- الأحد مايو 01, 2011 2:10 am
#34514
مدخل
هل يمكن وضعُ نظرية عليا لتحليل السياسات العالمية؟
هذا ما تتبارى لإنجازه أربعة مداخل كبرى في مجال تحليل تلك السياسات، يحاول كلٌّ منها أن يرسي ركيزة فلسفية كبرى، تستند إليها سلسلة من النظريات الوسطى والصغرى، ومجموعة من الافتراضات التي يمكن أن يجاب عنها من خلال مقولات النظرية العليا.
وإذا كانت السيطرة في مجال تحليل العلاقات الدولية، قد انعقدت للمنظور الواقعي الذي تضرب جذوره بعيداً في فلسفة ميكيافيللي وهوبز، بل يرجعها بعضهم إلى عهد توسيديد، إلاّ أنّ العقود القليلة الماضية قد شهدت بروز مداخل ثلاثة ظلت تقدم إفادات فلسفية تناهض مقولات المنظور الواقعي، وتمثل شبه انقلابات فكرية عليه. هذه المداخل الانقلابية هي على التوالي: المدخل العالمي، ومدخل رفض التبعية، والمدخل الديني.
وقبل أن نتحدث عن هذه المداخل بشيء من التفصيل، لابُدّ أن نحدد ماذا نقصد بالنظرية العليا في تحليل العلاقات الدولية.
النظرية العليا هي بمنـزلة المنظور الأشمل الذي تُعالجُ من خلاله تفاصيلُ أحداث العلاقات الدولية، وهو منظور فلسفي في الأساس يستخدمه منظّرو السياسة العالمية لتحديد رؤيتهم للعالم، وما ينبغي أن يكون عليه، ويدلُّ ما إذا كانت نماذج التحليل التطبيقية متوافقةً مع تلك الرؤية الكونية الشاملة أم لا. وأما تلك الرؤية الكونية فهي في غالب الأحوال "حقيقة غائبة" يكوِّن عنها العلماء مجرد افتراضات واعتقادات ذات طابع تخميني حدسي.
وكل منظور يحاول أن يحدد طبيعة مناخ لتعامل الدولي" هل هي طبيعة فوضى راسخة الجذور، أم حالة تقسيم عمل دولي، أم حالة "تدافع" مستمر؟
ويدخل في مهمة ذلك المنظور تحديدُ وَحَدات التعامل الدولي الأساسية، وكذا إجراء عمليات فرز شاملة لأنواع المشكلات الدولية، وتحديد ما يقع منها في نطاق المشكلات الحقيقية الأصيلة التي تلازم الطبيعة الاجتماعية للإنسان، وتشكل جزءاً من قَدَره الحتمي الدائم: أهي مشكلات الحرب والسلام؟ أم هي مشكلات الظلم والاستغلال الاقتصادي؟ أم مشكلات البيئة وحقوق الإنسان؟ أم مشكلات الكفر والإيمان؟ أم هي شيء غير ذلك؟!
وإذا رجعنا مرة :أخرى إلى أسلوب التجريد، فيمكن أن نُلَخّص ما سبق ذكره في الآتي: إن جوهر "النظرية العليا" في السياسة الدولية يتمثل في إجابتها عن أسئلة ثلاثة هي:
1- ما هي طبيعة المناخ السياسي العالمي؟
2- ما هي وَحَدات التعامل الأساسية على المستوى العالمي؟
3- ما هي أهم المشكلات التي تستعصي على الحل وتسهم في تفجير الأوضاع العالمية؟
ولكل مدخل من المداخل الأربعة إجاباته المختلفة عن هذه الأسئلة، وهو اختلاف يتأتّى من جهة انبثاقه عن مجموعة من المفاهيم الاعتقادية الجذرية. وإذا عدنا مرة أخرى إلى أسلوب التفصيل فيمكن أن نتعرف على ما تنطوي عليه هذه المدارس من مفاهيم وما يصدر عنها من استجابات. ولنبدأ حديثنا بتعريف هذه المداخل.
المدخل الواقعي (The Realist Parading)
لقد سلفت الإشارة إلى أنّ الفكر الواقعي ترجع جذوره إلى كتابات توسيديد وميكيافللي وهوبز وغيرهم من المفكرين الذين تميزوا بالصرامة والتشاؤم والتجافي عن المثالية. ولكن النهضة الحديثة للمدخل الواقعي في تحليل العلاقات الدولية، قد ارتبطت بالثورة على التيار المثالي الذي ساد فيما بين الحربين العالميتين، أي في الحقبة نفسها التي تأسست فيها دراسة العلاقات الدولية بوصلها علماً متخصِّصاً مستقلاً في الجامعات الغربية.
وقد نحا فريقُ المثاليين بدراسة العلاقات الدولية في ضوء القانون الدولي، منحى تأكيد مكانة العقل والأعراف والمؤسسات الدولية بوصفها أدواتٍ لمنع الحروب والصراعات. ولذلك فقد دعوْا إلى عقد ولاء البشر لمصالح جماعية شاملة (common interests)، وذلك على العكس مما كان عليه الشأن من تأكيد أهمية مصالح الدولة القومية (National interests)، كما شجبوا ما يسمى بسياسة الأمر الواقع، وسياسة توازن القوى التي لم تحل دون اندلاع الحروب الأوربية، والحرب العالمية الأولى، التي كان لهيبها هو الذي أنضج فكر المثاليين.
