هل تتحول أمريكا عن مساندة النظام في سوريا؟
د. أسامة عثمان
مع تصاعد وتيرة التظاهرات، في سوريا، وارتفاع سقف المطالب، إلى إسقاط نظام الأسد، بالتوازي مع ارتفاع وتيرة القتل؛ حتى بلغ في «الجمعة العظيمة» ما يفوق الـ (70) ضحية بالرصاص الحي الذي أطلقته قواتُ الأمن، ومسلحون موالون للنظام فإن أمريكا التي لم تُخفِ أن تأييدها لبشار بدأ يتأرجح، ولم يعد في مقدور واشنطن إلاّ أن ترفع من نبرة استنكارها للقوة المفرطة التي تستخدمها الدولة في سوريا.
حاول بشار الذي ورث نظامًا أمنيًّا قمعيًّا قلَّ نظيرُه أن يمتص النقمة الشعبية العارمة بتقديم إصلاحات وصلت حدّ رفع قانون الطوارئ المفروض منذ نحو الخمسين عامًا، ووعد بإصلاحات أخرى سياسية وإعلامية وداخلية معيشية. لكن يبدو أن ثقة الشعب في النظام برمته قد تلاشت، ولم تعد الوعود والمناورات تنطلي عليه، أو تُقبل منه؛ فارتفعت المطالبات لتطال رأس النظام، وتنادي بإسقاطه.
ولكن هل فعلًا أمريكا تراهن على النظام في سوريا؟
هذا ما ظهر في التصريحات الأمريكية الأخيرة، وكان أوضحها ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، نهاية الشهر الماضي، في تعليق عرض في برنامج «واجه الأمة» الذي يُبثّ على قناة «سي بي إس» إذ قالت: «هناك قائد مختلف في سورية الآن»، كما يعتقد كثيرون أن الأسد «إصلاحي».
وكانت الإدارة الأميركية قد تواصلت مع الأسد، على مدار العامين الماضيين، وسمحت بشحن بعض التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، رافعة القيود عن قطع الغيار المصنوعة في أمريكا الخاصة بشركة الطيران السورية. ثم توّجت إدارة أوباما تخلّيها عن التحفظ الدبلوماسي، بإرسال سفيرها إلى دمشق.
لماذا تتمسّك أمريكا بنظام البعث في سوريا؟
لأمريكا مصالح إستراتيجية في بقاء النظام البعثي في سوريا، وهو الذي تعوّل عليه في مسألة سلام الشرق الأوسط، إضافة إلى قبول قوى إقليمية مهمة كتركيا به، وتمتعه بنفوذ مهم في لبنان، وفي الوقت نفسه لا يمثل وجودُه خطرًا كالذي يمثله أيُّ نظام جديد لا تعرف أمريكا، ولا «إسرائيل» مقدار ولائه ولا طبيعة توجّهاته، والعناصر الفاعلة فيه.
وبعد أن بدا لعدد من القوى السياسية في أمريكا موقف إدارة أوباما غير المتحمس لإسقاط نظام الأسد فقد تولّدت حالة من الانتقاد واسعة كان المعارضون يراعون أمورًا ربما بدت سطحية في المعايير الإستراتيجية من مثل حقوق الإنسان، وحتى العلاقات التي يستبقيها النظام مع بعض قوى المقاومة، لكن الطرف الآخر كان أكثر تفهّمًا لحرج أوباما ومأزقه يقدم المصالح الأمريكية بعيدة المدى.
وكان من بين تلك الأصوات المتعاطفة مع أوباما (جوشوا إم لانديس) مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما، الذي عاش في سورية، ورأى بأن المؤسسات الوطنية الضعيفة والتيار الإسلامي الراسخ، وإن كان كامنًا، لا يجعلان أمام الإدارة الأميركية الكثير من البدائل الجيدة.
وليس غريبًا هذا الموقف الأمريكي الذي يوصف بالحذر إذا شئنا التخفيف، ونحن نشهده بوضوح في ليبيا؛ انتظارًا لتقوية نفوذها على الأرض في مقابل دول أوروبية ربما تفوقها وتسبقها هناك.
لكن أمريكا ليست في سعة من أمرها، ولا تستطيع أن تظل تراهن على إصلاحات النظام في سوريا، إذا لم يقدر على التكيُّف أو إحداث التغيير المنشود شعبيًّا.
وهكذا كان موقفها من نظام مبارك، ظلت تطالبه بالإصلاح، والإسراع فيه؛ فلما لم يقدر على ذلك، وتفاقم الرفض الشعبي له، تخلّت عنه.
فما العوامل التي تساهم في تشكيل الموقف الأمريكي؟
وهنا عدد من العوامل التي تؤثر في الموقف الأمريكي مما يدور في سوريا، لعل أهمها تصاعد الغضب الشعبي، وارتفاع وتيرة الاحتجاجات، وتوسُّع نطاقها؛ ليشمل المناطق السورية كافة، ولينخرط فيها تشكيلات الشعب المختلفة وأعراقه، وحتى طوائفه.
