إعادة بناء الدبلوماسية الصينية
ربما تكون عملية اتخاذ القرارات الخارجية قد باتت أكثر شفافيةً إلا أن الكثير من الظلال لا يزال يحيط بهذه الدبلوماسية، التي يزداد تأثرها بمراكز الأبحاث الصينية
مع تزايد دورها في الاقتصاد العالمي، اتجهت الصين لإعادة بناء خيارها الدبلوماسي الخارجي بما يحقق متطلبات هذا الدور على مستوى الأسواق والاستثمارات ومصادر الطاقة النفطية، وكذلك بما يبعد عنها تهمة السلبية والانطواء على الذات، التي لازمتها ردحا طويلا من الزمن كذلك، بدت قضية تايوان والتنافس مع اليابان ومتغير السياسة الأميركية بمثابة محفزات أخرى دافعة باتجاه إعادة بناء الدبلوماسية الصينية.
في عهد الرئيس ماوتسي تونغ كان يتم اتخاذ معظم قرارات السياسة الخارجية الصينية بطريقة فردية لا مشاركة للآخرين فيها، ثم جاء حكم دينغ سياو بينغ ليفتح آفاقاً جديدة، حيث توطدت روابط الصين بالمجتمع الدولي. بيد أن القرارات النهائية للسياسة الخارجية ظلت تتصف بالمركزية الشديدة. بعد ذلك جاء خلفه جيانغ زيمين محاولا تخفيف هذه المركزية وقد حقق شيئا مما أراد.أما اليوم فقد أصبحت السياسة الخارجية الصينية ذات طابع مؤسسي أو هي على الأقل قد اقتربت من ذلك.
ومن محاور التغير في الصين إتاحة فرصة أكبر للدور الذي تلعبه هيئات الإدارة الحكومية المتناظرة والمختصة بقضايا السياسة الرئيسية والمعروفة باسم المجموعات القيادية الصغيرة. كما قامت بكين في أواخر العام 2000 بتأسيس مجموعة قيادية جديدة للأمن القومي.
وعلى صعيد المنطلقات الأساسية، يمكن القول إن الايدولوجيا، وليس المصلحة الوطنية، هي التي كانت تحكم صوغ السياسة الخارجية الصينية منذ تثبيت دعائم الجمهورية الشعبية في العام 1949 وحتى العام 1972 حين عادت الصين والولايات المتحدة فالتقيا وتحالفا ضد الاتحاد السوفياتي. وهنا تخلى الحزب الشيوعي الصيني عن التحديد اللينيني للإمبريالية ليقول بصيغة جديدة وهي مفهوم «الهيمنة» مستهدفاً أولاً الاتحاد السوفياتي. وفي الوقت نفسه، تخلصت بكين تدريجيا من حلفائها التقليديين في العالم الثالث مقلصةً من مساعداتها الخارجية ومبديةً تخفيفا متزايدا في معارضتها «النظام الدولي اللاعقلاني» الذي يهيمن عليه الغرب.
إن الحزب الشيوعي الصيني قد تخلى على مدار العقدين الماضيين عن معظم برنامجه السياسي (حرب التحرر الشعبية العالمية، وكفاح البروليتاريا الذي سيؤدي في النهاية إلى مدينة فاضلة بلا طبقات، والنصر على الرأسمالية العالمية ...). وجعل هذا التحول من إعادة توحيد البلاد الصلة الأخيرة الباقية بثورة ماو، والمبرر الوحيد المتبقي لحكم الحزب الواحد.
وعلى صعيد رؤيته للبيئة الدولية، ساند الحزب الشيوعي الصيني مبدأ التعددية القطبية في النظام الدولي، بيد أنه اتجه في الوقت نفسه للتعايش مع واقع الأحادية القطبية من موقع برغماتي أدواتي، فواقع الأحادية هذه قد أعفى الصين من التزامات أمنية وسياسية كبيرة حتى ضمن محيطها الإقليمي، ووفر لها تاليا فرصة للانكفاء الاستراتيجي،خرجت فيها كقوة اقتصادية عظمى.
وقبل نحو عام، نشر أحد خبراء السياسة الخارجية الصينية مقالا ميز فيه بين القوة المهيمنة والسلوك المهيمن، مقترحا أن تفضل الصين القوة المهيمنة (ويقصد بها الولايات المتحدة) كحل وبديل مناسب عن السلوك المهيمن، معتبرا أن تحقيق الصين للسلام والتنمية جنباً إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية المرجوة يمكن أن يظل منتعشاً في العالم أحادي القطب.
