لا للفتن.. ولكن هل أبعدنا أسبابها؟
د. مهدي قاضي
بسم الله الرحمن الرحيم
* الحمد لله الذي نبهنا في كتابه المنزل فقال: [ واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة ], والصلاة والسلام على رسوله القائل: ((احفظ الله يحفظك)).
* وبعد ففي هذه الأيام يحدث ونسمع ونرى تنبيهات كثيرة تحذر من وقوع الفتن وتحذر من بعض الدول أو الفئات التي قد تعادينا ويَطالنا شر منها, وكل هذا مهم ولكن الأهم أن نبتعد عن الأسباب التي هي العامل الأكبر والأس الأساس في حصول الفتن وتَعَرًّض المجتمعات للكوارث والعقوبات. وما أقصده هنا ليس الأسباب الظاهرية المادية المباشرة التي أدت إلى حصول ما يجعل البعض يجده سببا أو ذريعةً لإحداث الفتن, وإنما ما أقصده هو الأسباب الشرعية الهامة من وراء كل هذه الأحداث والتي هي السبب الخلفي الحقيقي في جلب الشرور والنقم؛ ألا وهي ما يحدث من مجاهرة لله بمعاصٍ لا يرضاها والإصرار على ذنوب تغضبه سبحانه وتعالى.
والكلام هنا غير متعلق ببلد واحد بعينه بل يشمل كل بلاد المسلمين, ونسال الله أن يبعد عن كل أمتنا الفتن والاضظرابات وما يخل بالأمن وتكون عاقبته شراً على المسلمين.
ولنكن صادقين مع أنفسنا ولننظر نظرة فاحصة على كل أحوالنا أفراداً ومجتمعات, وهل هي سائرة على ما يرضي الله في كل الأمور, لننظر إلى الكثير من السياسات والقوانين. لننظر إلى العديد من تعاملاتنا وتصرفاتنا وأخلاقياتنا. لننظر إلى أسواقنا والعديد مما فيها وما يباع ويتاجر فيه, إلى بعض ما يباع في مكتباتنا, إلى العديد من المكاتب والمحلات المفتوحة وهل كل نشاطاتها يرضاها الشرع وربنا العظيم. لننظر إلى الظلم الموجود في مجتمعاتنا وأكل أموالٍ بغير حق. لننظر إلى كم من الغيبة نحدثها في مجالسنا, إلى تقصيرنا في أداء أعمالنا ومسؤولياتنا. لننظر إلى الربا الخطير المخيف الذي لا زالت العديد من البنوك تتساهل به وهو الأخطر من أن يزني الرجل بأمه.
وأخيرا وليس الأقل كما يقال لننظر إلى خطرٍ ومنكرٍ عظيم( لما فيه من المجاهرة الضخمة والانتشار والإصرار)؛ لننظر إلى واقع الإعلام في بلاد المسلمين مرئيا كان أو مسموعا أو مقروءا وهل هو سائر على ما يرضي الله في كل ما يعرضه أم أنه يجاهر الجليل الجبار الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته بالكثير وبالعديد من المحرمات التي لا يرضاها سبحانه خاصة في القنوات الفضائية العربية. والمنكرات في الإعلام عديدة بدءاً من ظهور المتبرجات مذيعات كن أو ممثلات, وانتهاءً بطامات لا يرضاها أحيانا حتى عقلاء الكافرين.
والأدهى والأمر أن القنوات المفسدة يُعلَن عنها وعن أفلامها ومسلسلاتها المختلطة الماجنة المحرمة في العديد من صحفنا وبإعلانات كبيرة عديدة ومستمرة. وسبحانك يا عظيم وما أحلمك يا كريم يا من يخافك كل الكون فنأتي نحن البشر الضعفاء فنجاهرك -وأنت ذو الجلال والعظمة- بما لا ترضاه.
لنتفحص واقعنا...هل انتهت صحفنا من نشر مثل هذه الدعايات.....هل انتهت صحفنا من الحديث عن الأغاني والأفلام والمسلسلات المحرمة وأبطالها!! وبطلاتها!!!...وكأن هذه الأمور أمور عادية لا منكرات تغضب الله رب العالمين.
