منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

By محمد الزامل(380/381)
#34313
لويس الرابع عشر Louis XIV (عاش 5 سبتمبر 1638 – 1 سبتمبر 1715), عـُرف بلقب الملك الشمس (بالفرنسية: le Roi Soleil)، وكان ملك فرنسا ونڤار.[1] بدأ عهده، الذي امتد من 1643 إلى وفاته في 1715، وهو في عمر الرابعة واستمر اثنين وسبعون عاماً وثلاثة أشهر وثمانية عشر يوماً، وهو أطول عهد حكم مسجل لأي ملك اوروبي.
أفول نجم الإله 1713-1715
أن لويس الرابع عشر، لو حكمنا عليه بمعايير عصره، لم يكن الغول البشع، الذي صوره المؤرخون المعادون، وكل الذي أقترفه هذا الملك هو أنه طبق على نطاق أوسع، ولفترة من الزمن، مع نجاح بغيض، نفس أساليب الحكم المطلق والتوسع الإقليمي، والغزو العسكري التي تميز بها سلوك أعدائه ومطامعهم، بل أن وحشية جيوشه في البالاتينات كانت لها سابقة في أعمال السلب والنهب في مجدبرج (1631)، وخاتمة في مذابح مارلبرو. على حين أن لويس تميز بأنه قد امتد به الأجل حتى تثأر منه في شخصه، لا في أبنائه، "ربات الانتقام" لكل ما جنى عليه غروره وصلفه وسلطانه من آثام. ولم يبخسه التاريخ حقه في شيء من الإعجاب بما أبدى من شجاعة ووقار عند هزيمته، كما استشعر شيئاً من الإشفاق عليه في الكوارث التي دمرت تقريباً أبنائه وجيوشه وأساطيله في وقت معاً. وفي 1711 مات ابنه الشرعي الوحيد "الدوفين الأكبر" لويس، تاركاً وراءه الملك وحفيدين صغيرين لويس دوق برجندي، وشارل دوق بري. وتحلى لويس الأصغر بمناقب عظيمة بفضل رعاية فنليون وسهره على تربيته وتهذيبه، وأصبح عزاء الملك وسلواه في شيخوخته. وفي 1697 تزوج لويس الأصغر من ماري أدليد سافوي، التي ذكر جمالها وذكاؤها ومفاتنها، الملك بمدام هنريتا وشبابه السعيد معها. ولكن في 12 فبراير 1712 أودت الحمى المتقطعة بهذه الروح المرحة في سن السادسة والعشرين. وأبى زوجها المخلص أن يتخلى عن سير مرضها، فانتقلت إليه العدوى، ومات بنفس المرض في 18 فبراير وهو في سن التاسعة والعشرين، بعد وفاة أبيه بعام واحد. وانتقلت العدوى منهما إلى طفليهما، ومات أحدهما في 8 مارس في سن الثامنة، أما الأصغر فقد بقي على قيد الحياة، في حالة من الضعف والهزال لم يكن أحد يحلم معها بأنه سيعيش ليحكم فرنسا حتى 1774 باسم لويس الخامس عشر. ولو أن هذا الصبي الهزيل قضى نحبه لكان وريث العرش شارل دوق بري، ولكن شارل توفي 1714.

وكان ثمة خليفة آخر يمكن أن يوؤل إليــه العرش-هو فيليب الخامس ملك أسبانيا الابن الأصغر للدولفين الأكبر، ولكن نصف أوربا تعهد بالحيلولة بينه وبين الجمع بين التاجين. وكان يليه في ترتيب الوراثة، فيليب دوق أورليان حفيد لويس الثالث عشر، وابن أخي الملك وزوج ابنته. ولكن فيليب هذا كان له معمل واصل فيه تجاربه في الكيمياء. ولذلك تناقل الناس اتهامه بدس السم لدوق ودوقة برجندي وابنهما الأكبر. وقد اختلف الأطباء حول استخدام السم، واستشاط فيليب غضباً لهذه الشبهات، وطلب إلى الملك أن يقدمه لمحاكمة علنية، واعتقد لويس أنه بريء، وأبى تعريضه للمحاكمة والتعذيب حتى تثبت براءته أو إدانته، وأن يلحق به هذا العار.