وقد انهارت آمال الواقعيين وانشجب تيارهم باندلاع حريق الحرب العالمية الثانية (1939-1944)، ثم انهالت نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد للمذهب الواقعي. وكان ظهور كتاب السياسة بين الأمم: الصراع من أجل القوة والسلم، لهانس مورجانثو، بمنـزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة من نوع مغاير، كُتِبَ لها أن تكتسح الساحة العلمية الأمريكية والبريطانية، وأن تؤثر تأثيراً بالغاً في مؤسسات صناعة قرارات السياسة الخارجية في الدول الغربية كافة.
ومنذ ذلك الوقت وحتّى بداية الستينيات لم تزعزع أيةُ بوادر مغايرة هيمنةَ المدخل الواقعي خاصة على صعيد تقاليده ومعاييره الجوهرية. وبدا أن أية دراسة خصبة ذات مغزى لا بُدّ أن تنطلق من أرضية الواقعيين وتستلهم مسلماتهم الأولى. وبعد ذلك فلا مانع من التجديد، حتى وإن بدا في شكل انتقال نظري باهر، كذلك الذي قام به كينيث والتز الذي أسس مبدأ "الواقعية الجديدة" أو "الواقعية البنيوية"، وذلك في كتابه نظرية السياسة الدولية حيث جعل من علم الاقتصاد مرجعاُ لعلم العلاقات الدولية، بدلاً عن المرجعية القديمة للعلوم السلوكية، وفيه كرَّس نظرية "الاختيار العقلاني" المستوحاة من علم الاقتصاد الجزئي (Microeconomics) أداةً للبحث عن الأسلوب الأمثل لاستخدام القوة لتحقيق الأهداف القومية، هذا فضلاً عن تحديثه لنظريات النظام الدولي.
المدخل العالمي (The Global Paradigm)
استمرت أفكار المدرسة الواقعية تمارس سطوتها ونفوذها في حقل العلاقات الدولية حتى مطلع السبعينيات حين تم تدشين المدخل العالمي بالكتاب الجامع الذي حرره كل من روبرت كوهين وجوزيف ناي بعنوان:Transnational Relation and World Politics . وقد ضم الكتاب مجموعة من المقالات التنظيرية لنخبة جديدة تصدت لمواجهة المدخل الواقعي بتقاليده البحثية العتيدة، ومقولاته الصلبة، فضلاً عن مسلماته الفلسفية الأولى عن حالة الطبيعة الإنسانية. ولم تكد الدوائر الجامعية تستوعب مقولات ذلك المصنف الذي ظهر عام 1971م، حتى دفعت المطابع بأعمال تنظيرية وتأصيلية وتطبيقية عديدة لأقطاب ذلك المدخل منهم ستانلي هوفمان، ورتشارد مانسباش، وبيل فيرجسون، ودونالد لامبتر، وغيرهم ممن تأسست لهم مقاعد جديدة في أقسام العلوم السياسية بالجامعات الأمريكية، وأصبحو رموزاً بارزة في مجال التحليل السياسي الدولي.
وعلى الرغم من مناخ الحريات العقلية في الجامعات الأمريكية، إلاّ أن الواقعيين ما كانوا يتصورون أن تقوم دراسة العلوم السياسية على غير افتراضاتهم الأساسية عن طبيعة الإنسان، ومناخ الصراع الدولي، ومركزية أقضية الحرب والسلام. ولذلك فقد لاحقوا وحاصروا أية وجهة أخرى من التفكير السياسي على أساس أنها خارجة عن نطاق الواقع والعقل، وتعرض عدد كبير من الجامعيين الجدد من تلاميذ كوهين وناي وأتباعهما للكثير من العقبات وهم في طريقهم إلى اقتحام الجامعات ومراكز البحث (Think thanks). ولكن كما يصل كل تيار أصيل عارمٍ إلى غايته، فقد استطاع تلاميذ كوهين وناي دفع كثير من العقبات، وورثوا الكثير من تلك المقاعد الدراسية التي نُضِّدت للواقعيين، كما أصبح العديد من كتبهم مقرراتٍ دراسية في معظم أقسام العلوم السياسية.
وجاء تعيين جوزيف ناي في منصب مستشار وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي، ليشكل نقلة بعيدة في مجال الأفكار الموجهة للسياسة العالمية. وقد كان طبيعياً أن يأتي التعيين في ظل الواقع الدولي الذي أعقب اختتام فصول الحرب الباردة. وبذلك التعيين بدأ "العالميون" يتمكنون في نطاق مؤسسات صنع القرار، بعد أن حققوا نفوذاً لا بأس به في مجال التدريس الجامعي.
مدخل رفض التبعية (The Dependency Paradigm)
وعلى عكس ما يظن الكثيرون من أن مدخل التبعية –والأجدر أن يسمى بمدخل رفض التبعة- قد قام تماماً على أساس التراث الفكري الماركسي، فإن بعض منطلقاته لم تكن ماركسية، وبعضها ارتطم رأساً بمقولات ذلك التراث.