وهذه مقولة صحيحة على الرغم من نسبيتها، إلا أن فرصة تواصلها أمر مشكوك فيه. ولعل هذا ما خلصت الصين نفسها إليه اليوم.
العلاقة مع الولايات المتحدة
على مستوى العلاقة مع الولايات المتحدة تحديدا، يمكن ملاحظة أن خطة الانفتاح الصينية قد جاءت تاريخيا موجهةً قبل كل شيء في اتجاه واشنطن، وذلك لأنها كانت تمتلك التكنولوجيا المتطورة التي تحتاجها الصين إلى أقصى الحدود، كما أن الصين بدورها اكتست أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة في تنافسها مع الاتحاد السوفياتي.
بيد أن الوضع قد تغير فجأة في العام 1989 مع انتهاء الحرب الباردة وقيام نظام عالمي أحادي القطب، وإذا بأساس التحالف الاستراتيجي الصيني الأميركي، أي العداء للاتحاد السوفياتي، ينتهي إلى زوال، فتبددت أوهام السلام العالمي الدائم الذي كانت تقول به بكين. وجاء تزايد التدخلات الأميركية في «نقاط ساخنة» مثل الشرق الأوسط وتعزيز الوجود العسكري الأميركي في منطقة آسيا-الباسيفيك ليقضي على الآمال التي راودت بكين في تحقيق السلام في محيطها الاستراتيجي. كما اهتزت أيضاً النظرية الصينية في «السلام والتنمية» بعد فرض العقوبات الاقتصادية والحملة الأيديولوجية والسياسية التي أطلقتها الولايات المتحدة غداة الأحداث الدموية في ساحة «تيان أن مين» في حزيران يونيو من العام 1989 .
وفي الفترة التالية لأحداث «تيان أن مين»، واجهت العلاقات الصينية الأميركية مجموعة من الهزات، كتلك التي حدثت على إثر تجارب الصواريخ الصينية - غير المحملة الرؤوس - فوق المياه الإقليمية التايوانية (1995 و1996) والتي تبعها انتشار حاملات الطائرات الأميركية في المنطقة. أعقب ذلك توتر آخر أحدثه قيام قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقصف السفارة الصينية في بلغراد(1999)، وجاء التوتر الأكثر حدة عندما أسقطت إحدى المقاتلات الصينية طائرة تجسس أميركية فوق بحر الصين في العام 2001.
وقد حدت الحرب على الإرهاب التي تبنتها الولايات المتحدة غداة أحداث 11 أيلول سبتمبر من حدة التوتر في مناخ العلاقات الصينية الأميركية، بيد أن هذه الحرب دفعت في الوقت نفسه باتجاه الإسراع في تطويق الصين استراتيجياً. فقد حدث تعزيز للوجود العسكري الأميركي في شرق آسيا، كما امتد هذا الوجود إلى آسيا الوسطى للمرة الأولى في التاريخ.
قضية تايوان
من جهة أخرى، بدت قضية تايوان مؤثرا مستمرا في خيارات الصين الخارجية، وخاصة لجهة علاقاتها بالولايات المتحدة واليابان، بل وحتى أوروبا.كما ظلت هذه القضية تشكل إحدى التفجرات الكامنة في مناخ الأمن الإقليمي والدولي. وبدت الصين متشددة على الدوام حيال أية مقاربة تقود باتجاه استقلال الجزيرة.
وهناك جذور تاريخية عميقة للأسباب التي تقف وراء هذا التشدد، فحين تولى ماو والشيوعيون الصينيون مقاليد السلطة في العام 1949 تعهدوا باسترجاع أرض الصين الكبرى، الأمر الذي كان يتضمن إعادة سنجيانغ (الإقليم الغربي ذو الأغلبية المسلمة) والتبت ومنغوليا وهونغ كونغ وماكاو وتايوان إلى السيطرة المركزية. بيد أنه على خلفية التحولات التي جرت في النصف الثاني من السبعينات دخل الرئيس دينغ سياو بينغ في جملة من التسويات منها أن بمقدور الأميركيين استئناف بيع السلاح إلى تايوان. ومنذ ذلك الحين دخلت القضية التايوانية طورا جديدا انتهى بتوجيه الصين خمسمائة صاروخ قصير المدى نحو الجزيرة، ربما نشهد قريبا زيادة فيها.
