"النكبة 63" . .
مرسل: الجمعة مايو 20, 2011 1:40 am
في مثل هذه الأيام من شهر مايو/ أيار قبل 63 عاماً، كتب التاريخ صفحات مؤلمة ودموية في حياة الشعب الفلسطيني، عندما تم تهجير مئات الآلاف منهم، تحت وقع المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، التي مارست أبشع جرائم العصر، وشردت شعباً بأكمله، لتحقيق حلم عنصري قديم، لم يتورع القادة اليهود عن استخدام كل الوسائل لتحقيقه، بإقامة وطن قومي لهم على أنقاض فلسطين التاريخية .
لم يسبق أن شهد التاريخ تشريد شعب بأكمله، وإحلال أغراب من شتى أصقاع الأرض، ليستوطنوا أرضاً لا تاريخ لهم فيها، ومن المؤكد أن لا مستقبل لهم فيها كذلك، فمئات آلاف الفلسطينيين الذين عاصروا نكبة فلسطين في العام ،1948 تكاثروا وأصبحوا اليوم بالملايين، تعلموا وعملوا وأقاموا في بلدان كثيرة حول العالم، لكنهم يتوارثون حلم العودة إلى فلسطين التاريخية جيلاً بعد جيل، وأفشلوا نظرية راهن عليها قادة دولة الكيان “الإسرائيلي” بأن “الكبار يموتون والصغار ينسون”، فإذا بالصغار الذين لم يشاهدوا فلسطين بالمطلق يتمسكون بإرث أبائهم وأجدادهم، ويقودون الانتفاضات والثورات لانتزاع حقوقهم المسلوبة .
بعد 63 عاماً، لا تزال ذاكرة الفلسطينيين حية، لم تؤثر فيها السنون، ولم ينل منها النسيان، وكلما مرت السنون ترسخت قناعتهم وتضاعف الأمل في نفوسهم بأن العودة حتمية والاحتلال إلى زوال .
أنا من “حتا”، وهي قرية تقع على بعد 41 كيلومتراً تقريباً شمال شرقي مدينة غزة، وقد قامت العصابات الصهيونية بنسف منازل القرية ومسجدها ومدرستها، ومحوها كلياً عن الوجود، وشردوا سكانها الذين كانوا ألفاً وقت النكبة في العام ،48 وأقامت دولة الكيان على أنقاضها مستعمرة “رفاحا” .
لم أر “حتا” يوماً، وكذلك أبي الذي ولد في مخيم رفح للاجئين جنوب قطاع غزة بعد النكبة بعامين، لم يعش هناك، وأبنائي كذلك ولدوا في مخيمات اللجوء، لكننا جميعاً ننتسب إلى “حتا”، التي أصبحت اليوم أثراً بعد عين، نحن جميعاً من “حتا” ونقيم مؤقتاً في مخيمات اللجوء . نعم مؤقتاً، لأننا نؤمن بحقنا في العودة، ونؤمن أن العودة حتمية مهما طال الزمن، فالتاريخ لم يكتب انتصار الباطل على الحق على الدوام، ولم يكتب بقاء أي احتلال مهما طالت فترة احتلاله وبشاعة جرائمه .
اللاجئون الفلسطينيون من عسقلان وحيفا ويافا وبربرة وبرير والفالوجة وهربيا وكرتيا وبرقة والمسمية وسمسم وبشيت، ومن كل مدن وقرى فلسطين المدمرة، ينتسبون إلى بلداتهم وقراهم الأصلية، وليس فقط الجيل الأول هو من يحمل حلم العودة بين جنباته، ولكنه حلم متوارث يسكن في عقول وقلوب الفلسطينيين على اختلاف أعمارهم وأجيالهم .