أبدى كل من ماركس وإنجلز تفاؤلهما بظاهرة تمدد الاستعمار الغربي، واعتبرا استعمار إنجلترا للهند، وفرنسا للجزائر، حدثين سعيدين يعجِّلان من نضج إمكانات الحضارة الغربية الرأسمالية، وبالتالي اختصار دورة حياتها. ومن ناحية أخرى فقد اعتقد الفيلسوفان الكبيران أن البلدان الشرقية ستجني فوائد بنيوية ضخمة من جراء نـزوح الرأسمالية إليها. وباختصار فإن المسألة عندهما لم كن من قبيل مباريات حاصل الصفر حيث إن غُرْم (أ) هو غُرْم (ب).
إن بعض منظري رفض التبعية الكبار ما كانوا ماركسيين وإنما بنيويون من مدرسة الوكالة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية (ECLA) التي رأسها راؤول بريبيش Prebich، وكانت فحوى أفكارها أن تطور أمريكا اللاتنينية يقتضي تحريرها من آثار الاقتصاديات الأجنبية، وذلك برفع مستوى الضرائب الجمركية، وإنشاء صناعات محلية تفضي إلى إمكان تحكم الدولة في توجيه اقتصادها، وشلّ سيطرة الطبقة البرجوازية المحلية، المرتبطة بالخارج، التي دأبت على رهن مصالح بلدانها لصالح البلدان الرأسمالية الكبرى، وجعلها في حالة تبعية دائمة لتلك البلدان.
وقد التحق بهذا النوع من التحليل بعض أقطاب مدرسة اليسار الجديد، أو من يسمون بالماركسيين الجدد، الذين انخلعوا عن جمود النظرية الماركسية، واستوعبوا بعض الحقائق المخالفة لمقتضياتها. ومن هؤلاء الكتاب: البرازيليون: دوس سانتوس، وأوكتافيو لاني، وهانبيال كوينجانوا، والفنزويلي: رومولو بيتانكورت، والأمريكي: عمانويل وولرشتاين، ولعربي: سمير أمين، والأرجنتينيان: آرتورو فرونديزي، وهايا دي لاتور. وقد اشتقوا تنظيراتهم من دراسات مسحية كثيرة، واستعاروا لفظة "التبعية" من كتاب لينين: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية. ولينين نفسه كان قد استعار لفظة التبعية من شولوزه غفيرتينتز في كتابه عن الإمبريالية البريطانية الذي استنتج فيها "أن أمريكا الجنوبية ولا سيما الأرجنتين في حالة تبعية مالية للندن لدرجة ينبغي نعتها بأنها تقريباً مستعمرة". وقد طور لينين ذلك المفهوم، وقسم العالم على أساس ذلك إلى بلدان مستقلة، وبلدان في حالة تبعية على الرغم من أنها مستقلة.
المدخل الديني (the Religious Paradigm)
يستخدم قادة هذا التيار تصورات دينية في تحليل السياسة الدولية. وبالتأكيد فإن تأثير الدين في السياسة العالمية ليس أمراً جديداً، فمن قديم الزمان كانت التصورات والدوافع الدينية وراء أعمق الأحداث والتحولات السياسية العالمية (الفتح الإسلامي والحروب الصليبية، والحروب الأوربية في القرون الوسطى كأمثلة). ولم يكن إقصاء الدين عن الحياة السياسية خلال القرون الأخيرة حائلاً دون تسرب الدوافع الدينية إلى العمل السياسي، فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين بروز الدوافع الدينية بروزاً واضحاً في العمل السياسي العالمي (نشوء باكستان وإسرائيل على أسس دينية كمثالين لذلك). وجاءت ظواهر الصحو الديني على صعيد الأصولية البروتستانتينية، والأصولية اليهودية، وعلى صعيد البعث الإسلامي، وعلى صعيد الدينين الهندوسي والكونفشيوسي مؤشراتٍ على تصاعد تأثير العالم الديني في السياسات العالمية.
وفيما يأتي نتعرف على مدخلين اثنين من المداخل الدينية:
أ- المدخل الأصولي الإنجيلي الأمريكي (The Fundamentalist Paradigm)
إن اليمين الديني الأمريكي وليد النـزعة المحافظة التي تصاعدت في أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية، وتغذَّت بالعداء للشيوعية وبمواجهة مظاهر "العلمنة" السياسية التي تجلت في النصف الأول من القرن العشرين. ويضم اليمين الديني تنظيمات متنوعة مثل "الأغلبية الأخلاقية"، و"التحالف النصراني"، و"اليمين الديني الجديد"، وشبكات تلفزيونية عديدة، هذا فضلاً عن المدارس، والجامعات، والكنائس، ويتمتع بشعبية ضاربة إذ تتجاوز قاعدته البشرية الأربعين مليون مواطن أمريكي، ويحاول أن يسيطر على مقاليد السياسة الأمريكية، ليوجهها وجهةً جديدة تحكمها المسلمات الدينية الإنجيلية.
ويكاد هذا التيار أن يسيطر سيطرة كاملة على فكر الحزب الجمهوري، ولأفكاره صدى أيضاً في أوساط الحزب الديمقراطي. وقد كان له فضل دعم كارتر لانتخابات الرئاسة في 1976 بناءً على برنامجه الانتخابي الذي تبنّى بعض أطروحات ذلك التيار، مثل تأكيده أن تأسيس إسرائيل المعاصرة تحقيق لنبوءات التوراة، وإعلانه انضمامه لطائفة "المولودين من جديد"، وهي من أشد الطوائف الأصولية تشدداً وتطرفاً. وقد حفظ كارتر الجميل لذلك التيار فبوأ قادته مراكز عليا في مجال تحليل السياسة الدولية، واقتراح البدائل التي تتخذ على أساسها القرارات.
