سورية الداخل - سورية الخارج
مرسل: الأربعاء إبريل 20, 2011 11:48 am
سوريّة الداخل... سوريّة الخارج
الثلاثاء, 19 أبريل 2011
حازم صاغيّة
مثل منتفضي تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والأردن والجزائر...، لم تحتلّ مسائل الخارج والإقليم مساحة ملحوظة في كلمات المنتفضين السوريّين وفي شعاراتهم وهتافاتهم. حتّى لبنان الذي شُبك بألف حبل بسوريّة لم يُثر اهتمامهم. أمّا «قضيّة العرب المركزيّة» فهنا أيضاً لم تكن مركزيّة. أكثر من هذا، لم تستدعِ لغة النظام في الدفاع عن ممانعته ردوداً تفنّدها، كما لو أنّ الأمر كلّه لا يستحقّ التوقّف عنده.
والحال أنّ مشكلة سوريّة ربّما جاز إيجازها بمشكلة الداخل والخارج، وعنها تفرّعت المشكلات الأخرى المتعلّقة بالحرّيّة والكرامة والفساد. فلم يكن مصادفاً أنّ انقلاب حسني الزعيم الذي أسّس التعطيل الديموقراطيّ حصل في 1949، بعد أشهر على الحرب العربيّة – اليهوديّة الأولى في 1948 التي أنجبت دولة إسرائيل.
منذ ذلك الحين، ولكنْ خصوصاً منذ 1970، لم يعد لسوريّة داخل. فهي غدت أقرب إلى وظيفة نضاليّة منها إلى وطن: وظيفةٍ مفادها الصمود والتصدّي والمجابهة وصدّ المؤامرات، ممّا يتحفنا به الإعلام الرسميّ ليل نهار. أمّا الحياة السياسيّة والاقتصاد والتعليم والصحّة فتتفاوت بين العدم والحضور الميكروسكوبيّ.
والعلاقة هذه بين تجويف الداخل وتسميك الخارج لم تنجم عن عبث. ذاك أنّ الفشل في إدارة التعدّد السوريّ كان وراء الهرب الكبير من همّ بناء الداخل للاستغراق في الموضوع الفلسطينيّ ثمّ اللبنانيّ، فضلاً عن انشغالات جدّيّة بمسائل الأردن والعراق.
وقبل 1970، حين أُحكمت سلطة الحزب الواحد والقائد الواحد، كانت للضبّاط تجربة أخرى في الهرب من الداخل، حين ألقوا بالبلد كلّه، عام 1958، في أحضان عبد الناصر. هكذا أنشأوا وحدة مع مصر صارت سوريّة بموجبها «إقليماً شماليّاً» في «جمهوريّة عربيّة متّحدة». ثمّ، مع حزب البعث منذ استيلائه على السلطة في 1963، أصبح الوطن السوريّ «قطراً». وهذه كلّها كانت محاولات، ولو غير موعاة دائماً، لتفادي الداخل بمشكلاته وبالتصدّي لبنائه.
بيد أنّ ما نجم عن هذا جميعاً تحوّل سوريّة، وربّما أكثر من أيّ بلد آخر في العالم، مسرحاً لتناقض الداخل والخارج: الداخل الذي يلحّ على السياسة والحرّيّة والاقتصاد والتعليم والصحّة، والخارج الذي ترمز إليه تعابير من قبيل «قلعة الصمود» و»قلب العروبة النابض».
وهاتان مدرستان في النظر والتفكير، وطبعاً في السلوك والممارسة. فأن ينخفض الخارج في خطاب المنتفضين فهذا ينمّ عن شعور سوريّ عريض بأنّ التعويل على الخارجيّ هو مصدر حكم الحزب الواحد واستبداده، وهو الحائل دون حريّات السوريّين وتقدّمهم وبحبوحتهم. وفي المقابل، يشي الكلام الرسميّ عن «المندسّين» والأسلحة المهرّبة من العراق ودور «تيّار المستقبل» اللبنانيّ بمعاودة الحنين لاستحضار الخارجيّ، مرّة أخرى، من أجل قمع الداخليّ. واللبنانيّون خبراء في هذا الاستحضار الذي استدعى شنّ حرب 2006 لقطع الطريق على تحوّلات 2005، لا سيّما منها إسقاط الحكم والتحكّم الأمنيّين.
ويحسن السوريّون اليوم إذ يمضون في التركيز على الداخل، وفي القطع مع اللغة التي شهدت بعض ذرى انحطاطها في الأيّام الأخيرة. ذاك أنّ تركيزاً كهذا هو الذي يصوّب مسار الوطنيّة السوريّة ويعيد إلى سوريّة اعتبارها وطناً ودولةً، لا إقليماً ولا قطراً. فكيف وأنّ مهمّة كتلك قد تتطلّب في مقبل الأيّام جهداً استثنائيّاً، جهداً هو وحده ما يتيح النجاح في ما فشلت فيه البرلمانيّة السوريّة القديمة، أي تنظيم التعدّد السوريّ سياسيّاً، من دون قسر ولا إكراه.
