرعي سياسي لهذه الثورات.
التكييف الشرعي للثورات الشعبية الراهنة:
يُجمع شباب الانتفاضات الشعبية العربية على أن الهدف الأساس لانتفاضاتهم ما هو إلا إسقاط النظم الحاكمة المستبدة والمتفرعنة والفاسدة والمستذلة لشعوبها، وذلك عبر الثورة الشاملة ضد تلك النظم.. كما يجمعون على أنهم ما ثاروا إلا لاسترجاع حرية الشعوب وكرامتها التي سحقتها النظم المستكبرة والجائرة سحقا طوال تاريخ هذه النظم القمعية التي امتدت لعقود.. والمطلب هذا مطلب إنساني يوحّد كل الثوّار الأحرار ومناصريهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والسياسية، وذلك ما تعكسه بوضوح شعارات هذه الثورات ومسيراتها.. والإجماع على هذا المطلب هو ــــ كما نعتقد ــــ من أهم مكامن القوة والأمل والاستبشار بالثورات الراهنة.
فما التكييف الشرعي لهذا المطلب السامي؟ وما التكييف الشرعي لتحقيقه عبر الثورة؟
التكييف الشرعي لهذا المطلب هو أنه من أولويات الدين الحنيف، بل هو متطلب سابق لإقامة الدين؛ حيث إن الدين لا يمكن أن يقام في مجتمع مسحوق ومهدور الكرامة وفاقد للحرية.. وهذا سر اشتمال القرآن المكي ــ مع تركيزه على بناء العقيدة ــ على آيات تتعلق بكرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية كإنسان، من مثل قول الله تعالى: "وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت"، مما يدل على أن احترام النفس البشرية والمحافظة على كرامة الإنسان وتحقيق حريته يقترن في القرآن مع أولويات الدين نفسه (1).. ويعضد ذلك اهتمام القرآن الملفت بقصة مواجهة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون الطاغية الظالم المستكبر المتألّه، وتحقيقهما لإرادة الله في تخليص شعب مصر المستضعف حينذاك من استعباد فرعون لكامل الشعب؛ وهي عبرة لكل شعب مستضعف يواجه الشخصية الفرعونية المتكررة عبر التاريخ (2).
كما أن الدين الحنيف يتوق إلى نصرة المظلوم كمبدأ عام، أيا كان هذا المظلوم، ويحث أتباعه أن يقفوا مع كل دعوة أو حركة ضد الظالمين أيا كانوا.. فهذا رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يقول عن حلف الفضول الذي تعاهد فيه عشائر من قريش قبل الإسلام على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، ويقفوا ضد من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته: "لقد حضرتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ لو أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".. وهذا الموقف القيمي المبدئي من رسول الإسلام عليه السلام له دلالاته القوية في هذا السياق.
ثم إن قيام الشباب بهذه الحركات الشجاعة في سبيل تحقيق هذا المطلب السامي يدل على تعافي أولئك الشباب من داء الوهن الذي أصاب الأمة في مرحلتها الغثائية التي حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" (3). فقد كسر هؤلاء الشباب جدار الخوف، ورُبط على قلوبهم فقاموا في وجه الظالمين، وثبتوا على موقفهم ثباتا مشهودا رغم كل محاولات التشويش عليهم، والبطش بهم، والالتفاف على حركاتهم.. والثبات على هذا الموقف هو من أهم عوامل النجاح في الثورات.
أما التكييف الشرعي للثورة كوسيلة لتحقيق هذا المطلب المشروع، فيمكن تحديده في النقاط المركزة التالية:
1. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب المستضعفة للتصدي للنظم المستكبرة والمستعبدة للشعوب.. والثورة بذلك تكون سببا في تحقيق إرادة الله في التمكين للمستضعفين وقطع دابر المستكبرين؛ "ونريد أن نمن على اللذين استُضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونُمكّن لهم في الأرض..." (4).
2. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب لتغيير منكر عظيم، ألا وهو الظلم والاستبداد، والذي تترتب عليه مناكر كبيرة كثيرة ومستمرة طوال تاريخ النظم المستبدة المراد إسقاطها.. وهذا واجب عيني على كل فرد من أفراد الشعوب كل بحسب استطاعته، للحديث: "من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (5).