وفي عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان توالت سوابق مثيرة تمثلت في توجيهه مجلس الأمن القومي الأمريكي في 1982 لأن يستمع إلى تحليل في السياسة الخارجية من الزعيم الأصولي جيري فولويل الذي حدّث أعضاء المجلس عن حتمية الحرب النووية وبقية النبوءات والبشارات، وعن ضرورة استناد الاستراتيجية الأمريكية إلى هذه المرتكزات العقدية. كما استمع مسئولو التخطيط في البنتاغون إلى محاضرة أخرى شبيهة ألقاها عليهم الأصولي هالي لندسي مؤلف كتاب كوكب الأرض العظيم الراحل الذي سجل أعلى أرقام مبيعات الكتب في التاريخ الأمريكي، إذ طُبع أكثرَ من مائة طبعة ووزعت منه أكثر من 19 مليون نسخة. وهو الكتاب الذي عكف ريغان على قراءته وتبنى أطروحاته التي تؤكد مفاهيم نهاية الزمن وقرب الانفجار "الهولوكوست النووي" الذي سيشهده الجيل الحالي، وهو الجيل الذي سيكون آخر الأجيال التي يشهدها ذلك الكوكب. وتواصل تقريب أولئك الأصوليين في عهد الرئيس بوش حيث استُدعُوا غير مرة، خصوصاً أيام حرب الخليج الثانية، لتحليل بعض قضايا السياسة العالمية ومناقشتها.
ب- المدخل الإسلامي (The IslAamic Paradigm)
لقد اتضحت الطبيعة العالمية لدين الإسلام منذ آيات التنـزيل الأولى، التي أشارت إلى أن رسالته مخاطبٌُ بها العالم أجمع. وفي إطار تعميم تلك الدعوة، كانت مخاطبات رسول الله لقادة الدول والإمارات والممالك المختلفة، ثم جاء انتشار الدعوة الإسلامية خارج جزيرة العرب، وامتداد الفتح الإسلامي من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، تجسيداً آخر لتلك الدلالة.
وقد نما فقه العلاقات الدولية مترافقاً مع تلك التفاعلات، وبلور الفقهاء المسلمون الذين اعتنوا بالتنظير لهذا الجانب مجموعاتٍِ كبيرة من الاجتهادات، التي تحدد أهداف تل التفاعلات وضوابطها، في حالتي السلم أو الحرب على حد سواء. ويمكن اعتبار كتاب السِّيَر لمحمد بن الحسن الشيباني أول كتابٍ في مادة القانون الدولي، إذ إنه سبق في الظهور كتاب قوانين الحرب والسلام للهولندي هيوجو جرسيوس بأكثر من ثمانية قرون.
ولم تنفرد كتب السير والخراج، ولا كتب الفقه وحدها، بتسجيل الرؤى الإسلامية في قضايا العلاقات الدولية، وإنما توزعت تلك الرؤى في كتب التاريخ والتفسير ومقارنة الأديان وغيرها من الأعمال الموسوعية التراثية. ومع دخول العالم الإسلامي في أطوار التراجع والذبول طرأت علامات الضعف والضمور على فقه العلاقات الدولية المنطلق من النظرة الإسلامية، ثم خمد ذلك الفقه وجمد عندما فقد العالم الإسلامي إرادة المبادرة والتحرك، وسقط في قبضة الاستعمال.
وحتى بعد استقلال دول العالم الإسلامي، فإنها قد ظلت أسيرةَ حالة القابلية للاستعمار، وعلاقات التبعية التي رسختها سنوات الاستعمار الطويلة. ولم تعمد تلك الدول إلى استلهام الإسلام إطاراً توجيهياً لعلاقاتها الدولية، ولذلك لم يسجل فقهُ العلاقات الدولية الإسلامي أي تطور يذكر، ذلك أن الفقه إنما ينمو مع مواكبته للواقع، وتتجمد حركته عند استبعاده عن محك التطبيق.
وجُلُّ الجهد المبذول حالياً في الكتابات الإسلامية عن العلاقات الدولية، يدور حول بعض الجوانب النظرية العامة، لا سيما الجوانب القانونية والأخلاقية المثالية. وحتى في هذه الجوانب ليست هذه الكتابات إلاّ مجرد إعادة صياغة لفقه السِّيَر القديم، أو محاولات لنقد القانون الدولي الحديث وتقويمه من وجهة نظر إسلامية. ويندر في تلك الكتابات –وهذا طبيعي0 وجودُ أبحاث ناضجة حول قضايا القوة النسبية والتحالفات والنظام العالمي، والعلاقات الاقتصادية العالمية، وحل النـزاعات، وغير ذلك من القضايا الحية في مسائل السياسة العالمية.
