- الجمعة مايو 20, 2011 3:58 pm
#35873
العولمة والشرعية ودولة الرفاه
مقدمة:
إن دمج العالم اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً يتخطى الحدود السياسية أو الاختلافات الثقافية والحضارية للدول من خلال ما يعرف بظاهرة العولمة (Globalization) والتي كثر استخدامها في الأدبيات المعاصرة، أثر، ليس فقط على الدول النامية بل على الدول الصناعية. إن دور العولمة في تدويل النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية سيؤدي بالضرورة إلى تغيير في سلطات وسيادة الدولة المعاصرة. من هذا المنطلق، فإن هذه الدراسة ستتناول طبيعة تأثير العولمة على شرعية النظم السياسية في دول الرفاه، مع التركيز على دول مجلس التعاون الخليجي كحالة دراسة Case Study. سعت دول الرفاه في مجلس التعاون الخليجي إلى المحافظة على سياسات ينشط فيها دور القطاع العام من حيث ملكية وسائل الإنتاج أو توفير السلع والخدمات بأسعار مدعومة، أو الحفاظ على وضعها كأكبر جهة موظفة لليد العاملة الوطنية في البلاد إلا أنه ومع بروز العولمة بدأت الدول تتبنى سياسات الخصخصة والتي تتضمن تحويل المنشآت الاقتصادية من ملكية الدولة إلى ملكية القطاع الخاص، الأمر الذي قد يؤدي إلى تهميش دور الدولة الاقتصادي نتيجة لفقدانها ملكية أصول ووسائل الإنتاج وفقدانها السيطرة على الاقتصاد وحركة رأس المال وانتقال العمالة المدربة بين الدول للاستفادة من المميزات الناتجة عن رفع الحواجز الاقتصادية. هذا بدوره سيؤدي إلى الحد من قدرة الدولة على توفير الخدمات العامة التي تقدم للمواطنين، بل وتوقف الدعم الحكومي للبرامج الاجتماعية، مما يؤدي إلى توقف الدول عن حماية الأوضاع الداخلية من الأضرار السلبية للعولمة عن طريق زيادة الدعم للبرامج الاجتماعية. بالإضافة إلى ما قد تواجهه تلك الدول من انخفاض القيمة الشرائية للعملات، وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، وزيادة الضرائب والرسوم على الخدمات الأساسية.
أهمية البحث:
لا تزال الأبحاث حول أثر العولمة على شرعية دولة الرفاه تحتاج إلى المزيد من العمق والتنوع. وانطلاقاً من ذلك ستهتم هذه الدراسة بسد جزء من هذه الثغرة وإعطاء نظرة عامة تحدد أثر العولمة على شرعية دولة الرفاه. وحيث أن دول مجلس التعاون الخليجي تصنف بأنها دول ريعية (Rentier States) والدولة الريعية تصنف كذلك بأنها من دول الرفاه، لذلك سوف تركز هذه الدراسة على أثر العولمة على شرعية الأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة وأن أثر ظاهرة العولمة وتداعياتها على دول مجلس التعاون الخليجي بدأت تبرز خلال العقد الحالي.
أهداف البحث:
تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على آثار ظاهرة العولمة على شرعية الدولة، والتركيز على دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:
ـ هل تؤدي العولمة إلى التأثير بطريقة أو بأخرى على شرعية الأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي؟
ـ هل يؤدي بروز القطاع الخاص في تلك الدول وانتزاعه للوظائف الاقتصادية للدول وبالتالي تقليص دورها في تقديم الحاجات الضرورية للمواطنين إلى التأثير في شرعية الأنظمة السياسية؟
ـ هل التأثير الثقافي للعولمة وحقوق الإنسان يفتح مجالاً للتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول؟
ـ هل النهج السياسي للعولمة وتبنيها الديموقراطية يؤدي إلى المطالبة بالمشاركة السياسية في اتخاذ القرار السياسي؟
ـ هل تخلي الدولة عن برامجها الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها للمواطنين يؤدي إلى تآكل شرعيتها؟
من سياق الأسئلة السابقة نستطيع صياغة الفرضيتين التاليتين:
أولاً/ هناك علاقة بين برامج الرفاه التي تقدمها الدولة وشرعية النظام السياسي. أي أنه كلما زادت برامج الرفاه الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها الدولة للمجتمع، كلما أدى ذلك إلى استقرار شرعية النظام السياسي، وكلما تضاءلت تلك البرامج كلما ضعفت شرعية النظام السياسي.
ثنانيا/ غالباً ما تؤدي ظاهرة العولمة وأبعادها الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية والاجتماعية إلى تحجيم دور دولة الرفاه، الأمر الذي يؤدي إلى تقليص مرتكزات ومصادر شرعيتها، وبالتالي تآكل شرعيتها.
وتتكون هذه الدراسة من أربعة مباحث وخاتمة. يتناول المبحث الأول الإطار النظري للدراسة: والذي يستعرض أدبيات ومفاهيم العولمة، ودولة الرفاه، والشرعية. أما المبحث الثاني فيستعرض مصادر الشرعية للأنظمة السياسية. أما المبحث الثالث فيركز على مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي. ويناقش المبحث الرابع العلاقة بين متغيرات العولمة وشرعية الأنظمة في دول مجلس التعاون الخليجي. وتتناول الخاتمة أهم نتائج الدراسة.
المبحث الأول: الإطار النظري والمفاهيم الأساسية للدراسة.
يشكل موضوع العولمة وأثرها على شرعية الدولة أحد الموضوعات التي تحظى باهتمام كبير من الباحثين في العلوم الاجتماعية بشكل عام والباحثين في العلوم السياسية على وجه الخصوص. فبالرغم من الكتابات الكثيرة حول العولمة، إلا أن القليل جداً منها استعرض آثار العولمة على شرعية دولة الرفاه. ولذلك سوف تركز هذه الدراسة على آثار العولمة على شرعية دولة الرفاه، وسنأخذ دول مجلس التعاون الخليجي كحالة دراسة. وقبل الحديث عن تلك الآثار لا بد من استعراض الأطر النظرية للعولمة، وكذلك تحديد المفاهيم الأساسية ذات العلاقة بهذه الدراسة، وهي: مفهوم العولمة، ودولة الرفاه، والشرعية. فمن خلال تحديد تلك المفاهيم نستطيع التعرف على تجلياتها المختلفة وكيفية التعامل معها، ويمكننا بعد ذلك معرفة آثار العولمة على شرعية الأنظمة السياسية.
فبالرغم من وجود اتفاق بين الباحثين على هيمنة الفكر العولمي على العالم، إلا أن هناك تباين في تحديد وإرساء أسس نظرية عامة تؤطر الأبعاد الأساسية لمفهوم العولمة. وانطلاقاُ من هذا التباين برزت ثلاث تيارات يحاول كل منها تطوير بعض المرتكزات النظرية لمفهوم العولمة.
الأول. ينظر للعولمة كظاهرة سلبية، حيث يرى أنها لم تكن سوى الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على العالم. أو بمعنى أكثر دقة، هي "أمركة العالم". أي فرض النمط الأمريكي في السياسة والاقتصاد والثقافة على العالم. وهذا ما يؤكده "كينيث والتز" أحد أهم رواد المدرسة "الواقعية الجديدة"، حيث يرى أن العولمة هي من صنع الولايات المتحدة، بل هي "بدعة التسعينات" كما يسميها, حيث يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم قوتها العسكرية لفرض النموذج الأمريكي للعولمة على العالم. وينطلق هذا الرأي من أن العالم يعيش تحت هيمنة قطبية أحادية بأركانها الثلاثة: السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تمسك بزمام المبادرة في هذه الأركان الثلاثة. وما يترتب على هذه الهيمنة المعولمة من علاقة غير متكافئة بين تابع ومتبوع مما أثر على دور الدولة في نواحي كثيرة بل أدى إلى تغير في وظائف الدولة وتلاشي سلطتها وتراجع دور دولة الرفاه. وفي الاتجاه نفسه طور "محاضر محمد" (رئيس وزراء ماليزيا السابق) رؤيته للعولمة على أنها "واجهة لإعادة النظام الاستعماري للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على دول العالم الثالث". أي أن تأثيرات العولمة تشمل التأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففي المجال الاقتصادي، يؤكد جلال أمين، أن سياسة العولمة تفرض على الدولة أن ترخي قبضتها على الاقتصاد تحقيقاً لمصلحة الشركات العملاقة، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى إزالة الحواجز الجمركية، وإلغاء نظام التخطيط، وتخفيض الإنفاق الحكومي، وارتفاع معدلات البطالة, وانخفاض الأجور، وتدهور مستوى المعيشة، وتقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، خاصة ما يقدم لدعم السلع الضرورية، وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين. أما في الجانب الثقافي، يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري أن العولمة هي "إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته.... وبالتالي سلب الوعي، والهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية." وهذا سيؤدي إلى تهديد هويات المجتمعات المعاصرة من خلال التعدي على الخصوصيات الثقافية. وفي نفس السياق يؤكد عبد الإله بلقزيز أن العولمة الثقافية هي: "اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات". أي أنها إهدار وسلب لسيادة الثقافات في سائر المجتمعات الخاضعة لعملية العولمة. وبالتالي بروز "أزمة في سيادة الدولة القومية". وكل ذلك سيؤدي إلى تآكل شرعية النظم السياسية في دول العالم الثالث، خاصة إذا أدركنا أن شرعية تلك النظم تمحورت حول ما تقدمه من برامج اقتصادية واجتماعية لشعوبها. أما من المنظور السياسي فيرى أصحاب هذا الاتجاه أن العولمة ستؤدي إلى انكشاف الدولة وهشاشتها وضعفها وعدم قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، كذلك تشمل العولمة "إعادة صياغة مفاهيم السياسة الدولية بما يعطي للدولة الدافعة للعولمة دوراً أكبر في النسق العالمي قوامه التدخل في شئون دول الجنوب بشكل شرعي". وأخيراً وفي نفس السياق يؤكد أنتوني غيدينز في كتابه الموسوم (عالم منفلت) "أن العولمة التي توصف بأنها حولت العالم إلى قرية معولمة، قد حولته إلى عملية نهب معولمة". وبكلمات أنتوني:
(Ruther than a global village, one might say, this is more like global pillage).
الثاني: يرى أصحاب هذا الاتجاه بأن ظاهرة العولمة هي ظاهرة حضارية إيجابية تؤدي إلى تحويل العالم إلى قرية كبيرة تتلقى نفس التأثيرات السياسية والاقتصادية والثقافية مما يؤدي إلى الاندماج بين المجتمعات المختلفة. ويرى أصحاب هذا الرأي انتصار النموذج الليبرالي الأمريكي وسيطرته، باعتباره الأمثل سياسياً واقتصاديا وثقافياً، وما يشمله ذلك من تعميم الديموقراطية الليبرالية الغربية بصفتها الشكل النهائي للحكم الإنساني. وكذلك يرى أصحاب هذا الرأي أن العولمة قدراً لا راد له وهي بمثابة "نهاية التاريخ" كما يبشر بذلك فرانسيس فوكوياما. حيث يرى أن العولمة هي انعكاس لمظهر من مظاهر التطور الحضاري التي تنحو باتجاه إيجاد نمط جديد غير مسبوق للبعد العالمي الجديد للنظام الرأسمالي، بعد هزيمة النموذج الشيوعي، ومحاولة توحيد السوق العالمية وإخضاعها لقوانين مشتركة موحدة لإيجاد قوة اقتصادية مؤثرة في مختلف جوانب الحياة العالمية. فالعولمة، طبقاً لهذا الاتجاه، تعني "ظهور اقتصاد عالمي مفتوح ومتكامل، ونشأة نسق عالمي جديد يتخطى نسق الدولة القومية" وفي نفس الاتجاه يرى توماس فريدمان أن العولمة هي "نظام دولي جديد يعتمد على التكامل بين رأس المال، والتكنولوجيا، والمعلومات التي تتخطى الحدود القومية للدول بطريقة نشأ عنها سوق عالمية واجدة.... فالعولمة ظاهرة إيجابية تؤدي إلى ارتقاء الدول التي ترتبط بها، وانحطاط الدول التي قد تحاول الانفصال عنها". وباختصار يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن الديموقراطية الليبرالية والنظام الرأسمالي مازالا يشكلان الإطار الأساسي والوحيد للتنظيم السياسي والاقتصادي للمجتمعات المعاصرة.
الثالث: يرى أصحاب هذا الاتجاه أن ظاهرة العولمة هي عملية تبادل منافع وخبرات ومعارف بين جميع الأمم باختلاف حضاراتها وثقافاتها. وأن ظاهرة العولمة هي أمر واقع يجب التعامل معه بهدف تحقيق أعلى قدر من المكاسب والإقلال من الخسائر.فالعولمة من هذا المنظور، تحتوي على آثار إيجابية وآثار سلبية يجب التعامل معها بشكل متوازن كما يؤكد ذلك أحد منظري هذا الاتجاه وهو "جان آرت شولت". أي أن هذا الاتجاه يركز على "أهمية التعامل المتوازن مع القضايا التي تطرحها العولمة من خلال استراتيجية تقوم على التعامل التدريجي، والربط بين مختلف القضايا ا لمطروحة. فهذه الرؤية تنزع إلى فهم العولمة على أنها ظاهرة مركبة تتضمن أبعاداً إيجابية يجب الاستفادة منها (التطور الهائل في التكنولوجيا وانفتاح الأسواق ) وأخرى سلبية ينبغي تفاديها (مشاكل الفقر والجهل والديون وانتشار الأوبئة وتفشي ظاهرة تهميش المجتمعات النامية)"، ولذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه أن العولمة ليست هي "الأمركة" ويرجع ذلك إلى أن موقع الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً بل هناك تعدد للأقطاب. هناك قطب أوروبي وقطب ياباني وآخر صيني.
بعد استعراض الإطار النظري لهذه الدراسة يجب تحديد المفاهيم الأساسية حول الموضوع. وهي: العولمة، ودولة الرفاه، والشرعية. فمن خلال دراسة تلك المفاهيم نستطيع التعرف على تجلياتها المختلفة وكيفية التعامل معها، ويمكننا بعد ذلك معرفة آثار العولمة على شرعية الأنظمة السياسية.
