الأمر أنّ هؤلاء اللادينيين، يتعَمّدون خلطَ الأوراق وتلبيس المفاهيم وتعمية المُسمَيات. فالمدنية هي العلمانية اللادينية، والحرية هي الانفلات من القيم، والمواطنة هي غَمط الغالبية المسلمة المغيبة لحساب الأقلية المدعومة الظاهرة، وهكذا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلة من المصريين، هم من جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا، ممن أسبغوا على أنفسهم صفة "الثقافة"، وكأن من عداهم جَهلة أميون، لا يعلمون! يخرجون علينا بتوجّهات، تصْحبها آراءٍ وإملاءات، ثم دراسات وقرارات لا تعبر عن ثقافة الأمة ولا عاداتها ولا أعرافها، يفرضونها فرضاً على الحِوارات والتصوّرات في أجهزة الإعلام التي تدار بمن اختير لهذا الدور بعناية، لموالاة هذه التوجّهات بلا تحفظٍ.
والصراع الدائر الآن في مصر، سواء اعترفت به الدولة أو تجاهلته كالعادة، هو صراعٌ دائر بين غالب الشعب من المسلمين الحريصين على هويتهم من ناحية، وبين القبط ممثلين بكنيسة نظير جيد من ناحية، واللادنييين العلمانيين من المنتسبين للإسلام اسما، الخارجين عليه عقيدة، من ناحية أخرى.
(1) أما القبَط، فقد تناولنا موضوعهم مرات عدة، وتتلخّص خلفية صِراعهم مع الغالبية من مسلمي مصر في التطلعات السياسية لنظير جيد، رئيس الكنيسة، واستعانته بأقباط المهجر في محاولة استقلاله بقطعة من مصر، تشبها بما حدث في جنوب السودان. والكنيسة، في هذا السياق، تتحدى قوة الغالبية المسلمة، وتصِر على أن تشكل دولة داخل الدولة حتى بعد الثورة، إذ إن زعماء الفساد دينهم واحد، ونظير جيد لم يعتبر بما حدث لمبارك، راعيه الأكبر، حتى يسقط سقطة لا قيام له بعدها. ولعل من بيده الحكم اليوم ينتبه إلى أن معالجة هذه الفتنة لن يكون إلا بمعالجة مَصدرها وتجفيف منبعها، وأن إلصاق هذه الانتفاضات المسلمة للسلفيين أو البلطجية، هو لعبٌ بالنار، وأن لا يقامروا على غباء الشعب، فالشعب ليس بغبي ولا بساذج.
(2) أما القوى الأخرى، المُصارعة على الساحة المصرية، فهي أقلية أخرى تتمثل في العلمانيين اللادينيين والليبراليين. هذه التوجهات اللادينية تتلخص في مذهبين، العلمانية والليبرالية. وهما في آخر الأمر، قريبا الشبه إن لم يتطابقا. وكلا الإتجاهين، رغم كل الضوضاء التي يثيرونها، لا يمثل إلا ما لايزيد عن 5% من المسلمين اللادينيين – إن صحّ التعبير- إضافة إلى 7% من القبط. وهؤلاء المسلمين اللادينيين، يمثلهم، إلى جانب فلول النظام السابق الداعم للعلمانية، عدد من الأسماء المتداولة، رسمياً وإعلامياً، كيحيى الجمل ومحسن النعمانيّ وعمرو حمزاوى وبثينة كامل وعمرو هاشم ربيع وإبراهيم عيسى وعمرو واكد وخالد يوسف، وبعض شباب الثورة المغرّر بهم، كناصر عبد الحميد. وقد تجمع هؤلاء أخيراً في مؤتمر أطلقوا عليه "مؤتمر مصر الأول"، يناقشون كيفية فرضِ آرائهم على الغالبية الشعبية، إذ يعلم هؤلاء أن الأرضية الشعبية لا تدعم اللادينية، بل هو محض تعسف الأقلية التي تدعى الثقافة، وتستعلى على الشعب، وتعتبره جاهلاً لا يصلح لديموقراطية ولا لغيرها!