ولننظر الآن –بع هذا التعريف العام بمداخل تحليل العلاقات الدولية- في إجابات ك ل مدخل عن الأسئلة الثلاثة الكبرى عن مناخ العلاقات الدولية، ووحدات التعامل العالمين وأمهات المشكلات العالميه
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل
هل يمكن وضعُ نظرية عليا لتحليل السياسات العالمية؟
هذا ما تتبارى لإنجازه أربعة مداخل كبرى في مجال تحليل تلك السياسات، يحاول كلٌّ منها أن يرسي ركيزة فلسفية كبرى، تستند إليها سلسلة من النظريات الوسطى والصغرى، ومجموعة من الافتراضات التي يمكن أن يجاب عنها من خلال مقولات النظرية العليا.
وإذا كانت السيطرة في مجال تحليل العلاقات الدولية، قد انعقدت للمنظور الواقعي الذي تضرب جذوره بعيداً في فلسفة ميكيافيللي وهوبز، بل يرجعها بعضهم إلى عهد توسيديد، إلاّ أنّ العقود القليلة الماضية قد شهدت بروز مداخل ثلاثة ظلت تقدم إفادات فلسفية تناهض مقولات المنظور الواقعي، وتمثل شبه انقلابات فكرية عليه. هذه المداخل الانقلابية هي على التوالي: المدخل العالمي، ومدخل رفض التبعية، والمدخل الديني.
وقبل أن نتحدث عن هذه المداخل بشيء من التفصيل، لابُدّ أن نحدد ماذا نقصد بالنظرية العليا في تحليل العلاقات الدولية.
النظرية العليا هي بمنـزلة المنظور الأشمل الذي تُعالجُ من خلاله تفاصيلُ أحداث العلاقات الدولية، وهو منظور فلسفي في الأساس يستخدمه منظّرو السياسة العالمية لتحديد رؤيتهم للعالم، وما ينبغي أن يكون عليه، ويدلُّ ما إذا كانت نماذج التحليل التطبيقية متوافقةً مع تلك الرؤية الكونية الشاملة أم لا. وأما تلك الرؤية الكونية فهي في غالب الأحوال "حقيقة غائبة" يكوِّن عنها العلماء مجرد افتراضات واعتقادات ذات طابع تخميني حدسي.
وكل منظور يحاول أن يحدد طبيعة مناخ لتعامل الدولي" هل هي طبيعة فوضى راسخة الجذور، أم حالة تقسيم عمل دولي، أم حالة "تدافع" مستمر؟
ويدخل في مهمة ذلك المنظور تحديدُ وَحَدات التعامل الدولي الأساسية، وكذا إجراء عمليات فرز شاملة لأنواع المشكلات الدولية، وتحديد ما يقع منها في نطاق المشكلات الحقيقية الأصيلة التي تلازم الطبيعة الاجتماعية للإنسان، وتشكل جزءاً من قَدَره الحتمي الدائم: أهي مشكلات الحرب والسلام؟ أم هي مشكلات الظلم والاستغلال الاقتصادي؟ أم مشكلات البيئة وحقوق الإنسان؟ أم مشكلات الكفر والإيمان؟ أم هي شيء غير ذلك؟!
وإذا رجعنا مرة :أخرى إلى أسلوب التجريد، فيمكن أن نُلَخّص ما سبق ذكره في الآتي: إن جوهر "النظرية العليا" في السياسة الدولية يتمثل في إجابتها عن أسئلة ثلاثة هي:
1- ما هي طبيعة المناخ السياسي العالمي؟
2- ما هي وَحَدات التعامل الأساسية على المستوى العالمي؟
3- ما هي أهم المشكلات التي تستعصي على الحل وتسهم في تفجير الأوضاع العالمية؟
ولكل مدخل من المداخل الأربعة إجاباته المختلفة عن هذه الأسئلة، وهو اختلاف يتأتّى من جهة انبثاقه عن مجموعة من المفاهيم الاعتقادية الجذرية. وإذا عدنا مرة أخرى إلى أسلوب التفصيل فيمكن أن نتعرف على ما تنطوي عليه هذه المدارس من مفاهيم وما يصدر عنها من استجابات. ولنبدأ حديثنا بتعريف هذه المداخل.
المدخل الواقعي (The Realist Parading)
لقد سلفت الإشارة إلى أنّ الفكر الواقعي ترجع جذوره إلى كتابات توسيديد وميكيافللي وهوبز وغيرهم من المفكرين الذين تميزوا بالصرامة والتشاؤم والتجافي عن المثالية. ولكن النهضة الحديثة للمدخل الواقعي في تحليل العلاقات الدولية، قد ارتبطت بالثورة على التيار المثالي الذي ساد فيما بين الحربين العالميتين، أي في الحقبة نفسها التي تأسست فيها دراسة العلاقات الدولية بوصلها علماً متخصِّصاً مستقلاً في الجامعات الغربية.
وقد نحا فريقُ المثاليين بدراسة العلاقات الدولية في ضوء القانون الدولي، منحى تأكيد مكانة العقل والأعراف والمؤسسات الدولية بوصفها أدواتٍ لمنع الحروب والصراعات. ولذلك فقد دعوْا إلى عقد ولاء البشر لمصالح جماعية شاملة (common interests)، وذلك على العكس مما كان عليه الشأن من تأكيد أهمية مصالح الدولة القومية (National interests)، كما شجبوا ما يسمى بسياسة الأمر الواقع، وسياسة توازن القوى التي لم تحل دون اندلاع الحروب الأوربية، والحرب العالمية الأولى، التي كان لهيبها هو الذي أنضج فكر المثاليين.