وفي مطلع آب أغسطس الماضي هاتف الرئيس الصيني هو جينتو الرئيس الأميركي جورج بوش مطالباً بوقف عملية بيع أسلحة متطورة لتايوان. وقد أخبر جينتو الرئيس بوش بأن «المسألة التايوانية حساسة جداً» وبأن الصين «لن تتساهل مع استقلال تايواني بالتأكيد».
وتواصل مسلسل التصعيد السياسي الصيني لينتهي أخيرا بصدور «قانون منع الانفصال»، الذي جاء صريحا على مستوى عزم بكين اللجوء للقوة العسكرية كخيار أخير لمنع استقلال الجزيرة. وعلى الرغم من ذلك فقد أخفق هذا القانون في إعطاء تعريف تفصيلي لِ«الخطوط الحمراء» المسلم بها أو المحتملة والتي لا تستطيع تايوان أن تتجاوزها، لقد ترك القانون الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام احتمالات القيام بحسابات خاطئة أو الوقوع في سوء فهم.
وربما تكون عملية اتخاذ القرارات الخارجية قد باتت أكثر شفافيةً إلا أن الكثير من الظلال لا يزال يحيط بهذه الدبلوماسية، التي يزداد تأثرها بمراكز الأبحاث الصينية .
لقد برر المسؤولون الرسميون في بكين إقرار هذا القانون باعتباره وسيلة لتوضيح سياستهم وتأسيس مقدمة قانونية لغزو الجزيرة. ولكن من خلال الممارسة العملية على أرض الواقع فإن وضع الأسس القانونية قد يؤدي إلى إضعاف المرونة العملياتية للحكومة الصينية حين تبادر إلى الرد على أي تحرك تايواني نحو الاستقلال. ويؤكد تفسير قانون «العواقب غير المتعمدة» أن هذا الجهد المبذول لمنع الالتباس والغموض بشأن الأنشطة التي تقوم بها تايوان قد يؤدي إلى نتائج عكسية، الأمر الذي لا يترك لقادة الصين أي مساحة للمناورة إذا ما حاولت تايوان تغيير الحالة الراهنة.
والحقيقة أن مطلع العام 2005 شهد بعض التحرك نحو تحسين الروابط بين تايوان والبر الصيني، وذلك من خلال النجاح الملحوظ الذي حققه برنامج رحلات طائرات «الشارتر» بمناسبة العام القمري الجديد. ولقد أدى ذلك إلى بروز نقاش جادة بشأن إنشاء خطوط ربط جوية دائمة لتيسير تدفق التجارة الثنائية. وفي العام 2003 بلغت حجم التبادل التجاري بين الجانبين خمسين مليار دولار، وقام التايوانيون بما يقارب الأربعة ملايين رحلة إلى الوطن الأم، علما بأن مليون تايواني يقيمون في الصين ويعملون في ما يقرب من خمسين ألف شركة استثمر فيها التايوانيون أكثر من أربعمائة مليار دولار أميركي.
والأبرز من ذلك، إن انتخابات تايوان التشريعية التي جرت في كانون الأول ديسمبر من العام 2004 قد مثلت هزيمة قاسية للرئيس التايواني تشين بيان وحزبه التقدمي الديمقراطي الحاكم، الأمر الذي نظر إليه على نطاق واسع بأنه تطور إيجابي في العلاقات بين تايوان والوطن الأم.
وعلى صعيد دبلوماسيتها الإقليمية، بدأت الصين منذ العام 1991 بتسوية نزاعاتها المتعلقة بمسألة الحدود مع كل من كازاخستان وقرغيزستان ولاوس وروسيا إلى جانب طاجيكستان وفيتنام، إلا أنها كثيراً ما كانت تفض تلك النزاعات دون أن يعود عليها أي نفع. ففي معظم تلك الاتفاقيات حصلت الصين على خمسين في المائة فقط من الإقليم المتنازع عليه أو أقل من ذلك.
وعلى صعيد النزاع الذي كانت الصين تتواجه فيه مع كل من اليابان ودول جنوب شرق آسيا حول جزيرة دياويو وبحر الصين، فقد اقترحت بكين تاريخيا «إخمادها واعتماد سياسة تنمية مشتركة» .وقد اعتبر دينغ سياو بينغ حينها أن هذه النزاعات سوف تسوّى على أيدي زعماء المستقبل «الأكثر فطنةً». بيد أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدا ملحوظا للخلافات المرتبطة بالسيادة، الأمر الذي شكل عامل ضغط إضافي على مقاربة الصين للعلاقة بجيرانها الآسيويين.