بل إن الثورة تكاد تكون الوسيلة الفعّالة الوحيدة المتاحة للشعوب لتحقيق مطلبها المشروع، ولاسيما بعد أن فشلت الوسائل الأخرى في تغيير هذه النظم أو إصلاح ما أفسدته، وبعد أن عجزت أحزاب المعارضة في تحقيق الإصلاح المنشود من خلال الأدوات السياسية الأخرى المعهودة؛ نظرا لاستخدام النظم المستبدة لطرق ملتوية للحيلولة دون تحقيق هذه الأحزاب لأهدافها.. بالإضافة إلى أن النظم تستند ــ في حال استقرارها ــ إلى قوى الاستكبار العالمي المهيمنة على الأمة ضد أي حراك إصلاحي نوعي وفق الآليات المعهودة.
3. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب لمواجهة الحكام الجائرين بكلمة الحق، ولأمرهم ونهيهم، وتأطيرهم على الحق أطرا.. وهذا يعد من فروض الكفاية التي ما لم يقم بها البعض بشكل واف لا يسقط الإثم عن المجتمع بكامله.. بل إن هذا من أفضل الجهاد، لحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (6) ، والتفريط فيه يُنذر بعقاب للمجتمع بأسره، وبفتنة كبرى تعمه، للحديث: "لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم" (7) ، أي كما لعن بني إسرائيل.. ومن لم ينكر على الحكام الظلمة بأي شكل من الأشكال فهو آثم، لحديث: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" (8). والذي يموت في سبيل تحقيق هذا الفرض الكفائي يستحق رتبة "سيد الشهداء"، كما وعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (9).
والثورة بلا شك أوقع وأقوى وأجدى من المواجهات الفردية للحاكم المستبد الجائر، ذلك أنه في حال المواجهات الفردية يسهل على الحاكم الظالم أن يبطش ويقمع وينكّل بمن ينهاه عن الظلم، أو يسفه به ولا يلقي له بالا، ومن ثم يستمر في ظلمه، ولا يرتدع، ويصر على طغيانه، أما في حال الثورة الشعبية فإنه يصعب عليه البطش بالشعب كله، ولاسيما حينما تنجح الثورة في كسب الرأي العام العالمي.
4. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب للدفاع عن أعراضها وأموالها من النظم الفاسدة التي تنتهك فيها الأعراض، ويعتدى فيها على الحرمات، وتستباح فيها الممتلكات، وينهب فيها المال العام نهبا.. ومما تقرره الشريعة أن الدفاع عن الأعراض والأموال حق مشروع، والذين يموتون وهم يدافعون عن أعراضهم أو أموالهم فهم شهداء، لحديث: "من مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد" (10).
شبهة ورد
إنه لمن المستغرب بحق، بل من المستنكر جدا، في ضوء التكييف الشرعي السابق، أن تصدر أقوال منسوبة إلى رموز شرعية أو إلى مؤسسات دينية تصف هذه الثورات بأنها دعوات للفتنة، وأن الفتاوى والتصريحات التي تحث على الاستمرار في الثورات هي دعوات للفتنة كذلك!! ومن العجب أن تتطابق أقوال هؤلاء إلى حد كبير مع ما تطلقه النظم الفاسدة والجائرة نفسها من أوصاف على الثورات ضدها!!.. وبلا شك فإن هذه الأقوال مردودة وباطلة.. ذلك أن الفتنة لا تطلق على حال ــ كالحال في الثورات الشعبية العربية الراهنة ــ يتميز فيه الحق من الباطل، والظالمون عن المظلومين بشكل لا لبس فيه.. إذ في هذا الحال يكون هناك موقفان لا ثالث لهما:
1. إما الوقوف مع الحق ومناصرة المظلومين على قدر الاستطاعة.. وهذا هو الواجب.
2. وإما اتباع الباطل والركون إلى الظالمين.. وهذا هو المحظور.
فهنا؛ لا يوجد موقف محايد، فالحياد يكون بلا ريب لصالح الباطل والنظم الظالمة.. والحياد هنا يعد نوعا من السكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس.. كما أنه نوع من الخذلان للمظلومين الذي جاء فيه الوعيد "لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره" (11)، "ولأنتقمنَّ ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل" (12).. وهو كذلك نوع من الركون إلى الظالمين الذي جاء فيه الوعيد الشديد "ولا تركنوا إلى اللذين ظلموا فتمسكم النار" (13).