وقد انهارت آمال الواقعيين وانشجب تيارهم باندلاع حريق الحرب العالمية الثانية (1939-1944)، ثم انهالت نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد للمذهب الواقعي. وكان ظهور كتاب السياسة بين الأمم: الصراع من أجل القوة والسلم، لهانس مورجانثو، بمنـزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة من نوع مغاير، كُتِبَ لها أن تكتسح الساحة العلمية الأمريكية والبريطانية، وأن تؤثر تأثيراً بالغاً في مؤسسات صناعة قرارات السياسة الخارجية في الدول الغربية كافة.
ومنذ ذلك الوقت وحتّى بداية الستينيات لم تزعزع أيةُ بوادر مغايرة هيمنةَ المدخل الواقعي خاصة على صعيد تقاليده ومعاييره الجوهرية. وبدا أن أية دراسة خصبة ذات مغزى لا بُدّ أن تنطلق من أرضية الواقعيين وتستلهم مسلماتهم الأولى. وبعد ذلك فلا مانع من التجديد، حتى وإن بدا في شكل انتقال نظري باهر، كذلك الذي قام به كينيث والتز الذي أسس مبدأ "الواقعية الجديدة" أو "الواقعية البنيوية"، وذلك في كتابه نظرية السياسة الدولية حيث جعل من علم الاقتصاد مرجعاُ لعلم العلاقات الدولية، بدلاً عن المرجعية القديمة للعلوم السلوكية، وفيه كرَّس نظرية "الاختيار العقلاني" المستوحاة من علم الاقتصاد الجزئي (Microeconomics) أداةً للبحث عن الأسلوب الأمثل لاستخدام القوة لتحقيق الأهداف القومية، هذا فضلاً عن تحديثه لنظريات النظام الدولي.
المدخل العالمي (The Global Paradigm)
استمرت أفكار المدرسة الواقعية تمارس سطوتها ونفوذها في حقل العلاقات الدولية حتى مطلع السبعينيات حين تم تدشين المدخل العالمي بالكتاب الجامع الذي حرره كل من روبرت كوهين وجوزيف ناي بعنوان:Transnational Relation and World Politics . وقد ضم الكتاب مجموعة من المقالات التنظيرية لنخبة جديدة تصدت لمواجهة المدخل الواقعي بتقاليده البحثية العتيدة، ومقولاته الصلبة، فضلاً عن مسلماته الفلسفية الأولى عن حالة الطبيعة الإنسانية. ولم تكد الدوائر الجامعية تستوعب مقولات ذلك المصنف الذي ظهر عام 1971م، حتى دفعت المطابع بأعمال تنظيرية وتأصيلية وتطبيقية عديدة لأقطاب ذلك المدخل منهم ستانلي هوفمان، ورتشارد مانسباش، وبيل فيرجسون، ودونالد لامبتر، وغيرهم ممن تأسست لهم مقاعد جديدة في أقسام العلوم السياسية بالجامعات الأمريكية، وأصبحو رموزاً بارزة في مجال التحليل السياسي الدولي.
وعلى الرغم من مناخ الحريات العقلية في الجامعات الأمريكية، إلاّ أن الواقعيين ما كانوا يتصورون أن تقوم دراسة العلوم السياسية على غير افتراضاتهم الأساسية عن طبيعة الإنسان، ومناخ الصراع الدولي، ومركزية أقضية الحرب والسلام. ولذلك فقد لاحقوا وحاصروا أية وجهة أخرى من التفكير السياسي على أساس أنها خارجة عن نطاق الواقع والعقل، وتعرض عدد كبير من الجامعيين الجدد من تلاميذ كوهين وناي وأتباعهما للكثير من العقبات وهم في طريقهم إلى اقتحام الجامعات ومراكز البحث (Think thanks). ولكن كما يصل كل تيار أصيل عارمٍ إلى غايته، فقد استطاع تلاميذ كوهين وناي دفع كثير من العقبات، وورثوا الكثير من تلك المقاعد الدراسية التي نُضِّدت للواقعيين، كما أصبح العديد من كتبهم مقرراتٍ دراسية في معظم أقسام العلوم السياسية.
وجاء تعيين جوزيف ناي في منصب مستشار وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي، ليشكل نقلة بعيدة في مجال الأفكار الموجهة للسياسة العالمية. وقد كان طبيعياً أن يأتي التعيين في ظل الواقع الدولي الذي أعقب اختتام فصول الحرب الباردة. وبذلك التعيين بدأ "العالميون" يتمكنون في نطاق مؤسسات صنع القرار، بعد أن حققوا نفوذاً لا بأس به في مجال التدريس الجامعي.
مدخل رفض التبعية (The Dependency Paradigm)
وعلى عكس ما يظن الكثيرون من أن مدخل التبعية –والأجدر أن يسمى بمدخل رفض التبعة- قد قام تماماً على أساس التراث الفكري الماركسي، فإن بعض منطلقاته لم تكن ماركسية، وبعضها ارتطم رأساً بمقولات ذلك التراث.