وكان ثمة ملجأ أو حل أخير، إذا أخفقت فروع الوراثة هذه. وذلك أن الملك كان قد أضفى الشرعية على ابنيه غير الشرعيين دوق مين وكونت وف تولوز. وفي ذاك الوقت (يوليه 1714) أصدر الملك مرسوماً سجله برلمان باريس دون معارضة، ينص على أنه في حالة عدم وجود أمراء يجري في عروقهم الدم الملكي، يكون لهذين الابنين غير الشرعيين سابقاً حق وراثة العرش. وبعد سنة من ذلك، أصدر مرسوماً آخر بمساواتهما في الرتبة من الوجهة القانونية بالأمراء الشرعيين، وكان لهذا القرار وقع الصاعقة على سان سيمون والنبلاء الآخرين(84)، وكانت أمهما مدام دي مونتسبان قد ماتت، ولكن أمهما بالتنشئة، زوجة الملك، أحبتهما مثل أولادها. واستخدمت نفوذها للنهوض بهما في مراقي الشرف والسلطة والجاه.

وفي غمرة هذه المشاكل وفقدان الأولاد، واجه لويس الأزمة الأخيرة في الحرب. وعندما كان يودع فيللار الذي كان في طريقه لملاقاة يوجين الذي كان يتقدم إلى جبهة بلجيكا، انهارت فجأة قوى الملك الذي كان آنذاك في الرابعة والسبعين، وهو يقول "أنت ترى الآن حالي أيها المارشال، ليس ثمة إلا أمثلة قليلة لما أصابني-أفقد في نفس الشهر حفيدي وحفيدتي وابنهما وكانوا جميعاً واعدين مبشرين بحسن المستقبل، وكم كنت أحبهم. أن الله يعاقبني، وأنا استحق العقاب، سيخف عذابي في الدار الآخرة". ولما أفاق استطرد يقول: "فلنطرح جانباً المآسي والنوائب المنزلية، لنرى كيف نتفادى كوارث المملكة. أني أعهد إليك بقوات الدولة وبتخليصها. قد لا يحالفك الحظ، فإذا حلت الكارثة بالجيش الذي تتولى قيادته، فماذا في رأيك هي الخطة التي انتهجها أنا شخصياً؟" ولم ينبس فيللارد ببنت شفة. فقال الملك "لا يدهشني ألا تجيبيني على الفور. وفيما انتظر أن تفصح لي عن رأيك، أبلغك أنا رأيي. أني أعرف تفكير رجال حاشيتي، إنهم جميعاً تقريباً يريدونني أن آوى إلى بلوا (مدينة في أواسط فرنسا على نهر اللوار) إذا حلت الهزيمة بجيشي. أما بالنسبة لي، فأنا أعلم، أن جيوشاً بمثل هذه الضخامة لا يمكن أبداً أن تنهزم إلى الحد الذي لا يستطيع معه الجزء الأكبر منها أن يرتد إلى السوم. وهو نهر من الصعب عبوره، وينبغي أن أذهب إلى بيرون أو سانت كنتان، وأجمع هناك كل ما أستطيع جمعه من قوات، وأبذل معك محاولة أخيرة، فأما هلكنا معاً أو أنقذنا الدولة(85)".

وخدع انتصار فيللار في معركة دنين الملك بالأمل في ميتة بطولة. ولكنه بقي على قيد الحياة بعد المعركة بثلاثة أعوام، وبعد الصلح بعامين. وفيما عدا الناصور الشرجي الذي شفي منه منذ فترة طويلة، ظل الملك يتمتع بالصحة إلى حد معقول لمدة سبعين عاماً. ولم يعتدل في مأكله، ولكنه لم يصبح بديناً قط. ولم يسرف في الشراب، ولم يهمل القيام بتمرينات رياضية قوية في الهواء الطلق، إلا لأيام قلائل، حتى في الشتاء القارس 1708-1709. ومن العسير أن نجزم بأنه كان يمكن أن يعمر أطول مما عاش، إذا كان عدد أطبائه أقل مما كان عليه، أو أن الأدوية المسهلة والفصد وامتصاص العرق وغير ذلك مما استخدموا في علاجه، كانت أسوأ أثراً من الأمراض التي قصدوا إلى إنقاذه منها. وفي 1688 أعطاه أحد الأطباء دواء مسهلاً قوياً إلى حد أن مفعوله ظهر إحدى عشرة مرة في ثمان ساعات، أحس بعدها بشيء من التعب، كما قالوا(86). وعندما رسم ريجو في 1701 الصورة المتألقة في اللوفر، فإنه أبرز لويس وكأنه لا يزال متغطرساً مزهواً بالقوة والنصر والغلبة والملابس الرسمية، والشعر الأسود المستعار الذي يخفي المشيب، والوجنات المنتفخة التي تنم على الشهوة، وبعد ذلك بسبع سنين أبرزه كويسفوكس في التمثال الضخم في نوتردام، راكعاً يصلي، ولكن لا يزال أشد شعوراً بالملكية منه بالموت، وربما كساه الفنانون بزهو واعتداد بالنفس أكثر كمما أحس هو به، لأنه كان قد تعلم في سنوات الخيبة والإخفاق والمحن المتفاقمة، أن يتقبل اللوم والعتاب في شيء من التواضع والخضوع، على الأقل من مينتنون(87). وأصبح كالطفل بين يدي يسوعي متعصب هو تلييه الذي كان قد خلف الأب لاشيز "كاهن الاعتراف للملك" في 1709. "أن خليفة شارلمان طلب الصفح عن خطاياه من ابن أحد الفلاحين(88)" وارتفعت إلى السطح المبادئ القوية للكثلكة والتقوى التي كان قد تلقاها من أمه، حين انحسرت الآن الأهواء والعواطف، وفقدت العظمة بريقها. وراجت شائعة بأن الملك في موجة تبتله كان قد انتسب إلى جماعة اليسوعيين في 1705، وأضافت أنه في مرضه الأخير أخذ على نفسه العهد الرابع أن يكون عضواً كامل العضوية في "جماعة يسوع(89)".