النكبة، وذكريات الهجرة، محور أحاديث اللاجئين الفلسطينيين، صغاراً وكباراً . أحاديث كلها شجون، يلعب فيها الكبار دور الراوي، بينما الجيل الشاب ينصت بإصغاء شديد، ويعزز الحديث بمعلومات استقاها من تعليمه، فاللجوء لم يقف حجر عثرة في وجه الفلسطينيين، الذين يعتبرون التعليم أولوية في حياتهم، وشكلت معاناتهم دافعاً لهم لنيل أعلى الشهادات العلمية، كجزء من النضال الوطني لمواجهة سياسة التجهيل التي سعت إلى إغراق الفلسطينيين فيها، ودفعهم إلى سوق العمل مبكراً، كي تصبح “لقمة العيش” مبتغاهم، ولا وقت لديهم للتفكير في حقوقهم، وهي سياسة أثبتت فشلها مع الفلسطينيين الذين يحققون نجاحات لافتة في مختلف المجالات .
كان يوم الخامس عشر من مايو/ أيار مختلفاً هذا العام . كان يوماً بمذاق المصالحة الوطنية، وبرائحة ربيع الثورات العربية، إذ أحيا الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة ذكرى النكبة موحدين، بعدما نجحت “مصر الثورة” في جمع الأفرقاء أخيراً، ورعاية توقيعهم على اتفاق مصالحة ينهي أربع سنوات من الانقسام المرير والمدمر، الذي ألقى بظلاله الكئيبة على حياة الفلسطينيين، وجعل اليأس يتسلل إلى نفوسهم، لكنهم سرعان ما استعادوا عافيتهم، واسترجعوا الأمل في تصويب بوصلة النضال الوطني الفلسطيني، وجددوا العهد بأن عدوهم جميعاً هو “إسرائيل” وليس لهم عدو سواها .
في ذكرى النكبة هذا العام، كان العلم الفلسطيني وحيداً موحداً في أيادي الفلسطينيين على اختلاف أطيافهم ومشاربهم السياسية، لم تزاحمه الرايات الحزبية، بعدما توارت عن الأنظار، ولم تعد اليوم يومها، فقد أحيا الفلسطينيون ذكرى النكبة موحدين، للمرة الأولى منذ وقوع الانقسام، وخرج أنصار “فتح” و”حماس” وباقي الفصائل مجردين من أثوابهم الحزبية، ومرتدين الثوب الفلسطيني الوطني، مدركين أن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يفرقهم، ويبقى على قياداتهم في الفترة المقبلة تعزيز هذه الحال باستكمال إجراءات تنفيذ المصالحة الفلسطينية، وتطبيقها على الأرض، وإعلان إنهاء الانقسام كلياً وبلا رجعة .
وبدا لافتاً هذا العام أن الثورات التي تجتاح عدة دول عربية، قد بثت روحاً جديدة في نفوس اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، وخلقت حالة من الاندفاع الإيجابي نحو فلسطين لدى الشباب العربي، الذي ظل لسنوات وعقود طويلة متهماً بالسلبية واللامسؤولية، فإذا به يرد بكل قوة: لست كذلك، وأهتم بقضايانا الوطنية والقومية، وتبرز طاقاتي الكامنة، عندما تتاح الحرية، وهذا ما كان فعلاً بسقوط أنظمة عربية قمعية، وأنظمة أخرى ستواجه المصير ذاته، بعد أن تستنفد ما في جعبتها من قوة، وسترحل إن آجلاً أم عاجلاً، فلا يوجد نظام مهما كانت أسلحة بطشه يمكنه أن يواجه إرادة شعب ترفضه .
اندفع اللاجئون الفلسطينيون في دول الطوق المحيطة بفلسطين المحتلة، خصوصاً في سوريا ولبنان، نحو الحدود الفلسطينية، متسلحين بوحدة شعبهم وأمل العودة الذي يتعاظم في نفوسهم يوماً بعد يوم، وقد ازدادوا إيماناً بأن التغيرات التي تشهدها المنطقة العربية، تصب في مصلحتهم، وتقوي مشروعهم التحرري .
زحف آلاف الفلسطينيين المقيمين في مخيمات الشتات واللجوء في الخارج نحو فلسطين، وقد نجح بعضهم في اختراق الحدود في منطقتي مجدل شمس في هضبة الجولان السورية المحتلة، وفي مارون الراس اللبنانية، ورفعوا الأعلام الفلسطينية، ربما في مناطق لم تصل إليها أقدام اللاجئين منذ سقوطها في يد العصابات الصهيونية .