ولو سلمنا جدلا بأن في الثورة فتنة؛ فإن في بقاء النظم المستبدة الجائرة فتنة أشد وأفحش وأدوم كما سبق وبيناه.. ولا سيما وأن هذه النظم فاسدة إلى النخاع وخائنة لشعوبها وأمتها وفاقدة للشرعية في الأصل حيث إنها لم تأت بإرادة حقيقية من الشعوب.. وهنا تنطبق القاعدة: "تدرأ المفسدة الأشد بارتكاب المفسدة الأقل".
وفي الحقيقة أن وصف الثورة بأنها فتنة، فيه تعام مستهجن عن الفتنة الكبرى المتحققة بالفعل ببقاء النظم المستبدة الجائرة، والمفاسد الكثيرة المترتبة عليه.. ونسبة هذا الموقف من الثورة إلى الدين فيه جناية كبرى على الدين، وتنفير شديد منه، ومن رموزه.
البعد الاستراتيجي للثورة
نقطة الارتكاز الاستراتيجية في الثورات الشبابية الراهنة هي الإصرار الملفت في كل ثورة على إسقاط النظام الفاسد المستبد، واعتبار ذلك هو الهدف الاستراتيجي للثورة الذي لا محيد عنه. وهناك ثبات مشهود على هذا الموقف في كل ثورة من قبل شباب الثورة بالأخص، رغم كل محاولات الالتفاف على الثورات وإفسادها من قبل زبانية هذه النظم وأقطابها ومرتزقيها والمتنفعين من بقائها وفسادها.
ومن الإنصاف أن نسجل هنا ما نلحظه من تفوق نوعي ــ ومبشر أيضا ــ لموقف شباب الثورات في هذا الصدد تحديدا على كثير من مواقف رموز المعارضة بشكل خاص والنخب بشكل عام.. فنحن نلحظ بإعجاب واستبشار أن هؤلاء الشباب يُلحّون على هذا الهدف الاستراتيجي منذ اندلاع كل ثورة، ويركزون عليه، ولا يقبلون المساومة عليه، ولا ينخدعون بأي محاولة لإشغالهم عن تحقيقه، ويرفضون أي حوار مع أي طرف قبل تحقيق هدفهم الاستراتيجي هذا.. ولا يؤثر في موقف الشباب هذا أي من التغييرات الجزئية والشكلية التي تقوم بها النظم تحت شعار ظاهره الإصلاح التدريجي وباطنه محاولة الالتفاف على الثورات واحتوائها.
بل إن هؤلاء الشباب لا يقرون أساسا بشرعية النظم المستبدة الفاسدة، ولا أي من أقطابها، ولا مؤسساتها، ولا يحتكمون إلى الدساتير التي أسقطت الثورات شرعيتها.. فهم لا يستندون إلا إلى الشرعية الثورية.. وهذا يجعل مواقفهم متسقة.
أما مواقف كثير من رموز المعارضة والنخب فلا تخلو من اضطراب، بل وتتعارض مع روح الثورات؛ ذلك أنهم ما زالوا يفكرون بالعقلية التقليدية الهرمة فيما يبدو.. ويتخذون بعض المواقف المستنزفة للوقت والجهد بلا طائل، بل تعود سلبا على مسيرات الثورات.. وما الموقف من الحوار مع عمر سليمان على سبيل المثال ــ والذي هو أحد أقطاب النظام المصري المستبد الفاسد، وهو الرجل المفضل للعدو الصهيوني كبديل عن الرئيس المخلوع الموالي لهم ــ عنا ببعيد.. وبمثل هذه المواقف المضطربة والمشوشة؛ لا يرقى هؤلاء الرموز ــــ وللأسف ــــ إلى مستوى البعد الاستراتيجي للثورات الراهنة، فضلا عن أن يمثلونها.
نصائح للحفاظ على مكتسبات الثورة
هذه المفارقة بين مواقف شباب الثورات المتسقة والواعية ومواقف كثير من الرموز المضطربة والمنذرة بإرباك الثورات تجعلنا نوصي بما يلي:
1. ضرورة أن تبقى حركات الشباب الثورية مستقلة، وألا يقبلوا وصاية عليهم، أو تمثيلا لهم من خارجهم ممن لم يتمثل روح الثورة، أو ممن يريدون أن يركبوا الموجة ويحققوا مآرب شخصية خاصة، أو ممن "يُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا".
