منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
#35466
قد يكون صدور الترجمة العربية لكتاب "السيطرة الغامضة" للكاتبة والأكاديمية الأميركية ليزا وادين في هذه الأوقات التي تمرُّ بها سوريا مجرد مصادفة. فهذا الكتاب، الصادر حديثاً عن دار رياض الريس للنشر يتناول حقبة الرئيس السوري حافظ الأسد من خلال قراءته للخطاب السياسي السوري الرسمي والرموز والاستعراضات التي عمدت إليها أجهزة السلطة الحاكمة لخلق ظاهرة "تقديس الحاكم"، القائد الذي سيظل على رأس شعبه إلى الأبد.

إن صدور كتاب ليزا وادين -الذي وضع في الأصل كأطروحة جامعية- متزامناً مع الانتفاضة الشعبية السورية مجرد مصادفة على الأغلب، ولكنها المصادفة التي يقال إنها خير من ألف ميعاد، فهو كتاب بحثي رصين قضت مؤلفته سنين عديدة في جمع مادته الأرشيفية ومحاورة سوريين وسوريات من مختلف التيارات السياسية والمذاهب الطائفية أثناء إقامتها في سوريا، وشخَّصت فيه ببراعة المكوّنات التي قام عليها نظام حافظ الأسد، واستمرت في العمل من دون تعديل جوهري في عهد ابنه.

نقرأ الكتاب -الذي نقله إلى العربية نجيب الغضبان- فنقع على تواصل مثير للدهشة لحكم الابن (بشار) كأنه امتداد لا شغور فيه، تقريباً، لحكم الأب (حافظ)، ومن دون تغير كبير في أحوال البلاد التي أُخضعت لحكم مزَجَ، بمكرٍ، مرةً، وقسوةٍ، مرةً أخرى، بين شعارات الأيديولوجيا القومية (البعث) والقبضة البوليسية الصارمة والاستئثار العائلي بمراكز القرار والتقديس المطرد لشخص الحاكم.

"
لم يعد "الرفيق المناضل" شبحاً في مقر "القيادة القطرية"، ولا مجرد عسكريٍّ ببزةٍ كتانيةٍ في وزارة الدفاع، إنه حاضر في حياة السوريين اليومية، صوره وتماثيله في كل مكان
"
شرعية الانقلاب
أخرج من كتاب ليزا وادين قليلاً كي أستعرض وصول مقاليد حكم سوريا إلى يد بشار الأسد. نتذكر أن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد كان أحد أركان انقلاب 23 فبراير/شباط عام 1966 الذي قاده صلاح جديد، رجل البعث القوي في تلك الفترة، ضد حكم بعثيّ، أيضاً، مثَّله زعيم الحزب ميشيل عفلق في "القيادة القومية" وأمين الحافظ في رئاسة الجمهورية.

لم يكن حافظ الأسد في الصدارة، تلك المنزلة احتلها صلاح جديد، وإن توارى وراء الرئاسة شبه الفخرية للدكتور نور الدين الأتاسي، وتشير الأدبيات التي أرَّخت لحزب البعث في سوريا إلى أن خلافات حادة اندلعت بين صلاح جديد وحافظ الأسد على خلفية تعميق المحتوى اليساري لحزب البعث الذي أخذ يقترب في ظل قيادة صلاح جديد، من مفاهيم الماركسية اللينينية، وهو توجّه ناهضه على ما تقول تلك الأدبيات، حافظ الأسد ذو الميول السياسية المحافظة والمتطلّع إلى انفتاح أكبر على العالم الغربي.

غير أن انفجار الموقف بين الرجلين لم يحدث إلا في عام 1970، عندما قاد الأسد انقلاباً على رفيقه صلاح جديد وأركان النظام القائم الذي شغل فيه الأسد حتى تلك اللحظة منصب وزير الدفاع وقائد القوات الجوية. اعتقل صلاح جديد وسائر أركان قيادته وأطلق حافظ الأسد على انقلابه اسم "الحركة التصحيحية"، أي الحركة التي ستصحح المسار "المنحرف" لحزب البعث بقيادة صلاح جديد.

ومن المعروف بالطبع أن صلاح جديد توفي في السجن بعد نحو ثلاثة وعشرين عاماً من الاعتقال، فيما أُطلِق سراح الرئيس نور الدين الأتاسي كي يموت خارج السجن.

كان انقلاب حافظ الأسد على رفيقه صلاح جديد آخر انقلاب عسكري تعرفه سوريا، حيث دخلت البلاد حالة من "الاستقرار" القائم على قبضة أمنية صارمة لم تعرفها سوريا من قبل، أخمدت كل صوت معارض للنظام وأمَّنت لحافظ الأسد فترة طويلة من الحكم استمرت نحو ثلاثين سنة، ومكَّنته بالتالي من توريث الحكم الجمهوري، في أول سابقة عربية من نوعها إلى ابنه.