أبدى كل من ماركس وإنجلز تفاؤلهما بظاهرة تمدد الاستعمار الغربي، واعتبرا استعمار إنجلترا للهند، وفرنسا للجزائر، حدثين سعيدين يعجِّلان من نضج إمكانات الحضارة الغربية الرأسمالية، وبالتالي اختصار دورة حياتها. ومن ناحية أخرى فقد اعتقد الفيلسوفان الكبيران أن البلدان الشرقية ستجني فوائد بنيوية ضخمة من جراء نـزوح الرأسمالية إليها. وباختصار فإن المسألة عندهما لم كن من قبيل مباريات حاصل الصفر حيث إن غُرْم (أ) هو غُرْم (ب).
إن بعض منظري رفض التبعية الكبار ما كانوا ماركسيين وإنما بنيويون من مدرسة الوكالة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية (ECLA) التي رأسها راؤول بريبيش Prebich، وكانت فحوى أفكارها أن تطور أمريكا اللاتنينية يقتضي تحريرها من آثار الاقتصاديات الأجنبية، وذلك برفع مستوى الضرائب الجمركية، وإنشاء صناعات محلية تفضي إلى إمكان تحكم الدولة في توجيه اقتصادها، وشلّ سيطرة الطبقة البرجوازية المحلية، المرتبطة بالخارج، التي دأبت على رهن مصالح بلدانها لصالح البلدان الرأسمالية الكبرى، وجعلها في حالة تبعية دائمة لتلك البلدان.
وقد التحق بهذا النوع من التحليل بعض أقطاب مدرسة اليسار الجديد، أو من يسمون بالماركسيين الجدد، الذين انخلعوا عن جمود النظرية الماركسية، واستوعبوا بعض الحقائق المخالفة لمقتضياتها. ومن هؤلاء الكتاب: البرازيليون: دوس سانتوس، وأوكتافيو لاني، وهانبيال كوينجانوا، والفنزويلي: رومولو بيتانكورت، والأمريكي: عمانويل وولرشتاين، ولعربي: سمير أمين، والأرجنتينيان: آرتورو فرونديزي، وهايا دي لاتور. وقد اشتقوا تنظيراتهم من دراسات مسحية كثيرة، واستعاروا لفظة "التبعية" من كتاب لينين: الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية. ولينين نفسه كان قد استعار لفظة التبعية من شولوزه غفيرتينتز في كتابه عن الإمبريالية البريطانية الذي استنتج فيها "أن أمريكا الجنوبية ولا سيما الأرجنتين في حالة تبعية مالية للندن لدرجة ينبغي نعتها بأنها تقريباً مستعمرة". وقد طور لينين ذلك المفهوم، وقسم العالم على أساس ذلك إلى بلدان مستقلة، وبلدان في حالة تبعية على الرغم من أنها مستقلة.
المدخل الديني (the Religious Paradigm)
يستخدم قادة هذا التيار تصورات دينية في تحليل السياسة الدولية. وبالتأكيد فإن تأثير الدين في السياسة العالمية ليس أمراً جديداً، فمن قديم الزمان كانت التصورات والدوافع الدينية وراء أعمق الأحداث والتحولات السياسية العالمية (الفتح الإسلامي والحروب الصليبية، والحروب الأوربية في القرون الوسطى كأمثلة). ولم يكن إقصاء الدين عن الحياة السياسية خلال القرون الأخيرة حائلاً دون تسرب الدوافع الدينية إلى العمل السياسي، فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين بروز الدوافع الدينية بروزاً واضحاً في العمل السياسي العالمي (نشوء باكستان وإسرائيل على أسس دينية كمثالين لذلك). وجاءت ظواهر الصحو الديني على صعيد الأصولية البروتستانتينية، والأصولية اليهودية، وعلى صعيد البعث الإسلامي، وعلى صعيد الدينين الهندوسي والكونفشيوسي مؤشراتٍ على تصاعد تأثير العالم الديني في السياسات العالمية.
وفيما يأتي نتعرف على مدخلين اثنين من المداخل الدينية:
أ- المدخل الأصولي الإنجيلي الأمريكي (The Fundamentalist Paradigm)
إن اليمين الديني الأمريكي وليد النـزعة المحافظة التي تصاعدت في أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية، وتغذَّت بالعداء للشيوعية وبمواجهة مظاهر "العلمنة" السياسية التي تجلت في النصف الأول من القرن العشرين. ويضم اليمين الديني تنظيمات متنوعة مثل "الأغلبية الأخلاقية"، و"التحالف النصراني"، و"اليمين الديني الجديد"، وشبكات تلفزيونية عديدة، هذا فضلاً عن المدارس، والجامعات، والكنائس، ويتمتع بشعبية ضاربة إذ تتجاوز قاعدته البشرية الأربعين مليون مواطن أمريكي، ويحاول أن يسيطر على مقاليد السياسة الأمريكية، ليوجهها وجهةً جديدة تحكمها المسلمات الدينية الإنجيلية.
ويكاد هذا التيار أن يسيطر سيطرة كاملة على فكر الحزب الجمهوري، ولأفكاره صدى أيضاً في أوساط الحزب الديمقراطي. وقد كان له فضل دعم كارتر لانتخابات الرئاسة في 1976 بناءً على برنامجه الانتخابي الذي تبنّى بعض أطروحات ذلك التيار، مثل تأكيده أن تأسيس إسرائيل المعاصرة تحقيق لنبوءات التوراة، وإعلانه انضمامه لطائفة "المولودين من جديد"، وهي من أشد الطوائف الأصولية تشدداً وتطرفاً. وقد حفظ كارتر الجميل لذلك التيار فبوأ قادته مراكز عليا في مجال تحليل السياسة الدولية، واقتراح البدائل التي تتخذ على أساسها القرارات.