2. ضرورة التركيز على البعد الاستراتيجي في الثورات، والإسراع في تبني استراتيجيات فعّالة لمرحلة الحسم فيها وتحقيق الهدف الاستراتيجي للثورات، ألا وهو إسقاط النظم الفاسدة بشكل كامل، وتفويت أي محاولة لاغتيال الثورات، أو الالتفاف عليها.
3. ضرورة أن تبقى الثورات بقيادة الشباب إلى أن تنتهي مرحلة الحسم ويتحقق الهدف الاستراتيجي.. فلكل مرحلة رجالها.
4. ضرورة التخلي عن منطق المعارضة المؤطرة بأيدلوجيات وأجندات حزبية، إذ لم يعد هذا المنطق ملائما للمرحلة، ويتعارض مع ثقافة الثورة، ومنطق الثورة الذي يقوم على أساس بناء جديد بالكامل يسهم فيه كل الشعب في جو من الحرية الكاملة، ولاسيما وأن شرعية المعارضة الأيدلوجية ترتكز على وجود النظام الذي تعارضه، فحينما يسقط النظام بالثورة الشعبية غير المؤدلجة لا تبقى للمعارضة الأيدلوجية أي شرعية بعد ذلك لعدم بقاء النظام الذي تعارضه.
5. ضرورة أن تصطف أحزاب المعارضة وراء شباب الثورات في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي لها المجمع عليه، وتخلع ثيابها وأجنداتها وأيدلوجياتها المميزة لها عن غيرها من أفراد الشعب، وتترك لشباب الثورات أمر القيادة في هذه المرحلة، إن كانت صادقة في تغليب مصلحة أوطانهم على كل شيء.
6. ضرورة تركيز وسائل الإعلام الحرة على إبراز مواقف الشباب الذين يمثلون الثورة، تجنبا لإرباكها بسبب مواقف غيرهم الذين لا يتمثلون روح الثورة.
7. ضرورة الحذر الشديد من اقتطاف ثمرات الثورات من قبل أصحاب أجندات لا تحقق مصالح الشعوب المتوافق عليها، كما اقتطفت ثمرات حركات التحرر من الاستعمار عبر التاريخ.. والحكيم من يعتبر بالتاريخ.
8. ضرورة إيجاد كيان فعّال مستقل يوحّد الثوار، وينسق جهودهم، ويحافظ على مكاسب ثورتهم، ويرسم الاستراتيجيات والخطط المناسبة لكل مرحلة من مراحل الثورة.
_________
* أكاديمي قطري
الهوامش:
(1) انظر المحكم في العقيدة، ص 164.
(2) انظر المصدر السابق، ص 175.
(3) رواه أبو داود وغيره.
(4) سورة القصص: 5 ـ 6.
(5) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا.
(6) رواه أبو داود والترمذي.
(7) رواه أبو داود.
(8) رواه مسلم.
(9) رواه الطبراني.
(10) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي.
(11) ذكره السيوطي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنه.
(12) حديث قدسي، قال الهيتمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه من لم أعرفهم".
(13) سورة هود: الآية 103
د. محمد المصلح *
كشفت الثورات الشعبية العربية المتتابعة الراهنة بدءا من الثورة الشعبية التونسية الباسلة.. ظاهرة جديدة في المشهد العربي ملفتة ومبشرة للغاية.. تتمثل هذه الظاهرة في كون هذه الثورات في الأصل ما هي إلا انتفاضات شبابية تمتاز بمجموعة من الصفات المشتركة المبهرة والتي هي ــــ في تقديرنا ــــ سر قوتها وفاعليتها، رغم وجود فروق فيما بين هذه الثورات يميز بعضها عن بعض.. من أبرز تلك الصفات المشتركة التي تمتاز بها هذه الثورات: أنها في الأساس حركات شبابية مستقلة وراقية، وذات روح معنوية عالية ومتقدة، وتتبنى استراتيجيات جديدة وفاعلة، وبعقلية حرة وواعية بامتياز.
إن هذه الظاهرة لجديرة بالدراسة المعمقة حيث إنها ذات دلالات كبيرة تستوجب التوقف عندها وتحليلها واستخلاص النتائج والدروس والعبر منها، ومن ثم إعادة مراجعة قراءة كامل المشهد العربي بتحولاته المتسارعة ومستقبله القريب والبعيد ومن جميع جوانبه في ضوء تلك النتائج، بما في ذلك مراجعة النظرة التقليدية السائدة عن شبابنا بشكل خاص وعن الشعوب العربية بشكل عام.