وفي يناير 1715 فقد الملك شهيته المعهودة، واشتد توجعه بشكل واضح إلى حد المراهنة في هولندا وإنجلترا على أنه لن يعيش عامه(90)فلما قرأ قصاصات الأنباء عن هذا الرهان سخر منها وظل على منهجه المعتاد في حضور المؤتمرات واستقبال السفراء وعرض الجند والصيد، وكان يختم يومه مع زوجته المخلصة المنهوكة مينتنون، وهي آنذاك في التاسعة والسبعين. وفي 2 أغسطس كتب وصية عين بمقتضاها دوق مين وصياً على لويس الخامس عشر، وعين الدوق رئيساً لمجلس وصاية يتولى حكم فرنسا حتى يبلغ الصبي رشده. وفي 12 أغسطس انتشرت القروح في ساقه وتسممت (أصيبت بالغنغرينا) وأصبحت كريهة الرائحة، وانتابته الحمى ولزم الفراش وفي 25 أغسطس كتب ملحقاً للوصية عين فيه فيليب أورليان رئيساً لمجلس الوصاية. على أن يكون له الصوت المرجح عند انقسام الآراء. وقال لاثنين من القضاة تسلما الوثيقة: "لقد كتبت وصية، أنهم-(ربما كان يقصد مينتون ودوق ودوقة مين وأنصارهم) ألحوا عليّ في كتاباتهم، وكان لزاماً أن اشتري راحتي. ولكن لن يكون لها أية قيمة بمجرد أن ألفظ أنفاسي الأخيرة. أنني أعلم جيداً ماذا كان من أمر وصية والدي(91)". وقدر لهذه الوصية المضطربة أن تكتب فصلاً في التاريخ الفرنسي.

ومات لويس "ملكاً" تكلله كل مظاهر الملكية. وبعد تناول الأسرار المقدسة وجه إلى رجال الدين الذين أحاطوا بسريره، اعترافاً إضافياً لم يقابلوه بالترحيب:

يؤسفني أن أترك شئون الكنيسة في وضعها الراهن. أني أجهل الموضوع جهلاً تاماً كما تعلمون. وأني لأدعوكم لتكونوا شهداء على أني لم أفعل إلا ما أردتم أنتم، وأني فعلت كل ما أردتم، وستقفون أنتم بين يدي الله لتجيبوا عن كل ما تم عمله. أني أحملكم مسئولية هذا أمام الله. أن لي ضميراً نقياً. وما أنا إلا جهول أسلمت نفسي لتوجيهكم(92). ثم وجه الحديث إلى رجال حاشيته: أيها السادة، أسألكم الصفح عن المثل السيئ الذي ضربته لكم. وينبغي أن أقدم لكم أجزل الشكر على الطريقة التي خدمتموني بها، على الإخلاص الذي ظهرتموه دائماً. وأرجوكم أن تقدموا نفس الغيرة والإخلاص اللذين منحتموني إياها لحفيدي، أنه صبي قد يكون أمامه أن يعاني كثيراً. وكل أملي أن تعملوا جميعاً من أجل الاتحاد. فإذا قصر أحد في هذا فعليكم أن تحاولوا رده إلى جادة الصواب والواجب. أني الحظ أني أترك لمشاعري العنان فتستبد بي، أني أسبب لكم شيئاً من الضيق، فاغفروا لي هذا كله. وداعا أيها السادة، أنا واثق أنكم ستذكرونني أحياناً(93). وطلب إلى دوقة فنتادور إحضار حفيده وكان في سن الخامسة، فقال له، طبقاً لرواية الدوقة:- أي بني، انك ستصبح ملكاً عظيماً، لا تتبع مسلكي في البناء أو في الحرب، حاول، على العكس، أن تكون في سلام مع جيرانك. اترك ما لله لله، ووف بالتزاماتك نحو الله، واحمل رعاياك على تقديسه وطاعته، وحاول أن تخفف عن شعبك، وهذا ما لم أفعله أنا، لسوء الحظ. ولدي العزيز، أني أمنحك بركتي من كل قلبي(94).