إن انتظام آلاف اللاجئين الفلسطينيين ومعهم شباب عربي تواق لرؤية فلسطين حرة من دنس المحتل الغاصب، في مسيرة العودة نحو فلسطين، يدل على أن هذه العودة وتحرير فلسطين كل فلسطين من بحرها وحتى نهرها، يشكل أولوية لدى الفلسطينيين والعرب، وأن لحظة الانتصار آتية لا محالة، ولابد أن دولة الكيان “الإسرائيلي” تدرك أن وجودها في قلب المنطقة العربية يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يتبق في عمرها أكثر مما مضى، وربما أقل من ذلك بكثير، فالروح الجديدة التي بعثتها الثورات في الجسد العربي، قد أعادت إليه قوته الحقيقية، التي اختفت قسراً لسنوات بفعل قمع الأنظمة وأجهزتها الأمنية، التي عملت وفق أجندات لا يحتل فيها الوطن والقضايا الوطنية والعربية الأولوية الأولى، بل كانت المصالح الشخصية، والانسياق وراء ضغوط وإرادة من يمول هذه الأنظمة ويحمي وجودها، هي من تحركهم، وغالباً هذا التحرك يكون في عكس اتجاه مصلحة شعوبهم .
إن شعباً مستعداً لدفع حياته ثمناً من أجل عودته لفلسطين، مثلما حدث على الحدود السورية واللبنانية مع فلسطين المحتلة، لا يمكن لأحد أو لأي قوة، أن تقف في وجهه، وربما تشكل مسيرة العودة “بروفة” لما ستكون عليه ذكرى النكبة في العام المقبل، وسيشجع نجاح الآلاف في الوصول إلى أقرب نقطة من فلسطين المحتلة، غيرهم على الالتحاق بمسيرات العودة في الأعوام المقبلة، وقد تقف “إسرائيل” في مواجهة سيل بشري شعاره “الشعب يريد العودة إلى فلسطين” .
لم يكتب التاريخ أن نجحت الجرائم مهما بلغت درجة بشاعتها ودمويتها في منع شعب من تحقيق ما يريد، وقد شاهدت دولة الكيان أن أنظمة عربية حليفة لها قد سقطت وانهزمت أمام إرادة شعوبها، ولم تفلح الجرائم التي ارتكبتها في إطالة عمرها، وتهاوت على وقع صيحات الملايين “الشعب يريد إسقاط النظام”، وكذلك سيحدث مع “إسرائيل” عندما تأتي اللحظة المناسبة التي ينتفض فيها الفلسطينيون في كل مكان رافعين شعار “الشعب يريد إنهاء الاحتلال” .
اتهمت الأنظمة العربية المنهزمة، الثوار ضدها بأنهم يعملون وفق أجندات خارجية، وأن جهات خارجية هي من تخطط لهم وتحركهم، فلم تنفعها هذه التهم وانهزمت وسقطت في النهاية أمام إرادة الثوار المنتفضين، ولأن أنظمة القمع والاحتلال تتبع مدرسة واحدة، ولأن “إسرائيل” التي تدعي أنها “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط، هي واحدة من رعاة مدرسة الإرهاب في العالم، فقد بررت قتل اللاجئين العزل في مسيرات العودة بأنهم يتحركون بأوامر من إيران وسوريا وحزب الله و”حماس” .
إن هذه الإدعاءات لن تنفع “إسرائيل”، مثلما لم تنفع من قبلها الأنظمة العربية، وعلى دولة الكيان الغاصب أن تعي أن لا أجندات تحرك رغبة الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين، ولكن المتغير هذا العام أن الفلسطينيين لم يعودوا يكتفون بشعارات العودة ويريدون تطبيقها واقعاً ملموساً على الأرض، مستمدين روحهم وقوتهم من روح “ميدان التحرير” في القاهرة، وميادين التغيير والثورات في تونس واليمن وليبيا وسوريا، ولا يبدو أن شعباً تحرك سيتوقف عن حركته قبل تحقيق أهدافه، وقد نكون على موعد مع تغيير نوعي في معادلة الصراع مع “إسرائيل” في المدى المنظور .