ومن المفارقة الملفتة في هذا السياق، والتي تستدعي الأسف الشديد في ذات الوقت، أن كثيرا من مواقف الرموز والنخب الدينية والفكرية والمجتمعية ــ والتي يفترض في الأصل أن تقوم بالتشجيع والتوجيه والترشيد والتنظير والإسناد والتأييد لشباب الثورات ومسيراتهم المباركة ــ لا ترقى ألبتة إلى مستوى تلك المواصفات الحيوية التي جسدها شباب الثورات الراهنة في مسيراتهم.. بل الأدهى من ذلك والأمرّ؛ أن من بين مواقف هؤلاء الرموز ما قد يُربك بعض أولئك الشباب ومناصريهم، ويضعف من معنوياتهم، ويشوّش عليهم مسيراتهم.. الأمر الذي قد يُنذر بأن تؤتى هذه الثورات من مثل تلك المواقف بأكثر مما قد تؤتى من المواجهات المباشرة لها من قبل النظم التي يثورون ضدها.
هذه المفارقة المؤسفة تفرض على كل صاحب قلم حر ومتجرد أن يسند الثورات الشعبية العربية الراهنة بكل ما أوتي من حجة وبيان، وينتصر لها، ويصد عنها أي تشويش قد يربكها أو يهدد مستقبلها.. وهذه محاولة لتقديم سند شرعي سياسي لهذه الثورات.
التكييف الشرعي للثورات الشعبية الراهنة:
يُجمع شباب الانتفاضات الشعبية العربية على أن الهدف الأساس لانتفاضاتهم ما هو إلا إسقاط النظم الحاكمة المستبدة والمتفرعنة والفاسدة والمستذلة لشعوبها، وذلك عبر الثورة الشاملة ضد تلك النظم.. كما يجمعون على أنهم ما ثاروا إلا لاسترجاع حرية الشعوب وكرامتها التي سحقتها النظم المستكبرة والجائرة سحقا طوال تاريخ هذه النظم القمعية التي امتدت لعقود.. والمطلب هذا مطلب إنساني يوحّد كل الثوّار الأحرار ومناصريهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والسياسية، وذلك ما تعكسه بوضوح شعارات هذه الثورات ومسيراتها.. والإجماع على هذا المطلب هو ــــ كما نعتقد ــــ من أهم مكامن القوة والأمل والاستبشار بالثورات الراهنة.
فما التكييف الشرعي لهذا المطلب السامي؟ وما التكييف الشرعي لتحقيقه عبر الثورة؟
التكييف الشرعي لهذا المطلب هو أنه من أولويات الدين الحنيف، بل هو متطلب سابق لإقامة الدين؛ حيث إن الدين لا يمكن أن يقام في مجتمع مسحوق ومهدور الكرامة وفاقد للحرية.. وهذا سر اشتمال القرآن المكي ــ مع تركيزه على بناء العقيدة ــ على آيات تتعلق بكرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية كإنسان، من مثل قول الله تعالى: "وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت"، مما يدل على أن احترام النفس البشرية والمحافظة على كرامة الإنسان وتحقيق حريته يقترن في القرآن مع أولويات الدين نفسه (1).. ويعضد ذلك اهتمام القرآن الملفت بقصة مواجهة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون الطاغية الظالم المستكبر المتألّه، وتحقيقهما لإرادة الله في تخليص شعب مصر المستضعف حينذاك من استعباد فرعون لكامل الشعب؛ وهي عبرة لكل شعب مستضعف يواجه الشخصية الفرعونية المتكررة عبر التاريخ (2).
كما أن الدين الحنيف يتوق إلى نصرة المظلوم كمبدأ عام، أيا كان هذا المظلوم، ويحث أتباعه أن يقفوا مع كل دعوة أو حركة ضد الظالمين أيا كانوا.. فهذا رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يقول عن حلف الفضول الذي تعاهد فيه عشائر من قريش قبل الإسلام على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، ويقفوا ضد من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته: "لقد حضرتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ لو أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".. وهذا الموقف القيمي المبدئي من رسول الإسلام عليه السلام له دلالاته القوية في هذا السياق.
