منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#36243
اليابان تعيش مرحلة عزلة طويلة الأمد:

دخلت اليابان في أواسط القرن السادس عشر الميلادي في فترة من العزلة (1637 – 1853 ) أغلقت خلالها جميع حدودها مع العالم الخارجي ، تميزت تلك الفترة في نمو النزعة القومية اليابانية وقيام نظام سياسي ذو سلطة مركزية صارمة ، لتنتعش خلالها الروح العسكرية اليابانية التي أدت لظهور الطبقة العسكرية اليابانية يقودها الشوغون (الحاكم العسكري العام) على رأس نظام حكم اطلق عليه نظام بوشيدو المبني على مباديء الديانة الكونفوشيوسية ، وهذا النظام يرتكز على ثلاثة قيم هي :الحكمة ، اليقظة، والشجاعة، وهذه المرتكزات الأساسية التي تشكل قاعدة نظام القيم المعتمد عند المقاتل الياباني(الساموراي ) ، جدير بالذكر أن أول التحديات التي واجهتها اليابان كانت في بدء انتشار قيم الديانة المسيحية التي دخلت اليابان لتبدأ بالتبشير بقيم ومباديء السلام ،المحبة ، والتسامح ، وما نشأ عنه من تناقض في مجتمع تسوده الديانة البوذية التي تتميز بتقاليد اجتماعية صارمة تمجد مباديء القوة بشكل قوي وتعتمد تقاليد تتمثل في الخضوع التام للشعب لزعماء الطبقة الحاكمة ، وتفاقمت الأمور مع محاولات الغرب في نشر القيم الغربية المتمثلة بالليبرالية والديمقراطية والتبشير بالمسيحية في اليابان لتغيير المجتمع الياباني وجعله على غرار المجتمعات الغربية ونشر المفهوم الغربي للمساواة بين الحاكم والمحكوم ، والتي خلقت حالة من اللاستقرار في المجتمع الكلاسيكي الياباني المغلق الذي أثار حكام اليابان ليجدوا أنفسهم في وضع صعب ومحاصرين من قبل قيم غريبة عليهم والتي ستجردهم من وسائل قوتهم في وقت كانت فيه اليابان تعاني من النزاعات المستمرة بين أفراد الطبقة الحاكمة التي شعرت بكونها غير قادرة لمواجهة التدخلات الخارجية ، وليبرز أول رد فعل قوي من قبل الشوغون والدايمو من حكام المقاطعات اليابانية دفاعاً عن المجتمع الياباني وقيمه ، فقاموا بمذابح ضد كافة المسيحيين في اليابان وضربوا طوق من العزلة حول اليابان لأكثر من 200 سنة ، مع تدمير وإزالة كافة المراكز المحلية التي بناها الغرب في اليابان طوال الفترة الماضية ، وهدد الشوغون بعقوبة الاعدام على المهاجرين الذين يغادروا اليابان بطرق سرية ، وعلى أي ياباني يبقى خارج اليابان لمدة تزيد على الخمس سنوات بعد صدور تلك التعليمات، ولم يعد مسموحاً عقد صفقات تجارية مباشرة مع الأجانب وحظر كافة المراكز التبشيرية لتعيش اليابان عزلة تامة دامت حتى 1853 ،لكن آثار العزلة لم تنتهي لغاية بداية حركة الإصلاح في عهد الإمبراطور ميجي عام 1868 .