لم يسبق أن شهد التاريخ تشريد شعب بأكمله، وإحلال أغراب من شتى أصقاع الأرض، ليستوطنوا أرضاً لا تاريخ لهم فيها، ومن المؤكد أن لا مستقبل لهم فيها كذلك، فمئات آلاف الفلسطينيين الذين عاصروا نكبة فلسطين في العام ،1948 تكاثروا وأصبحوا اليوم بالملايين، تعلموا وعملوا وأقاموا في بلدان كثيرة حول العالم، لكنهم يتوارثون حلم العودة إلى فلسطين التاريخية جيلاً بعد جيل، وأفشلوا نظرية راهن عليها قادة دولة الكيان “الإسرائيلي” بأن “الكبار يموتون والصغار ينسون”، فإذا بالصغار الذين لم يشاهدوا فلسطين بالمطلق يتمسكون بإرث أبائهم وأجدادهم، ويقودون الانتفاضات والثورات لانتزاع حقوقهم المسلوبة .
بعد 63 عاماً، لا تزال ذاكرة الفلسطينيين حية، لم تؤثر فيها السنون، ولم ينل منها النسيان، وكلما مرت السنون ترسخت قناعتهم وتضاعف الأمل في نفوسهم بأن العودة حتمية والاحتلال إلى زوال .
أنا من “حتا”، وهي قرية تقع على بعد 41 كيلومتراً تقريباً شمال شرقي مدينة غزة، وقد قامت العصابات الصهيونية بنسف منازل القرية ومسجدها ومدرستها، ومحوها كلياً عن الوجود، وشردوا سكانها الذين كانوا ألفاً وقت النكبة في العام ،48 وأقامت دولة الكيان على أنقاضها مستعمرة “رفاحا” .
لم أر “حتا” يوماً، وكذلك أبي الذي ولد في مخيم رفح للاجئين جنوب قطاع غزة بعد النكبة بعامين، لم يعش هناك، وأبنائي كذلك ولدوا في مخيمات اللجوء، لكننا جميعاً ننتسب إلى “حتا”، التي أصبحت اليوم أثراً بعد عين، نحن جميعاً من “حتا” ونقيم مؤقتاً في مخيمات اللجوء . نعم مؤقتاً، لأننا نؤمن بحقنا في العودة، ونؤمن أن العودة حتمية مهما طال الزمن، فالتاريخ لم يكتب انتصار الباطل على الحق على الدوام، ولم يكتب بقاء أي احتلال مهما طالت فترة احتلاله وبشاعة جرائمه .
اللاجئون الفلسطينيون من عسقلان وحيفا ويافا وبربرة وبرير والفالوجة وهربيا وكرتيا وبرقة والمسمية وسمسم وبشيت، ومن كل مدن وقرى فلسطين المدمرة، ينتسبون إلى بلداتهم وقراهم الأصلية، وليس فقط الجيل الأول هو من يحمل حلم العودة بين جنباته، ولكنه حلم متوارث يسكن في عقول وقلوب الفلسطينيين على اختلاف أعمارهم وأجيالهم .
النكبة، وذكريات الهجرة، محور أحاديث اللاجئين الفلسطينيين، صغاراً وكباراً . أحاديث كلها شجون، يلعب فيها الكبار دور الراوي، بينما الجيل الشاب ينصت بإصغاء شديد، ويعزز الحديث بمعلومات استقاها من تعليمه، فاللجوء لم يقف حجر عثرة في وجه الفلسطينيين، الذين يعتبرون التعليم أولوية في حياتهم، وشكلت معاناتهم دافعاً لهم لنيل أعلى الشهادات العلمية، كجزء من النضال الوطني لمواجهة سياسة التجهيل التي سعت إلى إغراق الفلسطينيين فيها، ودفعهم إلى سوق العمل مبكراً، كي تصبح “لقمة العيش” مبتغاهم، ولا وقت لديهم للتفكير في حقوقهم، وهي سياسة أثبتت فشلها مع الفلسطينيين الذين يحققون نجاحات لافتة في مختلف المجالات .