[1] مفهوم العولمة:
دخل مصطلح العولمة عالم الفكر وأصبح من أكثر المصطلحات استخداماً في الأدبيات المعاصرة. فالمصطلح يثير الكثير من الجدل والنقاش بدءً من تحديد المفهوم، مروراً بتحديد مظاهر العولمة وأبعادها وطبيعة القوى الفاعلة المحركة لها، وانتهاءً برصد تأثيراتها وانعكاساتها الإيجابية والسلبية، القائمة والمحتملة، على الدول والمجتمعات. ولذلك فإن هذه الدراسة ليست بصدد تأريخ كامل لنشأة العولمة وتطورها، مع إدراكنا بأنها سريعة التغيير والتطور، ولكنها تهدف إلى معرفة حقيقة وأهداف وإفرازات هذه الظاهرة. وقد اختلف الكتاب في فهم العولمة وتحليل أبعادها. بل إنهم اختلفوا حول تحديد مسمى الظاهرة، فقد أسماها بعضهم "العولمة" وسماها آخرون "الكونية" بينما عرفها آخرون بأنها "الكوكبة". ورغم اختلاف الباحثين في تحديد المسمى إلا أنهم يطرحون تصورات وتفسيرات تكاد تكون متقاربة لظاهرة العولمة، بل إن هناك شبه اتفاق بين الكثير من المفكرين على أن للعولمة آثاراً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية.
وقد عرف بعض المفكرين العولمة بأنها "مجموعة الظواهر والمتغيرات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية والتكنولوجية التي تمتد تفاعلاتها وأبعادها وتأثيراتها لتشمل مختلف دول العالم بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة." وعرفها آخرون بأنها "التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد، أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية". وأشار آخرون أن العولمة هي هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره بقوة، فالرأسمالية كنمط إنتاج تتغير ملامحها وأساليبها في الاستغلال عبر الزمن، ولذلك هناك علاقة قوية بين نشأة العولمة وانتشار الشركات متعدية الجنسية. فالعولمة بهذا المفهوم يتلازم معناها في مجال الإنتاج والتبادل المادي والرمزي مع معنى الانتقال من المجال الوطني، أو القومي، إلى المجال الكوني. فالمفهوم يحتوي على تحديد مكاني وزماني: فالمكان هو كامل الفضاء العالمي، أما الزمان فالحقبة التاريخية التي تلت قيام الدولة القومية التي أنجبها العصر الحديث إطاراً كيانياً لصناعة أهم وقائع التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويؤيد وجهة النظر هذه بعض المفكرين حيث يرى أن ظاهرة العولمة ليست حديثة بالدرجة التي قد توحي بها حداثة المفهوم. فالعناصر الأساسية في فكرة العولمة مثل ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء كانت في تبادل السلع والخدمات، أو انتشار المعلومات والأفكار، أو حتى في تأثر شعب من الشعوب بعادات وقيم غيره من الشعوب، كل هذه العناصر يعرفها العالم منذ خمسة قرون. إذن الظاهرة من هذا المنطلق عمرها عدة قرون، وبدايتها وغدها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتقدم تكنولوجية الاتصال والتجارة.
أما عالم السياسة الأمريكي، James Rosenau فيؤكد أن الوقت مازال مبكراً لوضع تعريف كامل وشامل يلائم التنوع الضخم للجوانب المتعددة لظاهرة العولمة، إلا أنه يرى بأن مفهوم العولمة يقيم "علاقة بين مستويات متعددة للتحليل: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الأيديولوجية، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج، تداخل الصناعات عبر الحدود، انتشار أسواق التمويل، تماثل السلع المستهلكة في مختلف الدول، نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة." ويعتقد البعض بأن للعولمة تجليات متعددة: سياسية واقتصادية وثقافية واتصالية. فمن أبرز التجليات السياسية، سقوط الشمولية والنزوع إلى الديموقراطية الغربية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان. أما التجليات الاقتصادية فمن أبرز معالمها نمو الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية ووحدة الأسواق المالية وتعميق المبادلات التجارية. وتبرز التجليات الثقافية للعولمة في الاتجاه إلى صياغة ثقافة عالمية، لها قيمها ومعاييرها، والغرض منها هو ضبط سلوك الدول والشعوب. أما تجليات العولمة الاتصالية فتبرز من خلال البث التلفزيوني المباشر ومن خلال شبكة الإنترنت التي تربط البشر في جميع أنحاء العالم. إن بعض المفكرين يعتقد أن آثار العولمة لم يقتصر على التجليات السابقة بل يتعدى ذلك إلى التأثير على سيادة الدولة، حيث نلاحظ أن قدرة الدولة على ممارسة سيادتها على إقليمها بدأت تتغير في ظل تحولات عملية العولمة التي يشهدها العالم في الوقت الحالي. فسياسة العولمة تفرض قيوداً ومحددات على قرارات الدول وسياساتها، بل إن قدرات الدول على التحكم في عمليات التدفق الإعلامي والمعلوماتي والمالي عبر حدودها بدأت تتآكل وبصورة متسارعة الأمر الذي جعل البعض يتساءل عن مستقبل الدولة القومية في ظل هذه التحولات. وينظر البعض للعولمة على أنها إرادة للهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية، والهيمنة السياسية والاقتصادية. أي أنها تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه (الولايات المتحدة الأمريكية) على بلدان العالم أجمع. والعولمة بهذا المفهوم هي أيديولوجية تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم "وأمركته" من خلال وسائل متعددة، كاستعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية، ولذلك فإن أيديولوجية العولمة تطرح حدوداً غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية بهدف الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك. ومن هذا المنطلق فهي ليست إلا مرادفاً "للأمركة" بمعنى تمدد الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد العالمي في غياب قوة رادعة، وسعيها إلى إعادة صياغة النظام العالمي طبقاً لمصالحها وتوجهاتها وأنماط القيم السائدة فيها.
يتضح من استعراض التعريفات السابقة لمفهوم العولمة أنها قد تفاوتت في الاقتراب من تحديد مفهوم ظاهرة العولمة، ولعل هذا التباين يعود إلى أن هذه الظاهرة لا تزال في طور التشكل والتطور، إلا أن هذه التعريفات قد أسهمت في إثراء أدبيات العولمة وتعميق فهمها على مختلف مستويات التفاعل للظاهرة. ولتحقيق هدفها ستأخذ هذه الدراسة بالتعريف التالي:
العولمة ظاهرة متعددة الأبعاد، تتضمن جوانب سياسية واقتصادية وثقافية ذات جذور غربية حيث نشأت نتيجة للتطور التكنولوجي للثورة الصناعية الغربية. فهي تعتبر القيم السياسية (الديموقراطية الغربية) والقيم الاقتصادية (تحرير التجارة الدولية وفتح الأسواق العالمية) والقيم الثقافية والأخلاقية الغربية بمثابة المعايير الوحيدة المقبولة للتعامل الدولي. وهذا سيؤدي حتماً إلى فرض منظومة القيم السياسية والاقتصادية والثقافية الغربية على دول العالم الثالث، دون الاعتداد بخصوصياتها وموروثاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأمر الذي سيؤدي إلى انحسار دور الدولة، بما فيها دولة الرفاه، حتى تحولت الدولة في العالم الثالث من أكثر أدوات العولمة فعالية.
[2] مفهوم دولة الرفاه:
منذ أواخر القرن التاسع عشر اتخذت بعض الدول الأوروبية سياسات تمثلت في التدخل المباشر لتوفير الرعاية الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، حيث سعت تلك الدول إلى زيادة دورها في تحسين مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين. وهذه السياسة هي ما يطلق عليها "سياسة الرفاه"، وتعني مجموعة البرامج التي تلتزم بها الدولة لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة لضمان مستوى معيشي للمواطنين. وتشمل هذه السياسات والبرامج الخدمات التالية:
- توفير التعليم العام.
- توفير الرعاية الصحية.
- توفير فرص العمل، أو أن تضمن الدولة حداً أدنى من الدخل في حالة البطالة.
- المساعدة في توفير المسكن المناسب.
- ضمان الرعاية الكاملة لمن هو في حاجة: كالعاجزين والمعاقين والفقراء.
والهدف من ذلك هو أن تتدخل الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي لقطاع كبير من المواطنين ورفاهتهم. ونتيجة لهذه السياسات والبرامج فقد زادت أهمية الدولة في حياة شرائح كبيرة من المجتمع، وزاد دورها في توفير مختلف أنواع الرعاية الضرورية للمواطنين. وانطلاقاً من هذه السياسات والبرامج فقد تجاوزت الدولة حدود وظائفها التقليدية، المتمثلة في توفير الأمن وتطبيق العدالة، لتقوم بوظائف إضافية قد لا تكون من وظائف الدولة. فالدولة التي تقدم مثل هذه السياسات والبرامج لمواطنيها يطلق عليها: "دولة الرفاه".
إن دور دولة الرفاه المعاصرة لم يتوقف عند توفير الخدمات الأساسية والرعاية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تعدى ذلك إلى (أ) ضمان الحقوق المدنية: كالمساواة أمام القانون وكفالة الحريات الفردية في العمل وحق الملكية والاعتقاد والرأي، (ب) ضمان الحقوق السياسية: كالمشاركة السياسية والتأثير في عملية ممارسة السلطة السياسية وحق التصويت والانتخاب والترشيح للمراكز السياسية. إن بروز دولة الرفاه في المجتمع الغربي جاء نتيجة لتطورات اقتصادية واجتماعية شهدها المجتمع الرأسمالي في أواخر القرن التاسع عشر، بعد نضال الطبقة العاملة ضد حالة الاستغلال التي صاحبت النظام الرأسمالي خلال تطوره، وذلك من أجل تحقيق مزيد من عدالة التوزيع للموارد في المجتمع والقضاء على أشكال عدم المساواة المنتشرة فيه. وقد أسهمت هذه السياسات في تخفيف حدة الصراع الاجتماعي والطبقي الأمر الذي أدى إلى الاستقرار السياسي في دولة الرفاه. إلا أن دولة الرفاه في العالم الثالث ما زالت معرضة لمخاطر عدم الاستقرار السياسي بسبب احتمالية فقدان الشرعية للأنظمة السياسية، نظراً إلى أن شرعية الأنظمة السياسية في دول الرفاه تعتمد على إرضاء المواطنين عبر الخدمات التي تقدمها بواسطة برامج الرعاية. ولذلك فإنه في حالة تقلص الخدمات التي تقدمها دولة الرفاه فإن ذلك سيؤدي إلى انتشار حالة عدم الرضا عن السلطة الحاكمة ومن ثم فقدان الشرعية السياسية الأمر الذي يقود إلى عدم الاستقرار السياسي.
أما في دول مجلس التعاون الخليجي فقد ظهرت سياسات الرفاه منذ ظهور الدولة الحديثة، وإن كانت بشكل متواضع كماً وكيفاً، في مجالات كالتعليم والصحة، ثم تطورت هذه البرامج والسياسات خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين نتيجة لزيادة العائدات النفطية. ففي سبيل تحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين قامت دول المجلس بتوفير فرص العمل للمواطنين في القطاع العام، وضمان حق التعليم المجاني، وتقديم خدمات الرعاية الصحية المجانية، وتقديم تسهيلات لتوفير السكن المريح، وتوفير خدمات الرعاية الاجتماعية، كمساعدات الضمان الاجتماعي، ورعاية الأيتام والعجزة والمعاقين. وهكذا بدأت الدولة في مجلس التعاون الخليجي تقدم الخدمات العامة للمواطنين بشكل منتظم، فضلاً عن توفير شبكات البنية الأساسية المتقدمة من طرق واتصالات ومواصلات، وغالباً ما تقدم هذه الخدمات مجاناً أو مقابل رسوم زهيدة.
[3] مفهوم الشرعية:
يشكل مفهوم الشرعية في علم السياسة مرتكزاً أساسياً في دراسة العديد من القضايا ذات العلاقة ببناء الدولة الحديثة، كالتطور السياسي والاقتصادي والتحول الاجتماعي ومسائل الديموقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وأسس ممارسة السلطة. ومن الواضح أن الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث في معظمها –إن لم تكن في جملتها- تعاني من فقدان الشرعية السياسية بدرجات متفاوتة تصل في بعضها إلى مستوى الأزمة الحقيقية، إما بتضاؤلها أو بغيابها كلياً. وهذه الأزمة تعود في أساسها إلى مجموعة من الأسباب، قد يكون أهمها الأسباب الاجتماعية الهيكلية المرتبطة ببناء الدولة الحديثة، وفقدان التفاعل الإيجابي بين الحاكم والمحكوم. فمع وجود اتفاق نسبي بين المفكرين على تحديد مفهوم شرعية السلطة، إلا أن هناك ثمة تباين في تحديد مصادر الشرعية، وخاصة في دول العالم الثالث.
يذهب ماكس فيبر Max Weber في تحليله لمفهوم الشرعية إلى أن الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بأحقيته وجدارته في الحكم، وأنه من دون الشرعية يصعب على أي نظام حاكم أن يمتلك القدرة على حكم الدولة على المدى الطويل. وقد أكد هذا الأمر د. سعد الدين إبراهيم حيث يقول:
"قد يكون سبب قبول المحكومين لحق الحاكم في أن يحكم بوحي من معتقدهم الديني أو بوحي من تقاليد راسخة توارثوها عبر الأجيال، أو بسبب إعجابهم الشديد بصفاته وخصاله وما يجسده من قيم ومثل عليا يرنون إليها، أو لأنه يرعى مصالحهم ويوفر لهم الأمن والأمان، أو لأنهم اختاروه بأنفسهم وأعطوه هذا الحق لمدة معلومة. ولا ينطوي هذا التعريف، بالضرورة، على شرط الرضا الدائم عن الحاكم أو عن كل أفعاله. وإن كان ذلك مرغوباً من الحاكم والمحكومين على السواء. من دون الشرعية بهذا المعنى فإن الحاكم الفرد، أو النخبة الحاكمة أو النظام أو الحكومة، يكون دائماً خائفاً: غير مطمئن نفسياً، وغير مستقر اجتماعياً، وغير متمكن سياسياً، مهما استخدم من وسائل القهر والبطش، أو من ضروب المخادعة والانتهازية، أو من سبل الرشوة والترغيب."