الأمر أنّ هؤلاء اللادينيين، يتعَمّدون خلطَ الأوراق وتلبيس المفاهيم وتعمية المُسمَيات. فالمدنية هي العلمانية اللادينية، والحرية هي الانفلات من القيم، والمواطنة هي غَمط الغالبية المسلمة المغيبة لحساب الأقلية المدعومة الظاهرة، وهكذا. هم إذن يحاولون ما أمكن أن يبتعدوا عن تجريح الإسلام مباشرة، لأنهم يعلمون مغبة ذلك، بل يتدسّسون تدسّس الثعلب المَاكر، لتجريد الإسلام من محتواه "وَمَكَرُوا
(3) وما نقصِد إليه هنا، إيضاح النقاط التي تحاول الدَعوة اللادينية تداولها تحت أسماء موهِمة، لكنها في حقيقتها مرفوضة جملة وتفصيلاً من قبل الشعب، إن أفصح هؤلاء عنها بأسمائها، وأتحدث عن الشعب لا الإخوان والسلفيون. لكم هؤلاء يعلمون أنهم سَيسقطون سُقوطاً مزرياً إن فُضِحَت هذه التوجّهات بأسمائها، ورُفِعَ عنها نقابُ النفاق.
ومفهوم الحرية، وهو ما تدور عليه رحى هؤلاء، وهو أولُ وأكبر مفهومٌٍ يروّج له العلمانيون اللادينيون، ومن ورائه تأتي أشكال هذه الحرية لتفصِح عن مُرادها. ولنر منها ما يوضّح صورتها ويكشف خبيئها.
فحرية التعبير مثلاً، تعنى في الإسلام حرية النقد للحاكم، وحرية تقديم البدائل في السِياسة والاقتصاد والاجتماع، في إطار الشَريعة الإسْلامية بلا مُمَاحكة في ذلك. كما نعنى حُرية الكتابة والفِكر، في أمور الحياة وأمور الكون، وفي مجالات العِلم والمَعرفة والأدب، دون المِساس بثوابت الشرع. وثوابت الشرع هنا تعنى المِساس بمرجعية الشريعة، أو بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وآله، أو تكذيب ما ثبت في الدين، أو الاستهزاء بها، ولو تحت "عنوان الفن والإبداع" الذي استُحدث لتسريب الفكر الإلحادي.
أما عن حرية التعبير في عرف الراديكالية اللادينية فهى تعنى الخروج على كلّ عادة أو عرفٍ أو دين أو قيمة اجتماعية من باب الإبداع أي "الخروج عن المألوف". ولئن سألتهم عما يرون في التعبير من خلال روايات تستهزئ بدين الله، أو برسوله صلى الله علية وسلم، أو بدينه وشرعه، سواء بالكتابة أو التصوير أو الحديث، ليقولن ما نرى عي هذا من غضاضة، إذ المرء حرّ في التعبير عما يجيش في صدره. لكنك لا ترى أي إضافة على أشكال حرية التعبير، المعتبرة في الإسلام، لدى هؤلاء في مجالات الحياة الجادة التي تحمل قيماً ترقى بالمجتمع وتساعد على رقيه وتقدمه. ولا ندرى كيف أن التعدي على الله ورسوله صلى الله علية وسلم يكون دافعاً للتقدم والرقي. ثم قل مثل ذلك فيما يسمونه "الفن"، فهو رخصٌ وعهرٌ مُسَطّح، ليس فيه إلا كلّ شرٍ وانحراف.
الخلاف هذا في هذا الباب يكمن في رغبة هؤلاء المتطرفين اللادينية في إيذاء مَشاعر أصحاب الدين والخلق، دون إضافة أية قيمة حضارية من خلال هذا الإيذاء.