يمكن اعتبار عام 1853 كمنعطف خطير في تأريخ اليابان حيث قام قائد الاسطول الأمريكي ماثيو بيري في شهر تموز عام 1853 بمحاصرة السواحل اليابانية وقامت السفن بقصف السواحل اليابانية بوابل من القذائف أجبرت اليابان على فتح حدودها ، وعلى أثرها وقعت اليابان معاهدات صـداقة مع الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وهولندا وفرنسا ، شكلت تلك المعاهدات الجديدة انتقاصاً حقيقياً لسيادة اليابانيين على موانئهم، وبسبب سياسة الانفتاح تلك شهدت اليابان عدد من الحروب الداخلية أستمرت لمدة عشر سنوات بسبب معارضة بعض حكام الولايات سياسة الإنفتاح على الخارج ورغبة الإقطاعيين في المحافظة على سلطاتهم المحلية، إلى أن إنتهى الأمر بإنهيار حكومة توكوغاوا العسكرية التي كانت مدعومة من قبل الاقطاعيين , بعدها تولى الإمبراطور موتسوهيتو الحكم في 3 كانون الثاني 1868 وقد كان يطلق عليه إسم الإمبراطور ميجي MEIJI أي المصلح المتنور، وتميزت فترة حكمه بإصلاحات مهمة أبرزها إعلان مباديء الإصلاح الخمسة ، ويعتبر المؤرخون أن تاريخ اليابان المعاصر بدأ بعصر ( ميجي ) ‏(1868‏ ـ‏1912)‏ وهو العهد الذي تلى فترة (الشوغن) أو النظام الإقطاعي للساموراي، حيث وضعت فيه الأسس الحقيقية لنهضة اليابان المعاصرة في جميع المجالات ، وانطلقت مسيرة الإصلاح عبر فكرة كون اليابان لديها خصوصية فريدة في العالم لأنها تضم شعبا متجانسا يقيم على أرض مقدسة ترعاها الآلهة، ويعتبر الإمبراطور من سلالة الآلهة وأبا لجميع اليابانيين الذين يشكلون عائلة واحدة، ولهم دولة واحدة تعتبرهم أبناء متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أي انقسام طبقي أو لغوي أو ديني أو عرقي. فالجميع عائلة واحدة، في دولة مركزية واحدة، لها أب واحد هو الإمبراطور، وقد جعلت حركة الاصلاح اليابان بلد غني ولديه جيش قوي وعمل قادة الإصلاح في البداية على تحويل اليابان إلى بلد ديمقراطي على غرار الغرب وبشروا بمباديء السلام والأمن والاستقرار وتم رفع شعار" التقنية الغربية والروح اليابانية" ، وبدأت اليابان عملياً بتبني استراتيجية الرد على التحدي الغربي بتحويل اليابان إلى دولة قوية خلال الفترة 1853 – 1945 ، وبدأت على إثرها تظهر لديها بوادر الدولة الامبريالية ، وقد نجح الإمبراطور ميجي في عصرنة المجتمع الياباني على جميع المستويات وصد مخاطر التدخل الأجنبي ، وانصرفت الدولة كلياً إلى دراسة الحضارة الغربية وتبنيها وعمدت اليابان الى فرض قانون التعليم الالزامي رافقته أعادة تأهيل القطاع التعليمي وانشاء عدد من الجامعات في مختلف الاقاليم اليابانية، ومما ساعد على تلك الاصلاحات هو القدرة الاقتصادية الذي شهدته اليابان في مرحلة العزلة الطوعية المعروفة تاريخيا بمرحلة توكوغاوا، والتي استفاد منها الإمبراطور ميجي حيث استطاع بناء جيش قوي وتأسيس بنية تحتية قوية لصناعات حربية حديثة ، ولتنطلق النهضة اليابانية التي حولت اليابان إلى واحدة من أقوى الدول في العالم في بدايات القرن العشرين ، ويكمن سر نجاح الحركة الاصلاحية اليابانية بسبب تبنيها لاستراتيجية لا تتعارض فيها الحداثة والأصالة والتي عملت على عدة مستويات هي في تحديث الجيش وإعادة النظر في سير عمليات الانتاج مع المحافظة على الخصوصية اليابانية ، وتضمنت تقوية الجيش بالعمل على تحويل ولاء البوشي والساموراي لقادتهم والاستعداد