والأمر الثاني وهو مترتب على الأول ردة فعل الأمن التابع للدولة، وارتفاع منسوب البطش، والدموية والإجرام الذي يرفع عدد الضحايا، وقد فاق العدد في «الجمعة العظيمة» الـ 70، وفي اليوم التالي تحدّثت الأنباء عن عشرة على الأقل قتلوا أثناء تشييع الجنازات.
تبلور مطالب المعارضة
ومما يقوّي حركة الشارع الغاضب تبلور مطالب المعارضة؛ إذ لا يخفى أثر ذلك الإيجابي، في التنظيم وفي تماسك الحركة الشعبية ووضوح أهدافها وتركيزها.
وفي أول بيان أصدرته المعارضة السورية التي تُمثِّل المحافظات المختلفة طالبت فيه بوقف احتكار حزب «البعث» للسلطة، وإرساء نظام سياسي ديموقراطي. كما طالبت في البيان الذي حصلت «رويترز» على نسخة منه، بالإفراج عن كل سجناء الضمير، وتفكيك الجهاز الأمني الحالي، واستبداله بآخر ذي اختصاصات قانونية محدّدة، ويعمل وفقًا للقانون، مضيفة أن تحقيق شعارات الحرية والكرامة لن يتسنى إلاّ من خلال التغيير الديموقراطي السلمي.
وواضح أن هذه المطالب ليست جزئية، ولكنها شاملة، وتتطلب تغييرًا في بنية النظام، وفي شكل الحياة السياسية.
وماذا عن الجيش؟
قد يشكك البعض في نجاح الضغوط الشعبية في إسقاط النظام في سوريا، كما نجحت في تونس ومصر؛ لوجود فارق بين البلدين المذكورين وسوريا يكمن في انحياز الجيش للنظام وعمق ولائه له، ولكن ألا يحتمل مع تصاعد الضغوط الداخلية ثم الخارجية ومع افتقاد النظام التدريجي لـ«شرعيته» أن يبدأ انسحاب قيادات في الجيش منه، ولا سيما أنهم ليسوا جميعًا من العلويين؛ إذ في مواقع حساسة في الجيش ضباط من السنة.
ومن يدري فقد نجد من العلويين من لا يرضى عن أداء الدولة وتعاطيها مع المظاهرات السلمية، وهي التي تشتمل على كل مكونات الشعب في سوريا بمن فيهم العلويون وغيرهم. وقد يكون دافع بعض القيادات العلوية تخوّفات على مستقبل الطائفة، في حال سقوط النظام، وقد تتسبب الخلافات الداخلية في مؤسسة الدولة، أو في الجيش والأجهزة الأمنية في انشقاقات تحاول استباق الخطر وتدارك ما يمكن تداركه.
وكانت صحيفة (لو فيغارو) الفرنسية نشرت تحقيقًا مطلع العام 2006م تحدّث عن مخاوف الطائفة العلوية من فقدان السلطة في سورية، وعن انقسامات في داخلها، وخشية بعض شخصياتها من أن يؤدي السقوط المحتمل للنظام الذي يترأسه الرئيس بشار الأسد إلى انتقامات.
وأضافت (لوفيغارو) أن التوتر يسود العلاقات بين أعضاء عائلة الأسد والمسؤولين الذين أبعدهم بشار خلال السنوات الأخيرة. وتنسب إلى وزير الإعلام السوري السابق محمد سلمان، أن أركان النظام الأمني... مستاؤون جدًا من الوضع، إلى درجة أنهم يلتقون أعضاء في المعارضة.
ويبقى سقوط النظام أو بقاؤه أمرًا بيد الشعب السوري ومرهونا بجدية تحرّكه، وصبره، ولو أن الطريق أمامه لا يبدو آمنًا، فثمة بطش متوقع، ربما قارب ما يقترفه القذافي، ولكن ذلك الدم الذي سيُراق، وندعو الله أن يحقن الدماء البريئة، سيكون الوقود الذي يؤجج الغضب الداخلي، ويحرج القوى الدولية وليست أمريكا وحدها التي تصنع الموقف الدولي؛ فثمة دول أوروبية كانت ألمحت إلى أن ما لقيه القذافي من إدانة، ومواجهة، ومطالبة بمحاكمته سوف يلقاه أيُّ نظام يتورّط فيما تورّط فيه.
وأما مسألة القوات الأمنية، والنظام القمعي، فربما كان في تجربة مصر ما يشي بأن القوة الأمنية وحدها لن تقدر على حماية النظام، حين يفقد شرعيّته، وتزداد الإدانة الدولية له.
وكان بلغ تعداد الأجهزة الأمنية في عهد مبارك، نحو مليونين من الرجال، مزوّدين بأحدث المعدّات والقنابل المسيلة للدموع، والرصاص الحيّ والمطّاط، غير أن كل هذا لم يصمد أيامًا أمام هدير المصريين الغاضبين الذين تدفّقوا كالسيل الجارف إلى ميدان التحرير.
ومثلما اضطرت أمريكا إلى التخلي عن نظام مبارك، وقد كان (حجر الزاوية) فيما يُسمّى باستقرار المنطقة فإن التهديد بانفلات الأوضاع في سوريا سيدفعها إلى محاولة الاحتواء؛ فهل تنجح؟