أما ديفيد إيستون David Easton فيرى أن أقوى أنواع التأييد للحكام هو ذلك النوع المستمد من إيمان الأفراد بأن من واجبهم قبول وطاعة الحاكم والالتزام بمتطلبات النظام. وهذا يعكس، بشكل ضمني أو صريح، أن طاعة الفرد وقبوله لسلطة الحاكم تأتي من التطابق في المبادئ الأخلاقية، ولما هو صحيح وحق في المجال السياسي. بينما يرى تيد جرTed Gurr أن الأنظمة السياسية تكون شرعية طالما اعتقد المواطنون بأحقيتها في السلطة وأنها صالحة وتستحق التأييد والطاعة. أما سيمور ليبست Seymour Lipset فيرى أن شرعية النظام السياسي تعتمد على قدرة النظام نفسه على ترسيخ الثقة لدى المواطنين بأن المؤسسات السياسية القائمة هي الأفضل والأنسب للمجتمع، ومن هذه الثقة يحصل النظام السياسي على شرعيته.
من هذا المنطلق، نستطيع القول أن معيار شرعية الحاكم يتمحور حول "الرضا والقبول". ويقصد بذلك قبول المحكومين لسلطة الحاكم، الأمر الذي يستطيع من خلاله الحاكم ممارسة السلطة ومن ثم تحمل المسؤولية في إدارة شؤون الدولة داخلياً وخارجيا. إلا أنه يجب ملاحظة أنه ليس بالضرورة أن شرعية الحاكم يقررها التأييد أو تنفيها المعارضة، فقد يجد المحكومون أن من مصلحتهم أن يطيعوا إرادة النظام السياسي القائم لكونها تتسق مع قيم المحكومين ومبادئهم وأخلاقياتهم وأمانيهم وتحقق المنفعة العامة على المدى الطويل. ولذلك فالشرعية بهذا المعنى أوسع وأشمل من التأييد أو المعارضة. وقد يتذمر المحكومون من بعض قرارات وسياسات السلطة، إلا أن هذا لا ينفي شرعية السلطة طالما شعر المواطنون أن السلطة في توجهها العام سلطة وطنية منسجمة مع التاريخ الوطني للدولة ومخلصة بوجه عام لإرادة الشعب وللقيم العامة التي تحكم سلوكيات جميع أفراد الشعب.
ويقابل مفهوم الشرعية في الفكر السياسي عموماً مفهوم البيعة في الفكر الإسلامي، حيث أن شرعية الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي تتحقق من خلال مرتكزين أساسيين: [أ] البيعة الشرعية، [ب] تطبيق الأحكام الشرعية. إذن البيعة قد تستخدم كآلية لاختيار الحاكم وهي كذلك ركيزة أساسية لتثبيت شرعية الحاكم. وفي هذا الإطار يقول ابن خلدون: "اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر في المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد." وبهذا تعتبر البيعة الشرعية هي الآلية التي تتحقق بموجبها شرعية الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي. وقد حدد أبو الحسن الماوردي أهلية الحاكم لممارسة السلطة ضمن شروط سبعة: العدالة على شروطها الجامعة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، وسلامة الحواس، وسلامة أعضاء الجسد، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة، والنسب. أي أن البيعة الشرعية للحاكم، والتي بدورها تفضي إلى شرعية السلطة، لا تعطى إلا لمن تتوفر فيه الشروط السابقة. فالحاكم نائب عن الأمة في الحكم والسلطان، اختارته وبايعته برضائها ليطبق عليها شرع الله، وهو في هذه الحالة مقيد في جميع تصرفاته وأحكامه ورعايته لشؤون الأمة ومصالحها بالأحكام الشرعية. إذن الأمة هي صاحبة السلطة، تمتلك حق اختيار الحاكم وتنصيبه وعزله. فشرعية الحاكم من المنظور الإسلامي تنطلق من معيارين: الرضا والاختيار ثم البيعة والطاعة. ومن تمت بيعته البيعة الشرعية وجبت طاعته، وهذا يدل على أن السلطان للأمة تعطي الشرعية للحاكم وتحجبها عنه إن هو خرج عن الأحكام الشرعية. وهذا الحكم (البيعة الشرعية) يسري على كل من تولى أمر المسلمين.
المبحث الثاني: مصادر الشرعية للأنظمة السياسية.
انطلاقا من المحددات السابقة لمفهوم الشرعية، اجتهد العلماء والمفكرون لتحديد مصادر الشرعية التي يستند إليها الحاكم في ممارسة السلطة وإدارة شؤون الدولة. لقد تعامل الفكر السياسي (بشقيه الغربي والإسلامي) مع مصادر شرعية النظم السياسية من منطلقات متباينة. حيث ينطلق الفكر الغربي من العقلانية المؤسسة على فلسفة الحقوق الطبيعية، بمعزل عن التعاليم الدينية. فقد وضع ماكس فيبر ثلاثة نماذج مثالية لمصادر الشرعية في الدولة.
(1) الشرعية التقليدية. Traditional Legitimacy وتركز على قوة العادات والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمع التي تحدد أحقية الحاكم في الحكم، ويبرز فيها ولاء الأفراد من خلال احترامهم للمكانة التقليدية للحاكم إما بحكم الوراثة أو بالامتثال للأوامر الدينية.
(2) الشرعية العقلانية – القانونية.Legal-rational Legitimacy ويعتمد هذا المصدر على قواعد مقننة موضوعية غير شخصية تحدد واجبات وحقوق الحاكم والمحكومين، وأسلوب الوصول إلى السلطة، وتداول السلطة وممارستها، وهذا يعتمد على إيمان المحكومين بأن هناك مؤسسات سياسية تقوم بوضع إجراءات وقواعد ملائمة تحظى بقبول الحكام والمحكومين. ويرى بعض المفكرين أن نموذج العقلانية-القانونية هو المصدر الرئيسي في بناء الدولة القومية الحديثة في الغرب، حيث ارتبط بهذا المصدر ظروف تاريخية وهيكلية حكمت مسيرة التطور الاجتماعي – الاقتصادي للمجتمعات الغربية في القرون الأربعة الأخيرة، وجاء ترجمة سياسية لهذه المسيرة، والتي من نتاجها "الديموقراطية الليبرالية" في الغرب.
(3) الزعامة الملهمة. Charisma وهي القيادة الفذة التاريخية القادرة على التأثير في المجتمع والدولة. وشرعية هذا النوع من الحكام ترتبط بشخص الحاكم، حيث هو مصدر جذب وإعجاب المحكومين بصفاته وأعماله وقيمه ومثله العليا. ويرتبط هذا النموذج للشرعية بالحاكم، مما يعني أن الشرعية وقتية تنتهي بغياب الحاكم عن الساحة السياسية.
أما ديفيد إيستون David Easton فينطلق من محددات مختلفة لمصادر الشرعية، تتمثل في العناصر التالية:
(1) الشرعية الشخصية Personal Legitimacy حيث تلعب شخصية الحاكم دوراً جوهرياً في تحقيق شرعية النظام اعتمادا على قوة الشخصية وفاعلية الإنجاز، حيث هي أقوى وأكثر هيمنة وتأثيراً من الشخصية الكاريزمية في النمط الفيبري.
(2) الشرعية الإيديولوجية Ideological Legitimacy وهي الشرعية التي يكتسبها الحاكم من خلال اطروحاته العقائدية، ومن خلال استخدام المنهج التعبوي الفكري والعقائدي للجماهير، الأمر الذي يؤدي إلى "أدلجة" المحكومين، لذا فإن العامل الأساسي في إضفاء الشرعية على فعالية النظام السياسي يكمن في عملية التوافق بين الإيديولوجية التي يروج لها النظام السياسي وبين قناعات المحكومين.
(3) الشرعية البنائية Structural Legitimacy ويقصد بها الشرعية التي يكتسبها النظام السياسي من خلال بناء الهياكل والمؤسسات السياسية في الدولة، وذلك في محاولة لتأكيد دور المؤسسات وأهميتها في ترسيخ شرعية النظام السياسي. فالمؤسسات السياسية في حد ذاتها تعتبر مصدراً أساسياً للشرعية في حالة تفعيلها، حيث تمنح الشرعية القانونية للنظام السياسي.
أما كارل دويتش Karl W. Deutsch فيرى أن الشرعية المؤسسية (البنيوية-الدستورية) تقوم على ثلاثة أسس:
(1) الأساس الدستوري: ومضمونه أن شرعية السلطة تتحقق وفقاً لمبادئ البلاد الدستورية والشرعية.
(2) الأساس التمثيلي: وتقوم شرعية النظام على اقتناع المحكومين بأن الذين في السلطة يمثلونهم ولم يصلوا إلى السلطة إلا من خلال الوسائل المشروعة.
(3) أساس الإنجاز: حيث تتحقق الشرعية للنظام السياسي من خلال الإنجازات التي تتم في المجتمع وللمصلحة العامة.
بينما يذهب بعض المفكرين إلى تحديدات أخرى لمصادر الشرعية تتمحور حول المفاهيم التالية:
(1) الشرعية الثورية: ويستند النظام السياسي في توليه للحكم على شرعية الثورة، سواء أكانت هذه الثورة من أجل الاستقلال أو الثورة ضد نظام سياسي آخر. ففي هذه الحالة يحاول النظام السياسي الذي يأتي إلى الحكم استثمار أسلوبه الثوري في تثبيت شرعيته السياسية.
(2) الشرعية الثيوقراطية: وهي الشرعية التي تنبثق من الاعتقاد بأن الحاكم يتمتع بصفة القداسة، إنطلاقاً من أنه يستمد السلطة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك فالحاكم يحاول فرض طاعته على المحكومين اعتماداً على هذه القداسة.
(3) الشرعية الديموقراطية: في هذا النمط من أنماط الشرعية يستمد الحاكم شرعيته من المحكومين حيث أن المحكومين يخولون الحاكم سلطة إدارة شؤون الدولة، ولذلك فسلطة الحاكم هنا هي سلطة شرعية لأنها جاءت بطرق مشروعة تكفل بتحقيقها دستور الدولة.
أما في الفكر السياسي الإسلامي، فإن مصدر شرعية الحاكم يقوم على أساس الشورى، بحيث يتمكن الحاكم من الاستناد إلى هذه الشرعية من ممارسة السلطة في إطار الشرع الإسلامي. ويستند مصدر الشورى كأساس لشرعية الحاكم إلى نصوص قرآنية وأحاديث نبوية شريفة. قال الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر). أما في التراث النبوي فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يستشير في مختلف الأمور العامة، سياسية كانت أو اقتصادية أو عسكرية، وكان يؤكد على مبدأ الشورى كأساس للتفاعل مع الأمة. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [ما رأيت أحداً أكثر من مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وطبقت الشورى كأساس لشرعية الحاكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي دولة الخلافة الراشدة لعب مبدأ الشورى دوراً جوهرياً في تحقيق شرعية النظام السياسي إنطلاقاً من: أولاً/ عملية اختيار الخليفة، حيث يقوم أهل الشورى بترشيح الخليفة. ثانياً/ أخذ البيعة العامة من الشعب، وهي الآلية التي تثبت شرعية الحاكم.
من الاستعراض السابق للمعايير التي نقيس بها مفهوم ومصادر الشرعية، نستنتج أن أنماط مصادر الشرعية متعددة وتختلف من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر ومن فكر إلى آخر. وسنقوم بتوظيف الاطروحات الفكرية السابقة للبحث في مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي، ومعرفة إلى أي من هذه المصادر تستند الأنظمة السياسية في دول المجلس في بناء شرعيتها؟ أم أن لها خصوصية مختلفة؟
المبحث الثالث: مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي
يجد المتابع لدراسة الأنظمة السياسية في دول المجلس أنها تختلف عن غيرها من الدول، فهي تتشابه بشكل كبير في تركيبتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي بنائها الثقافي والقيمي، وانطلاقاً من هذا التشابه، فهي تستند في إضفاء الشرعية على سلطاتها بتبني مناهج قد تكون متشابهة إلى حد كبير. ولدراسة مصادر الشرعية لدول المجلس، فإنه يتعين علينا النظر برؤية متسقة لمسيرة الدولة والمجتمع في الخليج، وتحديد وبلورة القيم التي تحكمها، فتنظيم الدولة وبناء شرعية سلطتها تعتبر من الأمور الجوهرية التي تشارك فيها كافة القوى السياسية والاجتماعية في هذه الدول. أي أن هذه الأنظمة اكتسبت الشرعية من خلال قيامها بتنويع أساليب الأسس الشرعية وتفاعل مجموعة من المعايير، والتي تعتبر بحد ذاتها معايير لمصادر شرعيتها. ومن هذا المنطلق تنقسم مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي إلى قسمين: (أ) مصادر الشرعية التقليدية (ب) شرعية التنمية والإنجازات. والأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي تدرجت شرعيتها من الشرعية التقليدية إلى شرعية الإنجازات ثم أخيراً تحاول الانتقال إلى شرعية المؤسسات السياسية. إذن هي لم تتوقف عند الشرعية التقليدية فحسب، بل تحاول البحث عن شرعية غير تقليدية لتتواءم مع المغيرات الجديدة بما في ذلك متغيرات العولمة.
(أ) مصادر الشرعية التقليدية:
(1) بناء الدولة. جميع دول المجلس دول حديثة التكوين. فقد ساهمت مجموعة من العوامل الداخلية (مجتمعية) والخارجية (دولية) في تشكل هذه الدول. إن إحدى مقومات شرعية الحكام في دول المجلس تعود إلى أسس بناء الدولة. أي تأسيس الدولة ككيان سياسي معترف به. فقد ساهمت وناضلت الأسر الحاكمة في دول المجلس في قيام هذه الكيانات السياسية. وفي دول العالم الثالث (ودول الخليج ليست استثناءً) يعد مثل هذا الإنجاز السياسي الكبير أحد العوامل التي تعطي الحاكم شرعية الاحتفاظ بالسلطة، وقبول واعتراف المحكومين بهذا الحق.