ثم إن قيام الشباب بهذه الحركات الشجاعة في سبيل تحقيق هذا المطلب السامي يدل على تعافي أولئك الشباب من داء الوهن الذي أصاب الأمة في مرحلتها الغثائية التي حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت" (3). فقد كسر هؤلاء الشباب جدار الخوف، ورُبط على قلوبهم فقاموا في وجه الظالمين، وثبتوا على موقفهم ثباتا مشهودا رغم كل محاولات التشويش عليهم، والبطش بهم، والالتفاف على حركاتهم.. والثبات على هذا الموقف هو من أهم عوامل النجاح في الثورات.
أما التكييف الشرعي للثورة كوسيلة لتحقيق هذا المطلب المشروع، فيمكن تحديده في النقاط المركزة التالية:
1. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب المستضعفة للتصدي للنظم المستكبرة والمستعبدة للشعوب.. والثورة بذلك تكون سببا في تحقيق إرادة الله في التمكين للمستضعفين وقطع دابر المستكبرين؛ "ونريد أن نمن على اللذين استُضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونُمكّن لهم في الأرض..." (4).
2. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب لتغيير منكر عظيم، ألا وهو الظلم والاستبداد، والذي تترتب عليه مناكر كبيرة كثيرة ومستمرة طوال تاريخ النظم المستبدة المراد إسقاطها.. وهذا واجب عيني على كل فرد من أفراد الشعوب كل بحسب استطاعته، للحديث: "من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (5).
بل إن الثورة تكاد تكون الوسيلة الفعّالة الوحيدة المتاحة للشعوب لتحقيق مطلبها المشروع، ولاسيما بعد أن فشلت الوسائل الأخرى في تغيير هذه النظم أو إصلاح ما أفسدته، وبعد أن عجزت أحزاب المعارضة في تحقيق الإصلاح المنشود من خلال الأدوات السياسية الأخرى المعهودة؛ نظرا لاستخدام النظم المستبدة لطرق ملتوية للحيلولة دون تحقيق هذه الأحزاب لأهدافها.. بالإضافة إلى أن النظم تستند ــ في حال استقرارها ــ إلى قوى الاستكبار العالمي المهيمنة على الأمة ضد أي حراك إصلاحي نوعي وفق الآليات المعهودة.
3. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب لمواجهة الحكام الجائرين بكلمة الحق، ولأمرهم ونهيهم، وتأطيرهم على الحق أطرا.. وهذا يعد من فروض الكفاية التي ما لم يقم بها البعض بشكل واف لا يسقط الإثم عن المجتمع بكامله.. بل إن هذا من أفضل الجهاد، لحديث: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (6) ، والتفريط فيه يُنذر بعقاب للمجتمع بأسره، وبفتنة كبرى تعمه، للحديث: "لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم" (7) ، أي كما لعن بني إسرائيل.. ومن لم ينكر على الحكام الظلمة بأي شكل من الأشكال فهو آثم، لحديث: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" (8). والذي يموت في سبيل تحقيق هذا الفرض الكفائي يستحق رتبة "سيد الشهداء"، كما وعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (9).
والثورة بلا شك أوقع وأقوى وأجدى من المواجهات الفردية للحاكم المستبد الجائر، ذلك أنه في حال المواجهات الفردية يسهل على الحاكم الظالم أن يبطش ويقمع وينكّل بمن ينهاه عن الظلم، أو يسفه به ولا يلقي له بالا، ومن ثم يستمر في ظلمه، ولا يرتدع، ويصر على طغيانه، أما في حال الثورة الشعبية فإنه يصعب عليه البطش بالشعب كله، ولاسيما حينما تنجح الثورة في كسب الرأي العام العالمي.
4. الثورة وسيلة فعّالة متاحة للشعوب للدفاع عن أعراضها وأموالها من النظم الفاسدة التي تنتهك فيها الأعراض، ويعتدى فيها على الحرمات، وتستباح فيها الممتلكات، وينهب فيها المال العام نهبا.. ومما تقرره الشريعة أن الدفاع عن الأعراض والأموال حق مشروع، والذين يموتون وهم يدافعون عن أعراضهم أو أموالهم فهم شهداء، لحديث: "من مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد" (10).
