منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#34820
بدايةً فإنّ لكاتب هذه السطور موقفًا سابقًا معلنًا يختلف فيه منهجيًّا مع فكر "القاعدة"، خاصةً في مسألتَيْ قتل المواطنين المحلِّيين داخل البلاد العربيَّة، وكذلك قتل المدنيين الغربيين داخل البلاد الغربيَّة نفسها، والحمد لله أنني رغم هذا الاختلاف كنت أسجِّل الاحترام الكامل لقادة هذا الفكر والمسئولين عنه.
أما اليوم، وفي هذه اللحظة، فإنني أبدأ بالترحم على الشيخ أسامة بن لادن، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفوَ عنه وعن تقصيره وعما يكون قد أداه إليه اجتهاده من خطأ وأن يجازيه خير الجزاء، فأسامة بن لادن أراد الحق وسعى إليه فلم يدركْه كله، ولم يُرِد الباطل ولم يسع إليه، وإن كان قد أدرك بعضه، والأعمال في شريعة الإسلام بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى.
وحتى لا يصطاد الصائدون في الماء العكِر ويقولون أتترحم على من قتل المدنيين الأبرياء؟ أسجل النقاط الآتية:
- لم يكن هدف أسامة بن لادن ومبتغاه هو قتل الأبرياء، وإنما كان هدفه الأول هو الجهاد ومنازلة الحملة الغربيَّة الصليبيَّة التي تستهدف بلاد العرب والمسلمين وتعمل جاهدةً على إخضاعها وعلى السيطرة عليها.
- أعدَّ الرجل نفسه لذلك شرعيًّا وسياسيًّا، فهو من طلبة العلم المعروف عنهم تلقِّيهم العلم على يد الشيوخ، وقد استفتى كثيرًا من أهل العلم في كثير من البلاد فأفتوا له بوجوب الجهاد ضد هذه الحملة على بلاد الإسلام.
- خاض الرجل تجربة الجهاد الحقيقية في أفغانستان، وأراد أن يستفيد منها في منازلة أعداء الأمة، وحدَّد هدفه في مواجهة الولايات المتحدة كزعيمة لهذا التحالف الشرير، فاستدرجها لحرب كلَّفتها تريليون دولار وكبدتها خسائر كبيرة على كل المستويات.
- انطلق أسامة بن لادن – رحمه الله – من أرضيَّة أن تنظيمه يقوم عن الأمة بهذه المهمة، ولا بأس بإراقة بعض دماء المدنيين الغربيين، فهم لم يرعوا أيَّة حُرمة للدم المسلم وسفكوه في كل مكان، ووجد لذلك تكييفًا شرعيًّا وسياسيًّا وهو المعاملة بالمثل والعين بالعين والسن بالسن ورد العدوان يسمح بذلك، أما بالنسبة للدم المسلم فعلمي أنه لم يقصدْه بذاته، وإنما أراد بعض الغربيين المختلطين بالمسلمين، وفي هذه النقطة فإنني لا أدافع عن الرجل ولا أبرِّر له، وقد أكدت في البداية اختلافي مع فكره، وما زلت أختلف معه، لكنني أردت أن أؤكد أنه ما كان يصدر عن جهل وإنما كان صاحب رؤية معينة ومشروع معين، أصاب في بعضه وهو منازلة أعداء الأمة الذين يحتلون أجزاء منها، وأخطأ في بعضه وهو ما نتج عن عمليات التنظيم من قتل لمدنيين أبرياء مسلمين وغير مسلمين.
- ترحمنا على الرجل اليوم يأتي من إجماعِ كل من قابلَه على حسن أخلاقه ونُبله وسخاء نفسه، وهذا يؤكِّد أن الرجل لم يكن عدوانيًّا سافكًا للدماء كارهًا للناس يحترف القتل، وإنما كان مسلمًا تاقت نفسه للجهاد فباعها لله سبحانه.
- نترحم اليوم على أسامة بن لادن، لأنه باع الدنيا وطلَّقَها، ولو أراد أن يصبح من أغنى أغنياء العرب لفعل ذلك، فقد ورث مئات الملايين، ولكن الدنيا لم تكن شاغلَه وهمه، فقد وهب نفسه للجهاد والدفاع عن أمته وأنفق ما يملك في سبيل هذه الغاية.
