تراث بن لادن في زمن الثورات
محمد بن المختار الشنقيطي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
يبدو أن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن رحل عن هذه الدنيا كما تمنى تماما، فقد قُتل على أيدي أعدائه وهو يحمل سلاحه مقاتلا، مقبلا غير مدبر، وسلم من الأسر والمحاكمات والتشهير الإعلامي، وغير ذلك من المهانات التي تعرض لها الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
وربما الأهم من كل ذلك أن أسامة رحل في الوقت المناسب لرحيله تماما، فقد قتَلت الثورات العربية تنظيمَ القاعدة، وسلبته بريقَه وجاذبيته لدى الشباب العربي، بعدما وفرت بنهجها السلمي ونضالها المدني بديلا أنجع من الناحية العملية، وأقل إشكالا من الناحية الأخلاقية.
وقبل الخوض في مدلول مقتل بن لادن في فجر الثورات العربية، نشير إلى أنه لا يمكن الثقة في تفاصيل قصة مقتله كما وردت في المصادر الرسمية الأميركية. وإذا كنا لا نشكك في عملية القتل ذاتها، فإن بعض التفاصيل المصاحبة مثيرة للريبة حقا، وأهمها القول إن جسده دفن في البحر لعدم قبول أي دولة استقباله، وهو زيف واضح، لأن الدفن المزعوم كان في نفس اليوم الذي قتل فيه, ولم يكن ثمة وقت لقبول جثمانه أو رفضه.
وكذلك الصورة المنشورة للقتيل، التي لم يظهر فيها سوى الوجه، صورة مزيفة، وهي مجرد إعادة إنتاج لصورة له معروفة منذ أكثر من عقد من الزمان، مع شيء من التحوير للنصف الأعلى من الوجه اقتضاه المقام. ومن الواضح أن الأميركيين بحاجة إلى إخراج القصة إخراجا بطوليا وإنسانيا في الوقت ذاته، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة.
ولذلك من المستحيل الجزم الآن ما إن كان بن لادن قد قتلته القوات الأميركية أو الباكستانية أو بعض المتعاونين معهما. ولعل جسده قد احترق أو تمزق بطريقة لا يخدم إظهارُه الوجهَ البطولي والإنساني الذي أريد إخراج القصة بها.
على أن هذه التفاصيل لا تهم، بقدر ما يهم مدلول مقتل بن لادن في هذا الظرف الذي يشهد مخاضا سياسيا هائلا عمَّ أرجاء العالم العربي. لقد استطاعت القاعدة –شأنها شأن الجماعات المسلحة عموما- أن توفر لأعضائها شيئا من الهوية وروح الفريق والحماية (فبعض هؤلاء ملاحقون أصلا في بلدانهم حتى وإن لم ينضموا إلى القاعدة)، كما نجحت القاعدة في استنزاف القوة الأميركية، وفي تلطيخ صورة الولايات المتحدة في العالم.
لكن ما أنجزته القاعدة للشعوب الإسلامية لا يكاد يذكر، مقارنة مع الخسارة الفادحة التي جرتها على الأمة، والحرائق التي أشعلتها في كل أرجاء الدنيا.
إن قتال الجبهات العريضة الذي انتهجته القاعدة، وعدم التزامها بقواعد أخلاقية واضحة في القتال، كما تقتضيه قيم الإسلام، وعدم انطلاقها من إستراتيجية حرب واضحة ذات بداية ونهاية... وضعها في مأزق، رغم حسن النيات، وعظيم التضحيات.
وعقَّد من ذلك ما يتسم الفكر السلفي الذي تحمله القاعدة من صياغة للخلافات الجزئية بين المسلمين صياغات اعتقادية، والإيمان بالصراع الوجودي مع غير المسلمين، والتعجل والانبتات في المسيرة، وتجاهل موازين القوى العسكرية والسياسية، إضافة إلى معارضة السلفيين للديمقراطية وهم ضحايا الاستبداد.
لكن أسوأ ما أصاب القاعدة في مقتل هو سوء التسديد. وقد ابتهج بذلك خبراء الإرهاب الأميركيون كثيرا، واعتبروا أن ما دعوه "أخطاء التسديد" (targeting mistakes) هي التي ستفقد القاعدة بريقها على الأمد البعيد.
كان لسان القاعدة يردد مع الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي:
لا عدل إلا إن تعادلت القوى**وتصادم الإرهاب بالإرهابِ
لكن الشباب العربي اليوم يعول على قوة عامة الشعب وإرادتها للحياة، لا على طليعة محدودة من الباحثين عن الموت في مظانه. فشعار الشباب اليوم هو بيت آخر للشابي يختلف تماما عن البيت السابق، وهو قوله:
إذا الشعب يوما أراد الحياة ** فلا بد أن يستجيب القدرْ
لقد أدركت الغالبية الساحقة من المسلمين أن وسائل القاعدة في مدافعة الأعداء تتسم بضعف الأساس الأخلاقي أحيانا، ونقص الحكمة السياسية غالبا. ولذلك لم تستطع القاعدة أن تتوغل في الضمير المسلم، ولا تحولت إلى حركة تحرير شعبية مثل حركات التحرر من الاستعمار الأوروبي منتصف القرن العشرين.
