منذ أكثر من ستة أشهر ، شاهدت برنامجا ًوثائقيا ً يتحدث عن دولة قطر ..
البرنامج عرض على قناة الجماهيرية الأولى وقد تزامن عرضه مع الاستعدادات الجارية للقمة العربية التي استضافتها الجماهيرية حينها ..
كان البرنامج يتحدث عن الانجازات التي حققتها دولة قطر، ورحت أتابع الأرقام والإحصاءات والنتائج والتطور الحاصل في كافة المجالات والقطاعات ، التعليم والصحة والبنية التحتية والمرافق والخدمات والاستثمارات وقطاع الرياضة والطيران .
واليوم .. تشهد قطر حدثا ً استثنائيا ً يتمثل في استضافتها لنهائيات كأس العالم لكرة القدم عام 2022 ولا أريد هنا التحدث عن حجم الإمكانات المسخرة لتنظيم الحدث العالمي وأحيل القارئ إلى مشاهدة ذلك بنفسه فليس من شاهد كمن سمع .
ولقد لمست من خلال مشاهدتي للبرنامج مدى البون الشاسع بين ما توصلوا إليه من نجاح على صعيد الإدارة والتخطيط الاحترافي العلمي المدروس وبين واقعنا الإداري الذي لا يخفى على أحد .
وراحت عشرات الأسئلة تتزاحم في ذهني ولا أجد لها إجابة ، أسئلة على غرار تلك " الأسئلة الحائرة " التي ذكرها الدكتور على فهمي خشيم في إحدى مقالاته في مجلة " لا " وترجمتها ريشة الفنان محمد الزواوي على غلاف ذلك العدد من المجلة ، مصورا ً مواطنا ً ليبيا ً بسيطا ً تفترسه علامات الاستفهام ولا يجد منها مهربا ً .
إن عالم اليوم المليء بالمتغيرات والأحداث السياسية والتحولات الاقتصادية عالم مادي بحث لا يعترف إلا بالنتائج الملموسة على أرض الواقع ولا تهمه الشعارات بقدر ما يهمه العمل الجاد والمدروس نحو تحقيق أرضية للتواصل وتبادل المصالح المشتركة .
إن الحاجة لتحقيق التقدم والارتقاء بهذا البلد إلى الأفضل حاجة ضرورية ملحة لأنه بلدنا ومن حقه علينا أن نحبه أولا ً وأن نشعر بالمسؤولية تجاهه ومن ثم نتحرك نحو بناءه وتطويره على كافة الأصعدة وفق خطط وبرامج محددة ووضع آليات تتابع تلك البرامج حتى تتحول إلى مشاريع حقيقية تعود بالنفع على اقتصادنا .
إن مثل هذه تحتاج إلى خبراء مختصين ولا بأس من الاستفادة من تجارب الآخرين .
أذكر أنه في عام 2005 استضافت ليبيا " مهاتير محمد " رئيس الوزراء الماليزي السابق الرجل الذي كــان سببا ً في النهضة التي تشهدها ماليزيا ، ومنحته جائزة الفاتح التقديرية لحقوق الإنسان " إكبارا ً لمواقفه الثابتة في نصرة الحرية والتقدم والازدهار العلمي والثقافي والاقتصادي وتقديرا ً لجهوده الرائعة التي بذلها ونذر لها حياته من أجل تحقيق كرامة الإنسان
الماليزي " - كما جاء في نص قرار اللجنة المشرفة على تلك الجائزة - فإذا كان كذلك ، لماذا لم نستفد من هذا الرجل وخبراته في مجال الاقتصاد والتنمية ؟
إننا في أمس الحاجة إلى مناقشة مشاكلنا والاعتراف بالأخطاء ومواجهتها ومن ثم محاولة تصحيحها وعدم الاسترسال فيها وتفعيل ثقافة النقد ولغة الحوار وقبول الآخر ، فإذا تحقق ذلك فإننا نكون قد قطعنا أول خطوة في الاتجاه الصحيح .
