منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#34670
المناطقية لعبة الانكماش
الكاتب خلف الحربي

قبل قرنين من الزمان قال شاعر الحجاز بديوي الوقداني : (الناس أجانيب لين انك تصاحبها) وهو شطر بألف قصيدة فقد اكتشف الوقداني بوعي الشاعر الفذ أن الدواء الوحيد القادر على معالجة جهلنا بالآخر وتوجسنا منه يكمن في مصادقته، فالأغراب يصبحون أغرابا لأننا لا نعرفهم ولأننا نحمل في أذهاننا أفكارا مشوشة حول طباعهم ولكننا ما أن نمد لهم يد الصداقة حتى نكتشف أنهم أقرب إلينا من أنفسنا.
لو كان بديوي الوقداني حيا في زماننا هذا لاستحق أن يكون أحد أبرز مسؤولي مركز الحوار الوطني فهذا الشطر الشعري الذهبي يغني عن كل الأطروحات الفكرية التي تتناول إشكالية الحوار مع الآخر، هذا البدوي المثقف لم يمنعه اعتزازه بانتمائه القبلي من الاندماج في كافة شرائح المجتمع في ذلك الزمان فاكتشف أن مفهوم الشخص الغريب أو الأجنبي هو مفهوم أسطوري صنعته الثقافة العامة ويمكن إلغاؤه بمبادرة فردية بسيطة وجريئة في الوقت ذاته، وبرغم أن شطر البيت هذا جاء في سياق حث الفتى على خوض التجارب البعيدة وعدم التردد في تغيير الديار طلبا للعزة إلا أن عبارة (لين انك تصاحبها) تثبت أن القرار بيدك وليس بأيدي الآخرين وأنك أنت الذي تجعل الأجنبي أجنبيا وبإمكانك أن تتخلص من هذ الحاجز الوهمي الذي يحول بينكما متى اتخذت قرار مصادقته، حينها سوف تكتشف أنه يشبهك كثيرا وأن كل ما سمعته عنه كان مجرد أوهام لا معنى لها.
واليوم ليس ثمة ظاهرة متخلفة في مجتمعنا تنافس ظاهرة التعصب القبلي سوى ظاهرة التعصب (المناطقي) والإقليمي والتي يمكن اكتشافها بسهولة في بعض أماكن العمل أو من خلال تأمل بعض الصداقات المحكومة بالهاجس الإقليمي أو بالاستماع إلى مجموعة من الأفكار الشائعة التي يتداولها العامة عن أهل هذه المنطقة أو تلك.
قد يكون من الطبيعي أن أهل الأرياف حين يهاجرون إلى المدن الكبيرة يتجهون فورا إلى أحياء يقطنها أقارب لهم من ذات الإقليم الجغرافي الذي جاؤوا منه، ولكن الأمر غير الطبيعي أن الإنسان الذي يولد ويعيش في المدينة الكبيرة ويلتقي بشرا من كافة الأجناس يبقى مسكونا بهواجس القرية التي هاجر منها والده وينظر إلى الآخرين باعتبارهم أغرابا.
وإذا كانت خطورة التعصب القبلي تكمن في إثارته للنعرات الجاهلية فإن خطورة التعصب المناطقي تظهر دائما في صراعات العمل وتحرم الكثير من الكفاءات من التقدم لأنها لا تنتمي إلى الإقليم الذي يشكل أبناؤه أغلبية مؤثرة في هذه المؤسسة أو تلك، يسمي البعض هذا السلوك (تكتلا) ولكنه في حقيقة الأمر يعد (انكماشا) لامبرر له سوى الخوف من فكرة وهمية تتلخص في أن الآخر غريب وبالتالي هو ضدنا... رحم الله الوقداني فقد أدرك أن المسألة لاتستحق كل هذا العناء!.