منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#4081
قبل حوالى عام، استدل مفكر عربي على حيوية الأمة بأن أكثر من ألف استشهادي توجهوا الى العراق. توقف المتحدث هنا. لم يشر الى أن الأكثرية الساحقة من الاستشهاديين هؤلاء استهدفوا مواطنين عزلا.


تقول الخبرة إن ما يغفله المتحدثون العرب يكون أهمّ مما يثيرون. ومما يغفلون، السؤال البسيط عن الأهداف التي جذبت هذا الكم من الانتحاريين الى العراق. لقد كانت الأسواق الشعبية ومراكز تجمع طالبي العمل، بل وساحات المدارس الابتدائية، هي الأماكن التي انتقل فيها الاستشهاديون موضوع تقريظ صاحبنا، الى الملأ الأعلى، وبرفقتهم مئات من الأبرياء والتلامذة والعاطلين عن العمل والساعين الى الالتحاق بمؤسسات الدولة، وسواهم.

يتردد أن العمليات الانتحارية من الصنف المذكور، ترمي الى تعميق أزمة الاحتلال الأميركي للعراق عبر خلخلة المناخ الأمني الذي يحاول فرضه، وإن الطابع المذهبي الغالب للتفجيرات هو في الأصل لدفع السنّة والشيعة الى الاقتتال بحيث يضطر الاحتلال الى التورط في نزاع أهلي يغرق فيه فيستبق ذلك ويرحل مفضلا السلامة.
ومما يثير الفضول في حالات الانتحاريين في العراق، أن هذه «الحيوية» العربية، لم تظهر إلا في مجال يلحق الضرر بالدرجة الاولى، بمواطنين عرب. وان قتل العراقيين على أيدي الانتحاريين الآتي أكثرهم من وراء الحدود، يظل مدعاة فخر واعتزاز تقام له احتفالات التبريك والتهنئة عند أهالي الانتحاري الذي يكون عادة قد أودى بحياة العشرات من العراقيين.

بالانتقال الى ساحة أخرى شهدت عددا كبيرا من العمليات الانتحارية في الأعوام القليلة الماضية، دعونا نلقِ نظرة على ما حققت التفجيرات التي استهدفت الإسرائيليين من نتائج. يمكن الانطلاق من مقارنة بسيطة بين الطابع المصمم على إبقاء النشاط السياسي ضمن حد أدنى من العنف، على ما فعل الفلسطينيون في الانتفاضة الأولى، وبين اعتماد العمليات الانتحارية خيارا مفضلا في سياق عسكرة الانتفاضة الثانية.

من دون تردد، نزعم أن الإفراط في الاعتماد على العمليات الانتحارية بين عامي 2001 و,2002 قد أدى الى نتائج عكسية على المستوى السياسي، حيث استغلت للتذرع بأن إسرائيل «لن تفاوض تحت النار». وبينما كان من الصعب على إسرائيل تبرير عنفها في مواجهة مدنيين جلهم من الأطفال يلاقون الآليات العسكرية بالحجارة في الانتفاضة الاولى، صار من السهل عليها تبرير كل عنفها ضد الفلسطينيين بحق الدفاع عن النفس، وخصوصا أن التنظيمات الفلسطينية المعتمدة أسلوب العمليات الانتحارية لم تلحظ عمق التغير في المناخ الدولي في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 على الولايات المتحدة.

وباستمرارها في اتباع النهج ذاته، أسدت هذه المنظمات لإسرائيل خدمة ذهبية لإلحاق قمعها للانتفاضة الثانية، «بالحرب العالمية على الإرهاب». هذا، الى جانب أخطاء أخرى ارتكبها الفلسطينيون في تقديرهم لما طرأ على الساحة الدولية بعد انتخاب جورج بوش رئيسا للولايات المتحدة. أخطاء من نوع عدم القدرة على صياغة برنامج وطني موحد بعدما بدا أن السلطة الوطنية وتصورها للتسوية يواجهان معارضة شديدة من اليمين واليسار.

يبرز هنا ما يمكن أن يسمى «الحق في الرد». موجز الحق هذا يقول انه أمام سطوة الاحتلال وعنفه وجرائمه ضد المدنيين الفلسطينيين، يكتسب توجيه ضربات موجعة الى الاحتلال أهمية كبرى، قد تفوق إمكان الاستفادة من العمليات هذه في سياق مشروع سياسي ذي أهداف مفهومة. بهذا المعنى، تكون العملية الانتحارية هي غاية في ذاتها.