لا أنكر أن هناك نية وتوجه نحو البناء والإصلاح تشهدها بلادنا ، غير أن هذا التوجه بقدر ما هو ملاحظ وملموس غير أن آليات تنفيذه تسير بخطى بطيئة نوعا ً . فعلى سبيل المثال منذ ثلاث سنوات تقريبا ً تم البدء في تنفيذ مشروع تطوير منطقة الحي الجامعي أو "الهضبة الشرقية" والتي تقع بالقرب من جامعة الفاتح ، حيث تم هدم جهة معينة من المنطقة ، وكانت عملية الهدم تتم بشكل عشوائي غير مدروس وغير مخطط له مسبقا ً بحيث كان يتم تعويض أصحاب المنازل تمهيدا ً لهدمها ، وهو أمر أربك وأخر عملية الهدم إذ دخلت الدولة في إشكالية قلة قيمة التعويض مع المواطنين مما أدى إلى توقف الهدم أكثر من مرة إلى أن توقف نهائيا ً منذ أكثر من سنة .
ولا يمكن تصور المعاناة التي يعانيها أهل المنطقة صيفا ً وشتاءً من جراء ذلك . فقد انتشرت الحشرات والقوارض – خاصة في الصيف – بسبب تكدس القمامة وتأخر عملية إزالتها أغلب الأحيان ، وشتاءً تغرق المنطقة في بحر من الطين والوحل ، إضافة إلى الكلاب الشاردة التي اجتاحت المنطقة والتي تقدم من جامعة الفاتح المتاخمة للمنطقة ، ولا أتصور أن هناك جامعة في العالم تسرح فيها الكلاب الشاردة إلا عندنا للأسف ، ربما لأننا لا نملك التقنية المتطورة للتخلص منها .
علاوة على ذلك ، فإن معظم أصحاب المنازل الذين تم تعويضهم وغادروا المنطقة ، اتجهوا مجبرين – بسبب قيمة التعويض – إلى مناطق أغلبها غير مؤهلة للسكن وغير مجهزة بالمرافق اللازمة من حيث الصرف الصحي والكهرباء وما إلى ذلك ، مما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة وأغلب المواطنين ابتاعوا قطع أراضي خارج المخطط وهو يبتهلون إلى الله العلي القدير ألا يأتيهم " الكاشيك الأصفر" فيحيل بيوتهم وأحلامهم أنقاضا ً .
إن فشل هكذا مشاريع من شأنه أن يعرقل مسيرة تقدمنا نحو الأمام ، إذ أن التقدم مرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بعملية بناءه التي يجب أن تكون مرتكزة على أسس علمية صحيحة . وأول أبجديات التقدم لدى الدول المتحضرة هي بناء مدن عصرية ذات بنية تحتية مواكبة لأحدث التطورات في مجالات الهندسة المعمارية والطرق والخدمات والمرافق بل إن تلك الدول قد تجاوزت هذه المرحلة منذ عقود ولا تزال تسعى نحو الأفضل ، ولا يعني ذلك أن ننسب إليهم الكمال فالمدينة الفاضلة لا وجود لها ، لكننا على الأقل نحلم بمحاولة معالجة الأخطاء والحد من تفاقهما والاستفادة من تجارب الغير .
ولعل من أهم مقومات بناء المستقبل هي بناء المواطن أولا ً، وهو أمر أصعب بكثير من بناء ناطحات السحاب الشاهقة لأن المواطن يـُعد اللبنة الأساسية الأولى في منظومة البناء ويتمثل ذلك في الارتقاء بفكره ووعيه وثقافته وتطوير مهاراته وإحساسه بأهميته وبأن له دور مهم داخل المجتمع ، كل ذلك من شأنه أن يعزز الثقة بينه وبين الدولة وإذا وجدت الثقة ارتفع مستوى الإحساس بالمواطنة لديه وبالمقابل قلَّ إحساسه بالظلم والغبن وبالتالي سيقل انحرافه ويزداد عطاؤه وإخلاصه وولاؤه وهذا هو المطلوب ، وهي المعادلة التي ينبغي على المسؤولين إدراك أبعادها ونتائجها ومحاولة تحقيقها بالقدر المستطاع .
بقلم : المتفــــائـــل
/ صحيفة الوطن الليبيه