والتفت إلى اثنين من الخدم رآهما يذرفان الدمع وقال "لماذا تبكيان، هل ظننتما أني مخلد(95)؟. ثم اتجه إلى مدام مينتنون ليعيد إليها شيئاً من الطمأنينة وقال: "لقد ظننت أن الموت أصعب من ذلك. أؤكد لك أنه ليس عملية فظيعة، أنه لا يبدو لي شاقاً مطلقاً(96)". وطلب إليها أن تتركه، وكأنما كان يدرك أنها ستصبح بعد موته نفساً ضائعة وسط الوعي الطبقي السائد بين أفراد حاشيته. فآوت إلى جناحها، ووزعت أثاثها بين مرافقيها وخدمها، ورحلت إلى سان سير التي لم تبرحه حتى وفاتها 1719. وكان الملك يتحدث في ثقة بالغة، ثم قضى ليلة طويلة في كرب شديد يعاني سكرات الموت وهو في النزاع الأخير، حتى وافاه الأجل في أول سبتمبر 1715، ومن سنوات عمره السبع والسبعين، قضى اثنين وسبعين عاماً على العرش، وهذا أطول حكم في تاريخ أوربا. أما رجال الحاشية القلقون على وظائفهم، فإنهم حتى قبل أن تحين اللحظة الأخيرة هجروه ليقدموا ولاءهم وإجلالهم إلى فيليب أورليان ودوق مين. واجتمع بعض اليسوعيين حول جثمانه ليقيموا بالطقوس المعهودة لمن مات من أبناء طائفتهم(97). وتلقى أهالي باريس نبأ موت الملك على أنه خلاص مبارك من حكم طال أكثر مما ينبغي، ورأى عظمته يلطخها البؤس والهزيمة. ولم يوفروا إلا القليل من مظاهر الأبهة والعظمة للجنازة التي سارت بجثمان أشهر ملك في تاريخ فرنسا إلى سان دنيس في 9 سبتمبر. قال فولتير "على طول الطريق رأيت خياماً صغيرة منصوبة يشرب فيها الناس ويغنون ويسمرون(98)" وكان دوكلاس آنذاك في الحادية عشرة، ولكنه تذكر فيما بعد "أن كثيراً من الناس بلغ من حقارتهم أنهم كانوا يصبون اللعنات والشتائم عند مرور النعش بهم(99)".

وفي تلك اللحظة تذكر الباريسيون أخطاء الملك الراحل، وبدت لهم في وضح غطى على ما عداها. وأحسوا أن حبه للجاه والسلطان والعظمة قاد فرنسا إلى حافلة الخراب. وكرهوا غطرسته واعتداده بنفسه اللذين دمرا الحكم الذاتي المحلي، وركزا كل الحكم في إرادة واحدة لا يستطيع أحد أن يتحداها. ورثوا لملايين الفرنكات التي أنفقت وآلاف الأرواح التي أزهقت في تجميل فرساي، وصبوا اللعنات على إهمال الملك شأن عاصمته المشاغبة المتمردة. وأبهجت فئة قليلة لأن اضطهاد الجانسنيين قد يتوقف بعد موته، على أن أغلبية كبيرة ظلت تمتدح طرد الهيجونوت. وفي استرجاع الأحداث الماضية والتأمل فيها، كان واضحاً أن غزو هولندا في 1672، وغزو ألمانيا 1688، والتسرع في الاستيلاء على مدن الحدود في 1701، كانت كلها أخطاء جسيمة جلبت على فرنسا عداوة الكثيرين من كل جانب. ولكن كم من الفرنسيين كانوا قد استنكروا هذه الفتوحات، ونطقوا بكلمة حق في اجتياح البالاتينات؟ لقد كانت الأمة آثمة مدانة قدر إثم مليكها وإدانته، أنها لم تأخذ عليه جرائمه بل هزائمه. أنها، باستثناء بعض القساوسة، لم تشجب فسقه وفجوره وزناه. ولم تظهر تحمساً لإصلاحه الخلقي، أو تقواه أو إخلاصه لزوجته غير المتكافئة معه، ونسيت الآن أنه كان لعدة سنين قد زين سلطانه من اللطف والكياسة والإنسانية(100). وأنه إلى أن ركبه شيطان الحرب، كان يؤيد كولبير في تنمية الصناعة والتجارة في فرنسا، وأنه كان قد حمى موليير من المتعصبين، وراسين من عصابات المتآمرين، وأن إسرافه في الإنفاق لم يكن لحساب ترفه وبذخه فحسب، بل أنه كذلك هيأ به لفرنسا تراثاً ضخماً من الفن.