(2) البعد الديني الإسلامي كمصدر للشرعية. لا شك أن جميع دول المجلس منذ نشأتها وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقيم الدينية والحضارة الإسلامية، بل إن دولتين من دول المجلس (السعودية وعمان) قامتا على أساس ديني. فالإسلام هو حجر الزاوية في بناء المجتمع والهيكل السياسي في هذه الدول، وهو الأساس الأصلي للنظام الدستوري والنظام التشريعي بصورة عامة. ولقد أوجدت دول المجلس توازناً بين السلطة السياسية والمؤسسات الدينية، وهذا التوازن يتجلى في مفهوم الحكم وشرعية الدولة في الأنظمة السياسية لدول المجلس. بحيث أصبحت المؤسسات الدينية في حالة ترابط عضوي مع السلطة السياسية، وهذا الترابط العضوي تتم ممارسته في هياكل الدولة بشكل مستمر، انطلاقا من المبدأ الأساسي وهو أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا يوجد فرق بين الجانب الروحاني والجانب الدنيوي من الحياة في المجتمع الإسلامي. ولذلك فالعلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في هذه الدول تتصف بخاصية التوازن بين هاتين السلطتين، حيث تقوم المؤسسة الدينية بدعم السلطة السياسية في نطاق المبادئ الإسلامية، ومن جهة أخرى تقوم السلطة السياسية بالتأكيد على تطبيق المبادئ الإسلامية في المجتمع. ففي المجتمعات الخليجية المحافظة نجد أن الهيكل القيمي لمعظم السكان في دول المجلس هو هيكل متسق مع النظم السياسية. وبناءً على هذا فقد قامت دول المجلس باستثمار الولاء العقيدي للسكان في بناء شرعية سياسية بالاعتماد على البعد العقائدي. وتمكنت من بناء مؤسسات دينية ساهمت في ترسيخ الولاء للأنظمة من منطلق كونها أنظمة "تطبق الشرع". ومن ثم فقد اعتبرت السلطة السياسية أن التمسك بالقيم الإسلامية يمثل القاعدة الأساسية المضمونة لتأمين شرعية نفوذ السلطة السياسية.
(3) الإرث التاريخي كمصدر للشرعية. الأنظمة السياسية الحاكمة في دول المجلس لم تكن جديدة على السلطة، بل هي امتداد لسلالات حاكمة في المنطقة منذ قرون. فالمتتبع لتاريخ هذه الأسر الحاكمة يجد أن لها تاريخاً وراثياً طويلاً في السلطة، سواء على مستوى المدينة أو القرية أو حتى على مستوى القبيلة، (انظر الجدول رقم 1). وهذا الإرث التاريخي أعطاها شرعية ثابتة ومستقرة يعكسه اعتراف القوى السياسية والاجتماعية الأخرى في هذه المجتمعات بأحقيتها في السلطة، وقد شكلت تلك القوى ثقلاً شعبياً تستمد منه الأنظمة شرعيتها، الأمر الذي أدى إلى تضامن هذه القوى المجتمعية معها في إطار تحقيق مهام مشتركة، مما أضفى على هذه الأنظمة مسحة من الشرعية وأكسبها قاعدة شعبية ورصيداً سياسياً نتيجة لغياب القوى المنافسة أو البديلة.
جدول رقم (1)
الأسر الحاكمة وانتماءاتها القبلية وبداية حكمها
الأسرة الحاكمة الانتماء القبلي بداية الحكم مركز الحكم ملاحظات
آل سـعود بني حنيفة 1744 الدرعية المملكة العربية السعودية
آل الصباح عنزه 1752 الكويت
آل خليفة عنزه 1766 البحرين
آل ثاني تميم 1850 قطر
آل بوسعيد البوسعيدي 1744 عمان
آل نهـيان بني يأس 1791 أبو ظبي الإمارات العربية المتحدة
Source: Sirhan D. AL-Otaibi. The Gulf Cooperation council: A Study of The Political Elites’ Perceptions of the Need for Cooperation Among the Arab Gulf States, 1975-1981. (Unpublished Ph.D Thesis, University of Exeter, Uk, 1990) pp.29-85
(ب) شرعية التنمية والإنجازات:
إن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي منذ أوائل السبعينات أدت إلى التآكل والانحسار التدريجي للمصادر التقليدية للشرعية الأمر الذي أدى إلى تحولات في استراتيجية الأنظمة السياسية في البحث عن مصادر بديلة للشرعية. فتعرض المصادر التقليدية لشرعية الأنظمة السياسية لهزات متعددة جعلها تحاول تعزيز شرعيتها بما تطرحه من برامج تنموية وتطويرية من خلال ما يعرف بخطط التنمية الخمسية. فالطفرة النفطية في المجتمعات الخليجية والتي ارتبطت بارتفاع أسعار النفط في أعقاب حرب أكتوبر 1973، وتدفق البترودولار على دول الخليج، مكنت دول مجلس التعاون الخليجي من إتباع سياسات تنموية متسارعة استفادت منها معظم فئات المجتمع، ووفرت استقراراً داخلياً قام على خدمات دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية الشاملة للمجتمع، وما صاحب ذلك من إعادة بناء مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في إطار ما يعرف بشرعية التنمية والإنجازات. وقد برز ذلك في عاملين رئيسيين هما:
[1] سياسات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي. من المعروف أن الدولة إذا ارتبطت سياساتها وبرامجها الاجتماعية والاقتصادية بتوفير الخدمات الأساسية لأفراد المجتمع أصبحت تعرف بدولة الرفاه The Welfare State. ولذلك يرى بعض المفكرين أن سياسات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي جاءت لتحقيق مزيداً من عدالة التوزيع والقضاء على أشكال عدم المساواة في المجتمع الرأسمالي، وكذلك ضمان الحقوق الاجتماعية: كحقوق التمتع بالخدمات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية، والحقوق السياسية: كحق المشاركة والتأثير في عملية ممارسة السلطة السياسية وحق الانتخاب والتصويت والترشيح وحق تشكيل التنظيمات السياسية والأحزاب السياسية، والمساواة أمام القانون، وكفالة الحريات الفردية في العمل والتملك والاعتقاد والرأي. وقد تميز دور الدولة في دول المجلس بدور مهم في توفير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين وفي توفير الضمان الاجتماعي ورعاية المحتاجين وتقديم المساعدات لتوفير السكن وتقديم مساعدات وإعانات للمواد الاستهلاكية الضرورية.
وقد برزت ظاهرة دولة الرفاه في مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي منذ السبعينات من القرن العشرين وأصبحت الدولة مصدر جميع الخدمات الأساسية، مثل توفير فرص التعليم المجاني في الداخل والخارج لكافة شرائح المجتمع، وكذلك توفير الرعاية الصحية والاجتماعية وتوفير السكن والضمان الاجتماعي. ويرجع ذلك إلى أن الدولة في الخليج هي دولة ريعية (Rentier State) بالدرجة الأولى نظراً لامتلاكها مصادر القوة الاقتصادية، واستحواذ النخب السياسية الحاكمة في دول المجلس على القوة السياسية، الأمر الذي يؤدي إلى سيطرتها على القوة الاقتصادية وبالتالي تتمتع هذه النخب الحاكمة بدور جوهري في عملية توزيع الدخل والذي بدوره ينعكس على أنماط السلوك الاقتصادي والاجتماعي لمختلف شرائح المجتمع. وقد استطاعت دول المجلس أن تطور، وبنسب مختلفة، مجموعة من البرامج والسياسات لتحقيق مزيداً من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين. فدولة الرفاه عندما تقدم مثل هذه البرامج والسياسات لأفراد المجتمع تعتقد أنها تقوم بعملية كسب الرضا والقبول من أفراد المجتمع. وقد انعكس هذا الدور الذي تقوم به الدولة، باعتبارها مصدراً لبرامج وسياسات الرفاه، في تحديد علاقة الأفراد بالدولة ونظرتهم إلى حقوقهم في المشاركة السياسية، بحيث أصبحوا بشكل عام أقل تشدداً في المطالبة بهذه الحقوق، خاصة وقد أسقطت الدولة عن المواطنين بعض الأعباء العامة التي يدفعها نظراؤهم في الدول الديموقراطية مثل الضرائب والرسوم. أي أن انعدام حجم الأعباء المفروضة على الأفراد قد خفف من المطالبة بالمشاركة في الحكم. ولذلك فإن سياسيات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي التي تبنتها دول المجلس جاءت من أجل تحقيق مزيد من شرعية الأنظمة السياسية وبالتالي الاستقرار السياسي.
وقد شهدت أربع دول (السعودية، الكويت، قطر، الإمارات) تطوراً متسارعاً لسياسات الرفاه الاجتماعي والاقتصادي خلال الثلاثة عقود الماضية وذلك نتيجة لزيادة عائدات البترول، الأمر الذي أدى إلى تمكين هذه الدول:
"من تدعيم شرعيتها الداخلية، وذلك من خلال قدرتها على إشباع كثير من الحاجات الاقتصادية والاجتماعية لدى السكان، مما جعل الإحساس بعجز الدولة عن الوفاء بمسئولياتها ليس شديداً من قبل الفئات الاجتماعية، ومن ثم التغطية على إجراءات وممارسة الدولة القمعية، أو بمعنى أدق وأوضح صرف أنظار غالبية السكان عن التفكير أو المطالبة بحقوقها السياسية في ممارسة السلطة، أو المطالبة بتقييد سلطات الحاكم".
أما عمان والبحرين فقد حققت مستويات متوسطة من سياسات الرفاه، ويرجع ذلك إلى مستوياتها الاقتصادية المتواضعة. ولقد صاحب هذه الإنجازات الكبيرة في رفاهية المواطن آثاراً سياسية مهمة تمحورت حول تحقيق مستوى عال من الرضا والقبول للأنظمة السياسية الحاكمة في دول المجلس، حيث أصبح الرضا والقبول رافداً من روافد شرعية هذه الأنظمة.
[2] توسيع مجالات فرص العمل. لم يقتصر دور دولة الرفاه في الخليج على تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل تعداه إلى أن أصبحت الدولة المصدر الرئيسي للتوظيف. فالتطور المتسارع الذي شهده القطاع العام في دول مجلس التعاون الخليجي وهيمنته الواضحة على الاقتصاد الوطني نتيجة لطبيعته الريعية، وحصول هذه الدول على "الريع النفطي" بشكل مباشر، وعدم ارتباط هذا الريع بالإنتاجية المحلية، أدى إلى قيام الدولة بدور مهم في توفير فرص العمل للمواطنين في القطاع الحكومي. فالحكومة أكبر مستخدم للعمالة الوطنية، ولذلك يتطلع المواطنون إلى الدولة للحصول على وظيفة حكومية، وتستجيب الدولة في كثير من الأحيان لتطلع المواطنين حيث تجد الغالبية العظمى من اليد العاملة الوطنية فرصاً للعمل في الحكومة، بصرف النظر عن كفاءتهم ومؤهلاتهم. لقد قامت دول المجلس بتوسيع مجالات الفرص للعمل أمام أعداد متزايدة من كل الشرائح الاجتماعية، وذلك من خلال التوظيف في الأجهزة المختلفة للدولة. ومع زيادة العائدات البترولية تطلب الأمر التوسع في الأجهزة الحكومية مما أدى إلى تضخم جهاز الدولة وزيادة عدد الوظائف. (أنظر الجدول رقم 2)
(جدول رقم 2)
نسبة المواطنين العاملين في الحكومة من إجمالي اليد العاملة الوطنية في بعض دول الخليج.
الدولة 1991 1992 1993 1994 1995 1996 1997 1998 1999
السعودية 13.4 14.2 13.1 12.8 12.8 12.6 12.6 12.4 12.1
سلطنة عمان 64.9 64.9 66.0 67.1 68.5 67.2 68.1 68.3 71.2
دولة الكويت N.A 76.6 75.7 71.4 69.6 70.7 71.7 73.0 75.1
دولة قطر 62.4 64.3 67.2 69.5 70.1 68.7 71.6 73.2 72.6
المصدر: كتب الحسابات الختامية للدولة خلال الفترة (1991-1999) وزارة المالية ( سلطنة عمان). والمجموعة الإحصائية. خلال الفترة (1991-1999) وزارة المالية. دولة الكويت. مؤسسة النقد العربي السعودي: التقرير السنوي لعدد من السنوات المتفرقة (1991-2004).
لذلك نجد أن أسباب تضخم الجهاز الحكومي في دول مجلس التعاون الخليجي تتمحور حول أهداف سياسية وأمنية، تتمثل في استقطاب وتوظيف الخريجين الجدد والعناصر المسيسة من مختلف شرائح المجتمع، وتوسيع أنشطة الدولة وسيطرتها على قضايا مثل التعليم والصحة والاتصالات والمواصلات، مما يؤدي إلى الربط المباشر بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والدولة، وإلى ترسيخ القبول والرضا لدى المواطن ومن ثم ترسيخ ما يسمى "شرعية الإنجازات" للنظام السياسي.
إن سياسيات دول المجلس الرامية إلى ضمان الوظائف الحكومية للمواطنين وتوفير فرص عمل مناسبة وبالتالي ضمان دخول مالية مناسبة لتحقيق الإشباع المادي للمواطنين فيها، تهدف بالضرورة إلى الحصول على رضا وقبول المحكومين بسياسات الحكام في ممارسة للسلطة السياسية، وتهدف كذلك إلى بناء شرعية سياسية قائمة على الإنجازات المتعددة للسلطة، الأمر الذي يؤدي إلى تأكيد أسس الاستقرار السياسي في هذه الدول. فالرغبة في تدعيم شرعية السلطة في دول المجلس تدفع الأنظمة السياسية إلى استخدام القطاع العام في تقديم إنجازات ضخمة أو مضخمة بأسرع وقت، خاصة وأن تلك الأنظمة السياسية غير راغبة في بناء شرعية مؤسساتية قائمة على المشاركة السياسية. هنا يصبح القطاع العام أداة فعالة لتجريد الفعاليات المجتمعية الوسيطة (الطبقة الوسطى) من مرتكزات فاعليتها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وكذلك أداة لربط المصالح اليومية الحياتية للأفراد وللجماعات باستقرار واستمرارية النظام السياسي في دول المجلس، الأمر الذي يؤدي إلى احتواء واستقطاب العناصر المسيسة من مختلف شرائح المجتمع، والحفاظ على التوازنات القبلية أو الجهوية أو الطائفية. حيث لم تشهد دول المجلس تغيرات سياسية جذرية كالانقلابات العسكرية، ولم تشهد أعمال عنف ولا معارضة سياسية قوية وفعالة خلال السبعينات أو الثمانينيات من القرن الماضي.