وهل أوقفت هذه القنوات المفسدة ومنعت من أن تُبث أو تُنفَّذ وتُعد برامجها وأعمالها في بلاد المسلمين. وكم وكم من المنكرات والانحرافات وما لا يرضاه الشرع موجود في وسائل الإعلام.
* أيضا كم نقصر في واجب عظيم متعلق بكل المنكرات,..ألا وهو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله الذي من أهميته اعتبره بعض العلماء وكأنه الركن السادس في الإسلام. والذي تزداد أهميته وسط هذا الواقع وهذه الأخطار التي نعيشها. فيقصر الكثير منا في الإنكار ابتداءً, أو ينكر مرة ثم يخالط ويؤانس أصحاب المنكر المصرين عليه بدون أن يعاود نصيحتهم وتنبيههم.
* ولا ننكر وجود الخير في مجتمعاتنا ولكن الواقع أن منكرات عديدة لا زالت مستمرة وبمجاهرة وإصرار.|
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمَّهم الله منه بعقاب )), وقال عليه أفضل الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه : (( والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر ، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )).
وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ( إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة ، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلّهم ).
* ولنستيقن تمام اليقين أن الخطر الأكبر علينا ليس ممن يعادينا حتى وإن ملك ما ملك من القوة والعدة والعتاد, والخوف الأكبر ليس من الفتن بحد ذاتها,...فالخوف الأكبر والخطر الأعظم هو من المعاصي ومن يُجرِّؤنا عليها ويوقعنا في حبائلها. لأننا إذا كنا مع الله مطبقين حقا وملتزمين صدقا بكل ما أمر به فلا خوف علينا من كل القوى -مهما تعددت أشكالها وتعاظمت أخطارها- لأن العظيم القوي سيكون بفضله معنا وينصرنا ويحفظنا.
أما إذا نُزِعَ عنا وأُضعف فينا سلاحنا الأهم ألا وهو نصر الله وتقواه فسنصبح لقمة سائغة وفريسة سهلة لكل من يريد الأذى والشر بنا, فالحفظ والنصر الحقيقي الشامل التام وُعِدنَا به إذا نصرنا الله حقا؛ ((إن تنصروا الله ينصركم)) الآية.. سورة محمد.
وبنصر الله نُحْمَى من الفتن, لأننا نكون قد منعنا أسبابها وعالجناها من أساس المرض الذي تنشأ منه, فهي أساساً ليست إلا عرضاً للمرض الأساس الذي أصاب أمتنا, وإن حصلت بعد ذلك نادرا فهي بإذن الله ابتلاء وتمحيص وزيادة في الأجر والمثوبة.
ولقد وصل تمييع أوامر الدين إلى حد أن جُعِلَت الأمة تعيش وترى وتنفذ أمورا محرمة بدون أن تشعر بذلك. واستمراء ما لا يجوز علامة خطيرة تدل على عمق مأساة واقعنا وتخيف كل متأمل بحقٍ من عواقب ذلك. وأيضاً مؤلم جدا أن نرى شبابنا يُلْهَونَ ويُضَيَّعُون بشدة بأغان وأفلام ومجون بينما الأخطار محيطة بنا من كل جانب.
ولنتأمل هذه الكلمة ذات الدلائل الكثيرة على ما هو الأخطر علينا؛ وهي كلمة كان يقولها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقادته وجنوده عندما كان يرسلهم للجهاد وهم من هم من ذلك الجيل العظيم جيل الصحابة الأفذاذ رضوان الله عليهم أجمعين: ( أما بعد, فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال, فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب, وآمرك ومن معك بأن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم مـن عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم).
* فهل ننتبه يا أبناء الأمة في كل مكان وعلى كافة المستويات إلى هذا المسبب الأســاس لكل الفتن والعقوبات, وهل انتبهنا إلى الأخطار الأكبـر لنحذر منها ونَكُفَّ شرها, لنحفظ من كل الشرور وننصر ونُمَكَّن, والأهم نكون مرضين لله فرحين كل الفرح يوم لقاه والعرض عليه.