للموت في سبيل مبادئهم المعروفة بالبوشيدو Bushido إلى ولاء للدولة اليابانية بعد توسيع الجيش ليضم كافة الطبقات الاجتماعية (البوشي هم محاربون ظهر دورهم عام 1185 ، والساموراي كانوا بمثابة موظفين يحملون السلاح لحفظ الأمن وظهر دورهم سنة 1615 ، لم يعرفوا في حياتهم غير الحروب المتواصلة، كان قدرهم يتحدد في قلب المعارك التي كانوا يخوضونها) ،وبسبب عملية التحديث تحولت اليابان إلى دولة مركزية حصرت كل الصلاحيات بيد الإمبراطور وتبع الشعب الياباني قادته الجديدة بطاعة تامة استنادا إلى المباديء الدينية الكونفوشيوسية ، وعمل النظام الإمبراطوري على نشر أيديولوجية الكوكوتاي التي تعبر عن مشاعر قومية متشددة ترتكز على مفهوم "الأمة – العائلة" ، و "العائلة – الدولة" ، ومن أهم مبادئها هي أن " أرض اليابان مقدسة ولا يجوز أن تدنسها أقدام الغزاة " ، " الإمبراطور مقدس وهو رمز لليابان وأب لجميع اليابانيين " ، إضافة الى صفة التجانس التام في المجتمع الياباني كخصوصية تنفرد بها اليابان عن العالم ، وآيديولوجية الكوكوتاي أثبتت نجاحها المطلق في كسب ولاء الشعب والتي كان لها الفضل في النصر العسكري الياباني الساحق في حروبها ضد جيرانها ، ولعل أخطر ما شهدته تلك المرحلة أن الفكر السياسي الياباني الذي تبنى مفهوم القوة والعنف قد جعل من اليابان دولة امبريالية معتدية في جنوب شرق آسيا واستعمرت أراضي من الدول المجاورة ما يعادل خمسة أضعاف مساحة اليابان ، ثم دخلت اليابان الحرب العالمية الاولى فالثانية التي اسستسلمت فيها اليابان بعد قصفها من قبل الولايات المتحدة بقنبلتين ذريتين غيرتا مسار التاريخ في اليابان والعالم اجمع.

نهاية حلم الامبريالية اليابانية:
تميز عهد الميجي بتصاعد قوي في المشاعر القومية اليابانية والتي بدت مغروسة بعمق في روح الشعب الياباني ‏,‏ وساد في اليابان شعور التفوق على الدول المجاورة ، فهاجمت الصين وانتصرت عليها عام ‏1895,‏ وبعدها احتلت الجزيرة الكورية ، ودخلت الحرب ضد روسيا عام 1905 ، وبعدها احتلت منشوريا وشمال الصين بكامله عام ‏1937,‏ ‏فبدأ الحلم الامبريالي الياباني يقوى مع تصاعد النزعة العسكرية اليابانية بعد أن خرجت اليابان من الحرب العالمية الأولى دولة قوية ومنتصرة، والذي على أثره حاولت الولايات المتحدة في التخفيف من تلك النزعة من خلال التوقيع على اتفاقية واشنطن في 11 /8 /1921 والتي ضمت الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، واليابان ، وأنضمت اليها لاحقاً اليها كل من الصين، بلجيكا، هولندا، البرتغال في شباط/1922 ، ولكن العلاقات بين اليابان والولايات المتحدة بدأت تسوء مع وصول النزعة العسكرية الإمبريالية اليابانية الى أقصى درجاتها لا سيما في الفترة الممتدة بين الأعوام 1931 – 1942 ، والذي زاد في تعقيدات الوضع هو ظهور التحالف الياباني – الالماني ، بعد سيطرة الحزب الاشتراكي الوطني (الحزب النازي) بقيادة أدولف هتلر على مقاليد السلطة في المانيا ، وبدأت في حينها اليابان التخطيط لشن ضربة عسكرية خاطفة لتجهض القوة العسكرية الأمريكية في منطقة جنوب شرق آسيا، وفي السادس من كانون الأول/ 1941 هاجمت الطائرات اليابانية بشكل مفاجيء الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر وألحقوا به خسائر كبيرة ، والتي كانت بداية النهاية للحلم الامبريالي الياباني ، وبسبب المرارة التي