وفي عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان توالت سوابق مثيرة تمثلت في توجيهه مجلس الأمن القومي الأمريكي في 1982 لأن يستمع إلى تحليل في السياسة الخارجية من الزعيم الأصولي جيري فولويل الذي حدّث أعضاء المجلس عن حتمية الحرب النووية وبقية النبوءات والبشارات، وعن ضرورة استناد الاستراتيجية الأمريكية إلى هذه المرتكزات العقدية. كما استمع مسئولو التخطيط في البنتاغون إلى محاضرة أخرى شبيهة ألقاها عليهم الأصولي هالي لندسي مؤلف كتاب كوكب الأرض العظيم الراحل الذي سجل أعلى أرقام مبيعات الكتب في التاريخ الأمريكي، إذ طُبع أكثرَ من مائة طبعة ووزعت منه أكثر من 19 مليون نسخة. وهو الكتاب الذي عكف ريغان على قراءته وتبنى أطروحاته التي تؤكد مفاهيم نهاية الزمن وقرب الانفجار "الهولوكوست النووي" الذي سيشهده الجيل الحالي، وهو الجيل الذي سيكون آخر الأجيال التي يشهدها ذلك الكوكب. وتواصل تقريب أولئك الأصوليين في عهد الرئيس بوش حيث استُدعُوا غير مرة، خصوصاً أيام حرب الخليج الثانية، لتحليل بعض قضايا السياسة العالمية ومناقشتها.
ب- المدخل الإسلامي (The IslAamic Paradigm)
لقد اتضحت الطبيعة العالمية لدين الإسلام منذ آيات التنـزيل الأولى، التي أشارت إلى أن رسالته مخاطبٌُ بها العالم أجمع. وفي إطار تعميم تلك الدعوة، كانت مخاطبات رسول الله لقادة الدول والإمارات والممالك المختلفة، ثم جاء انتشار الدعوة الإسلامية خارج جزيرة العرب، وامتداد الفتح الإسلامي من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، تجسيداً آخر لتلك الدلالة.
وقد نما فقه العلاقات الدولية مترافقاً مع تلك التفاعلات، وبلور الفقهاء المسلمون الذين اعتنوا بالتنظير لهذا الجانب مجموعاتٍِ كبيرة من الاجتهادات، التي تحدد أهداف تل التفاعلات وضوابطها، في حالتي السلم أو الحرب على حد سواء. ويمكن اعتبار كتاب السِّيَر لمحمد بن الحسن الشيباني أول كتابٍ في مادة القانون الدولي، إذ إنه سبق في الظهور كتاب قوانين الحرب والسلام للهولندي هيوجو جرسيوس بأكثر من ثمانية قرون.
ولم تنفرد كتب السير والخراج، ولا كتب الفقه وحدها، بتسجيل الرؤى الإسلامية في قضايا العلاقات الدولية، وإنما توزعت تلك الرؤى في كتب التاريخ والتفسير ومقارنة الأديان وغيرها من الأعمال الموسوعية التراثية. ومع دخول العالم الإسلامي في أطوار التراجع والذبول طرأت علامات الضعف والضمور على فقه العلاقات الدولية المنطلق من النظرة الإسلامية، ثم خمد ذلك الفقه وجمد عندما فقد العالم الإسلامي إرادة المبادرة والتحرك، وسقط في قبضة الاستعمال.
وحتى بعد استقلال دول العالم الإسلامي، فإنها قد ظلت أسيرةَ حالة القابلية للاستعمار، وعلاقات التبعية التي رسختها سنوات الاستعمار الطويلة. ولم تعمد تلك الدول إلى استلهام الإسلام إطاراً توجيهياً لعلاقاتها الدولية، ولذلك لم يسجل فقهُ العلاقات الدولية الإسلامي أي تطور يذكر، ذلك أن الفقه إنما ينمو مع مواكبته للواقع، وتتجمد حركته عند استبعاده عن محك التطبيق.
وجُلُّ الجهد المبذول حالياً في الكتابات الإسلامية عن العلاقات الدولية، يدور حول بعض الجوانب النظرية العامة، لا سيما الجوانب القانونية والأخلاقية المثالية. وحتى في هذه الجوانب ليست هذه الكتابات إلاّ مجرد إعادة صياغة لفقه السِّيَر القديم، أو محاولات لنقد القانون الدولي الحديث وتقويمه من وجهة نظر إسلامية. ويندر في تلك الكتابات –وهذا طبيعي0 وجودُ أبحاث ناضجة حول قضايا القوة النسبية والتحالفات والنظام العالمي، والعلاقات الاقتصادية العالمية، وحل النـزاعات، وغير ذلك من القضايا الحية في مسائل السياسة العالمية.
ولننظر الآن –بع هذا التعريف العام بمداخل تحليل العلاقات الدولية- في إجابات ك ل مدخل عن الأسئلة الثلاثة الكبرى عن مناخ العلاقات الدولية، ووحدات التعامل العالمين وأمهات المشكلات العالميه