كان ظهور الشيخ أسامة بن لادن – رحمه الله – على الساحة العربيَّة الإسلاميَّة انعكاسًا لمشكلة بنيويَّة داخل بلادنا ومجتمعاتنا، وقد نجمت هذه المشكلة من أن النظم السياسيَّة الحاكمة في بلادنا نظم استبدادية تسلطية لا تحترم الشريعة ولا تقيم وزنًا لرغبات المواطنين وإراداتهم، وبات التغيير السلمي ضربًا من المستحيل. ومن ناحية أخرى كانت هذه الأنظمة في معظمها منبطحةً أمام الغرب ومتحالفة معه ضد مصالح الأمة العليا، هنا رأى الرجل أنه لا أمل في مواجهة هذه الثنائيَّة إلا بالخروج عليها وتفكيكها من الخارج، وظهرت هنا قضية العدو القريب (الأنظمة العربية الداخليَّة) والعدو البعيد (الدول الغربيَّة المستهدفة لبلاد المسلمين).
لاقى مشروع أسامة بن لادن تجاوبًا كبيرًا من قطاعات واسعة من الشباب في السعودية واليمن ومختلف البلاد العربيَّة، فقد رأى هؤلاء الشباب أن هذا المشروع يعبر عنهم وأنه هو الطريق الوحيد لإعادة الأمَّة إلى مجدها وعزها وتحريرها من الحكام الظالمين، وكان غالبية المقتنعين بهذا المشروع من المثقفين ومن الشباب المتعلم، ولذلك فلا ينبغي لنا أن نهوِّن من ظاهرة تنظيم "القاعدة" وانتشار فكره، فهي مرتبطة بالخلل البنيوي والسياسي الذي أشرنا إليه.
والتقليل من أمر "القاعدة" وفكرها، والاستخفاف بذلك، إنما هو استهانة بهذا القطاع الواسع من الشباب، ومن أراد أن يواجه الظاهرة فعليه بمنع جذورها وبعلاج الأسباب التي أدت إلى تجذُّر الاستبداد والديكتاتوريَّة في بلادنا واللَّذين أديا إلى سيطرة الغرب علينا وإخضاع هذه النظم.
أما إذا أردنا أن نتحدث عن مستقبل "القاعدة" بعد رحيل مؤسِّس التنظيم، فإنه من المؤكد أن غياب أسامة بن لادن عن الساحة سيكون من أسباب ضعف التنظيم، فالرجل كان "كاريزما" مؤثرة وشخصيَّة كبيرة، فقد كان لديه تجرد وإخلاص يشهد بهما الجميع، وكان لديه بساطة وتواضع تأسر قلوب المحبين والمريدين، وكان الرجل لديه قدرةٌ كبيرة على الاستماع للشباب والإنصات لهم، ومن يقرأ سلسلة الحوارات التي أُجريت مع حارثه الشخصي "أبو جندل" يتأكد من أن الرجل كانت فيه مجموعة من صفات الكرم والسخاء والهدوء التي لا تتوفر لغيره، وبَاعُ الرجلِ في العلم الشرعي وامتلاكه للحجة كان قويًّا، ولذلك فكان يملك القدرة على إقناع الشباب والإجابة على تساؤلاتهم.
والأمر هنا يمكن أن يكون مشابهًا لما حدث مع تنظيم "الإخوان المسلمين" حينما فقد زعيمه ومؤسّسه الشيخ حسن البنا، الذي كان يملك "الكاريزما" الكبيرة والشخصيَّة التي لا يجود التاريخ بمثلها كثيرًا، وقد تأثَّر التنظيم زمنًا طويلًا بهذا الغياب حتى استطاع أن يقف على رجليه مرةً أخرى.
أما الحلم الذي يحلم به الأمريكيون وأتباعهم من أنهم سيتمكَّنون من القضاء على "القاعدة" بعد أن قضوا على زعيمها ومؤسِّسها، فهو جهل مطبق وحلمٌ لن يتحقق، ولا يبدو أن القوم يستحون، فهم بجيوشهم وأجهزة مخابراتهم وأسلحتهم المتقدمة وأقمارهم الصناعية، استغرق الأمر منهم أكثر من عشر سنوات حتى يتمكنوا من قتل هذا الرجل على قلة ما معه من سلاح، وقد أسَّس الرجل تنظيمه بإحكام شديد، فالكل مقتنع بالفكرة والمبدأ، والكل باع نفسه لله ومستعد للموت، والكل مدرب تمامًا، والأسباب التي أدت إلى تأسيس التنظيم ما زالت قائمة، وبالتالي فإنه ربما يتأثَّر التنظيم سلبًا لبعض الوقت حتى يتمكَّن من استعادة توازنه.
