منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#4810
خارج الحدود: الدولة الريعية ومستقبل التنمية والديموقراطية في بلدان العالم العربي



هناك فرضيات ترقى إلى مرتبة المسلمات وهي أن الديموقراطية لا يمكن أن تنشأ وتعيش وتتطور إلا في محيط ليبرالي على المستويين السياسي والاقتصادي، كما أنها لا يمكن أن تنشأ إلا في محيط مجتمع حر منتج تعتاش الدولة من فائض إنتاجه، لا أن تنفق عليه، كما أن الاقتصاد الحر، الذي يمثل شرطا أساسيا لتطور الديموقراطية لابد وأن يكون متحررا من هيمنة مجال الدولة بدرجة كافية، بحيث تعمل آليات وقوانين إقتصاد السوق فيه بأقل قدر من تدخلات الدولة.








حتى نتجنب أي خلط بين المفاهيم في دلالتها المضمونية، فان مفهوم الريع لا علاقة له البتة بمفهوم ريع الأرض أو ريع أشكال الملكية العقارية الاخرى. والريع الذي نعنيه هنا هو الدخل المالي الذي لا يرتبط بصلة بالعمل أو الاستثمار في السوق وإنما ينشأ عن التلاعب بالبيئة الاقتصادية والسياسية المحيطة بمصادر الدخل.

تعتاش الدولة الريعية على دخل غير مكتسب بالعمل أوكما عبر (مور، 2001) تلك التي تتمول ماليا بأقل جهد سياسي وتنظيمي، وبالتحديد بأقل ما يمكن من الجهد في علاقتها مع مواطنيها. إن جميع أشكال الدولة، سواء كانت دولة مالية أو دولة ضريبية أو دولة مالكة لوسائل الانتاج، فهي جميعها تعتمد إلى حد كبير على دخل مكتسب بالعمل. وإذا ما نحينا جانبا أسبانيا القرن السادس عشر وروسيا المعاصرة فان تأريخ الدولة في أوروبا لم يعرف الدولة الريعية. فالمداخيل الريعية لم تكن يوما ذات شأن يذكر في تشكيل الدولة الأوروبية الحديثة، وهوعلى عكس ما حدث ويحدث مع بلدان العالم العربي الحديثة التأريخ. ومرجع ذلك أن هذه الدول ما هي إلا نتاج عرضي لتفاعل مجموعتين اساسيتين من العمليات التاريخية:

1) نشأة نظام عالمي ثنائي القطبية، عالم غني وآخر فقير، عالم صناعي وآخر زراعي أو خدمي، عالم منتج وآخر غير منتج، عالم متقدم وآخر متخلف.

2) انحسار الجغرافيا السياسية والاقتصادية، ثم الجغرافيا الثقافية بفعل عامل العولمة المتنامي على الدوام.إن تفاعل هذين العاملين ولد بيئة ملائمة ومطلوبة لاعادة إنتاج منظومة من الدول على أطراف النظام الرأسمالي تختلف كليا عن تلك الدولة السائدة في المركز. هذا التفاعل والتداخل بين المنظومتين وسع - من جانب - حيز التدخلات الخارجية للبلدان الغنية في الأطراف التي غدت بدورها مجالا حيويا للمصالح القومية لبلدان المركز. ومن جانب آخر، ولد الفرص الاستثنائية للمجوعات المحلية في الاطراف لكسب فائض إقتصادي كبير (على شكل ريع) وذلك من خلال السيطرة والرقابة على العلاقات السياسية والاقتصادية مع المركز. يكون هذا الريع - في الغالب -على شكلين: الأول هو ريع ناتج عن الموارد الطبيعية. فالفائدة هنا من هذه الموارد الطبيعية في كونها مهمة وحيوية اقتصاديا وسياسيا لبلدان المركز، وهو مايدعو الاخيرة هذه لاستغلالها بشتى الطرق والوسائل. وفي الواقع فان مصادر الموارد الطبيعة المتواجدة في الأطراف متنوعة من معادن، كالذهب والماس وخلافه، الغابات والمحاصيل الاستوائية، إلى النفط، وهو المصدر المولد للريع الاكثر أهمية وشيوعا اليوم. الثاني هو الريع الاستراتيجي: وهو الريع الذي تتحصل عليها الدولة الطرفية من أحد أو مجموعة دولة المركز لكونها تتمتع بموقع إستراتيجي بالنسبة لمصالح دول المركز. وتأريخيا يرتبط مفهوم الريع الاستراتيجي بتلك الدول التي تمتاز بوجود موانئ بحرية أو قنوات مائية حيوية جيوسياسيا أو تجاريا (المضائق المائية العربية وقناة بنما أو قناة السويس على سبيل المثال)، أو لكونها تمثل حليفا عسكريا وسياسيا مع أحد أو مجموع دول المركز في صراعات المصالح (كالاردن وقطر)، أو لكون الحفاظ عليها أمراً حيويا لانها على جوار مع دول طرفية أخرى تمثل مجالا حيويا للمصالح القومية لبلدان المركز (كاليمن). وبالتعبير النقدي، فان أهم اشكال الريع الاسترتيجي هو ذلك الذي يأخذ طابع المساعدات والمعونات والقروض الميسرة، ولكنه قد يأخذ أشكالا عينية من الدعم والمعونات، كالدعم التقني والعسكري والمعونات الغذائية والعينية الأخرى لتلك الدولة، وتارة يأخذ شكل الدعم اللوجستي والمعلوماتي والمعنوي الذي من دونه يكون النظام السياسي عاجزاً عن البقاء والاستمرار والمواجهة أوجميعها معا. أن مساعدات ومعونات التنمية من دول المركز أو المؤسسات الدولية الواقعة تحت إشرافها التي تنامت بشكل كبير في العقود الأخيرة، والتي تتم في المقام الاول والأخير بدوافع جيوسياسية تمثل مصدرا مهما لموازنات كثير من الدول الطرفية، وبخاصة الدول الفقيرة، التي تصل في بعضها إلى نصف موازنة الدولة، وفي المحصلة تطيل أمد الدولة الريعية وتخل بالتوازن السياسي بين الدولة والمجتمع المدني. وعلى الرغم من الحجم الضخم للمساعدات والقروض الدولية من الدول الصناعية إلى الدول الفقيرة التي تصل إلى ما يقارب نحو 100 مليار دولار سنويا فان الهدف المعلن منها لم يسعف أكثر الدول فقرا ومتلقيا للمساعدات كجمهورية الكنغو وهايتي وسيراليون وغينيا على سبيل المثال من الوصول إلى حالة الإفلاس، لان الهدف الحقيقي وآلية هذه المساعدات لم يكن بغرض أنتشال شعوب هذه البلدان من أوحال الفقر والظلم والإضطراب السياسي والاجتماعي. لم تكن يوما ما هذه المساعدات بريئة ولا مخلصة وواجب العطاء والمساعدة المزعوم يخفي معه دوما هدف الأخذ والهيمنة. أن معظم القروض والمساعدات التي تقدمها الدول المانحة للدول الفقيرة تنفق في الدول المانحة أو تعود إليها عبر عمليات تسديد الديون، وتهريب الاموال والارباح وشراء السلع والمعدات وغيرها. فعلى سبيل المثال عاد عام 2002 إلى البلدان المانحة أكثر من 140 مليار دورلار مقابل أقل من ثلاثين مليار دورلار أنفقته في هذه البلدان على شكل قروض ومساعدات. إن الفقراء هنا هم الذين يساعدون الأغنياء كما عبر عن ذلك بعبارة مكثفة كل من جورج سورس وجوزيف ستيجلتز.