وفي الرابع عشر من تموز يوليو الجاري، احتجت بكين على قرار طوكيو السماح لشركة يابانية بالتنقيب في إحدى المناطق المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، معتبرة ذلك ب«الاستفزاز الخطير والاعتداء على حقوق الصين ومصالحها».
وكانت اليابان قد سمحت رسميا قبل ذلك بيوم واحد فقط لشركة «تايكوكو» بالتنقيب في حقول الغاز، دون أن تجيب على اقتراح صيني باستغلال مشترك للحقول المتنازع عليها، والتي قال مسح ياباني قبل ست سنوات إنها تحتوي على 200 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.
وما يمكن قوله هو أن التوترات الصينية اليابانية قد تخطت قضايا النزاع على سيادة مجموعة الجزر والمناطق البحرية لتلامس مجموعة واسعة من الشؤون الثنائية والإقليمية، كما تعارض الصين بوضوح مساعي اليابان للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.
إنما خارج سياق العلاقات الصينية اليابانية يمكن ملاحظة تطور ملموس في روابط الصين مع جيرانها الآسيويين، في الشرق والجنوب الشرقي، كما في الجنوب نفسه حيث تحسنت العلاقات مع الهند.
وقد بدأت الصين منذ العام 1995 في عقد اجتماعات سنوية مع كبار أعضاء رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، بعدها أسهمت بكين في عمل الآليات الخاصة بسلسلة الاجتماعات السنوية التي تضم الدول العشرة الأعضاء بالرابطة إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية (آلية الآسيان + 3) ثم تبعتها بعد ذلك آليات العمل الخاصة بالاجتماعات السنوية التي تعقدها الرابطة مع الصين، والتي عادة ما يرأسها رئيس الوزراء الصيني، كما زادت الصين من عمق مشاركتها في اجتماع التعاون الاقتصادي الباسفيكيي - الآسيوي .
وفي آسيا الوسطى، لعبت الصين دوراً أساسيا في تأسيس المجموعة الأولى متعددة الأطراف في المنطقة والمعروفة باسم منظمة شنغهاي للتعاون. ومنذ العام 1996 بدأت الصين مشاركتها في الاجتماعات الأوروبية الآسيوية، والتي كانت تعقد قمتها نصف السنوية بحضور رؤساء الدول.
وفي الإطار الدولي العام، قامت الصين فيما بين العام 1988 والعام 1994 بتطبيع أو تأسيس العلاقات الدبلوماسية التي تربطها بثماني عشرة دولة، بالإضافة إلى علاقاتها بالاتحاد السوفياتي. وقد بلغت تلك العملية أوجها حين وقعت مع روسيا معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي في العام 2001. وأخيرا، أصبح الرئيس هو جينتاو أول رئيس صيني يحضر اجتماعات مجموعة الثماني الصناعية في العالم (G - .
ويمكن القول أخيرا، إن تطور الدبلوماسية الصينية قد جاء نتاجا لتطور الآليات المعتمدة في صناعتها، فقد أضحت صناعة مؤسسية، عملت فيها بكين على تنويع مصادر التحليلات الخاصة بالسياسة الخارجية، كما أصبح الرأي العام الصيني أكثر تأثيرا في مجريات السياسة الوطنية وباتت وسائل الإعلام المحلية تساهم في صياغة هذه السياسة داخليا وخارجيا. ويمكن أن نلحظ في هذا السياق أن تطورا كبيرا قد حدث في بيئة الإعلام الصيني ليرفع من زخمه وتأثيره، فبعد أن كان عدد الصحف في العام 1978 لا يتجاوز 186 صحيفة، علاوة على بضع مجلات وقنوات إذاعية وتلفازية، أصبح في الصين اليوم حوالي 2200 صحيفة، و9000 مجلة، و1000 محطة إذاعية، و240 محطة تلفازية، علاوة على انتشار متنامٍ لقنوات الكابل التلفازية.
إن الانفتاح الاقتصادي الذي بدأته الصين منذ أواخر السبعينات قد فرض مجموعة من التحولات القيمية والمعيارية في الحياة الصينية لم يكن بالمقدور استثناء المعادلة السياسية منها، بما في ذلك السياسية الخارجية، بل ربما كانت هذه الأخيرة في طليعة المعنيين بهذا الانفتاح .