أن ما اختلج في أعماق الشعب بشكل أوقع وأعدل، هو ما كانوا قد دفعوه من دمائهم وأموالهم، ثمناً لمجد تقوضت أركانه بموت الملك وإفقار فرنسا وخرابها. فندر أن وجدت في الأمة أسرة لم تفقد أحد أبنائها في الحروب، ونقص عدد السكان إلى حد باتت معه الحكومة تقدم جوائز للوالدين الذين لديهم عشرة أبناء. وكانت الضرائب قد خنقت الحافز الاقتصادي، كما سدت الحرب منافذ التجارة، وأغلقت الأسواق الأجنبية في وجه البضائع الفرنسية، ولك تكن الدولة مفلسة فحسب، بل كانت كذلك مدينة بنحو ثلاثة آلاف مليون من الفرنكات(101). وضاع ما كان للنبلاء من نفع وأثر، حين انصرفوا عن الإدارة المحلية إلى التسكع في أروقة البلاط، ولم يتألقوا إلا في ملابسهم الثمينة وبسالتهم العسكرية. وظهرت طبقة جديدة من النبلاء عن طريق بيع الألقاب بالجملة لعامة الناس. وفي سنة واحدة منح الملك لقب النبالة لخمسمائة شخص مقابل ستة آلاف جنيه دفعها كل منهم، وبذلك أصبح أبناء البيوتات العريقة أتباعاً لأبناء رقيق الأرض. وما لم تعد الحرب صراعاً بعيداً بين المرتزقة والمجادلين، بل اختباراً مضنياً مزعجاً للموارد والاقتصاديات ورجل الدين، وازدهر الرأسماليين وسط الاضمحلال العام. ذلك أنك تجد في الدول الحديثة أن الرجال الذين يستطيعون أن يسوسوا الناس، لا يسوسون إلا من يستطيعون أن يدبروا الأمور، وأن يستطيعون تدبير المال يسوسون الجميع.

وفي حكمنا على لويس الرابع عشر ينبغي أن نتذكر قولة جوتة المأثورة الإنسانية، بأن رذائل المرء هي من تأثير عصره. على حين أن فضائله نابعة منه، أو كما أوردها الرومان في إيجاز متميز "الرذائل هي رذائل الزمان لا رذائل الإنسان(102)" أن حكمه الاستبدادي المطلق، والتعصب الذي حدا به إلى الاضطهاد والتعذيب، والتلهف على السلطة والميل للحروب، ركبت كلها فيه باعتباره ابناً لعصره ولكنيسته. أما كرمه وسخاؤه وشهامته وكياسته، وتقديره وتشجيعه للأدب والفن، وقدرته على احتمال أعباء حكومة مركزية بعيدة المدى، فهي كلها صفاته الشخصية التي جعلت منه ملكاً بكل معاني الكلمة. وكتب جوتة: أن الطبيعة أبدعت في لويس الرابع عشر نوعاً كاملاً من الطراز الأول للنمط الملكي، وبهذا أنهكت نفسها وحطمت القياس(103). وقال نابليون "كان لويس الرابع عشر ملكاً عظيماً، وهو الذي رفع فرنسا إلى المرتبة الأولى بين الأمم. وأي ملك من ملوك فرنسا منذ عهد شارلمان يمكن أن يقارن به في كل نواحيه؟(104)". ومن رأي لورد أكتون أنه "كان إلى أبعد حد، أقدر من ولد في العصور الحديثة على درجات سلم أي عرش(105)". لقد شن حروباً مدمرة، وسخر كبرياءه في إسراف في البناء والترف، وخنق الفلسفة، وأثقل كاهل شعبه بالضرائب إلى حد الإملاق والعوز، ولكنه هيأ لفرنسا حكومة منظمة، ووحدة وطنية، وعظمة ثقافية، بلغت بها مرتبة الزعامة التي لا نزاع فيها على العالم الغربي. وأصبح علماً على أسمى عهد زاهر لبلاده ورمزاً له. أما فرنسا التي تعيش على المجد والعظمة، فقد تعلمت أن تغفر له تدميره لها في سبيل أن يجعلها عظيمة.