وفي الواقع تحولت هذه المساعدات الدولية إلى آله صناعية ضخمة ومتقنة لإطالة تلك الأمراض القاتلة في تلك المجتمعات التي يديرها وكيل محلي اسمه الدولة الريعية. هناك مصلحة حقيقة للدول الصناعية المتقدمة، مهما زعمت، لابقاء هذه الدولة كما هي عليه من فقر وبؤس وتخلف، وليس هناك من وكيل أفضل لأداء هذه المهمة أكثر من الدولة الريعية التي تحافظ على المصالح المتنوعة لدول المركز، إبتداء من المصالح الاقتصادية المباشرة المتمثلة باستغلال مواردها الطبيعية وأهمها النفط، إلى جعلها مجرد أسواق لمنتجاتها لا تجيد سوى الاستهلاك، وانتهاء بالمصالح السياسية والعسكرية والامنية. والدولة الريعية بوصفها وكيلاً مؤتماً تتلقى الريع باشكاله المختلفة، ويتلقى حكامها الرعاية والحماية، بالاضافة إلى ما يحققونه من ثروات طائلة.

وينظر إلى النفط - كما نعرف - باعتبارة سلعة إستراتيجية يؤمن للعالم الصناعي تشغيل آلته الجبارة، ومن دونه ستتوقف عن العمل، ويتوقف معها كل الرخاء والاستقرار والازدهار الذي تنعم به مجتمعاته، و«... حيث هناك نفط هناك أناس يعملون لحسابنا». هكذا قال ذات يوم ومنذ وقت مبكر أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي. ولهذا فهي لا تدخر أي وسيلة سياسية واقتصادية ودبلوماسية وعسكرية لضمان تدفق النفط من البلدان المنتجة له. وبسبب هذه الطبيعة الحساسة لهذه السلعة النفطية فان الدولة المنتجة لها، بالاضافة إلى الريع التي تتحصل عليه لقاء بيعها للنفط تحظى بدعم سياسي وأمني وعسكري من دول المركز مما يجعلها متفوقة في مصادر وممارسة القوة بفضاء واسع على المجتمع المدني التي تحكمه ومستقلة بدرجة كبيرة عن مواطنيها. تستخدم الدولة الريعية عوائد النفط لترسيخ مكانتها باساليب مختلفة تتنوع بين شراء الولاءت والاسترضاء وبين استخدام القوة والعنف.

إن القدرة على الوصول إلى الريع النفطي يقدم لنا تفسيرا ملائما لاستقرار الأنظمة الريعية، واستمرارها استنادا على شخصيات مركزية قوية تمركز في يديها معظم السلطات وأدوات القوة والنفوذ. إن الدولة في العالم العربي شأنها شأن أي دولة أخرى في العالم تواجه وبصورة مستمرة التزامات مالية للانفاق على نفسها تفوق الموارد المالية المتاحة لديها، ولذا يتعين عليها أن تجاهد لتنمية إيراداتها. ان الحاجة لتنمية الايرادات يمثل السبب الرئيسي الذي يجعل من الدولة شديدة الاهتمام بالازدهار والنمو الاقتصادي للبلد التي تحكمه. ولابن خلدون مقولة في مقدمته الشهيرة تلخص هذه العلاقة الوثيقة بين حاجة الدولة لتنمية مواردها ورخاء وازدهار مجتمعها حيث يقول: «تدوم السلطة الملكية بواسطة الجيش، والجيش بالمال، والمال بالضرائب، والضرائب بالفلاحة، والفلاحة بالاستقرار». ولما كانت إيرادات النفط في الدولة الريعية العربية تمثل مابين 60-90 من إيرادات الدولة فان حاجة الدولة إلى تطوير الاقتصاد المحلي والاهتمام بالنمو الاقتصادي والتنمية تكاد تكون