كان يوم الخامس عشر من مايو/ أيار مختلفاً هذا العام . كان يوماً بمذاق المصالحة الوطنية، وبرائحة ربيع الثورات العربية، إذ أحيا الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة ذكرى النكبة موحدين، بعدما نجحت “مصر الثورة” في جمع الأفرقاء أخيراً، ورعاية توقيعهم على اتفاق مصالحة ينهي أربع سنوات من الانقسام المرير والمدمر، الذي ألقى بظلاله الكئيبة على حياة الفلسطينيين، وجعل اليأس يتسلل إلى نفوسهم، لكنهم سرعان ما استعادوا عافيتهم، واسترجعوا الأمل في تصويب بوصلة النضال الوطني الفلسطيني، وجددوا العهد بأن عدوهم جميعاً هو “إسرائيل” وليس لهم عدو سواها .
في ذكرى النكبة هذا العام، كان العلم الفلسطيني وحيداً موحداً في أيادي الفلسطينيين على اختلاف أطيافهم ومشاربهم السياسية، لم تزاحمه الرايات الحزبية، بعدما توارت عن الأنظار، ولم تعد اليوم يومها، فقد أحيا الفلسطينيون ذكرى النكبة موحدين، للمرة الأولى منذ وقوع الانقسام، وخرج أنصار “فتح” و”حماس” وباقي الفصائل مجردين من أثوابهم الحزبية، ومرتدين الثوب الفلسطيني الوطني، مدركين أن ما يجمعهم أكبر بكثير مما يفرقهم، ويبقى على قياداتهم في الفترة المقبلة تعزيز هذه الحال باستكمال إجراءات تنفيذ المصالحة الفلسطينية، وتطبيقها على الأرض، وإعلان إنهاء الانقسام كلياً وبلا رجعة .
وبدا لافتاً هذا العام أن الثورات التي تجتاح عدة دول عربية، قد بثت روحاً جديدة في نفوس اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، وخلقت حالة من الاندفاع الإيجابي نحو فلسطين لدى الشباب العربي، الذي ظل لسنوات وعقود طويلة متهماً بالسلبية واللامسؤولية، فإذا به يرد بكل قوة: لست كذلك، وأهتم بقضايانا الوطنية والقومية، وتبرز طاقاتي الكامنة، عندما تتاح الحرية، وهذا ما كان فعلاً بسقوط أنظمة عربية قمعية، وأنظمة أخرى ستواجه المصير ذاته، بعد أن تستنفد ما في جعبتها من قوة، وسترحل إن آجلاً أم عاجلاً، فلا يوجد نظام مهما كانت أسلحة بطشه يمكنه أن يواجه إرادة شعب ترفضه .
اندفع اللاجئون الفلسطينيون في دول الطوق المحيطة بفلسطين المحتلة، خصوصاً في سوريا ولبنان، نحو الحدود الفلسطينية، متسلحين بوحدة شعبهم وأمل العودة الذي يتعاظم في نفوسهم يوماً بعد يوم، وقد ازدادوا إيماناً بأن التغيرات التي تشهدها المنطقة العربية، تصب في مصلحتهم، وتقوي مشروعهم التحرري .
زحف آلاف الفلسطينيين المقيمين في مخيمات الشتات واللجوء في الخارج نحو فلسطين، وقد نجح بعضهم في اختراق الحدود في منطقتي مجدل شمس في هضبة الجولان السورية المحتلة، وفي مارون الراس اللبنانية، ورفعوا الأعلام الفلسطينية، ربما في مناطق لم تصل إليها أقدام اللاجئين منذ سقوطها في يد العصابات الصهيونية .
