العولمة، تصورات ومواقف 16
مرسل: الأربعاء مايو 11, 2011 2:21 am
في بدية التسعينات من القرن الماضي، عندما كان الترويج للعولمة في بدايته، كتبت سلسلة مقالات في إحدى الجرائد (نشرتُها فيما بعد بعنوان "العولمة: نظام وإيديولوجيا" ضمن كتابي : "قضايا في الفكر المعاصر". وفي سنة 1996 طلب مني البنك الدولي المساهمة بورقة بعنوان "العولمة" في الساحة الفكرية العربية الراهنة" في ندوة عقدها البنك بباريس. وقد منعتني ظروف صحية من المشاركة الفعلية في الندوة فتولى قراءتها في الندوة أحد موظفي البنك، نيابة عني، وكان قد زارني في بيتي لمناقشة الموضوع، لأن الورقة قد أحدث صدى لم يكن متوقعا لدى خبراء البنك، حتى إن أحد المسئولين فيه كلمني بالهاتف وهنأني على الورقة وقال، مازحا، لقد "أطاحت ورقتك بما نحن آخذين في بنائه"! كان ذلك في عام 1966. واليوم إذ أعيد نشر هذه الورقة (لمناسبتها للمقال المنشور هنا في الأسبوع السابق) أجد أن جل الانتقادات والتوقعات التي أبديتها –سابحا ضد التيار الجارف آنذاك- تجد الآن على الصعيد العالمي، في الفكر كما في الواقع، ما يصدقها، وفي مقدمة ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية السائدة التي جاءت مصداقا لجوانب كثيرة من التوقعات التي أدليت بها في ذلك الوقت. وفيما يلي نص الورقة أنشرها هنا في حلقات أربع تحت عناوين فقراتها كما هي في الأصل.
من القضايا التي تشغل الرأي العام العربي في الظرف الراهن ((14 أكتوبر 1996)، مثقفين ورجال أعمال ومسئولين وغيرهم، قضية ما يسمى اليوم بـ"العولمة". ومع أن هذا المفهوم مازال غير واضح، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية التطبيقية، فإنه يمكن مع ذلك رصد جملة من الانطباعات والمواقف إزاءه في الساحة الفكرية العربية الراهنة. ومن المفيد في هذا الصدد الانتباه إلى اختلاف العوامل المحركة لردود الفعل إزاء هذه القضية في العالم العربي.
فالتيارات الإسلامية، المعتدلة منها والمتطرفة، سواء في مشرق الوطن العربي أو مغربه، تعتبر "العولمة" نظاما يقف حائلا دون قيام "النظام الإسلامي" الذي تطمح إلى تحقيقه، إن لم يكن "مؤامرة" ضده. وهذا مفهوم! أما التيار القومي واليساري في المشرق العربي، على اختلاف وجهاتهما ودرجة حضورهما وتأثيرهما، فهما ينظران إلى"العولمة" من زاوية تعارضها مع الطموحات القومية العربية ويرون فيها وفيما يدعى بـ"الشرق أوسطية" تعويما لـ"الوطن العربي" وإدماجا لإسرائيل، بوضعها الراهن كدولة توسعية لم تتخل بعد عن حلم "إسرائيل الكبرى"، إدماجها كعضو مهيمن في المنطقة العربية. أما في المغرب العربي فإن اهتمام الفئات "العصرية"، من مثقفين ورجال أعمال ومسئولين، منصرف بالدرجة الأولى إلى مسألة "الشراكة" مع الاتحاد الأوروبي وبالتالي فهم واقعون، بصورة أو بأخرى، تحت تأثير الأدبيات الفرنسية المعارضة لـ"العولمة" أو المتخوفة مما تنطوي عليه من هيمنة أمريكية.
وهكذا يمكن القول، على العموم، إنه يصعب جدا العثور في الوقت الراهن، على وجهات نظر في الساحة العربية، ترحب بـ"العولمة" أو تدافع عنها أو تبرز مزاياها. ومن هنا يجد الباحث نفسه مضطرا إلى الاقتصار على عرض العناصر الرئيسية التي تركز عليها الاتجاهات التي تعارض أو تشكك في أهداف "العولمة"، وتبرز ما تنطوي عليه من أخطار على القضايا العربية القومية منها والإنمائية.
***
بداية، يمكن للمرء أن يلاحظ أن مصطلح "العولمة" ظهر، أول ما ظهر، في مجال المال والتجارة والاقتصاد. غير أنه سرعان ما خرج عن هذا النطاق الضيق. فالعولمة الآن يجري الحديث عنها بوصفها نظاما أو نسقا ذا أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. العولمة الآن نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال الخ، كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا. وعندما يخرج مصطلح ما من مجال الاختصاص الضيق، الذي ظهر فيه أول مرة، فإنه يصبح ملكا للجميع، وموضوعا لحديث الجميع. والأدبيات الرائجة في العالم العربي، بل وفي كثير من الأقطار الأوروبية وبلدان العام الثالث، حول هذا الموضوع تتناوله، في الأعم الأغلب، من هذه الزاوية، زاوية العموم والشيوع. وعلى ما تيسر لنا الإطلاع عليه من هذه الأدبيات نعتمد هنا في هذا القول الذي نرمي من ورائه إلى إعطاء فكرة عن التصور السائد في العالم العربي، مغربا ومشرقا، حول هذا الموضوع الذي يشغل اليوم اهتمام الجميع).