كان حافظ الأسد كما هو معروف، يعد ابنه الأكبر باسل الذي تلقى تربية عسكرية لخلافته غير أن حادث سير على طريق مطار دمشق أودى بحياته فانتقلت عملية "التأهيل"، حثيثاً إلى الابن الثاني بشار الأسد، طبيب العيون الذي لم يكن قد بلغ السنَّ القانونية التي ينص عليها الدستور السوري لرئاسة الجمهورية عندما توفي والده عام 2000، فجرى تغيير تلك المادة الدستورية سريعاً كي تناسب عمر بشار الذي كان في الخامسة والثلاثين من العمر، بينما كانت المادة المعدَّلة من الدستور تنصُّ على أن يكون عمر رئيس الجمهورية أربعين عاماً.

الأخ الأكبر
أعود إلى كتاب "السيطرة الغامضة" لليزا وادين الذي أقتصر مقاربتي له من زاوية "صناعة الدكتاتور" أو " تقديس الزعيم"، يبدو حافظ الأسد، كما تقرأ وادين فترة حكمه، شبيها بالأخ الأكبر في رواية "1984" لجورج أرويل. إنه "حاضر في كل مكان وهو عالم بكل شيء"، هذا ما دأب الخطاب السياسي السوري الرسمي على تقديمه للسوريين.

"
بقاء سوريا في منتصف المسافة بين الحرب والسلم هو إستراتيجية مدروسة ورثها الابن من عهد أبيه وسار عليها، ونجحت في بقاء النظام كل هذا الوقت من دون "مغامرة" عسكرية أو سياسية تنال من بريق "مقاومته" و"ممانعته"
"
لم يكن الأمر كذلك في بداية حكمه ولكنَّ صورة "القائد الخالد" راحت تظهر شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت "أيقونة" الحياة السورية العامة، لم يعد هناك مكان ليس فيه صورة أو تمثال لحافظ الأسد، ففيما كان زعماء البعث السابقون يتوارون وراء شعارات الحزب، ليس لهم صور ضخمة في الشوارع وبالكاد يطلون مباشرة على "الجماهير"، عمد أركان حكم حافظ الأسد بتشجيع منه إلى تحويل "المجرد" (القائد) إلى ملموس.

صانع الصورة
إذا كانت صور حافظ الأسد قد بدأت في الظهور بُعيد حركته "التصحيحية" فإنها لم تبلغ حديَّ التعظيم والتقديس سوى في فترة لاحقة, وليست هناك بداية محددة لظهور محاولات التعظيم. تقول الكاتبة إن مصادرها في دمشق أخبرتها أن حافظ الأسد هو الذي شجَّع هذا الاتجاه في الوقت الذي رأى فيه وزير إعلامه جورج صدقني (1973 ـ 1974) أن وضع صور الرئيس على أغلفة الكتب المدرسية "يثير حساسيات دينية".

ويبدو أن الفضل في النقلة التي عرفتها حملة تعظيم الأسد وترقيتها إلى مستوى التقديس تنسب إلى وزير إعلامه الشهير أحمد إسكندر أحمد (كما يشير إلى ذلك باترك سيل في كتابه عن حافظ الأسد)، الذي أدار الإعلام السوري بدءاً من عام 1974 وحتى وفاته عام 1983.

توضح ليزا وادين أن أحمد إسكندر أراد من خلال العمل على تعظيم رئيسه وصولاً إلى حد القداسة أن يواجه توترات الحياة السورية العامة أثناء المواجهات العنيفة مع الإخوان المسلمين التي توّجت بمجزرة وقعت في حماة راح ضحيتها نحو عشرين ألف مواطن سوري عام 1982.

ما يبدو مهما في حملة تعظيم شخصية حافظ الأسد أنها استطاعت أن تحوّل الاهتمام من الحزب والسلطة إلى شخص الرئيس نفسه، فلا صورة تعلو على صورته، وحتى الشعارات والأفكار والمفاهيم التي سبقته، ولم يكن له فيها يد، بدت من صنعه ومن لدنه.

في ما مضى كان الحزب هو السلطة العليا في سوريا، الحزب هو قائد الدولة والمجتمع، فصار حافظ الأسد بُعيد سنوات قليلة من استيلائه على الحكم، هو الحزب وهو القائد وأصبح الحزب مجرد لافتة، أو ورقة توت تستر عري نظام فردي لا مرجع له سوى الرئيس القائد.