شبهة ورد
إنه لمن المستغرب بحق، بل من المستنكر جدا، في ضوء التكييف الشرعي السابق، أن تصدر أقوال منسوبة إلى رموز شرعية أو إلى مؤسسات دينية تصف هذه الثورات بأنها دعوات للفتنة، وأن الفتاوى والتصريحات التي تحث على الاستمرار في الثورات هي دعوات للفتنة كذلك!! ومن العجب أن تتطابق أقوال هؤلاء إلى حد كبير مع ما تطلقه النظم الفاسدة والجائرة نفسها من أوصاف على الثورات ضدها!!.. وبلا شك فإن هذه الأقوال مردودة وباطلة.. ذلك أن الفتنة لا تطلق على حال ــ كالحال في الثورات الشعبية العربية الراهنة ــ يتميز فيه الحق من الباطل، والظالمون عن المظلومين بشكل لا لبس فيه.. إذ في هذا الحال يكون هناك موقفان لا ثالث لهما:
1. إما الوقوف مع الحق ومناصرة المظلومين على قدر الاستطاعة.. وهذا هو الواجب.
2. وإما اتباع الباطل والركون إلى الظالمين.. وهذا هو المحظور.
فهنا؛ لا يوجد موقف محايد، فالحياد يكون بلا ريب لصالح الباطل والنظم الظالمة.. والحياد هنا يعد نوعا من السكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس.. كما أنه نوع من الخذلان للمظلومين الذي جاء فيه الوعيد "لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره" (11)، "ولأنتقمنَّ ممن رأى مظلوما فقدر أن ينصره فلم يفعل" (12).. وهو كذلك نوع من الركون إلى الظالمين الذي جاء فيه الوعيد الشديد "ولا تركنوا إلى اللذين ظلموا فتمسكم النار" (13).
ولو سلمنا جدلا بأن في الثورة فتنة؛ فإن في بقاء النظم المستبدة الجائرة فتنة أشد وأفحش وأدوم كما سبق وبيناه.. ولا سيما وأن هذه النظم فاسدة إلى النخاع وخائنة لشعوبها وأمتها وفاقدة للشرعية في الأصل حيث إنها لم تأت بإرادة حقيقية من الشعوب.. وهنا تنطبق القاعدة: "تدرأ المفسدة الأشد بارتكاب المفسدة الأقل".
وفي الحقيقة أن وصف الثورة بأنها فتنة، فيه تعام مستهجن عن الفتنة الكبرى المتحققة بالفعل ببقاء النظم المستبدة الجائرة، والمفاسد الكثيرة المترتبة عليه.. ونسبة هذا الموقف من الثورة إلى الدين فيه جناية كبرى على الدين، وتنفير شديد منه، ومن رموزه.
البعد الاستراتيجي للثورة
نقطة الارتكاز الاستراتيجية في الثورات الشبابية الراهنة هي الإصرار الملفت في كل ثورة على إسقاط النظام الفاسد المستبد، واعتبار ذلك هو الهدف الاستراتيجي للثورة الذي لا محيد عنه. وهناك ثبات مشهود على هذا الموقف في كل ثورة من قبل شباب الثورة بالأخص، رغم كل محاولات الالتفاف على الثورات وإفسادها من قبل زبانية هذه النظم وأقطابها ومرتزقيها والمتنفعين من بقائها وفسادها.
ومن الإنصاف أن نسجل هنا ما نلحظه من تفوق نوعي ــ ومبشر أيضا ــ لموقف شباب الثورات في هذا الصدد تحديدا على كثير من مواقف رموز المعارضة بشكل خاص والنخب بشكل عام.. فنحن نلحظ بإعجاب واستبشار أن هؤلاء الشباب يُلحّون على هذا الهدف الاستراتيجي منذ اندلاع كل ثورة، ويركزون عليه، ولا يقبلون المساومة عليه، ولا ينخدعون بأي محاولة لإشغالهم عن تحقيقه، ويرفضون أي حوار مع أي طرف قبل تحقيق هدفهم الاستراتيجي هذا.. ولا يؤثر في موقف الشباب هذا أي من التغييرات الجزئية والشكلية التي تقوم بها النظم تحت شعار ظاهره الإصلاح التدريجي وباطنه محاولة الالتفاف على الثورات واحتوائها.
بل إن هؤلاء الشباب لا يقرون أساسا بشرعية النظم المستبدة الفاسدة، ولا أي من أقطابها، ولا مؤسساتها، ولا يحتكمون إلى الدساتير التي أسقطت الثورات شرعيتها.. فهم لا يستندون إلا إلى الشرعية الثورية.. وهذا يجعل مواقفهم متسقة.