تسود الساحة العراقية حالة مختلفة، لكنها تتشارك مع نظيرتها الفلسطينية بغياب ما يمكن أن يطلق عليه تسمية «المشروع السياسي البديل» عند قوى المقاومة. فينهض السؤال هنا عن نجاعة أسلوب العمليات الانتحارية في العمل السياسي ـ المسلح والسؤال عن قدرته على فرض ضغط كاف على العدو لإرغامه على تغيير مشاريعه.

دعونا لا ننسَقْ الى أوهام التعميم. فالإرهاب مجدٍ، في أحيان كثيرة، من زاوية دفع القوى المعادية الى تبديل مناهجها. لكنها جدوى ناقصة الى حدود العقم. هذا عندما يتحول هذا الضرب من العمليات الى هدف وشعار وبرنامج، وتتجاوز كونها أداة قد يلجأ اليها هذا الطرف أو ذاك لأسباب محض تكتيكية أو عملانية من وجهة النظر العسكرية.
وفي حالة العمليات الانتحارية التي تبدو في بعض اللحظات كقدر أعمى يرتطم بمجتمع ما فيهدده بالانفراط ويحول دون صياغته لمؤسسات الدولة فيه، على نحو ما يحصل في العراق، فإنه في المقابل لا يشجع أي مراقب على الاقتناع بأن القوى التي تعتمد أسلوب العمليات الانتحارية كوسيلة رئيسة في نشاطها المسلح، مؤهلة للتقدم بمشاريعها صوب النجاح. اذاً، هي وسيلة إعاقة ومنع سلبية، لكنها غير كافية إطلاقا للانتقال الى الفعل السياسي الايجابي بمعنى العمل على تولي السلطة. فإرغام العدو على الانسحاب من أراض محتلة أو منعه من ترسيخ سلطته، هو أمر، وإقامة سلطة سياسية على الأراضي هذه أمر آخر. عليه، تبدو العمليات الانتحارية كمرادف لفراغ الجعبة السياسية عند أصحابها.

ويأتي ضعف الإمكانات المادية ليمثّل المبرر الاول في الدفاع عن اعتماد هذا التكتيك في القتال ضد الاحتلال. غير أن نظرة متأنية الى تفاصيل العديد من العمليات الانتحارية يفيد بأمور اخرى. فمن يتحمل عناء التخطيط الصعب لإرسال انتحاريين عبر كل المعوقات التي يضعها الإسرائيليون، ومن يوفر أطنانا من المتفجرات يحمّلها في شاحنات كبيرة، وفق النموذج العراقي، يعطي انطباعا أن الإمكانات والقدرات التخطيطية لا تعوزه لتنفيذ هجمات تعتمد تكتيكات مغايرة. فما هي المعوقات العملانية التي واجهت المهاجمين الذين أبادوا قرى ايزيدية في «عملية مركبة» شارك فيها عدد من الانتحاريين، في شمال العراق قبل أشهر، على سبيل المثال؟ السؤال هذا يتجاوز سؤالا قد يتناول الأهداف والغايات من قتل أعداد كبيرة من أبناء أقليات عديمة التأثير عمليا على المسار السياسي الذي يسير الصراع فيه.

تتيح هذه الحقيقة الفرصة للقول ان العملية الانتحارية ليست بنت الاضطرار وحده، بل هي ناجمة عن رؤية سياسية ـ اجتماعية لا تمانع في إفناء العدو، سواء كان مدنيا إسرائيليا أو شيعيا أو ايزيديا عراقيا أو سوى ذلك. بكلمات أخرى، ليست الفاعلية التكتيكية هي المبتغى الأخير عند مخططي ومنفذي هذا الضرب من الهجمات، بل لعله من المجدي البحث عن فاعلية إعلامية ونفسية تعود بالنفع على الانتحاريين ومن يقف وراءهم.

في السياق هذا، يصح القول ان نزعة إرادوية حادة تهمين على تفكير الانتحاريين وقادتهم. فبدلا من السعي الى استخدام وسائل التعبئة السياسية التقليدية، نرى الجهات هذه في عجلة من أمرها لاستغلال العمليات كنشاط مسلح، من جهة، وكعمل دعائي، من الجهة المقابلة. بل يمكن القول ان العمليات الانتحارية تمثل دفعا للنهج اللينيني في العمل السياسي المرتكز على ايديولوجيا «طليعية»، الى حدوده القصوى، العبثية.

فعوضا عن الحزب المنتشر في أوساط الجماهير والعامل على تعبئتها وحشدها، تحل الخلية ذات المهمة الأمنية. وبدلا من الشعب الذي سيرث تضحيات المناضلين، يظهر الإله الوارث للأرض ومن عليها. وبدلا من واجبات المناضل حيال السلطة الثورية بعد انتصارها، تأتي حقوق الاستشهادي في جنات الخلد.

