- الاثنين مارس 14, 2011 5:45 pm
#33420
إمتلأت الساحة هذه الأيام بكثير من الكلمات التى يرددها البعض وتتناقلها الألسن مثل العَلمانية والدولة الدينية وكذلك الدولة المدنية إلى غير ذلك من المصطلحات .. والتى تُعج بها الساحة فى أيامنا هذه ، وفى تقديرى المتواضع ، أن نقطة البدء فى حسم هذا الموضوع ينبغى أن تبدأ من تحديد مفهوم العَلمانية وظروف نشأتها وعلاقتها بالدين وأثر ذلك فى الدولة المدنية ، وهو مما لا شك فيه سيحلُ كثيراً من الإشكاليات القائمة .
وأرجو منك أخى القارئ الكريم أن تُعيرنى إنتباهك ، فالكتابة فى مثل هذه الموضوعات تتسم بنوع من الجفاء يطلق عليه الجفوة العلمية .. فأرجوا _ أخى الكريم _ أن تلتمس لى عذراً وتتقبل هذه الجفوة برحابة صدر .. واسمح لى أن أتناول فى مقالى هذا ( فكرة العَلمانية ) أتحدث عنها وعن ظروف نشأتها ، وكيف دخلت إلى بلادِنا ، وذلك تمهيداً لمقالٍ آخر فيما بعد سأتناول فيه مفهوم الدولة المدنية المعاصرة .
وبدايةً أودُ القول بأن العَلمانية ( بفتح العين وليست بكسرها ) ليست مرادفاً لمعنى ( الدولة المدنية ) كما يزعم البعض .. كما أنها لاعلاقة لها بالعلوم الوضعية وليست من إشتقاقات كلمة العلم ، وإنما هى ترجمة لكلمة ( secularism ) وترجمتها الصحيحة : أللادينية أو الدنيوية ، وهى دعوة إلى فصل الدين عن الدولة ، أى إقصاء الدين من الحياة والسياسة وإبقاءه حبيساً فى ضمير الفرد لا يتجاوز ذلك العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فى الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوها .
والحقيقة أن هذه الآفة لم تنشأ فى بلادنا الإسلامية وإنما هى نبتة نكدة وُلدت وتربت وترعرعت فى أوربا ( وقد يكون لها ما يبررها هناك ) فقد نشأت فى مطلع القرن الثامن عشر الميلادى ، أى فى نهاية العصور الوسطى المظلمة فى أوربا وبداية العصور الحديثة التى ارتبطت بظهور الثورات فى أوربا .
فقد نشأت هذه الشبهه فى أوربا نتيجةً لعدة عوامل أدت إلى تبنيها لهذه الفكرة وكان من أهم هذه العوامل :
1 ) طغيان الحكام واستبدادهم وقهرهم لشعوبهم : ( حيث كان يوجد ما يعرف بالحكم الثيوقراطى أو الحكم الإلهى المطلق ) ويعنى ذلك أن الملك يحكم بإسم الله وأنه خليفة الله فى الأرض ، ولأنه كذلك فهو فوق المسائلة ولا يملك أحدٌ كائناً من كان أن يحاسبه على أعماله ، ولأجل إضفاء هذه الصبغة الدينية على هذا النوع من الحكم فقد عمد الملوك إلى الإستعانة بالكنيسة ، مما أوجد تزاوجاً بين الدين والسياسة ترتب عليه منح الكنيسة كثيراً من الصلاحيات والسلطات الواسعة التى أدت بها هى الأخرى إلى وجود صورة بشعة لإستبداد رجال الدين ، وأدى ذلك فى نهاية المطاف إلى قهر الناس وظلمهم واستعبادهم وإفقارهم ، وحكمهم بالحديد والنار وذلك كله تحت مسمى الدين .