إن انتظام آلاف اللاجئين الفلسطينيين ومعهم شباب عربي تواق لرؤية فلسطين حرة من دنس المحتل الغاصب، في مسيرة العودة نحو فلسطين، يدل على أن هذه العودة وتحرير فلسطين كل فلسطين من بحرها وحتى نهرها، يشكل أولوية لدى الفلسطينيين والعرب، وأن لحظة الانتصار آتية لا محالة، ولابد أن دولة الكيان “الإسرائيلي” تدرك أن وجودها في قلب المنطقة العربية يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يتبق في عمرها أكثر مما مضى، وربما أقل من ذلك بكثير، فالروح الجديدة التي بعثتها الثورات في الجسد العربي، قد أعادت إليه قوته الحقيقية، التي اختفت قسراً لسنوات بفعل قمع الأنظمة وأجهزتها الأمنية، التي عملت وفق أجندات لا يحتل فيها الوطن والقضايا الوطنية والعربية الأولوية الأولى، بل كانت المصالح الشخصية، والانسياق وراء ضغوط وإرادة من يمول هذه الأنظمة ويحمي وجودها، هي من تحركهم، وغالباً هذا التحرك يكون في عكس اتجاه مصلحة شعوبهم .
إن شعباً مستعداً لدفع حياته ثمناً من أجل عودته لفلسطين، مثلما حدث على الحدود السورية واللبنانية مع فلسطين المحتلة، لا يمكن لأحد أو لأي قوة، أن تقف في وجهه، وربما تشكل مسيرة العودة “بروفة” لما ستكون عليه ذكرى النكبة في العام المقبل، وسيشجع نجاح الآلاف في الوصول إلى أقرب نقطة من فلسطين المحتلة، غيرهم على الالتحاق بمسيرات العودة في الأعوام المقبلة، وقد تقف “إسرائيل” في مواجهة سيل بشري شعاره “الشعب يريد العودة إلى فلسطين” .
لم يكتب التاريخ أن نجحت الجرائم مهما بلغت درجة بشاعتها ودمويتها في منع شعب من تحقيق ما يريد، وقد شاهدت دولة الكيان أن أنظمة عربية حليفة لها قد سقطت وانهزمت أمام إرادة شعوبها، ولم تفلح الجرائم التي ارتكبتها في إطالة عمرها، وتهاوت على وقع صيحات الملايين “الشعب يريد إسقاط النظام”، وكذلك سيحدث مع “إسرائيل” عندما تأتي اللحظة المناسبة التي ينتفض فيها الفلسطينيون في كل مكان رافعين شعار “الشعب يريد إنهاء الاحتلال” .
اتهمت الأنظمة العربية المنهزمة، الثوار ضدها بأنهم يعملون وفق أجندات خارجية، وأن جهات خارجية هي من تخطط لهم وتحركهم، فلم تنفعها هذه التهم وانهزمت وسقطت في النهاية أمام إرادة الثوار المنتفضين، ولأن أنظمة القمع والاحتلال تتبع مدرسة واحدة، ولأن “إسرائيل” التي تدعي أنها “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط، هي واحدة من رعاة مدرسة الإرهاب في العالم، فقد بررت قتل اللاجئين العزل في مسيرات العودة بأنهم يتحركون بأوامر من إيران وسوريا وحزب الله و”حماس” .
إن هذه الإدعاءات لن تنفع “إسرائيل”، مثلما لم تنفع من قبلها الأنظمة العربية، وعلى دولة الكيان الغاصب أن تعي أن لا أجندات تحرك رغبة الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين، ولكن المتغير هذا العام أن الفلسطينيين لم يعودوا يكتفون بشعارات العودة ويريدون تطبيقها واقعاً ملموساً على الأرض، مستمدين روحهم وقوتهم من روح “ميدان التحرير” في القاهرة، وميادين التغيير والثورات في تونس واليمن وليبيا وسوريا، ولا يبدو أن شعباً تحرك سيتوقف عن حركته قبل تحقيق أهدافه، وقد نكون على موعد مع تغيير نوعي في معادلة الصراع مع “إسرائيل” في المدى المنظور .