مقدمة:
إن دمج العالم اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً يتخطى الحدود السياسية أو الاختلافات الثقافية والحضارية للدول من خلال ما يعرف بظاهرة العولمة (Globalization) والتي كثر استخدامها في الأدبيات المعاصرة، أثر، ليس فقط على الدول النامية بل على الدول الصناعية. إن دور العولمة في تدويل النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية سيؤدي بالضرورة إلى تغيير في سلطات وسيادة الدولة المعاصرة. من هذا المنطلق، فإن هذه الدراسة ستتناول طبيعة تأثير العولمة على شرعية النظم السياسية في دول الرفاه، مع التركيز على دول مجلس التعاون الخليجي كحالة دراسة Case Study. سعت دول الرفاه في مجلس التعاون الخليجي إلى المحافظة على سياسات ينشط فيها دور القطاع العام من حيث ملكية وسائل الإنتاج أو توفير السلع والخدمات بأسعار مدعومة، أو الحفاظ على وضعها كأكبر جهة موظفة لليد العاملة الوطنية في البلاد إلا أنه ومع بروز العولمة بدأت الدول تتبنى سياسات الخصخصة والتي تتضمن تحويل المنشآت الاقتصادية من ملكية الدولة إلى ملكية القطاع الخاص، الأمر الذي قد يؤدي إلى تهميش دور الدولة الاقتصادي نتيجة لفقدانها ملكية أصول ووسائل الإنتاج وفقدانها السيطرة على الاقتصاد وحركة رأس المال وانتقال العمالة المدربة بين الدول للاستفادة من المميزات الناتجة عن رفع الحواجز الاقتصادية. هذا بدوره سيؤدي إلى الحد من قدرة الدولة على توفير الخدمات العامة التي تقدم للمواطنين، بل وتوقف الدعم الحكومي للبرامج الاجتماعية، مما يؤدي إلى توقف الدول عن حماية الأوضاع الداخلية من الأضرار السلبية للعولمة عن طريق زيادة الدعم للبرامج الاجتماعية. بالإضافة إلى ما قد تواجهه تلك الدول من انخفاض القيمة الشرائية للعملات، وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، وزيادة الضرائب والرسوم على الخدمات الأساسية.
أهمية البحث:
لا تزال الأبحاث حول أثر العولمة على شرعية دولة الرفاه تحتاج إلى المزيد من العمق والتنوع. وانطلاقاً من ذلك ستهتم هذه الدراسة بسد جزء من هذه الثغرة وإعطاء نظرة عامة تحدد أثر العولمة على شرعية دولة الرفاه. وحيث أن دول مجلس التعاون الخليجي تصنف بأنها دول ريعية (Rentier States) والدولة الريعية تصنف كذلك بأنها من دول الرفاه، لذلك سوف تركز هذه الدراسة على أثر العولمة على شرعية الأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة وأن أثر ظاهرة العولمة وتداعياتها على دول مجلس التعاون الخليجي بدأت تبرز خلال العقد الحالي.
أهداف البحث:
تهدف هذه الدراسة إلى التعرف على آثار ظاهرة العولمة على شرعية الدولة، والتركيز على دول مجلس التعاون الخليجي، وذلك من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:
ـ هل تؤدي العولمة إلى التأثير بطريقة أو بأخرى على شرعية الأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي؟
ـ هل يؤدي بروز القطاع الخاص في تلك الدول وانتزاعه للوظائف الاقتصادية للدول وبالتالي تقليص دورها في تقديم الحاجات الضرورية للمواطنين إلى التأثير في شرعية الأنظمة السياسية؟
ـ هل التأثير الثقافي للعولمة وحقوق الإنسان يفتح مجالاً للتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول؟
ـ هل النهج السياسي للعولمة وتبنيها الديموقراطية يؤدي إلى المطالبة بالمشاركة السياسية في اتخاذ القرار السياسي؟
ـ هل تخلي الدولة عن برامجها الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها للمواطنين يؤدي إلى تآكل شرعيتها؟
من سياق الأسئلة السابقة نستطيع صياغة الفرضيتين التاليتين:
أولاً/ هناك علاقة بين برامج الرفاه التي تقدمها الدولة وشرعية النظام السياسي. أي أنه كلما زادت برامج الرفاه الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها الدولة للمجتمع، كلما أدى ذلك إلى استقرار شرعية النظام السياسي، وكلما تضاءلت تلك البرامج كلما ضعفت شرعية النظام السياسي.
ثنانيا/ غالباً ما تؤدي ظاهرة العولمة وأبعادها الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية والاجتماعية إلى تحجيم دور دولة الرفاه، الأمر الذي يؤدي إلى تقليص مرتكزات ومصادر شرعيتها، وبالتالي تآكل شرعيتها.
وتتكون هذه الدراسة من أربعة مباحث وخاتمة. يتناول المبحث الأول الإطار النظري للدراسة: والذي يستعرض أدبيات ومفاهيم العولمة، ودولة الرفاه، والشرعية. أما المبحث الثاني فيستعرض مصادر الشرعية للأنظمة السياسية. أما المبحث الثالث فيركز على مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي. ويناقش المبحث الرابع العلاقة بين متغيرات العولمة وشرعية الأنظمة في دول مجلس التعاون الخليجي. وتتناول الخاتمة أهم نتائج الدراسة.
المبحث الأول: الإطار النظري والمفاهيم الأساسية للدراسة.
يشكل موضوع العولمة وأثرها على شرعية الدولة أحد الموضوعات التي تحظى باهتمام كبير من الباحثين في العلوم الاجتماعية بشكل عام والباحثين في العلوم السياسية على وجه الخصوص. فبالرغم من الكتابات الكثيرة حول العولمة، إلا أن القليل جداً منها استعرض آثار العولمة على شرعية دولة الرفاه. ولذلك سوف تركز هذه الدراسة على آثار العولمة على شرعية دولة الرفاه، وسنأخذ دول مجلس التعاون الخليجي كحالة دراسة. وقبل الحديث عن تلك الآثار لا بد من استعراض الأطر النظرية للعولمة، وكذلك تحديد المفاهيم الأساسية ذات العلاقة بهذه الدراسة، وهي: مفهوم العولمة، ودولة الرفاه، والشرعية. فمن خلال تحديد تلك المفاهيم نستطيع التعرف على تجلياتها المختلفة وكيفية التعامل معها، ويمكننا بعد ذلك معرفة آثار العولمة على شرعية الأنظمة السياسية.
فبالرغم من وجود اتفاق بين الباحثين على هيمنة الفكر العولمي على العالم، إلا أن هناك تباين في تحديد وإرساء أسس نظرية عامة تؤطر الأبعاد الأساسية لمفهوم العولمة. وانطلاقاُ من هذا التباين برزت ثلاث تيارات يحاول كل منها تطوير بعض المرتكزات النظرية لمفهوم العولمة.
الأول. ينظر للعولمة كظاهرة سلبية، حيث يرى أنها لم تكن سوى الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على العالم. أو بمعنى أكثر دقة، هي "أمركة العالم". أي فرض النمط الأمريكي في السياسة والاقتصاد والثقافة على العالم. وهذا ما يؤكده "كينيث والتز" أحد أهم رواد المدرسة "الواقعية الجديدة"، حيث يرى أن العولمة هي من صنع الولايات المتحدة، بل هي "بدعة التسعينات" كما يسميها, حيث يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم قوتها العسكرية لفرض النموذج الأمريكي للعولمة على العالم. وينطلق هذا الرأي من أن العالم يعيش تحت هيمنة قطبية أحادية بأركانها الثلاثة: السياسي والاقتصادي والثقافي، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تمسك بزمام المبادرة في هذه الأركان الثلاثة. وما يترتب على هذه الهيمنة المعولمة من علاقة غير متكافئة بين تابع ومتبوع مما أثر على دور الدولة في نواحي كثيرة بل أدى إلى تغير في وظائف الدولة وتلاشي سلطتها وتراجع دور دولة الرفاه. وفي الاتجاه نفسه طور "محاضر محمد" (رئيس وزراء ماليزيا السابق) رؤيته للعولمة على أنها "واجهة لإعادة النظام الاستعماري للهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية على دول العالم الثالث". أي أن تأثيرات العولمة تشمل التأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففي المجال الاقتصادي، يؤكد جلال أمين، أن سياسة العولمة تفرض على الدولة أن ترخي قبضتها على الاقتصاد تحقيقاً لمصلحة الشركات العملاقة، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى إزالة الحواجز الجمركية، وإلغاء نظام التخطيط، وتخفيض الإنفاق الحكومي، وارتفاع معدلات البطالة, وانخفاض الأجور، وتدهور مستوى المعيشة، وتقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، خاصة ما يقدم لدعم السلع الضرورية، وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين. أما في الجانب الثقافي، يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري أن العولمة هي "إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته.... وبالتالي سلب الوعي، والهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية." وهذا سيؤدي إلى تهديد هويات المجتمعات المعاصرة من خلال التعدي على الخصوصيات الثقافية. وفي نفس السياق يؤكد عبد الإله بلقزيز أن العولمة الثقافية هي: "اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات". أي أنها إهدار وسلب لسيادة الثقافات في سائر المجتمعات الخاضعة لعملية العولمة. وبالتالي بروز "أزمة في سيادة الدولة القومية". وكل ذلك سيؤدي إلى تآكل شرعية النظم السياسية في دول العالم الثالث، خاصة إذا أدركنا أن شرعية تلك النظم تمحورت حول ما تقدمه من برامج اقتصادية واجتماعية لشعوبها. أما من المنظور السياسي فيرى أصحاب هذا الاتجاه أن العولمة ستؤدي إلى انكشاف الدولة وهشاشتها وضعفها وعدم قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، كذلك تشمل العولمة "إعادة صياغة مفاهيم السياسة الدولية بما يعطي للدولة الدافعة للعولمة دوراً أكبر في النسق العالمي قوامه التدخل في شئون دول الجنوب بشكل شرعي". وأخيراً وفي نفس السياق يؤكد أنتوني غيدينز في كتابه الموسوم (عالم منفلت) "أن العولمة التي توصف بأنها حولت العالم إلى قرية معولمة، قد حولته إلى عملية نهب معولمة". وبكلمات أنتوني:
(Ruther than a global village, one might say, this is more like global pillage).
الثاني: يرى أصحاب هذا الاتجاه بأن ظاهرة العولمة هي ظاهرة حضارية إيجابية تؤدي إلى تحويل العالم إلى قرية كبيرة تتلقى نفس التأثيرات السياسية والاقتصادية والثقافية مما يؤدي إلى الاندماج بين المجتمعات المختلفة. ويرى أصحاب هذا الرأي انتصار النموذج الليبرالي الأمريكي وسيطرته، باعتباره الأمثل سياسياً واقتصاديا وثقافياً، وما يشمله ذلك من تعميم الديموقراطية الليبرالية الغربية بصفتها الشكل النهائي للحكم الإنساني. وكذلك يرى أصحاب هذا الرأي أن العولمة قدراً لا راد له وهي بمثابة "نهاية التاريخ" كما يبشر بذلك فرانسيس فوكوياما. حيث يرى أن العولمة هي انعكاس لمظهر من مظاهر التطور الحضاري التي تنحو باتجاه إيجاد نمط جديد غير مسبوق للبعد العالمي الجديد للنظام الرأسمالي، بعد هزيمة النموذج الشيوعي، ومحاولة توحيد السوق العالمية وإخضاعها لقوانين مشتركة موحدة لإيجاد قوة اقتصادية مؤثرة في مختلف جوانب الحياة العالمية. فالعولمة، طبقاً لهذا الاتجاه، تعني "ظهور اقتصاد عالمي مفتوح ومتكامل، ونشأة نسق عالمي جديد يتخطى نسق الدولة القومية" وفي نفس الاتجاه يرى توماس فريدمان أن العولمة هي "نظام دولي جديد يعتمد على التكامل بين رأس المال، والتكنولوجيا، والمعلومات التي تتخطى الحدود القومية للدول بطريقة نشأ عنها سوق عالمية واجدة.... فالعولمة ظاهرة إيجابية تؤدي إلى ارتقاء الدول التي ترتبط بها، وانحطاط الدول التي قد تحاول الانفصال عنها". وباختصار يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن الديموقراطية الليبرالية والنظام الرأسمالي مازالا يشكلان الإطار الأساسي والوحيد للتنظيم السياسي والاقتصادي للمجتمعات المعاصرة.
الثالث: يرى أصحاب هذا الاتجاه أن ظاهرة العولمة هي عملية تبادل منافع وخبرات ومعارف بين جميع الأمم باختلاف حضاراتها وثقافاتها. وأن ظاهرة العولمة هي أمر واقع يجب التعامل معه بهدف تحقيق أعلى قدر من المكاسب والإقلال من الخسائر.فالعولمة من هذا المنظور، تحتوي على آثار إيجابية وآثار سلبية يجب التعامل معها بشكل متوازن كما يؤكد ذلك أحد منظري هذا الاتجاه وهو "جان آرت شولت". أي أن هذا الاتجاه يركز على "أهمية التعامل المتوازن مع القضايا التي تطرحها العولمة من خلال استراتيجية تقوم على التعامل التدريجي، والربط بين مختلف القضايا ا لمطروحة. فهذه الرؤية تنزع إلى فهم العولمة على أنها ظاهرة مركبة تتضمن أبعاداً إيجابية يجب الاستفادة منها (التطور الهائل في التكنولوجيا وانفتاح الأسواق ) وأخرى سلبية ينبغي تفاديها (مشاكل الفقر والجهل والديون وانتشار الأوبئة وتفشي ظاهرة تهميش المجتمعات النامية)"، ولذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه أن العولمة ليست هي "الأمركة" ويرجع ذلك إلى أن موقع الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً بل هناك تعدد للأقطاب. هناك قطب أوروبي وقطب ياباني وآخر صيني.
بعد استعراض الإطار النظري لهذه الدراسة يجب تحديد المفاهيم الأساسية حول الموضوع. وهي: العولمة، ودولة الرفاه، والشرعية. فمن خلال دراسة تلك المفاهيم نستطيع التعرف على تجلياتها المختلفة وكيفية التعامل معها، ويمكننا بعد ذلك معرفة آثار العولمة على شرعية الأنظمة السياسية.