2 ) استبداد الكنيسة : فى مقابل أن أضفت الكنيسة الشرعية الدينية على الحكم الملكى المستبد ، فقد استحوذت هى الأخرى على الكثير من السلطات والصلاحيات التى أدت بها إلى الإستبداد ، وكان رجال الدين هم الحكام الفعليين ، أنشأوا ما يعرف بمحاكم التفتيش ، التى أذاقت الناس صنوفاً وألواناً من العذاب ، وعمدت إلى ملاحقة الكثيرين ممن يختلفون مع الكنيسة واضطهادهم ، وقتل الكثير من العلماء مثل جالليلو وكوبرنيكوس وجرادنو وغيرهم من العلماء والساسة وأصحاب الرأى والفكر ، حتى أن المسلمين فى الأندلس ( أسبانيا والبرتغال ) لم يسلموا من هذه الملاحقة ، ونالهم نصيبٌ وافر من ذلك الإضطهاد .. فقد ابتدعت الكنيسة الكثير من وسائل التعذيب وتفننت فيه ، وكانت تهمة المخالفين للكنيسة هى الهرطقة والسحر والشعوذة ، فيُأتى بصاحب هذه التهمة ويُلقى به فى النهر فإذا ما غرق دل ذلك على برائته ، أما إذا نجا من الغرق فيكون مذنباً وتكون عقوبته الحرق فى ميدان عام حتى الموت ( الغرق أو الحرق ) ، وقد فُعل ذلك بالعالم الذى تحدث عن كروية الأرض ، أضف إلى ذلك استيلاء الكنيسة على أراضى وثروات الشعوب وابتداع ما يعرف بصكوك الغفران وذلك كله لأكل أموال الناس بالباطل ، وهذا قليل من كثير فجرائم الكنيسة فى العصور الوسطى فى أوربا بلغت حداً لايمكن تخيله .
3 ) سيادة الإقطاع : حيث وجدت طبقة من الإقطاع وهى طبقة النبلاء والأشراف ، فئة قليلة تملك كل شئ ، تملك الثروات والأرض والسيادة ، والطبقة الأخرى هى عامة الشعب فئة كثيرة لاتملك أى شئ ، كانوا عبيداً لدى الطبقة الأولى ، يقيمون على أراضى النبلاء فى أكواخ صغيرة ، ويعملون في هذه الأرض لحساب الإقطاعى ولايجنون شيئاً لأنفسهم حتى قوت يومهم ويُعرفون فى التاريخ ( بأقنان الأرض ) يا سادة كان هذا حال أوربا حتى نهاية القرن السابع عشر واستمر لعقودٍ فى القرن الثامن عشر ، تفاوت طبقى رهيب ، فئة قليلة تملك كل شئ وأخرى هى الكثرة الغالبة من الشعب ولاتملك شيئاً سوى المرض والفقر الشديد المدقع والجوع والمهانة والذلة والإستعباد .
4 ) وجود اليهود فى أوربا : فى هذه الحقبة كان لليهود دورٌ ليس بالقليل ، وكما نعلم أن اليهود كعادتهم يُجيدون جمع الثروات واكتنازها فكان يلجأ إليهم الناس للإقتراض فيقرضونهم برباً فاحش أدى ذلك إلى تفاقم الأوضاع والقارئ لكتاب وليم شكسبير ( تاجر البندقية ) يدرك ذلك ، حيث تدور أحداث القصة حول تاجر يهودى فى مدينة البندقية الإيطالية يقرض الناس برباً فاحش ويشترط عليه فى عقد القرض " أنه إذا تأخر أو عجز المدين عن سداد الدين فله أن يقتطع جزءاً من لحم المدين وجسده مقابل هذا الدين " .
· أدت هذه العوامل إلى تفاقم الأوضاع فى أوربا ، شعوب تعانى الفقر والجوع والمرض وفوق ذلك كله المهانة والذلة والإستعباد ، وطبقة أخرى قليلة ( الملوك والنبلاء ورجال الدين ) تملك كل شئ فهى تملك السلطة و الثروة وتحكم بالقهر والإستبداد ، وعليه خرجت هذه الشعوب فى أوربا ثائرة ، فى انجلترا ثورةٌ عارمة على آل ستيوارت وفى إيطاليا وفى ألمانيا وأيضاً فى روسيا القيصرية ثورة ضد النظام القيصرى ، ولكن الثورة التى كانت حدثاً فاصلاً فى التاريخ البشرى فى العصر الحديث كانت الثورة الفرنسية سنة 1789، ثورة الجياع كما يحكى ذلك فيكتور هيجو فى كتابه ( البؤساء ) خرجت الجموع التى تعانى من المرض والفقر والجوع ذاهبة إلى قصر الملك لويس الرابع عشر غاضبة وثائرة تطالب برأس الملك المستبد والقضاء على رجال الدين الذين كرسوا لهذا الإستبداد والظلم وشاركوا فيه ، وكان شعار تلك الثورة ( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ) ولأن هذه الطبقة دوماً تعيش فى عزلة عن شعبها ولا تشعر بآلامه ، عندما وصل الثائرون إلى قصر الملك الطاغية قالت الملكة مارى انطوانيت زوجته.. لماذا يشكو هؤلاء ، قيل لها من الجوع قالت .. لماذا لايأكلون البسكويت ( يال السخرية ) .. عموماً نجحت تلك الثورة وأطاحت بالملك المستبد وزوجته وأطاحت بحكم رجال الدين وسارت هذه الجموع الغوغائية لحرق سجن الباستيل وهدمه ، فقد كان رمزاً للقهر والإستبداد ، وتحول شعارها من الخبز إلى ( الحرية والمساواة والإخاء ) وجاءت الثورة بأول حكومة لادينية تحكم باسم الشعب .