شعرت بها الولايات المتحدة من الهجوم المباغت للطائرات اليابانية وبسبب قناعة القيادة الميدانية الأمريكية بأن اليابانيين سيقاتلون حتى آخر جندي ، لا سيما أن اليابان بدأت ترسل طياريها الانتحاريين – الكاميكازي (الكاميكازي - Kamikaze و تعني ( الريح الإلهية ) , وهي فرقة الصاعقة الجوية الانتحارية التي تم تشكيلها بواسطة القوات الجوية الإمبراطورية اليابانية خلال الشهر الأخير من الحرب العالمية الثانية ) ، ولتقليل الخسائر الأمريكية حسب مفهوم القيادة الأمريكية قررت الولايات المتحدة إنهاء الحرب باستخدام القنابل الذرية ، فأسقطت أول قنبلة ذرية في التاريخ على هيروشيما بتاريخ 6 /8/ 1945 ، وألقت القنبلة الذرية الثانية على ناغازاكي يوم 9/8/1945 ، والتي أدت الى سقوط مئات الآلاف من القتلى والمشوهين، ليعلن بعدها الإمبراطور هيروهيتو استسلام اليابان في 14 / آب/1945 ، وتم التوقيع رسميا على الاستسلام في 2 /9/ 1945 ،وبدأ الاحتلال الأميركي لليابان الذي تم استبداله بمعاهدة تحالف وحماية عسكرية عام 1951، أدخلت الولايات المتحدة تعديلات شاملة في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري الياباني ، وصاغت لها دستور جديد بدء العمل به منذ عام 1946 ، وفرضت على اليابان عدم التسلح ، وفي المقابل تبنت اليابان إستراتيجية وقف الانهيار الاقتصادي الذي نتج عن التدمير العسكري الأميركي لليابان وقد عرفت تلك الاستراتيجية بمبدأ يوشيدا (Yoshida Doctrine ) نسبة إلى رئيس الوزراء الياباني شوغيرو يوشيدا الذي حكم كرئيس للوزراء لخمسة مرات 1946-1954 ، وتمحورت سياسته في " التحالف العسكري الثابت والدائم مع الولايات المتحدة الأميركية ، والتركيز على التنمية الاقتصادية الداخلية وعدم رصد أية مبالغ في الموازنة اليابانية لأغراض الدفاع أو المشاركة في أعمال عسكرية داخلية أو إقليمية أو دولية ".

التفوق الاقتصادي الياباني:
شهدت اليابان طفرة اقتصادية هائلة للفترة بين 1960 حتى 1989 ، واطلق عليها بالمعجزة الاقتصادية ، وذلك اعتماداً على مبدأ يوشيدا Yoshida Doctrine ، حيث دخلت اليابان في مرحلة النهضة الشاملة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ، ولتصبح قوة اقتصادية تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية ، وبات نفوذ اليابان في السياسة العالمية يستند فقط على مقدرتها الاقتصادية ، فقد أصبحت التنمية الاقتصادية إحدى أهم قيم المجتمع الياباني وهدفاً رئيسياً للنخب السياسة ، فمنذ بداية خمسينات القرن الماضي تم إدارة البلاد بيروقراطياً بواسطة جهاز خدمة مدنية كبير يوظف أذكى وأفضل العناصر التقنية ، ومما ساعد نجاح التفوق الياباني عالمياً هو صفة التجانس الإثني الذي تميزت به اليابان ولا تزال، والذي جعله شعباً شديد الولاء للوطن إضافة الى كونه شعب ذكي بالفطرة اظهر درجات عالية من الانضباط في العمل ، والقدرة على الابتكارات التكنولوجية ، وأهم ما تميز به الاقتصاد الياباني هو وجود فائض تجاري بشكل مستمر وفائض في المدفوعات مع بقية العالم ، واصبحت اليابان ثاني أكبر مانح لمشاريع السلام التي تتبناها الامم المتحدة بعد الولايات المتحدة ، وتعتبر الولايات المتحدة اليابان أقوى حليف وشريك تجاري لها وأكبر دائن لها ، كما أن الاتحاد الأوروبي يبدي حذراً من النفوذ الاقتصادي الياباني ويقوم بوضع استراتيجيات لمواجهته .