[1] مفهوم العولمة:
دخل مصطلح العولمة عالم الفكر وأصبح من أكثر المصطلحات استخداماً في الأدبيات المعاصرة. فالمصطلح يثير الكثير من الجدل والنقاش بدءً من تحديد المفهوم، مروراً بتحديد مظاهر العولمة وأبعادها وطبيعة القوى الفاعلة المحركة لها، وانتهاءً برصد تأثيراتها وانعكاساتها الإيجابية والسلبية، القائمة والمحتملة، على الدول والمجتمعات. ولذلك فإن هذه الدراسة ليست بصدد تأريخ كامل لنشأة العولمة وتطورها، مع إدراكنا بأنها سريعة التغيير والتطور، ولكنها تهدف إلى معرفة حقيقة وأهداف وإفرازات هذه الظاهرة. وقد اختلف الكتاب في فهم العولمة وتحليل أبعادها. بل إنهم اختلفوا حول تحديد مسمى الظاهرة، فقد أسماها بعضهم "العولمة" وسماها آخرون "الكونية" بينما عرفها آخرون بأنها "الكوكبة". ورغم اختلاف الباحثين في تحديد المسمى إلا أنهم يطرحون تصورات وتفسيرات تكاد تكون متقاربة لظاهرة العولمة، بل إن هناك شبه اتفاق بين الكثير من المفكرين على أن للعولمة آثاراً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية.
وقد عرف بعض المفكرين العولمة بأنها "مجموعة الظواهر والمتغيرات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية والتكنولوجية التي تمتد تفاعلاتها وأبعادها وتأثيراتها لتشمل مختلف دول العالم بدرجات متفاوتة وبأشكال مختلفة." وعرفها آخرون بأنها "التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد، أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية". وأشار آخرون أن العولمة هي هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره بقوة، فالرأسمالية كنمط إنتاج تتغير ملامحها وأساليبها في الاستغلال عبر الزمن، ولذلك هناك علاقة قوية بين نشأة العولمة وانتشار الشركات متعدية الجنسية. فالعولمة بهذا المفهوم يتلازم معناها في مجال الإنتاج والتبادل المادي والرمزي مع معنى الانتقال من المجال الوطني، أو القومي، إلى المجال الكوني. فالمفهوم يحتوي على تحديد مكاني وزماني: فالمكان هو كامل الفضاء العالمي، أما الزمان فالحقبة التاريخية التي تلت قيام الدولة القومية التي أنجبها العصر الحديث إطاراً كيانياً لصناعة أهم وقائع التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويؤيد وجهة النظر هذه بعض المفكرين حيث يرى أن ظاهرة العولمة ليست حديثة بالدرجة التي قد توحي بها حداثة المفهوم. فالعناصر الأساسية في فكرة العولمة مثل ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء كانت في تبادل السلع والخدمات، أو انتشار المعلومات والأفكار، أو حتى في تأثر شعب من الشعوب بعادات وقيم غيره من الشعوب، كل هذه العناصر يعرفها العالم منذ خمسة قرون. إذن الظاهرة من هذا المنطلق عمرها عدة قرون، وبدايتها وغدها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتقدم تكنولوجية الاتصال والتجارة.
أما عالم السياسة الأمريكي، James Rosenau فيؤكد أن الوقت مازال مبكراً لوضع تعريف كامل وشامل يلائم التنوع الضخم للجوانب المتعددة لظاهرة العولمة، إلا أنه يرى بأن مفهوم العولمة يقيم "علاقة بين مستويات متعددة للتحليل: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الأيديولوجية، وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج، تداخل الصناعات عبر الحدود، انتشار أسواق التمويل، تماثل السلع المستهلكة في مختلف الدول، نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة." ويعتقد البعض بأن للعولمة تجليات متعددة: سياسية واقتصادية وثقافية واتصالية. فمن أبرز التجليات السياسية، سقوط الشمولية والنزوع إلى الديموقراطية الغربية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان. أما التجليات الاقتصادية فمن أبرز معالمها نمو الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصاديات القومية ووحدة الأسواق المالية وتعميق المبادلات التجارية. وتبرز التجليات الثقافية للعولمة في الاتجاه إلى صياغة ثقافة عالمية، لها قيمها ومعاييرها، والغرض منها هو ضبط سلوك الدول والشعوب. أما تجليات العولمة الاتصالية فتبرز من خلال البث التلفزيوني المباشر ومن خلال شبكة الإنترنت التي تربط البشر في جميع أنحاء العالم. إن بعض المفكرين يعتقد أن آثار العولمة لم يقتصر على التجليات السابقة بل يتعدى ذلك إلى التأثير على سيادة الدولة، حيث نلاحظ أن قدرة الدولة على ممارسة سيادتها على إقليمها بدأت تتغير في ظل تحولات عملية العولمة التي يشهدها العالم في الوقت الحالي. فسياسة العولمة تفرض قيوداً ومحددات على قرارات الدول وسياساتها، بل إن قدرات الدول على التحكم في عمليات التدفق الإعلامي والمعلوماتي والمالي عبر حدودها بدأت تتآكل وبصورة متسارعة الأمر الذي جعل البعض يتساءل عن مستقبل الدولة القومية في ظل هذه التحولات. وينظر البعض للعولمة على أنها إرادة للهيمنة على الهوية الثقافية الفردية والجماعية، والهيمنة السياسية والاقتصادية. أي أنها تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه (الولايات المتحدة الأمريكية) على بلدان العالم أجمع. والعولمة بهذا المفهوم هي أيديولوجية تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم "وأمركته" من خلال وسائل متعددة، كاستعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية، ولذلك فإن أيديولوجية العولمة تطرح حدوداً غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية بهدف الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك. ومن هذا المنطلق فهي ليست إلا مرادفاً "للأمركة" بمعنى تمدد الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد العالمي في غياب قوة رادعة، وسعيها إلى إعادة صياغة النظام العالمي طبقاً لمصالحها وتوجهاتها وأنماط القيم السائدة فيها.
يتضح من استعراض التعريفات السابقة لمفهوم العولمة أنها قد تفاوتت في الاقتراب من تحديد مفهوم ظاهرة العولمة، ولعل هذا التباين يعود إلى أن هذه الظاهرة لا تزال في طور التشكل والتطور، إلا أن هذه التعريفات قد أسهمت في إثراء أدبيات العولمة وتعميق فهمها على مختلف مستويات التفاعل للظاهرة. ولتحقيق هدفها ستأخذ هذه الدراسة بالتعريف التالي:
العولمة ظاهرة متعددة الأبعاد، تتضمن جوانب سياسية واقتصادية وثقافية ذات جذور غربية حيث نشأت نتيجة للتطور التكنولوجي للثورة الصناعية الغربية. فهي تعتبر القيم السياسية (الديموقراطية الغربية) والقيم الاقتصادية (تحرير التجارة الدولية وفتح الأسواق العالمية) والقيم الثقافية والأخلاقية الغربية بمثابة المعايير الوحيدة المقبولة للتعامل الدولي. وهذا سيؤدي حتماً إلى فرض منظومة القيم السياسية والاقتصادية والثقافية الغربية على دول العالم الثالث، دون الاعتداد بخصوصياتها وموروثاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأمر الذي سيؤدي إلى انحسار دور الدولة، بما فيها دولة الرفاه، حتى تحولت الدولة في العالم الثالث من أكثر أدوات العولمة فعالية.
[2] مفهوم دولة الرفاه:
منذ أواخر القرن التاسع عشر اتخذت بعض الدول الأوروبية سياسات تمثلت في التدخل المباشر لتوفير الرعاية الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، حيث سعت تلك الدول إلى زيادة دورها في تحسين مستوى الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين. وهذه السياسة هي ما يطلق عليها "سياسة الرفاه"، وتعني مجموعة البرامج التي تلتزم بها الدولة لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة لضمان مستوى معيشي للمواطنين. وتشمل هذه السياسات والبرامج الخدمات التالية:
- توفير التعليم العام.
- توفير الرعاية الصحية.
- توفير فرص العمل، أو أن تضمن الدولة حداً أدنى من الدخل في حالة البطالة.
- المساعدة في توفير المسكن المناسب.
- ضمان الرعاية الكاملة لمن هو في حاجة: كالعاجزين والمعاقين والفقراء.
والهدف من ذلك هو أن تتدخل الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي لقطاع كبير من المواطنين ورفاهتهم. ونتيجة لهذه السياسات والبرامج فقد زادت أهمية الدولة في حياة شرائح كبيرة من المجتمع، وزاد دورها في توفير مختلف أنواع الرعاية الضرورية للمواطنين. وانطلاقاً من هذه السياسات والبرامج فقد تجاوزت الدولة حدود وظائفها التقليدية، المتمثلة في توفير الأمن وتطبيق العدالة، لتقوم بوظائف إضافية قد لا تكون من وظائف الدولة. فالدولة التي تقدم مثل هذه السياسات والبرامج لمواطنيها يطلق عليها: "دولة الرفاه".
إن دور دولة الرفاه المعاصرة لم يتوقف عند توفير الخدمات الأساسية والرعاية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تعدى ذلك إلى (أ) ضمان الحقوق المدنية: كالمساواة أمام القانون وكفالة الحريات الفردية في العمل وحق الملكية والاعتقاد والرأي، (ب) ضمان الحقوق السياسية: كالمشاركة السياسية والتأثير في عملية ممارسة السلطة السياسية وحق التصويت والانتخاب والترشيح للمراكز السياسية. إن بروز دولة الرفاه في المجتمع الغربي جاء نتيجة لتطورات اقتصادية واجتماعية شهدها المجتمع الرأسمالي في أواخر القرن التاسع عشر، بعد نضال الطبقة العاملة ضد حالة الاستغلال التي صاحبت النظام الرأسمالي خلال تطوره، وذلك من أجل تحقيق مزيد من عدالة التوزيع للموارد في المجتمع والقضاء على أشكال عدم المساواة المنتشرة فيه. وقد أسهمت هذه السياسات في تخفيف حدة الصراع الاجتماعي والطبقي الأمر الذي أدى إلى الاستقرار السياسي في دولة الرفاه. إلا أن دولة الرفاه في العالم الثالث ما زالت معرضة لمخاطر عدم الاستقرار السياسي بسبب احتمالية فقدان الشرعية للأنظمة السياسية، نظراً إلى أن شرعية الأنظمة السياسية في دول الرفاه تعتمد على إرضاء المواطنين عبر الخدمات التي تقدمها بواسطة برامج الرعاية. ولذلك فإنه في حالة تقلص الخدمات التي تقدمها دولة الرفاه فإن ذلك سيؤدي إلى انتشار حالة عدم الرضا عن السلطة الحاكمة ومن ثم فقدان الشرعية السياسية الأمر الذي يقود إلى عدم الاستقرار السياسي.
أما في دول مجلس التعاون الخليجي فقد ظهرت سياسات الرفاه منذ ظهور الدولة الحديثة، وإن كانت بشكل متواضع كماً وكيفاً، في مجالات كالتعليم والصحة، ثم تطورت هذه البرامج والسياسات خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين نتيجة لزيادة العائدات النفطية. ففي سبيل تحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين قامت دول المجلس بتوفير فرص العمل للمواطنين في القطاع العام، وضمان حق التعليم المجاني، وتقديم خدمات الرعاية الصحية المجانية، وتقديم تسهيلات لتوفير السكن المريح، وتوفير خدمات الرعاية الاجتماعية، كمساعدات الضمان الاجتماعي، ورعاية الأيتام والعجزة والمعاقين. وهكذا بدأت الدولة في مجلس التعاون الخليجي تقدم الخدمات العامة للمواطنين بشكل منتظم، فضلاً عن توفير شبكات البنية الأساسية المتقدمة من طرق واتصالات ومواصلات، وغالباً ما تقدم هذه الخدمات مجاناً أو مقابل رسوم زهيدة.
[3] مفهوم الشرعية:
يشكل مفهوم الشرعية في علم السياسة مرتكزاً أساسياً في دراسة العديد من القضايا ذات العلاقة ببناء الدولة الحديثة، كالتطور السياسي والاقتصادي والتحول الاجتماعي ومسائل الديموقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، وأسس ممارسة السلطة. ومن الواضح أن الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث في معظمها –إن لم تكن في جملتها- تعاني من فقدان الشرعية السياسية بدرجات متفاوتة تصل في بعضها إلى مستوى الأزمة الحقيقية، إما بتضاؤلها أو بغيابها كلياً. وهذه الأزمة تعود في أساسها إلى مجموعة من الأسباب، قد يكون أهمها الأسباب الاجتماعية الهيكلية المرتبطة ببناء الدولة الحديثة، وفقدان التفاعل الإيجابي بين الحاكم والمحكوم. فمع وجود اتفاق نسبي بين المفكرين على تحديد مفهوم شرعية السلطة، إلا أن هناك ثمة تباين في تحديد مصادر الشرعية، وخاصة في دول العالم الثالث.
يذهب ماكس فيبر Max Weber في تحليله لمفهوم الشرعية إلى أن الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بأحقيته وجدارته في الحكم، وأنه من دون الشرعية يصعب على أي نظام حاكم أن يمتلك القدرة على حكم الدولة على المدى الطويل. وقد أكد هذا الأمر د. سعد الدين إبراهيم حيث يقول:
"قد يكون سبب قبول المحكومين لحق الحاكم في أن يحكم بوحي من معتقدهم الديني أو بوحي من تقاليد راسخة توارثوها عبر الأجيال، أو بسبب إعجابهم الشديد بصفاته وخصاله وما يجسده من قيم ومثل عليا يرنون إليها، أو لأنه يرعى مصالحهم ويوفر لهم الأمن والأمان، أو لأنهم اختاروه بأنفسهم وأعطوه هذا الحق لمدة معلومة. ولا ينطوي هذا التعريف، بالضرورة، على شرط الرضا الدائم عن الحاكم أو عن كل أفعاله. وإن كان ذلك مرغوباً من الحاكم والمحكومين على السواء. من دون الشرعية بهذا المعنى فإن الحاكم الفرد، أو النخبة الحاكمة أو النظام أو الحكومة، يكون دائماً خائفاً: غير مطمئن نفسياً، وغير مستقر اجتماعياً، وغير متمكن سياسياً، مهما استخدم من وسائل القهر والبطش، أو من ضروب المخادعة والانتهازية، أو من سبل الرشوة والترغيب."