· أدت هذه الأحداث إلى نتيجة مفادها ( أن الزاوج الذى حدث بن الحكم المستبد والكنيسة ) كان السبب فى الفساد والقهر والإستبداد ، وجاءت كتابات الثورة كلها لتنادى بالفصل التام بين الدين والدولة وإبعاد الكنيسة عن مؤسسة الحكم وعودتها إلى داخل جدران الكنيسة ولا شأن لها بما يخرج عن هذه الجدران ، ومن هؤلاء المفكرين جان جاك روسو 1778 فى كتابه العقد الإجتماعى والذى يعد بحق انجيل الثورة ، مونتسكيو فى كتابه روح القوانين ، وفولتير صاحب القانون الطبيعى 1804 ، ووليم جودين 1793 وكتابه عن العدالة السياسية ، وميرابو الذى يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية .
· وانتقلت إلينا هذه الشبهة مع حملة نابليون بونابرت 1798.. وقد أشار الجبرتى إلى ذلك بعبارات تدور حول معنى العلمانية وإن لم تذكر اللفظ صراحةً ، أما أول من استخدم هذا المصطلح ( العلمانية ) فهو نصرانى يدعى إلياس بقطر فى معجم عربى فرنسى من تأليفه سنة 1827 ثم جاء الخديوى اسماعيل وأدخل القوانين الفرنسية سنة 1833 وكان مفتوناً بالغرب ويريد أن يجعل مصر قطعة من أوربا .
· وكان للمستشرقين دورٌ خطير فى ذلك مثل دوركايم وغيره وكذلك من تتلمذ على أيديهم من أبناء الشرق من أمثال طه حسين وغيره فقد كانو مفتونين بأوربا ، وقالوا لكى ينهض الشرق فلابد أن يسير خلف أوربا حذواً بحذو وشبراً بشبر وذراعاً بذراع .. وإن كانت نهضة أوربا جاءت نتيجة فصل الدين عن الدولة والطلاق بينهما طلاقاً بائناً فإن الشرق لن ينهض إلا بذلك .
وأخيراً .. وبعد هذا الإستعراض .. وعذراً للإطالة .. فلابد من كلمة : نقول فيها إن ظهور هذه الفكرة فى أوربا له مايبرره من أحداث التاريخ الماضى .. وإن كان كثير من عقلاء الغرب ينادون بالعودة إلى القيم والأخلاق المستمدة من الدين والتى لاتنفصم عنه ، خاصةً بعدما عانت أوربا من ويلات الإباحية والفجور وأيضاً الحروب العالمية الطاحنة ( الأولى والثانية ) التى أودت بحياة ملايين البشر وكان ذلك كله سببه الرئيس البعد عن الدين .. نقول إذا كانت العَلمانية تتفق مع المسيحية فى فصل الدين عن الدولة وذلك واضح فيما يتردد عن السيد المسيح عليه السلام " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله " فإن الإسلام لايعرف هذه الثنائية ، فالمسلم حياته كلها لله والكون كله خاضع لمشيئته وقدره وتدبيره وحاشاه أن تخرج مخلوقاته عن سلطانه .. وأن الذين صدعوا رؤسنا بقولهم ( لادين فى السياسة ولا سياسة فى الدين ) فقد اتضح الأمر ، فهم إنما أرادوا بذلك أن ينعموا بالسلطة والثروة ويجمعوا بين الفساد والإستبداد ولا يملك أحد كائناً من كان محاسبتهم فى ذلك حتى لو كان الدين ذاته ، خاصة وأن عقيدتهم فى المحاسبة والوقوف بين يدى الله فى الآخرة لا وجود لها فى حياتهم ...