الثلاثاء, 19 أبريل 2011
حازم صاغيّة
مثل منتفضي تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والأردن والجزائر...، لم تحتلّ مسائل الخارج والإقليم مساحة ملحوظة في كلمات المنتفضين السوريّين وفي شعاراتهم وهتافاتهم. حتّى لبنان الذي شُبك بألف حبل بسوريّة لم يُثر اهتمامهم. أمّا «قضيّة العرب المركزيّة» فهنا أيضاً لم تكن مركزيّة. أكثر من هذا، لم تستدعِ لغة النظام في الدفاع عن ممانعته ردوداً تفنّدها، كما لو أنّ الأمر كلّه لا يستحقّ التوقّف عنده.
والحال أنّ مشكلة سوريّة ربّما جاز إيجازها بمشكلة الداخل والخارج، وعنها تفرّعت المشكلات الأخرى المتعلّقة بالحرّيّة والكرامة والفساد. فلم يكن مصادفاً أنّ انقلاب حسني الزعيم الذي أسّس التعطيل الديموقراطيّ حصل في 1949، بعد أشهر على الحرب العربيّة – اليهوديّة الأولى في 1948 التي أنجبت دولة إسرائيل.
منذ ذلك الحين، ولكنْ خصوصاً منذ 1970، لم يعد لسوريّة داخل. فهي غدت أقرب إلى وظيفة نضاليّة منها إلى وطن: وظيفةٍ مفادها الصمود والتصدّي والمجابهة وصدّ المؤامرات، ممّا يتحفنا به الإعلام الرسميّ ليل نهار. أمّا الحياة السياسيّة والاقتصاد والتعليم والصحّة فتتفاوت بين العدم والحضور الميكروسكوبيّ.
والعلاقة هذه بين تجويف الداخل وتسميك الخارج لم تنجم عن عبث. ذاك أنّ الفشل في إدارة التعدّد السوريّ كان وراء الهرب الكبير من همّ بناء الداخل للاستغراق في الموضوع الفلسطينيّ ثمّ اللبنانيّ، فضلاً عن انشغالات جدّيّة بمسائل الأردن والعراق.
وقبل 1970، حين أُحكمت سلطة الحزب الواحد والقائد الواحد، كانت للضبّاط تجربة أخرى في الهرب من الداخل، حين ألقوا بالبلد كلّه، عام 1958، في أحضان عبد الناصر. هكذا أنشأوا وحدة مع مصر صارت سوريّة بموجبها «إقليماً شماليّاً» في «جمهوريّة عربيّة متّحدة». ثمّ، مع حزب البعث منذ استيلائه على السلطة في 1963، أصبح الوطن السوريّ «قطراً». وهذه كلّها كانت محاولات، ولو غير موعاة دائماً، لتفادي الداخل بمشكلاته وبالتصدّي لبنائه.
بيد أنّ ما نجم عن هذا جميعاً تحوّل سوريّة، وربّما أكثر من أيّ بلد آخر في العالم، مسرحاً لتناقض الداخل والخارج: الداخل الذي يلحّ على السياسة والحرّيّة والاقتصاد والتعليم والصحّة، والخارج الذي ترمز إليه تعابير من قبيل «قلعة الصمود» و»قلب العروبة النابض».
وهاتان مدرستان في النظر والتفكير، وطبعاً في السلوك والممارسة. فأن ينخفض الخارج في خطاب المنتفضين فهذا ينمّ عن شعور سوريّ عريض بأنّ التعويل على الخارجيّ هو مصدر حكم الحزب الواحد واستبداده، وهو الحائل دون حريّات السوريّين وتقدّمهم وبحبوحتهم. وفي المقابل، يشي الكلام الرسميّ عن «المندسّين» والأسلحة المهرّبة من العراق ودور «تيّار المستقبل» اللبنانيّ بمعاودة الحنين لاستحضار الخارجيّ، مرّة أخرى، من أجل قمع الداخليّ. واللبنانيّون خبراء في هذا الاستحضار الذي استدعى شنّ حرب 2006 لقطع الطريق على تحوّلات 2005، لا سيّما منها إسقاط الحكم والتحكّم الأمنيّين.
ويحسن السوريّون اليوم إذ يمضون في التركيز على الداخل، وفي القطع مع اللغة التي شهدت بعض ذرى انحطاطها في الأيّام الأخيرة. ذاك أنّ تركيزاً كهذا هو الذي يصوّب مسار الوطنيّة السوريّة ويعيد إلى سوريّة اعتبارها وطناً ودولةً، لا إقليماً ولا قطراً. فكيف وأنّ مهمّة كتلك قد تتطلّب في مقبل الأيّام جهداً استثنائيّاً، جهداً هو وحده ما يتيح النجاح في ما فشلت فيه البرلمانيّة السوريّة القديمة، أي تنظيم التعدّد السوريّ سياسيّاً، من دون قسر ولا إكراه.