أما ديفيد إيستون David Easton فيرى أن أقوى أنواع التأييد للحكام هو ذلك النوع المستمد من إيمان الأفراد بأن من واجبهم قبول وطاعة الحاكم والالتزام بمتطلبات النظام. وهذا يعكس، بشكل ضمني أو صريح، أن طاعة الفرد وقبوله لسلطة الحاكم تأتي من التطابق في المبادئ الأخلاقية، ولما هو صحيح وحق في المجال السياسي. بينما يرى تيد جرTed Gurr أن الأنظمة السياسية تكون شرعية طالما اعتقد المواطنون بأحقيتها في السلطة وأنها صالحة وتستحق التأييد والطاعة. أما سيمور ليبست Seymour Lipset فيرى أن شرعية النظام السياسي تعتمد على قدرة النظام نفسه على ترسيخ الثقة لدى المواطنين بأن المؤسسات السياسية القائمة هي الأفضل والأنسب للمجتمع، ومن هذه الثقة يحصل النظام السياسي على شرعيته.
من هذا المنطلق، نستطيع القول أن معيار شرعية الحاكم يتمحور حول "الرضا والقبول". ويقصد بذلك قبول المحكومين لسلطة الحاكم، الأمر الذي يستطيع من خلاله الحاكم ممارسة السلطة ومن ثم تحمل المسؤولية في إدارة شؤون الدولة داخلياً وخارجيا. إلا أنه يجب ملاحظة أنه ليس بالضرورة أن شرعية الحاكم يقررها التأييد أو تنفيها المعارضة، فقد يجد المحكومون أن من مصلحتهم أن يطيعوا إرادة النظام السياسي القائم لكونها تتسق مع قيم المحكومين ومبادئهم وأخلاقياتهم وأمانيهم وتحقق المنفعة العامة على المدى الطويل. ولذلك فالشرعية بهذا المعنى أوسع وأشمل من التأييد أو المعارضة. وقد يتذمر المحكومون من بعض قرارات وسياسات السلطة، إلا أن هذا لا ينفي شرعية السلطة طالما شعر المواطنون أن السلطة في توجهها العام سلطة وطنية منسجمة مع التاريخ الوطني للدولة ومخلصة بوجه عام لإرادة الشعب وللقيم العامة التي تحكم سلوكيات جميع أفراد الشعب.
ويقابل مفهوم الشرعية في الفكر السياسي عموماً مفهوم البيعة في الفكر الإسلامي، حيث أن شرعية الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي تتحقق من خلال مرتكزين أساسيين: [أ] البيعة الشرعية، [ب] تطبيق الأحكام الشرعية. إذن البيعة قد تستخدم كآلية لاختيار الحاكم وهي كذلك ركيزة أساسية لتثبيت شرعية الحاكم. وفي هذا الإطار يقول ابن خلدون: "اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر في المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد." وبهذا تعتبر البيعة الشرعية هي الآلية التي تتحقق بموجبها شرعية الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي. وقد حدد أبو الحسن الماوردي أهلية الحاكم لممارسة السلطة ضمن شروط سبعة: العدالة على شروطها الجامعة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، وسلامة الحواس، وسلامة أعضاء الجسد، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة، والنسب. أي أن البيعة الشرعية للحاكم، والتي بدورها تفضي إلى شرعية السلطة، لا تعطى إلا لمن تتوفر فيه الشروط السابقة. فالحاكم نائب عن الأمة في الحكم والسلطان، اختارته وبايعته برضائها ليطبق عليها شرع الله، وهو في هذه الحالة مقيد في جميع تصرفاته وأحكامه ورعايته لشؤون الأمة ومصالحها بالأحكام الشرعية. إذن الأمة هي صاحبة السلطة، تمتلك حق اختيار الحاكم وتنصيبه وعزله. فشرعية الحاكم من المنظور الإسلامي تنطلق من معيارين: الرضا والاختيار ثم البيعة والطاعة. ومن تمت بيعته البيعة الشرعية وجبت طاعته، وهذا يدل على أن السلطان للأمة تعطي الشرعية للحاكم وتحجبها عنه إن هو خرج عن الأحكام الشرعية. وهذا الحكم (البيعة الشرعية) يسري على كل من تولى أمر المسلمين.
المبحث الثاني: مصادر الشرعية للأنظمة السياسية.
انطلاقا من المحددات السابقة لمفهوم الشرعية، اجتهد العلماء والمفكرون لتحديد مصادر الشرعية التي يستند إليها الحاكم في ممارسة السلطة وإدارة شؤون الدولة. لقد تعامل الفكر السياسي (بشقيه الغربي والإسلامي) مع مصادر شرعية النظم السياسية من منطلقات متباينة. حيث ينطلق الفكر الغربي من العقلانية المؤسسة على فلسفة الحقوق الطبيعية، بمعزل عن التعاليم الدينية. فقد وضع ماكس فيبر ثلاثة نماذج مثالية لمصادر الشرعية في الدولة.
(1) الشرعية التقليدية. Traditional Legitimacy وتركز على قوة العادات والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمع التي تحدد أحقية الحاكم في الحكم، ويبرز فيها ولاء الأفراد من خلال احترامهم للمكانة التقليدية للحاكم إما بحكم الوراثة أو بالامتثال للأوامر الدينية.
(2) الشرعية العقلانية – القانونية.Legal-rational Legitimacy ويعتمد هذا المصدر على قواعد مقننة موضوعية غير شخصية تحدد واجبات وحقوق الحاكم والمحكومين، وأسلوب الوصول إلى السلطة، وتداول السلطة وممارستها، وهذا يعتمد على إيمان المحكومين بأن هناك مؤسسات سياسية تقوم بوضع إجراءات وقواعد ملائمة تحظى بقبول الحكام والمحكومين. ويرى بعض المفكرين أن نموذج العقلانية-القانونية هو المصدر الرئيسي في بناء الدولة القومية الحديثة في الغرب، حيث ارتبط بهذا المصدر ظروف تاريخية وهيكلية حكمت مسيرة التطور الاجتماعي – الاقتصادي للمجتمعات الغربية في القرون الأربعة الأخيرة، وجاء ترجمة سياسية لهذه المسيرة، والتي من نتاجها "الديموقراطية الليبرالية" في الغرب.
(3) الزعامة الملهمة. Charisma وهي القيادة الفذة التاريخية القادرة على التأثير في المجتمع والدولة. وشرعية هذا النوع من الحكام ترتبط بشخص الحاكم، حيث هو مصدر جذب وإعجاب المحكومين بصفاته وأعماله وقيمه ومثله العليا. ويرتبط هذا النموذج للشرعية بالحاكم، مما يعني أن الشرعية وقتية تنتهي بغياب الحاكم عن الساحة السياسية.
أما ديفيد إيستون David Easton فينطلق من محددات مختلفة لمصادر الشرعية، تتمثل في العناصر التالية:
(1) الشرعية الشخصية Personal Legitimacy حيث تلعب شخصية الحاكم دوراً جوهرياً في تحقيق شرعية النظام اعتمادا على قوة الشخصية وفاعلية الإنجاز، حيث هي أقوى وأكثر هيمنة وتأثيراً من الشخصية الكاريزمية في النمط الفيبري.
(2) الشرعية الإيديولوجية Ideological Legitimacy وهي الشرعية التي يكتسبها الحاكم من خلال اطروحاته العقائدية، ومن خلال استخدام المنهج التعبوي الفكري والعقائدي للجماهير، الأمر الذي يؤدي إلى "أدلجة" المحكومين، لذا فإن العامل الأساسي في إضفاء الشرعية على فعالية النظام السياسي يكمن في عملية التوافق بين الإيديولوجية التي يروج لها النظام السياسي وبين قناعات المحكومين.
(3) الشرعية البنائية Structural Legitimacy ويقصد بها الشرعية التي يكتسبها النظام السياسي من خلال بناء الهياكل والمؤسسات السياسية في الدولة، وذلك في محاولة لتأكيد دور المؤسسات وأهميتها في ترسيخ شرعية النظام السياسي. فالمؤسسات السياسية في حد ذاتها تعتبر مصدراً أساسياً للشرعية في حالة تفعيلها، حيث تمنح الشرعية القانونية للنظام السياسي.
أما كارل دويتش Karl W. Deutsch فيرى أن الشرعية المؤسسية (البنيوية-الدستورية) تقوم على ثلاثة أسس:
(1) الأساس الدستوري: ومضمونه أن شرعية السلطة تتحقق وفقاً لمبادئ البلاد الدستورية والشرعية.
(2) الأساس التمثيلي: وتقوم شرعية النظام على اقتناع المحكومين بأن الذين في السلطة يمثلونهم ولم يصلوا إلى السلطة إلا من خلال الوسائل المشروعة.
(3) أساس الإنجاز: حيث تتحقق الشرعية للنظام السياسي من خلال الإنجازات التي تتم في المجتمع وللمصلحة العامة.
بينما يذهب بعض المفكرين إلى تحديدات أخرى لمصادر الشرعية تتمحور حول المفاهيم التالية:
(1) الشرعية الثورية: ويستند النظام السياسي في توليه للحكم على شرعية الثورة، سواء أكانت هذه الثورة من أجل الاستقلال أو الثورة ضد نظام سياسي آخر. ففي هذه الحالة يحاول النظام السياسي الذي يأتي إلى الحكم استثمار أسلوبه الثوري في تثبيت شرعيته السياسية.
(2) الشرعية الثيوقراطية: وهي الشرعية التي تنبثق من الاعتقاد بأن الحاكم يتمتع بصفة القداسة، إنطلاقاً من أنه يستمد السلطة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك فالحاكم يحاول فرض طاعته على المحكومين اعتماداً على هذه القداسة.
(3) الشرعية الديموقراطية: في هذا النمط من أنماط الشرعية يستمد الحاكم شرعيته من المحكومين حيث أن المحكومين يخولون الحاكم سلطة إدارة شؤون الدولة، ولذلك فسلطة الحاكم هنا هي سلطة شرعية لأنها جاءت بطرق مشروعة تكفل بتحقيقها دستور الدولة.
أما في الفكر السياسي الإسلامي، فإن مصدر شرعية الحاكم يقوم على أساس الشورى، بحيث يتمكن الحاكم من الاستناد إلى هذه الشرعية من ممارسة السلطة في إطار الشرع الإسلامي. ويستند مصدر الشورى كأساس لشرعية الحاكم إلى نصوص قرآنية وأحاديث نبوية شريفة. قال الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر). أما في التراث النبوي فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يستشير في مختلف الأمور العامة، سياسية كانت أو اقتصادية أو عسكرية، وكان يؤكد على مبدأ الشورى كأساس للتفاعل مع الأمة. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [ما رأيت أحداً أكثر من مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وطبقت الشورى كأساس لشرعية الحاكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي دولة الخلافة الراشدة لعب مبدأ الشورى دوراً جوهرياً في تحقيق شرعية النظام السياسي إنطلاقاً من: أولاً/ عملية اختيار الخليفة، حيث يقوم أهل الشورى بترشيح الخليفة. ثانياً/ أخذ البيعة العامة من الشعب، وهي الآلية التي تثبت شرعية الحاكم.
من الاستعراض السابق للمعايير التي نقيس بها مفهوم ومصادر الشرعية، نستنتج أن أنماط مصادر الشرعية متعددة وتختلف من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر ومن فكر إلى آخر. وسنقوم بتوظيف الاطروحات الفكرية السابقة للبحث في مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي، ومعرفة إلى أي من هذه المصادر تستند الأنظمة السياسية في دول المجلس في بناء شرعيتها؟ أم أن لها خصوصية مختلفة؟
المبحث الثالث: مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي
يجد المتابع لدراسة الأنظمة السياسية في دول المجلس أنها تختلف عن غيرها من الدول، فهي تتشابه بشكل كبير في تركيبتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي بنائها الثقافي والقيمي، وانطلاقاً من هذا التشابه، فهي تستند في إضفاء الشرعية على سلطاتها بتبني مناهج قد تكون متشابهة إلى حد كبير. ولدراسة مصادر الشرعية لدول المجلس، فإنه يتعين علينا النظر برؤية متسقة لمسيرة الدولة والمجتمع في الخليج، وتحديد وبلورة القيم التي تحكمها، فتنظيم الدولة وبناء شرعية سلطتها تعتبر من الأمور الجوهرية التي تشارك فيها كافة القوى السياسية والاجتماعية في هذه الدول. أي أن هذه الأنظمة اكتسبت الشرعية من خلال قيامها بتنويع أساليب الأسس الشرعية وتفاعل مجموعة من المعايير، والتي تعتبر بحد ذاتها معايير لمصادر شرعيتها. ومن هذا المنطلق تنقسم مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي إلى قسمين: (أ) مصادر الشرعية التقليدية (ب) شرعية التنمية والإنجازات. والأنظمة السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي تدرجت شرعيتها من الشرعية التقليدية إلى شرعية الإنجازات ثم أخيراً تحاول الانتقال إلى شرعية المؤسسات السياسية. إذن هي لم تتوقف عند الشرعية التقليدية فحسب، بل تحاول البحث عن شرعية غير تقليدية لتتواءم مع المغيرات الجديدة بما في ذلك متغيرات العولمة.
(أ) مصادر الشرعية التقليدية:
(1) بناء الدولة. جميع دول المجلس دول حديثة التكوين. فقد ساهمت مجموعة من العوامل الداخلية (مجتمعية) والخارجية (دولية) في تشكل هذه الدول. إن إحدى مقومات شرعية الحكام في دول المجلس تعود إلى أسس بناء الدولة. أي تأسيس الدولة ككيان سياسي معترف به. فقد ساهمت وناضلت الأسر الحاكمة في دول المجلس في قيام هذه الكيانات السياسية. وفي دول العالم الثالث (ودول الخليج ليست استثناءً) يعد مثل هذا الإنجاز السياسي الكبير أحد العوامل التي تعطي الحاكم شرعية الاحتفاظ بالسلطة، وقبول واعتراف المحكومين بهذا الحق.