لعل أكثر التصورات شيوعا عن مفهوم "العولمة" Globalisation, Mondialisation, أنها تعني جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود هنا هو أساسا الدولة القومية التي تتميز بحدود جغرافية وبمراقبة صارمة على مستوى الجمارك: تنقل البضائع والسلع، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل خارجي، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللامحدود فالمقصود به "العالم"، أي الكرة الأرضية. فالعولمة في هذا التصور تتضمن، إذن، معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال، عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها؛ ومن هنا يطرح مصير الدولة القومية، الدولة/الأمة، في زمن تسوده العولمة بهذا المعنى، ولعل ذلك هو أول سؤال يطرح في العالم العربي بخصوص هذا الموضوع.
وبما أن هذا المفهوم ظهر، أول ما ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية -وهو يفيد في معناه اللغوي تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل- فقد بات من السهل النظر إلى "الدعوة إلى العولمة"، بهذا المعنى، من زاوية أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله. وبعبارة أخرى، فبما أن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت فعلا في الولايات المتحدة الأمريكية بهذا المعنى، في أوساط المال والاقتصاد، فإنه من السهل استنتاج أن الأمر يتعلق ليس فقط بآلية من آليات التطور الرأسمالي الحديث بل أيضا بالدعوة إلى تبني نموذج معين، وبالتالي فالعولمة، إلى جانب كونها نظاما اقتصاديا، هي أيضا إيديولوجيا تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه. وهناك من الكتاب من يقرن بينها وبين "الأمركة" أي نشر وتعميم الطابع الأمريكي.
وبالنظر لما تقدم تبرز أمثلة ومقارنات تفرض نفسها: لقد كان ينظر إلى الاستعمار الذي اكتسح العالم في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أنه أعلى مراحل الرأسمالية "التقليدية" التي أفرزتها الثورة الصناعية في أوربا، فهل تعني "العولمة" اليوم ما كان يعنيه الاستعمار بالأمس: هل يصح وصفها بأنها أعلى مراحل الرأسمالية "الجديدة" التي أفرزتها الثورة المعلوماتية وما يرافقها من تطور في مجال الاتصال والإعلام؟ وبعبارة أخرى: هل العولمة هي "ما بعد الاستعمار" باعتبار أن الـ"مابعد" في مثل هذا التعبير لا يعني القطيعة مع الـ"ماقبل"، بل يعني الاستمرار فيه بصورة جديدة، مثلما نقول "مابعد الحداثة" دون أن يعني ذلك التخلي أو القطيعة مع الحداثة أو مكوناتها؟
وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان من بين أبعاد العولمة هذا الطابع الذي يقوم على التوسع والهيمنة، فماذا عسى أن تكون آثارها على البلدان التي لم تتخلص بعد من بقايا الاستعمار القديم ورواسبه، البلدان التي تطمح إلى بناء دولتها الوطنية واستكمال التحرر وتحقيق التنمية، كما هو الشأن في عالمنا العربي؟
تلك هي الأسئلة الرئيسية والأساسية التي تفرض نفسها في إطار هذا النوع من التصور لما يدعى اليوم بـ"العولمة"، فلنعمق النظر فيها قليلا.
من القضايا التي تشغل الرأي العام العربي في الظرف الراهن ((14 أكتوبر 1996)، مثقفين ورجال أعمال ومسئولين وغيرهم، قضية ما يسمى اليوم بـ"العولمة". ومع أن هذا المفهوم مازال غير واضح، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية التطبيقية، فإنه يمكن مع ذلك رصد جملة من الانطباعات والمواقف إزاءه في الساحة الفكرية العربية الراهنة. ومن المفيد في هذا الصدد الانتباه إلى اختلاف العوامل المحركة لردود الفعل إزاء هذه القضية في العالم العربي.
فالتيارات الإسلامية، المعتدلة منها والمتطرفة، سواء في مشرق الوطن العربي أو مغربه، تعتبر "العولمة" نظاما يقف حائلا دون قيام "النظام الإسلامي" الذي تطمح إلى تحقيقه، إن لم يكن "مؤامرة" ضده. وهذا مفهوم! أما التيار القومي واليساري في المشرق العربي، على اختلاف وجهاتهما ودرجة حضورهما وتأثيرهما، فهما ينظران إلى"العولمة" من زاوية تعارضها مع الطموحات القومية العربية ويرون فيها وفيما يدعى بـ"الشرق أوسطية" تعويما لـ"الوطن العربي" وإدماجا لإسرائيل، بوضعها الراهن كدولة توسعية لم تتخل بعد عن حلم "إسرائيل الكبرى"، إدماجها كعضو مهيمن في المنطقة العربية. أما في المغرب العربي فإن اهتمام الفئات "العصرية"، من مثقفين ورجال أعمال ومسئولين، منصرف بالدرجة الأولى إلى مسألة "الشراكة" مع الاتحاد الأوروبي وبالتالي فهم واقعون، بصورة أو بأخرى، تحت تأثير الأدبيات الفرنسية المعارضة لـ"العولمة" أو المتخوفة مما تنطوي عليه من هيمنة أمريكية.