تبرز هنا حقيقة أن أحزابا يسارية مارست هذا النوع من العمل المسلح. لكنها عندما فعلت ذلك كانت تعلن عن عمق الأزمة التي استحوذت عليها وردّتها الى سوية دينية أو «آسيوية» (على المعنى الذي يصدر عن «الاستبداد الآسيوي»)، معرية إياها من انتمائها المزعوم الى عالم الحداثة وقيمه. هكذا كانت الحال مع بعض اليسار اللبناني في الثمانينيات، وهكذا هي حال حزب العمال الكردستاني وحركة تحرير نمور تاميل ايلام التي يُحكى ان نزعات ماركسية صاحبت نشأتها.

أما في المقلب الآخر من التصور السياسي للقوى المنخرطة في العمليات الانتحارية، فيتجلى المستقبل الزاهي الذي تفتح أبوابه أشلاء القتلى، مكان الحاضر القاتم المقفلة فيه كل إمكانات التغيير بالوسائل التقليدية الديموقراطية والثورية (على الطريقة اليسارية). غير أنه من الملح التأكيد أن الدنيا ليست هي الساحة الوحيدة لتجلي المستقبل. فالآخرة لا تني تقدم البدائل الضرورية لمن يعجز عن تغيير الواقع.

[[[
في زعمنا أن العنف والمقدس يتبادلان الأدوار في حياة بني البشر. وعادة ما يكون المقدس في موقع الدفاع عن البشر ضد العنف وأحيانا من خلال استنباط أشكال جديدة من العنف المضاد. وقدم البشر أغلى ما عندهم قرابين، كانت تذهب في الماضي لدرء غضب الآلهة أو الطبيعة الغامضة السلوك والدوافع. وفي مجتمعاتنا ما زلنا نقدم قرابين لنتغلب على غضب المحتل واستحالة الارتقاء الى الانتصار عليه من دون قرابين وتعاويذ وأيقونات. إن رموزا وشعارات ولوحات جدارية هائلة الأبعاد تحتل حيزا واسعا من الفضاء العام في مدننا وقرانا. ولا يمكن فهم الانتشار الكثيف لهذه الظاهرة بحاجات التعبئة السياسية وحدها. بل الأقرب الى الصواب هو أنها تشكل تعاويذ وأيقونات تحمي بها الجماعة المذعورة ذاتها، من أعدائها. لغة الرموز لا تختفي هنا بل تتغير وفق تبدل التقنيات الميديائية.

وبهذا المنظار، يظل فهم العمليات الانتحارية قاصرا ما لم توضع الظاهرة في سياق كامل منظومة القيم التي تحرك مجتمعاتنا وتبني فهمنا للسياسة والعلاقة مع الآخر، ولما نقول انه حقوق لنا وواجبات تاريخية وأخلاقية محصور القيام بها بهذه الشعوب.
فكيف يمكن الحكم على مضمون مشروع سياسي لفئة ترى السمو كله في انتحار أنصارها، من دون رسم كامل الخطوط التي تشكل الخلفية الاجتماعية والثقافية والايديولوجية للمجتمع الذي أفرز الانتحاريين وموجهيهم؟

إن الغيب الذي يؤدي دورا كبيرا في الممارسة السياسية اليومية في لبنان والعالم العربي، يحض على تأجيل أي نقاش موضوعي لظواهر من نوع العمليات الانتحارية، تماما كما يرفض مناقشة سبل تنفيذ الشعارات الكبرى المرفوعة هذه الأيام بكثرة، وجدواها وانعكاساتها على البشر بصفتهم أصحاب مصلحة بسيطة ومحددة وهي الاستمرار على قيد الحياة. واذا كنا نعرف اسم من نفذ أول عملية انتحارية في هذا البلد أو ذاك، إلا أننا لم ننجز بعد عملية الإحاطة «بعقله السياسي». لذا، ليس من المبالغة القول ان عوالم وتواريخ تفصل بين الفرد وحياته وبين كرامة الجماعة ولحمتها. فالثانية لا تمانع في دفع الاول الى الموت في سبيلها. في حين ان الاول عاجز في بلادنا عن الدفاع عن فرديته ومسلوب الارادة أمام هدير آلهة الجماعة الغاضبة والمجروحة الكرامة.

فلا مناص، والحال على ما تقدم، من أن تبحث جماعاتنا عن علاج جرحها النرجسي المتمثل بالهزيمة التاريخية والفوات الاجتماعي، بتضحيات جسام لا تنتهي، لكنها إذ تفعل ذلك، فإنها تعمق الحفرة التي فيها نتردى.