(2) البعد الديني الإسلامي كمصدر للشرعية. لا شك أن جميع دول المجلس منذ نشأتها وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقيم الدينية والحضارة الإسلامية، بل إن دولتين من دول المجلس (السعودية وعمان) قامتا على أساس ديني. فالإسلام هو حجر الزاوية في بناء المجتمع والهيكل السياسي في هذه الدول، وهو الأساس الأصلي للنظام الدستوري والنظام التشريعي بصورة عامة. ولقد أوجدت دول المجلس توازناً بين السلطة السياسية والمؤسسات الدينية، وهذا التوازن يتجلى في مفهوم الحكم وشرعية الدولة في الأنظمة السياسية لدول المجلس. بحيث أصبحت المؤسسات الدينية في حالة ترابط عضوي مع السلطة السياسية، وهذا الترابط العضوي تتم ممارسته في هياكل الدولة بشكل مستمر، انطلاقا من المبدأ الأساسي وهو أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا يوجد فرق بين الجانب الروحاني والجانب الدنيوي من الحياة في المجتمع الإسلامي. ولذلك فالعلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في هذه الدول تتصف بخاصية التوازن بين هاتين السلطتين، حيث تقوم المؤسسة الدينية بدعم السلطة السياسية في نطاق المبادئ الإسلامية، ومن جهة أخرى تقوم السلطة السياسية بالتأكيد على تطبيق المبادئ الإسلامية في المجتمع. ففي المجتمعات الخليجية المحافظة نجد أن الهيكل القيمي لمعظم السكان في دول المجلس هو هيكل متسق مع النظم السياسية. وبناءً على هذا فقد قامت دول المجلس باستثمار الولاء العقيدي للسكان في بناء شرعية سياسية بالاعتماد على البعد العقائدي. وتمكنت من بناء مؤسسات دينية ساهمت في ترسيخ الولاء للأنظمة من منطلق كونها أنظمة "تطبق الشرع". ومن ثم فقد اعتبرت السلطة السياسية أن التمسك بالقيم الإسلامية يمثل القاعدة الأساسية المضمونة لتأمين شرعية نفوذ السلطة السياسية.
(3) الإرث التاريخي كمصدر للشرعية. الأنظمة السياسية الحاكمة في دول المجلس لم تكن جديدة على السلطة، بل هي امتداد لسلالات حاكمة في المنطقة منذ قرون. فالمتتبع لتاريخ هذه الأسر الحاكمة يجد أن لها تاريخاً وراثياً طويلاً في السلطة، سواء على مستوى المدينة أو القرية أو حتى على مستوى القبيلة، (انظر الجدول رقم 1). وهذا الإرث التاريخي أعطاها شرعية ثابتة ومستقرة يعكسه اعتراف القوى السياسية والاجتماعية الأخرى في هذه المجتمعات بأحقيتها في السلطة، وقد شكلت تلك القوى ثقلاً شعبياً تستمد منه الأنظمة شرعيتها، الأمر الذي أدى إلى تضامن هذه القوى المجتمعية معها في إطار تحقيق مهام مشتركة، مما أضفى على هذه الأنظمة مسحة من الشرعية وأكسبها قاعدة شعبية ورصيداً سياسياً نتيجة لغياب القوى المنافسة أو البديلة.
جدول رقم (1)
الأسر الحاكمة وانتماءاتها القبلية وبداية حكمها
الأسرة الحاكمة الانتماء القبلي بداية الحكم مركز الحكم ملاحظات
آل سـعود بني حنيفة 1744 الدرعية المملكة العربية السعودية
آل الصباح عنزه 1752 الكويت
آل خليفة عنزه 1766 البحرين
آل ثاني تميم 1850 قطر
آل بوسعيد البوسعيدي 1744 عمان
آل نهـيان بني يأس 1791 أبو ظبي الإمارات العربية المتحدة
Source: Sirhan D. AL-Otaibi. The Gulf Cooperation council: A Study of The Political Elites’ Perceptions of the Need for Cooperation Among the Arab Gulf States, 1975-1981. (Unpublished Ph.D Thesis, University of Exeter, Uk, 1990) pp.29-85
(ب) شرعية التنمية والإنجازات:
إن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي منذ أوائل السبعينات أدت إلى التآكل والانحسار التدريجي للمصادر التقليدية للشرعية الأمر الذي أدى إلى تحولات في استراتيجية الأنظمة السياسية في البحث عن مصادر بديلة للشرعية. فتعرض المصادر التقليدية لشرعية الأنظمة السياسية لهزات متعددة جعلها تحاول تعزيز شرعيتها بما تطرحه من برامج تنموية وتطويرية من خلال ما يعرف بخطط التنمية الخمسية. فالطفرة النفطية في المجتمعات الخليجية والتي ارتبطت بارتفاع أسعار النفط في أعقاب حرب أكتوبر 1973، وتدفق البترودولار على دول الخليج، مكنت دول مجلس التعاون الخليجي من إتباع سياسات تنموية متسارعة استفادت منها معظم فئات المجتمع، ووفرت استقراراً داخلياً قام على خدمات دولة الرفاه والرعاية الاجتماعية الشاملة للمجتمع، وما صاحب ذلك من إعادة بناء مصادر الشرعية للأنظمة السياسية في إطار ما يعرف بشرعية التنمية والإنجازات. وقد برز ذلك في عاملين رئيسيين هما:
[1] سياسات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي. من المعروف أن الدولة إذا ارتبطت سياساتها وبرامجها الاجتماعية والاقتصادية بتوفير الخدمات الأساسية لأفراد المجتمع أصبحت تعرف بدولة الرفاه The Welfare State. ولذلك يرى بعض المفكرين أن سياسات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي جاءت لتحقيق مزيداً من عدالة التوزيع والقضاء على أشكال عدم المساواة في المجتمع الرأسمالي، وكذلك ضمان الحقوق الاجتماعية: كحقوق التمتع بالخدمات الصحية والتعليمية والرعاية الاجتماعية، والحقوق السياسية: كحق المشاركة والتأثير في عملية ممارسة السلطة السياسية وحق الانتخاب والتصويت والترشيح وحق تشكيل التنظيمات السياسية والأحزاب السياسية، والمساواة أمام القانون، وكفالة الحريات الفردية في العمل والتملك والاعتقاد والرأي. وقد تميز دور الدولة في دول المجلس بدور مهم في توفير الخدمات الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين وفي توفير الضمان الاجتماعي ورعاية المحتاجين وتقديم المساعدات لتوفير السكن وتقديم مساعدات وإعانات للمواد الاستهلاكية الضرورية.
وقد برزت ظاهرة دولة الرفاه في مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي منذ السبعينات من القرن العشرين وأصبحت الدولة مصدر جميع الخدمات الأساسية، مثل توفير فرص التعليم المجاني في الداخل والخارج لكافة شرائح المجتمع، وكذلك توفير الرعاية الصحية والاجتماعية وتوفير السكن والضمان الاجتماعي. ويرجع ذلك إلى أن الدولة في الخليج هي دولة ريعية (Rentier State) بالدرجة الأولى نظراً لامتلاكها مصادر القوة الاقتصادية، واستحواذ النخب السياسية الحاكمة في دول المجلس على القوة السياسية، الأمر الذي يؤدي إلى سيطرتها على القوة الاقتصادية وبالتالي تتمتع هذه النخب الحاكمة بدور جوهري في عملية توزيع الدخل والذي بدوره ينعكس على أنماط السلوك الاقتصادي والاجتماعي لمختلف شرائح المجتمع. وقد استطاعت دول المجلس أن تطور، وبنسب مختلفة، مجموعة من البرامج والسياسات لتحقيق مزيداً من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين. فدولة الرفاه عندما تقدم مثل هذه البرامج والسياسات لأفراد المجتمع تعتقد أنها تقوم بعملية كسب الرضا والقبول من أفراد المجتمع. وقد انعكس هذا الدور الذي تقوم به الدولة، باعتبارها مصدراً لبرامج وسياسات الرفاه، في تحديد علاقة الأفراد بالدولة ونظرتهم إلى حقوقهم في المشاركة السياسية، بحيث أصبحوا بشكل عام أقل تشدداً في المطالبة بهذه الحقوق، خاصة وقد أسقطت الدولة عن المواطنين بعض الأعباء العامة التي يدفعها نظراؤهم في الدول الديموقراطية مثل الضرائب والرسوم. أي أن انعدام حجم الأعباء المفروضة على الأفراد قد خفف من المطالبة بالمشاركة في الحكم. ولذلك فإن سياسيات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي التي تبنتها دول المجلس جاءت من أجل تحقيق مزيد من شرعية الأنظمة السياسية وبالتالي الاستقرار السياسي.
وقد شهدت أربع دول (السعودية، الكويت، قطر، الإمارات) تطوراً متسارعاً لسياسات الرفاه الاجتماعي والاقتصادي خلال الثلاثة عقود الماضية وذلك نتيجة لزيادة عائدات البترول، الأمر الذي أدى إلى تمكين هذه الدول:
"من تدعيم شرعيتها الداخلية، وذلك من خلال قدرتها على إشباع كثير من الحاجات الاقتصادية والاجتماعية لدى السكان، مما جعل الإحساس بعجز الدولة عن الوفاء بمسئولياتها ليس شديداً من قبل الفئات الاجتماعية، ومن ثم التغطية على إجراءات وممارسة الدولة القمعية، أو بمعنى أدق وأوضح صرف أنظار غالبية السكان عن التفكير أو المطالبة بحقوقها السياسية في ممارسة السلطة، أو المطالبة بتقييد سلطات الحاكم".
أما عمان والبحرين فقد حققت مستويات متوسطة من سياسات الرفاه، ويرجع ذلك إلى مستوياتها الاقتصادية المتواضعة. ولقد صاحب هذه الإنجازات الكبيرة في رفاهية المواطن آثاراً سياسية مهمة تمحورت حول تحقيق مستوى عال من الرضا والقبول للأنظمة السياسية الحاكمة في دول المجلس، حيث أصبح الرضا والقبول رافداً من روافد شرعية هذه الأنظمة.
[2] توسيع مجالات فرص العمل. لم يقتصر دور دولة الرفاه في الخليج على تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل تعداه إلى أن أصبحت الدولة المصدر الرئيسي للتوظيف. فالتطور المتسارع الذي شهده القطاع العام في دول مجلس التعاون الخليجي وهيمنته الواضحة على الاقتصاد الوطني نتيجة لطبيعته الريعية، وحصول هذه الدول على "الريع النفطي" بشكل مباشر، وعدم ارتباط هذا الريع بالإنتاجية المحلية، أدى إلى قيام الدولة بدور مهم في توفير فرص العمل للمواطنين في القطاع الحكومي. فالحكومة أكبر مستخدم للعمالة الوطنية، ولذلك يتطلع المواطنون إلى الدولة للحصول على وظيفة حكومية، وتستجيب الدولة في كثير من الأحيان لتطلع المواطنين حيث تجد الغالبية العظمى من اليد العاملة الوطنية فرصاً للعمل في الحكومة، بصرف النظر عن كفاءتهم ومؤهلاتهم. لقد قامت دول المجلس بتوسيع مجالات الفرص للعمل أمام أعداد متزايدة من كل الشرائح الاجتماعية، وذلك من خلال التوظيف في الأجهزة المختلفة للدولة. ومع زيادة العائدات البترولية تطلب الأمر التوسع في الأجهزة الحكومية مما أدى إلى تضخم جهاز الدولة وزيادة عدد الوظائف. (أنظر الجدول رقم 2)
(جدول رقم 2)
نسبة المواطنين العاملين في الحكومة من إجمالي اليد العاملة الوطنية في بعض دول الخليج.
الدولة 1991 1992 1993 1994 1995 1996 1997 1998 1999
السعودية 13.4 14.2 13.1 12.8 12.8 12.6 12.6 12.4 12.1
سلطنة عمان 64.9 64.9 66.0 67.1 68.5 67.2 68.1 68.3 71.2
دولة الكويت N.A 76.6 75.7 71.4 69.6 70.7 71.7 73.0 75.1
دولة قطر 62.4 64.3 67.2 69.5 70.1 68.7 71.6 73.2 72.6
المصدر: كتب الحسابات الختامية للدولة خلال الفترة (1991-1999) وزارة المالية ( سلطنة عمان). والمجموعة الإحصائية. خلال الفترة (1991-1999) وزارة المالية. دولة الكويت. مؤسسة النقد العربي السعودي: التقرير السنوي لعدد من السنوات المتفرقة (1991-2004).
لذلك نجد أن أسباب تضخم الجهاز الحكومي في دول مجلس التعاون الخليجي تتمحور حول أهداف سياسية وأمنية، تتمثل في استقطاب وتوظيف الخريجين الجدد والعناصر المسيسة من مختلف شرائح المجتمع، وتوسيع أنشطة الدولة وسيطرتها على قضايا مثل التعليم والصحة والاتصالات والمواصلات، مما يؤدي إلى الربط المباشر بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والدولة، وإلى ترسيخ القبول والرضا لدى المواطن ومن ثم ترسيخ ما يسمى "شرعية الإنجازات" للنظام السياسي.
إن سياسيات دول المجلس الرامية إلى ضمان الوظائف الحكومية للمواطنين وتوفير فرص عمل مناسبة وبالتالي ضمان دخول مالية مناسبة لتحقيق الإشباع المادي للمواطنين فيها، تهدف بالضرورة إلى الحصول على رضا وقبول المحكومين بسياسات الحكام في ممارسة للسلطة السياسية، وتهدف كذلك إلى بناء شرعية سياسية قائمة على الإنجازات المتعددة للسلطة، الأمر الذي يؤدي إلى تأكيد أسس الاستقرار السياسي في هذه الدول. فالرغبة في تدعيم شرعية السلطة في دول المجلس تدفع الأنظمة السياسية إلى استخدام القطاع العام في تقديم إنجازات ضخمة أو مضخمة بأسرع وقت، خاصة وأن تلك الأنظمة السياسية غير راغبة في بناء شرعية مؤسساتية قائمة على المشاركة السياسية. هنا يصبح القطاع العام أداة فعالة لتجريد الفعاليات المجتمعية الوسيطة (الطبقة الوسطى) من مرتكزات فاعليتها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وكذلك أداة لربط المصالح اليومية الحياتية للأفراد وللجماعات باستقرار واستمرارية النظام السياسي في دول المجلس، الأمر الذي يؤدي إلى احتواء واستقطاب العناصر المسيسة من مختلف شرائح المجتمع، والحفاظ على التوازنات القبلية أو الجهوية أو الطائفية. حيث لم تشهد دول المجلس تغيرات سياسية جذرية كالانقلابات العسكرية، ولم تشهد أعمال عنف ولا معارضة سياسية قوية وفعالة خلال السبعينات أو الثمانينيات من القرن الماضي.