الذي يجهله أو يتجاهله القوم هو أن "القاعدة" ستنتقم حتمًا لمقتل زعيمها، وستردُّ بقوَّة ضد المصالح الغربيَّة في المنطقة، وساعتها سيشعر الغرب بالندم، ويبدو أنهم لا يزالون يجهلون بنية وفكر التنظيمات العنقوديَّة الإسلاميَّة، وهذه الغطرسة نفسها هي التي كانت سببًا في تطور فكر أسامة بن لادن ضد الغرب، فالقوم يعرفون الحق ويحيدون عنه وهم مصممون على الاستمرار في حملاتهم الصليبيَّة ضد بلادنا.
كان الوجود الغربي في البلاد العربيَّة والإسلاميَّة من أهم الأسباب التي أدَّت إلى عمليات تنظيم "القاعدة" داخل وخارج البلاد العربيَّة، ومع ذلك استمرَّ الغرب يستفز العرب والمسلمين، وها هم قد قتلوا الرجل الذي كانوا يربطون وجودهم بالتخلص منه، فهل يحملون رحالهم ويرحلون من أفغانستان وباكستان؟ الخبرة تقول لنا إنهم لن يفعلوا، والخبرة تقول لنا أيضًا: إن "القاعدة" لن تسكت، وسوف تذيقهم مثلما أذاقتهم من قبل.
يحلم كثير من الحالمين بأن يموت فكر ابن لادن ويختفي بعد رحيله، والتاريخ يؤكِّد لنا عكس ذلك، فالذي يموت في سبيل فكرة ومبدأ يؤمن بهما، يجعل الفكرة حية والمبدأ موجودًا بين الناس، ولنا في شهيد الإسلام سيد قطب المثل، فقد أبى الرجل أن يعتذر للحاكم المستبدّ وفضَّل أن يموت في سبيل أفكاره ولا يعتذر، وقد كان، وبموته كتب الخلود لفكره، ولو مات سيد قطب ميتةً عاديَّة ولم يمتْ شهيدًا على أعواد المشانق ما كان فكره ليحظى بهذا الانتشار والشيوع، وما حدث بالنسبة لسيد قطب سيحدث لا محالة بالنسبة لأسامة بن لادن.
وهنا فإنني أتوقف عند موت أسامة بن لادن بأيدي الأمريكان، فقد قتله أعداء الأمَّة الذين يحتلُّون أرضها ويغتصبون مواردها ويساعدون أعداءها بكل ما يملكون، ولم يمت الرجل على أيدي حكومة عربيَّة أو مسلمة، وهكذا تحقَّق للرجل ما كان يطلبه، وهو ألا يقبض عليه الأمريكان وألا يقع أسيرًا في أيديهم فيسجنوه ويهينوه، ولذلك فقد كان يأمر حرَّاسه الشخصين أن يضربوه بالرصاص إذا تأكَّدوا من أنه سيقع أسيرًا في أيدي الأمريكيين، ويبدو أن ما دفع القوم إلى عدم محاولة أسْرِه أنهم كانوا متأكدين أن ذلك سيكلِّفهم الكثير من الأرواح، فالرجل وحرَّاسه وأهل بيته مقاتلون مدرَّبون، ولن يقعوا في أيدي أعدائهم إلا بعد ملحمة، كما أن الحصول عليه حيًّا لن يجعله كنز معلومات، فالرجل من النوعيَّة التي لن يستطيع أحد أن يحصل منه على معلومة واحدة، وهم متأكدون من ذلك.
بقي أن نشير إلى نقطة مهمَّة، وهي أنه إذا كان الشيخ أسامة بن لادن – رحمه الله – قد بنى فكرته الأساسيَّة على أساس أن المعادلة الرئيسيَّة بيد الأنظمة السياسيَّة العربيَّة الاستبداديَّة، فإن الثورات التي تنتشر في كثير من البلاد العربيَّة قد غيَّرت هذا الأمر، وأثبتت أن المعادلة بيد الشعوب، وسوف تنشأ أنظمة سياسيَّة بعد الثورات مفتوحة وديمقراطيَّة، فهل نأمل أن تراجع "القاعدة" فكرتها الأساسية بعد هذا التغير الكبير؟ وليكن الظرف التاريخي دافعًا إلى ذلك ومحرضًا عليه.
في النهاية، فإلى كل الذين حزنوا على وفاة أسامة بن لادن، وهم قطاع كبير وواسع في منطقتنا العربيَّة، أقدِّم لهم التعزية والمواساة وأترحم على الشيخ أسامة مرة أخرى، وإذا كان الرجل قد اجتهد فأصاب بعض الحق وبعض الخطأ، فإننا نسأل الله له الرحمة، ونأمل من أتباعه أن يعيدوا النظر في فكرتهم الأساسيَّة في زمن الثورات العربيَّة، وأن ينضموا إلى هذه الثورات وأن يدعموها بكل ما يملكون.
المصدر :http://www.egyig.com/muntada/showthread.php?t=5050