منقول عن:
الدكتور/ عصام موسى ... المحامى
وأرجو منك أخى القارئ الكريم أن تُعيرنى إنتباهك ، فالكتابة فى مثل هذه الموضوعات تتسم بنوع من الجفاء يطلق عليه الجفوة العلمية .. فأرجوا _ أخى الكريم _ أن تلتمس لى عذراً وتتقبل هذه الجفوة برحابة صدر .. واسمح لى أن أتناول فى مقالى هذا ( فكرة العَلمانية ) أتحدث عنها وعن ظروف نشأتها ، وكيف دخلت إلى بلادِنا ، وذلك تمهيداً لمقالٍ آخر فيما بعد سأتناول فيه مفهوم الدولة المدنية المعاصرة .
وبدايةً أودُ القول بأن العَلمانية ( بفتح العين وليست بكسرها ) ليست مرادفاً لمعنى ( الدولة المدنية ) كما يزعم البعض .. كما أنها لاعلاقة لها بالعلوم الوضعية وليست من إشتقاقات كلمة العلم ، وإنما هى ترجمة لكلمة ( secularism ) وترجمتها الصحيحة : أللادينية أو الدنيوية ، وهى دعوة إلى فصل الدين عن الدولة ، أى إقصاء الدين من الحياة والسياسة وإبقاءه حبيساً فى ضمير الفرد لا يتجاوز ذلك العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فى الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوها .
والحقيقة أن هذه الآفة لم تنشأ فى بلادنا الإسلامية وإنما هى نبتة نكدة وُلدت وتربت وترعرعت فى أوربا ( وقد يكون لها ما يبررها هناك ) فقد نشأت فى مطلع القرن الثامن عشر الميلادى ، أى فى نهاية العصور الوسطى المظلمة فى أوربا وبداية العصور الحديثة التى ارتبطت بظهور الثورات فى أوربا .
فقد نشأت هذه الشبهه فى أوربا نتيجةً لعدة عوامل أدت إلى تبنيها لهذه الفكرة وكان من أهم هذه العوامل :
1 ) طغيان الحكام واستبدادهم وقهرهم لشعوبهم : ( حيث كان يوجد ما يعرف بالحكم الثيوقراطى أو الحكم الإلهى المطلق ) ويعنى ذلك أن الملك يحكم بإسم الله وأنه خليفة الله فى الأرض ، ولأنه كذلك فهو فوق المسائلة ولا يملك أحدٌ كائناً من كان أن يحاسبه على أعماله ، ولأجل إضفاء هذه الصبغة الدينية على هذا النوع من الحكم فقد عمد الملوك إلى الإستعانة بالكنيسة ، مما أوجد تزاوجاً بين الدين والسياسة ترتب عليه منح الكنيسة كثيراً من الصلاحيات والسلطات الواسعة التى أدت بها هى الأخرى إلى وجود صورة بشعة لإستبداد رجال الدين ، وأدى ذلك فى نهاية المطاف إلى قهر الناس وظلمهم واستعبادهم وإفقارهم ، وحكمهم بالحديد والنار وذلك كله تحت مسمى الدين .
2 ) استبداد الكنيسة : فى مقابل أن أضفت الكنيسة الشرعية الدينية على الحكم الملكى المستبد ، فقد استحوذت هى الأخرى على الكثير من السلطات والصلاحيات التى أدت بها إلى الإستبداد ، وكان رجال الدين هم الحكام الفعليين ، أنشأوا ما يعرف بمحاكم التفتيش ، التى أذاقت الناس صنوفاً وألواناً من العذاب ، وعمدت إلى ملاحقة الكثيرين ممن يختلفون مع الكنيسة واضطهادهم ، وقتل الكثير من العلماء مثل جالليلو وكوبرنيكوس وجرادنو وغيرهم من العلماء والساسة وأصحاب الرأى والفكر ، حتى أن المسلمين فى الأندلس ( أسبانيا والبرتغال ) لم يسلموا من هذه الملاحقة ، ونالهم نصيبٌ وافر من ذلك الإضطهاد .. فقد ابتدعت الكنيسة الكثير من وسائل التعذيب وتفننت فيه ، وكانت تهمة المخالفين للكنيسة هى الهرطقة والسحر والشعوذة ، فيُأتى بصاحب هذه التهمة ويُلقى به فى النهر فإذا ما غرق دل ذلك على برائته ، أما إذا نجا من الغرق فيكون مذنباً وتكون عقوبته الحرق فى ميدان عام حتى الموت ( الغرق أو الحرق ) ، وقد فُعل ذلك بالعالم الذى تحدث عن كروية الأرض ، أضف إلى ذلك استيلاء الكنيسة على أراضى وثروات الشعوب وابتداع ما يعرف بصكوك الغفران وذلك كله لأكل أموال الناس بالباطل ، وهذا قليل من كثير فجرائم الكنيسة فى العصور الوسطى فى أوربا بلغت حداً لايمكن تخيله .