ثم أطلت الثورات العربية فجأة بروح جديدة، وأبدعت منهجا جديدا في التغيير، لا يؤمن بمصادمة الإرهاب بالإرهاب، بل بوضوح الرسالة السياسية وأخلاقيتها، وقوة التصميم ومضائه، والإيمان بالديمقراطية التي رأتها القاعدة كفرا بواحا.
وتتجسد هذه الروح الجديدة اليوم في الثورة اليمنية، حيث يخرج الملايين للمسيرات السلمية إلى الشوارع وبيوتهم ملأى بالسلاح، ويواجهون قوات القمع بصدور عارية، وهم من هم في التمرس بالقتال وحب النزال.
وهكذا سحبت الثورات العربية البساط السياسي والأخلاقي من تحت أقدام القاعدة، وسلبتها جاذبيتها لدى الشباب العربي. كما سحبت هذه الثورات البساط الإستراتيجي من تحت أقدام الأميركيين حينما هدت عروش بعض حلفائهم الأقربين، وهزت عروش الآخرين.
وقد ورد تقرير بمجلة فورين أفيرز (شوؤن خارجية) الأميركية منذ أسابيع يدل على قوة منطق الثورات العربية وأثره على التفكير السياسي الأميركي. فقد ذكرت المجلة أن هيلاري كلينتون كانت من أشد الرافضين لدعم أميركا للثوار الليبيين. لكنها حين زارت ميدان التحرير في القاهرة ورفض شباب الثورة المصريون لقاءها، رجعت إلى واشنطن وهي من أشد الداعين إلى دعم الثورة الليبية، وعللت هيلاري تغيير موقفها بأن الولايات المتحدة توشك أن تخسر المستقبل في المنطقة.
لقد فرضت الثورات العربية منطقا مختلفا على المنطقة، وعلى العلاقات العربية الأميركية، وفكت الاشتباك بين أميركا والقاعدة إلى حد بعيد، حينما جعلته غير ذي مضمون، في الأمد المنظور على الأقل.
فقد أعادت الثورات العربية ترتيب الأمور منطقيا، فجعلت مقاومة الاستبداد مقدمة على مقاومة الاستعمار، وجعلت حرية الإنسان سابقة على تحرير الأوطان. وهذا نقيض ما رتبت عليه القاعدة نضالها، وهو –بالطبع- نقيض ما كان يريده الأميركيون من إبقاء ما كان على ما كان عليه.
ولم تجد كل من القاعدة وأميركا بدا من الخضوع لمنطق الثورات العربية، فذاب الشباب المتعاطف مع القاعدة في خضم الثورات العربية، واضطرت أميركا إلى التخلي عن النظام المصري المنهار الذي كان حجر الزاوية في إستراتيجيتها التحكمية، وها هي اليوم تعد العدة للتخلي عن رجلها في جنوب الجزيرة العربية علي عبد الله صالح.
ويبدو أن الصراع بين أميركا والعالم الإسلامي سيتخذ طابع المدافعة السياسية مستقبلا أكثر من طابع الصدام العسكري. وذلك أن الثورات الحالية ستسفر عن حكومات تمثل شعوبها في التعاطي مع الأميركيين، ولا تمثل الأميركيين في التعامل مع شعوبها، كما كان الحال في ظل بن علي وحسني مبارك وأشباههما.
لقد وُلدت القاعدة ولادة غير طبيعية في ظروف غير طبيعية. وخرجت إلى الوجود من رحم المعاناة العربية والإسلامية في التسعينيات التي بدأت بالغزو الأميركي الأول للعراق، وما تلاه من عقوبات همجية قتلت عشرات الآلاف من العراقيين جوعا ومرضا، وهم قاعدون على أعظم ثروات العالم.
كما ولدت القاعدة من رحم الإفلاس السياسي للأنظمة العربية المعتدلة التي سلمت زمامها لواشنطن، ومثلها الأنظمة العربية الثورية التي امتهنت شعوبها وذبحت الحرية الشخصية والسياسية باسم التحرر من الإمبريالية والاستعمار.
وهكذا جاءت القاعدة ردة فعل فوضوية على بربرية الحضارة التي تسلطت على أمتنا، وفي ظروف انسداد أظلمت فيها كل دروب الأمل أمام شباب الأمة. أما اليوم وقد اكتشفت الشعوب وسيلتها الذهبية في التغيير في الثورات السلمية الديمقراطية، فإن القاعدة لم تعد أمل الشباب العربي في تغيير أوطانهم أو تغيير العالم.
سيبقى بن لادن معلما من معالم القرن الواحد والعشرين، فأحباؤه وأعداؤه يعترفون له بأنه كان رجل تضحية وفداء، خرج طوعا من حياة الباشاوات إلى حياة الجبال والنزال، كما سيبقى لدى غالبية المسلمين تحفظاتهم على منهجه في المواجهة الهوجاء، من حيث السداد الأخلاقي والحكمة السياسية.
لكن زمن بن لادن ولى قبل رحيله بشهور، حينما أحرق ذلك الشاب التونسي المتواضع نفسه في تلك البلدة التونسية الهادئة، فأشعل جسد العالم العربي كله ثورات من أجل الحرية. فلن يكون بن لادن مصدر إلهام مستقبليا للشباب العربي الذي عرف طريقه إلى الحرية اليوم عبر النضال السلمي.
ومن هنا يمكن القول إن بن لادن قد رحل عن هذه الدنيا في اللحظة المناسبة تماما، وذلك بعد أن اكتشف الشباب العربي ذاته بعيدا عن منهج القاعدة في المفاصلة المنازلة.