ثم في مجال العلاقات الاجتماعية، تجد أن الإسلام قد نظم هذه العلاقات بما يحفظ الكَرامة قبل الغريزة، والعِفّة قبل الشهوة، وموازنة حق المجتمع مع حق الفرد. قل ذلك في حقوق المرأة، التي كرمها الإسلام بحفظها من أن تكون سلعة جسدية، متاعاً للناظرين، وحفظ لها حقها في مالها ونسبها بعد الزواج، وحقها في أن تُخدَم لمن قدر على توفير ذلك، وجعلها قوّامة على أهم مكونات المجتمع، ألا وهم الأبناء، وسمح لها، بل حَثها على العِلم بشروطه، كما أتاح لها، إن عَسَر بها القدرُ في زواجٍ أو طلاقٍ أو ترمّلٍ، أن تكون زوجة ثانية للقادر المريد، حرصاً عليها وعلى المجتمع من الخنا والرذيلة. ولست بصدد تعداد ما جاء به الإسلام في مجال حرية المرأة، لكنه قطرٌ من بحر. وقل ذلك في حقوق الجار والشريك والزميل، ومنع الغيبة والنميمة وحقٌ الوالدين، طوال الدهر لا في يوم الأم أو الأب وحده، وحق الزوج وحق الزوجة، وكافة أشكال التعاملات الاجتماعية بين الناس.
لكن تجد أن دعوة هؤلاء في مجال العلاقات الاجتماعية تدور حول نفسِ الرحى، فما اضافته لذلك هو في الدعوة إلى التحَلل من قيودِ الخُلق والدين بدعوى الحُرية، فتعطى المَرأة حق التعرى، متعدية على حق المجتمع، وناشرة للرزيلة، بل يصل الأمر ببعض مُلحدات المجتمع أن تدعو إلى السَماح بالشذوذ والدعارة بتصريح الدولة! وتعطى الناس حقّ تعاطى المُسْكر، والزنا قبل الزواج بدعوى التحقق من مناسبة العريس!! وحق اتخاذ الأخدان تعدياً على حقّ الأسرة والمرأة. ثم إغلاق ما أتاح الله للمرأة من أبواب الفرج كالتعدد، الذي يظلم أو ما يظلم شريحة كبيرة من نساء المجتمع لحساب طائفة منهن، والتلاعب بسن الحضانة لإفساد دور الآباء في تربية الأبناء، ومن ثم تحليل قاعدة المجتمع الأسريّ كما هو حال الغرب .
هكذا، تجد أن ما أضافه هؤلاء لا يتعدى الإفساد ونشر الرزيلة من جنسٍ وخمرٍ وشذوذٍ، مما لا ينتج إلا مجتمعاً من مرضى النفوس وفاسدى الخلق، إذاً أين القيمة الحضارية فيما أضافوا أو حذفوا؟
أولئك العلمانيون الليبراليون اللادينيون إذن، ليس لهم عُمقٌ حَضارىّ ولا أصالة فكريةٌ أو أخلاقية بأي درجة من الدرجات، في أي جانبٍ من جوانب الحياة والفكر. بل هو الجِنس والعُهر ونَشر الرزيلة، تحت مُسمى التقدم والحرية، التي هي منهم ومنهن، براء.
إن هذه التجمّعاتِ المَحمومة، التي تنادى بالحرية الفردية المطلقة، التي لا يحدها حدّ، ويدعون صَراحة لإلغاء الرجوع إلى الشريعة كمصدرٍ رئيسيّ في الدستور، لا المَصدرَ الوحيد كما يجب لها، إنما هم أعداء الأسرة، والآباء، والأبناء، والمجتمع. أولئك هم ناشرو الرذيلة ومروجو الفاحشة، ومحاربو القيم والخلق، لا أكثر ولا أقل.
إن الوقوف في وجه أولئك الداعين إلى هَذه الرذائل المُغَلفَة والفَسَاد المُعَلّبِ هو واجبُ كلّ مُسلم، بل كلّ مُحبٍّ لوطنه وأهله، أن يمنع عنهم الشرّ القادم في ثنايا هذه الدعوات المُخرّبة. وصدق الله "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ "
وإنّا، إن شاء الله تعالى، لهم لَبالمرصاد
د/ طارق عبد الحليم