3 ) سيادة الإقطاع : حيث وجدت طبقة من الإقطاع وهى طبقة النبلاء والأشراف ، فئة قليلة تملك كل شئ ، تملك الثروات والأرض والسيادة ، والطبقة الأخرى هى عامة الشعب فئة كثيرة لاتملك أى شئ ، كانوا عبيداً لدى الطبقة الأولى ، يقيمون على أراضى النبلاء فى أكواخ صغيرة ، ويعملون في هذه الأرض لحساب الإقطاعى ولايجنون شيئاً لأنفسهم حتى قوت يومهم ويُعرفون فى التاريخ ( بأقنان الأرض ) يا سادة كان هذا حال أوربا حتى نهاية القرن السابع عشر واستمر لعقودٍ فى القرن الثامن عشر ، تفاوت طبقى رهيب ، فئة قليلة تملك كل شئ وأخرى هى الكثرة الغالبة من الشعب ولاتملك شيئاً سوى المرض والفقر الشديد المدقع والجوع والمهانة والذلة والإستعباد .
4 ) وجود اليهود فى أوربا : فى هذه الحقبة كان لليهود دورٌ ليس بالقليل ، وكما نعلم أن اليهود كعادتهم يُجيدون جمع الثروات واكتنازها فكان يلجأ إليهم الناس للإقتراض فيقرضونهم برباً فاحش أدى ذلك إلى تفاقم الأوضاع والقارئ لكتاب وليم شكسبير ( تاجر البندقية ) يدرك ذلك ، حيث تدور أحداث القصة حول تاجر يهودى فى مدينة البندقية الإيطالية يقرض الناس برباً فاحش ويشترط عليه فى عقد القرض " أنه إذا تأخر أو عجز المدين عن سداد الدين فله أن يقتطع جزءاً من لحم المدين وجسده مقابل هذا الدين " .
· أدت هذه العوامل إلى تفاقم الأوضاع فى أوربا ، شعوب تعانى الفقر والجوع والمرض وفوق ذلك كله المهانة والذلة والإستعباد ، وطبقة أخرى قليلة ( الملوك والنبلاء ورجال الدين ) تملك كل شئ فهى تملك السلطة و الثروة وتحكم بالقهر والإستبداد ، وعليه خرجت هذه الشعوب فى أوربا ثائرة ، فى انجلترا ثورةٌ عارمة على آل ستيوارت وفى إيطاليا وفى ألمانيا وأيضاً فى روسيا القيصرية ثورة ضد النظام القيصرى ، ولكن الثورة التى كانت حدثاً فاصلاً فى التاريخ البشرى فى العصر الحديث كانت الثورة الفرنسية سنة 1789، ثورة الجياع كما يحكى ذلك فيكتور هيجو فى كتابه ( البؤساء ) خرجت الجموع التى تعانى من المرض والفقر والجوع ذاهبة إلى قصر الملك لويس الرابع عشر غاضبة وثائرة تطالب برأس الملك المستبد والقضاء على رجال الدين الذين كرسوا لهذا الإستبداد والظلم وشاركوا فيه ، وكان شعار تلك الثورة ( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس ) ولأن هذه الطبقة دوماً تعيش فى عزلة عن شعبها ولا تشعر بآلامه ، عندما وصل الثائرون إلى قصر الملك الطاغية قالت الملكة مارى انطوانيت زوجته.. لماذا يشكو هؤلاء ، قيل لها من الجوع قالت .. لماذا لايأكلون البسكويت ( يال السخرية ) .. عموماً نجحت تلك الثورة وأطاحت بالملك المستبد وزوجته وأطاحت بحكم رجال الدين وسارت هذه الجموع الغوغائية لحرق سجن الباستيل وهدمه ، فقد كان رمزاً للقهر والإستبداد ، وتحول شعارها من الخبز إلى ( الحرية والمساواة والإخاء ) وجاءت الثورة بأول حكومة لادينية تحكم باسم الشعب .