وهكذا يمكن القول، على العموم، إنه يصعب جدا العثور في الوقت الراهن، على وجهات نظر في الساحة العربية، ترحب بـ"العولمة" أو تدافع عنها أو تبرز مزاياها. ومن هنا يجد الباحث نفسه مضطرا إلى الاقتصار على عرض العناصر الرئيسية التي تركز عليها الاتجاهات التي تعارض أو تشكك في أهداف "العولمة"، وتبرز ما تنطوي عليه من أخطار على القضايا العربية القومية منها والإنمائية.
***
بداية، يمكن للمرء أن يلاحظ أن مصطلح "العولمة" ظهر، أول ما ظهر، في مجال المال والتجارة والاقتصاد. غير أنه سرعان ما خرج عن هذا النطاق الضيق. فالعولمة الآن يجري الحديث عنها بوصفها نظاما أو نسقا ذا أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. العولمة الآن نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال الخ، كما يشمل أيضا مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا. وعندما يخرج مصطلح ما من مجال الاختصاص الضيق، الذي ظهر فيه أول مرة، فإنه يصبح ملكا للجميع، وموضوعا لحديث الجميع. والأدبيات الرائجة في العالم العربي، بل وفي كثير من الأقطار الأوروبية وبلدان العام الثالث، حول هذا الموضوع تتناوله، في الأعم الأغلب، من هذه الزاوية، زاوية العموم والشيوع. وعلى ما تيسر لنا الإطلاع عليه من هذه الأدبيات نعتمد هنا في هذا القول الذي نرمي من ورائه إلى إعطاء فكرة عن التصور السائد في العالم العربي، مغربا ومشرقا، حول هذا الموضوع الذي يشغل اليوم اهتمام الجميع).
لعل أكثر التصورات شيوعا عن مفهوم "العولمة" Globalisation, Mondialisation, أنها تعني جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود هنا هو أساسا الدولة القومية التي تتميز بحدود جغرافية وبمراقبة صارمة على مستوى الجمارك: تنقل البضائع والسلع، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل خارجي، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللامحدود فالمقصود به "العالم"، أي الكرة الأرضية. فالعولمة في هذا التصور تتضمن، إذن، معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال، عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها؛ ومن هنا يطرح مصير الدولة القومية، الدولة/الأمة، في زمن تسوده العولمة بهذا المعنى، ولعل ذلك هو أول سؤال يطرح في العالم العربي بخصوص هذا الموضوع.
وبما أن هذا المفهوم ظهر، أول ما ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية -وهو يفيد في معناه اللغوي تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل- فقد بات من السهل النظر إلى "الدعوة إلى العولمة"، بهذا المعنى، من زاوية أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله. وبعبارة أخرى، فبما أن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت فعلا في الولايات المتحدة الأمريكية بهذا المعنى، في أوساط المال والاقتصاد، فإنه من السهل استنتاج أن الأمر يتعلق ليس فقط بآلية من آليات التطور الرأسمالي الحديث بل أيضا بالدعوة إلى تبني نموذج معين، وبالتالي فالعولمة، إلى جانب كونها نظاما اقتصاديا، هي أيضا إيديولوجيا تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه. وهناك من الكتاب من يقرن بينها وبين "الأمركة" أي نشر وتعميم الطابع الأمريكي.
وبالنظر لما تقدم تبرز أمثلة ومقارنات تفرض نفسها: لقد كان ينظر إلى الاستعمار الذي اكتسح العالم في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أنه أعلى مراحل الرأسمالية "التقليدية" التي أفرزتها الثورة الصناعية في أوربا، فهل تعني "العولمة" اليوم ما كان يعنيه الاستعمار بالأمس: هل يصح وصفها بأنها أعلى مراحل الرأسمالية "الجديدة" التي أفرزتها الثورة المعلوماتية وما يرافقها من تطور في مجال الاتصال والإعلام؟ وبعبارة أخرى: هل العولمة هي "ما بعد الاستعمار" باعتبار أن الـ"مابعد" في مثل هذا التعبير لا يعني القطيعة مع الـ"ماقبل"، بل يعني الاستمرار فيه بصورة جديدة، مثلما نقول "مابعد الحداثة" دون أن يعني ذلك التخلي أو القطيعة مع الحداثة أو مكوناتها؟
وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان من بين أبعاد العولمة هذا الطابع الذي يقوم على التوسع والهيمنة، فماذا عسى أن تكون آثارها على البلدان التي لم تتخلص بعد من بقايا الاستعمار القديم ورواسبه، البلدان التي تطمح إلى بناء دولتها الوطنية واستكمال التحرر وتحقيق التنمية، كما هو الشأن في عالمنا العربي؟
تلك هي الأسئلة الرئيسية والأساسية التي تفرض نفسها في إطار هذا النوع من التصور لما يدعى اليوم بـ"العولمة"، فلنعمق النظر فيها قليلا.