أما مواقف كثير من رموز المعارضة والنخب فلا تخلو من اضطراب، بل وتتعارض مع روح الثورات؛ ذلك أنهم ما زالوا يفكرون بالعقلية التقليدية الهرمة فيما يبدو.. ويتخذون بعض المواقف المستنزفة للوقت والجهد بلا طائل، بل تعود سلبا على مسيرات الثورات.. وما الموقف من الحوار مع عمر سليمان على سبيل المثال ــ والذي هو أحد أقطاب النظام المصري المستبد الفاسد، وهو الرجل المفضل للعدو الصهيوني كبديل عن الرئيس المخلوع الموالي لهم ــ عنا ببعيد.. وبمثل هذه المواقف المضطربة والمشوشة؛ لا يرقى هؤلاء الرموز ــــ وللأسف ــــ إلى مستوى البعد الاستراتيجي للثورات الراهنة، فضلا عن أن يمثلونها.
نصائح للحفاظ على مكتسبات الثورة
هذه المفارقة بين مواقف شباب الثورات المتسقة والواعية ومواقف كثير من الرموز المضطربة والمنذرة بإرباك الثورات تجعلنا نوصي بما يلي:
1. ضرورة أن تبقى حركات الشباب الثورية مستقلة، وألا يقبلوا وصاية عليهم، أو تمثيلا لهم من خارجهم ممن لم يتمثل روح الثورة، أو ممن يريدون أن يركبوا الموجة ويحققوا مآرب شخصية خاصة، أو ممن "يُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا".
2. ضرورة التركيز على البعد الاستراتيجي في الثورات، والإسراع في تبني استراتيجيات فعّالة لمرحلة الحسم فيها وتحقيق الهدف الاستراتيجي للثورات، ألا وهو إسقاط النظم الفاسدة بشكل كامل، وتفويت أي محاولة لاغتيال الثورات، أو الالتفاف عليها.
3. ضرورة أن تبقى الثورات بقيادة الشباب إلى أن تنتهي مرحلة الحسم ويتحقق الهدف الاستراتيجي.. فلكل مرحلة رجالها.
4. ضرورة التخلي عن منطق المعارضة المؤطرة بأيدلوجيات وأجندات حزبية، إذ لم يعد هذا المنطق ملائما للمرحلة، ويتعارض مع ثقافة الثورة، ومنطق الثورة الذي يقوم على أساس بناء جديد بالكامل يسهم فيه كل الشعب في جو من الحرية الكاملة، ولاسيما وأن شرعية المعارضة الأيدلوجية ترتكز على وجود النظام الذي تعارضه، فحينما يسقط النظام بالثورة الشعبية غير المؤدلجة لا تبقى للمعارضة الأيدلوجية أي شرعية بعد ذلك لعدم بقاء النظام الذي تعارضه.
5. ضرورة أن تصطف أحزاب المعارضة وراء شباب الثورات في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي لها المجمع عليه، وتخلع ثيابها وأجنداتها وأيدلوجياتها المميزة لها عن غيرها من أفراد الشعب، وتترك لشباب الثورات أمر القيادة في هذه المرحلة، إن كانت صادقة في تغليب مصلحة أوطانهم على كل شيء.
6. ضرورة تركيز وسائل الإعلام الحرة على إبراز مواقف الشباب الذين يمثلون الثورة، تجنبا لإرباكها بسبب مواقف غيرهم الذين لا يتمثلون روح الثورة.
7. ضرورة الحذر الشديد من اقتطاف ثمرات الثورات من قبل أصحاب أجندات لا تحقق مصالح الشعوب المتوافق عليها، كما اقتطفت ثمرات حركات التحرر من الاستعمار عبر التاريخ.. والحكيم من يعتبر بالتاريخ.
8. ضرورة إيجاد كيان فعّال مستقل يوحّد الثوار، وينسق جهودهم، ويحافظ على مكاسب ثورتهم، ويرسم الاستراتيجيات والخطط المناسبة لكل مرحلة من مراحل الثورة.
_________
* أكاديمي قطري
الهوامش:
(1) انظر المحكم في العقيدة، ص 164.
(2) انظر المصدر السابق، ص 175.
(3) رواه أبو داود وغيره.
(4) سورة القصص: 5 ـ 6.
(5) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا.
(6) رواه أبو داود والترمذي.
(7) رواه أبو داود.
(8) رواه مسلم.
(9) رواه الطبراني.
(10) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي.
(11) ذكره السيوطي في جامعه عن ابن عباس رضي الله عنه.
(12) حديث قدسي، قال الهيتمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه من لم أعرفهم".
(13) سورة هود: الآية 103