جسد أسامة بن لادن رمز الشر بالنسبة لأنصار العولمة.. وجسد في الوقت ذاته رمزا للثورة المجنونة بالنسبة لمناهضي العولمة، كان الفيروس العربي الذي عطل حواسيب العالم المتحضر، والفارس الخيالي الذي يناطح طائرات الأباتشي، والقاتل المدمر الذي يتحدث بصوت هادئ وبقلب تملؤه السكينة عن الخير والعدالة، والملياردير الذي ترك اليخوت والطائرات الخاصة ليعيش في كهوف تورا بورا، والوجه ذو الملامح البريئة الذي كلما تحركت قسماته سقطت العمارات وتفحمت جثث القتلى.. كانت العولمة بأمس الحاجة لهذه الصورة المليئة بالمتناقضات.. وجدت في صورته ذات الوجهين (الثائر والمجرم) ذاتها القلقة فاحتضنت الصورة بكل حماسة وهي تكاد تصرخ: (هذه صورتي دون مكياج)!
بالتأكيد ارتكب بن لادن آلاف الجرائم البشعة التي لا تغتفر.. قتل الأبرياء دون رحمة نصرة لمبادئه العجيبة، ولكن الولايات المتحدة فعلت الشيء ذاته.. قتلت الأبرياء دون رحمة نصرة لمبادئها العجيبة، لم يكن صراع بن لادن مع الولايات المتحدة صراعا تقليديا بين الخير والشر، بل كان صراعا بين الشر والشر.. وفي بعض الأحيان كان صراعا شريرا بين الخير والخير!
لهذا السبب يصعب على الكثير من الناس تحديد موقفهم من بن لادن، يسهل عليهم بالطبع تحديد موقفهم من تنظيم القاعدة الإرهابي ولكنهم عاجزون عن اتخاذ الموقف ذاته من الرجل الذي أسس هذا التنظيم الإجرامي وألهم آلاف الشباب من مختلف الجنسيات لتفجير أجسادهم الغضة في المقاهي التي تعج بالسياح، لقد كان وجود هذا الرجل يشعر الكثيرين بأن الولايات المتحدة لا تملك هذا العالم، لذلك كانوا يتناسون عمدا الجرائم التي ارتكبها تنظيمه الدموي بمجرد أن تتحول دفة الحديث باتجاه شخصية أسامة بن لادن!
لم يكن من السهل تصور وجود رجل بسيط يحارب كل دول العالم، يهزأ بكل أجهزة المراقبة الإلكترونية المتقدمة، يخترق بسلاسة مذهلة كل هذه الحواجز الأمنية التي كلف إنتاجها ملايين الدولارات، يسخر من عشرات الاتفاقيات الأمنية التي وقعتها دول العالم أجمع من أجل القبض عليه، لقد مثل وجوده التحدي الأكبر لعصر العولمة، لذلك فضل الكثيرون الهروب نحو التفسيرات السهلة مثل كونه عميلا للولايات المتحدة ومختبئ في داخلها أو أنه وجد ملاذا آمنا في إيران أو أنه مات منذ زمن بعيد ولكن أتباعه يخفون الحقيقة كي يستمر ملهما وقائدا للخلايا النائمة التي نشرها في كل دول العالم.. وهكذا مرت عشر سنوات كاملة دون أن ينجح أحد في حل لغز (المطلوب رقم واحد)!
كان سر نجاح بن لادن أنه استخدم في حالات الهجوم أدوات العولمة نفسها (الإنترنت، الحدود المفتوحة، الاقتصاد العابر للقارات، أجهزة الاتصال بالأقمار الصناعية.. إلخ ) بينما استخدم في حالات الدفاع أدوات ما قبل العولمة (الرسائل الشفوية، الثقة الشخصية، الكهوف، تجارة العسل والأحجار الكريمة.. إلخ ) فاستطاع أن يضع العولمة في حالة تصادم دائمة مع نفسها.
قتل بن لادن لا يعني نهاية الأحزمة الناسفة.. لقد كان الرجل مجرد عنوان براق لصراع الحضارات، وجوده لا يمكن أن يؤدي إلى سقوط الولايات المتحدة وغيابه لا يمكن أن يؤدي إلى نهاية الإرهاب، فالشر الذي صنعه بن لادن كان نتيجة طبيعية للشر الذي صنعته الولايات المتحدة، في كل الأحوال العولمة خسرت بن لادن فمحاربة رجل على قيد الحياة أسهل مليون مرة من محاربة أفكار رجل مدفون في البحر!
خلف الحربي