· أدت هذه الأحداث إلى نتيجة مفادها ( أن الزاوج الذى حدث بن الحكم المستبد والكنيسة ) كان السبب فى الفساد والقهر والإستبداد ، وجاءت كتابات الثورة كلها لتنادى بالفصل التام بين الدين والدولة وإبعاد الكنيسة عن مؤسسة الحكم وعودتها إلى داخل جدران الكنيسة ولا شأن لها بما يخرج عن هذه الجدران ، ومن هؤلاء المفكرين جان جاك روسو 1778 فى كتابه العقد الإجتماعى والذى يعد بحق انجيل الثورة ، مونتسكيو فى كتابه روح القوانين ، وفولتير صاحب القانون الطبيعى 1804 ، ووليم جودين 1793 وكتابه عن العدالة السياسية ، وميرابو الذى يعد خطيب وزعيم وفيلسوف الثورة الفرنسية .
· وانتقلت إلينا هذه الشبهة مع حملة نابليون بونابرت 1798.. وقد أشار الجبرتى إلى ذلك بعبارات تدور حول معنى العلمانية وإن لم تذكر اللفظ صراحةً ، أما أول من استخدم هذا المصطلح ( العلمانية ) فهو نصرانى يدعى إلياس بقطر فى معجم عربى فرنسى من تأليفه سنة 1827 ثم جاء الخديوى اسماعيل وأدخل القوانين الفرنسية سنة 1833 وكان مفتوناً بالغرب ويريد أن يجعل مصر قطعة من أوربا .
· وكان للمستشرقين دورٌ خطير فى ذلك مثل دوركايم وغيره وكذلك من تتلمذ على أيديهم من أبناء الشرق من أمثال طه حسين وغيره فقد كانو مفتونين بأوربا ، وقالوا لكى ينهض الشرق فلابد أن يسير خلف أوربا حذواً بحذو وشبراً بشبر وذراعاً بذراع .. وإن كانت نهضة أوربا جاءت نتيجة فصل الدين عن الدولة والطلاق بينهما طلاقاً بائناً فإن الشرق لن ينهض إلا بذلك .
وأخيراً .. وبعد هذا الإستعراض .. وعذراً للإطالة .. فلابد من كلمة : نقول فيها إن ظهور هذه الفكرة فى أوربا له مايبرره من أحداث التاريخ الماضى .. وإن كان كثير من عقلاء الغرب ينادون بالعودة إلى القيم والأخلاق المستمدة من الدين والتى لاتنفصم عنه ، خاصةً بعدما عانت أوربا من ويلات الإباحية والفجور وأيضاً الحروب العالمية الطاحنة ( الأولى والثانية ) التى أودت بحياة ملايين البشر وكان ذلك كله سببه الرئيس البعد عن الدين .. نقول إذا كانت العَلمانية تتفق مع المسيحية فى فصل الدين عن الدولة وذلك واضح فيما يتردد عن السيد المسيح عليه السلام " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله " فإن الإسلام لايعرف هذه الثنائية ، فالمسلم حياته كلها لله والكون كله خاضع لمشيئته وقدره وتدبيره وحاشاه أن تخرج مخلوقاته عن سلطانه .. وأن الذين صدعوا رؤسنا بقولهم ( لادين فى السياسة ولا سياسة فى الدين ) فقد اتضح الأمر ، فهم إنما أرادوا بذلك أن ينعموا بالسلطة والثروة ويجمعوا بين الفساد والإستبداد ولا يملك أحد كائناً من كان محاسبتهم فى ذلك حتى لو كان الدين ذاته ، خاصة وأن عقيدتهم فى المحاسبة والوقوف بين يدى الله فى الآخرة لا وجود لها فى حياتهم ...
منقول عن:
الدكتور/ عصام موسى ... المحامى