العراق بين تحفظات أوروبا وغطرسة أمريكا
مرسل: الأحد مايو 25, 2008 4:41 pm
شرودر وبوش.. ما حدود الاستقلال والمعارضة؟
لا تزال المواقف السياسية والشعبية الحكومية والمعارضة في الدول الأوروبية متباينة بدرجات متفاوتة في قضية العراق، ولم يصل مؤتمر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي غير الرسمي في مدينة هيليسنجر الدنمركية (30و31-8-2002م) إلى موقف مشترك، ولكن أين تكمن نقاط الخلاف والاتفاق مع الأمريكيين؟ وما مدى تأثيرها على صناعة القرار الأمريكي أو تأثيرها على أرض الواقع إذا ما بدأ هجوم عسكري أمريكي بالفعل؟
تابع في هذا المقال:
الموقف الألماني قبيل الانتخابات
زعامة أمريكية مرفوضة
اعتبارات ثابتة في المواقف الأوروبية
الموقف الألماني قبيل الانتخابات
من بين المواقف الأوروبية الرسمية تجاه التهديدات الأمريكية للعراق يبرز موقف ألمانيا لأكثر من سبب، وقد تكرّر على لسان المستشار الألماني "جيرهارد شرودر" ووزير خارجيته "يوشكا فيشر" مرارًا، مع التأكيد القاطع لرفض الحرب ورفض المشاركة فيها، واعتبر "طه ياسين رمضان" نائب الرئيس العراقي هذا الموقف "مثالا نموذجيًّا على البلدان التي حسّنت مواقفها إزاء العراق".. ولكنّ للموقف الألماني حدوده الواضحة أيضًا، فرفض الحرب لا يعني رفض الحصار المفروض على العراق، وهذا ما اتضح بصورة مباشرة في التعليل الرسمي الذي أعلن في برلين يوم 2-9-2002م لرفض استقبال مبعوث عراقي.
على أنّ "رفض الحرب والمشاركة فيها" أيضًا موقف مشكوك فيه، على الأقل إلى ما بعد يوم الانتخابات النيابية في 22-92002م؛ فحكومة المستشار شرودر من الديمقراطيين الاشتراكيين ووزير الخارجية فيشر من الخضر، هي التي خطت الخطوات الحاسمة خلال السنوات الأربع الماضية؛ للانتقال بالمشاركات العسكرية الألمانية إلى خارج النطاق الجغرافي لحلف شمال الأطلسي، وكان ذلك تلبية للرغبات الأمريكية في الدرجة الأولى بدءا بمنطقة البلقان ومرورا بالقتال في أفغانستان، ثمّ بإرسال الوحدات البحرية الألمانية إلى سواحل الصومال، والدبابات المتطورة الكاشفة للأسلحة الكيمياوية والحيوية إلى الكويت.
فإن قيل إن التأكيدات الحالية تجعل من "المستحيل" على حكومة قادمة بزعامة شرودر أن تتراجع عنها دون أن تفقد مصداقيتها لدى الناخبين، يمكن التذكير بأنّ أحدا في ألمانيا لم يكن قبل أربع سنوات يقدّر أن تصدر خطوات "الانتشار العسكري العالمي" المشار إليها عن حكومة ائتلافية تجمع حزب الديمقراطيين الاشتراكيين الذي صنع سياسة الانفتاح نحو الشرق ووضع البذور الأولى للوفاق الدولي بين المعسكرين مع حزب الخضر الذي انبثق عن "حركة السلام وحماية البيئة" الرافضة في حينه لحلف شمال الأطلسي من حيث الأساس.
منظمات "حركة السلام" الأقلّ فعالية في ألمانيا في الوقت الحاضر تطرح هذه الشكوك وتتساءل عن مدى جدية "الوعد الانتخابي" بعدم المشاركة في الحرب، وتشير-على سبيل المثال- إلى أن حكومة شرودر لم تبلّغ واشنطن رسميا عن طريق مذكرة أو رسالة حكومية كما هو معتاد، بالموقف المتكرّر في "خطب المعركة الانتخابية".. وهو رفض لا قيمة له ما لم يشمل رفض المشاركة في التمويل، وسحب الدبابات المرابطة في الكويت، وعدم وضع المنشآت الألمانية والأطلسية والأمريكية على الأرض الألمانية تحت التصرف، فضلا عن رفض التعاون فيما يسمّى المجال "اللوجستي" لدعم التحرّك العسكري المباشر على جبهات القتال، ناهيك عن التحرّك بالمقابل بمبادرة فعالة في اتجاه إنهاء الأزمة الحالية مع العراق عبر الأمم المتحدة أو من خلال الاتحاد الأوروبي.
كما يلفت النظر في الموقف الرسمي الألماني بطبيعة الحال أنّه لم يصدر بهذا الوضوح وبصورة مباشرة إلاّ بعد أن سجّلت عمليات استطلاع الرأي هبوط شعبية الحزبين الائتلافيين هبوطا شديدا يهدّد بخسارة الانتخابات، لأسباب عديدة، في مقدمتها العجز عن تنفيذ الوعد السابق بتخفيض نسبة البطالة عما كانت عليه قبل أربع سنوات، فأصبحت قضية العراق إلى جانب التعامل السريع و"السخيّ" مع كارثة الفيضانات، بمثابة مصدر جديد للتعويض والحصول على تأييد الناخبين من جديد.
مفعول المعركة الانتخابية هو أوّل ورقة أمسكت بها أحزاب المعارضة اليمينية التي تحدّثت عن خداع يستهدف كسب أصوات الناخبين، ولكن سرعان ما أدركت المعارضة أنها تخسر بموقفها هذا تلك الأصوات بالذات، بل ساهمت بصورة غير مباشرة في الكشف عن أنّ الغالبية العظمى من سكان ألمانيا - وهو ما يسري في أوروبا عموما- تعارض الحرب الأمريكية ضدّ العراق، وهنا تذكر عمليات استطلاع الرأي الدورية نسبا مئوية تتراوح بين 75 و92 في المائة، فعلام لا تلتزم "حكومة ديمقراطية ألمانية" بالإرادة الشعبية للناخبين، وهو ما تؤكّد أي حكومة أمريكية الالتزام به عادة، وهذا بغض النظر عن الدور السياسي والإعلامي في عرض مثل هذه القضايا على الرأي العام والتأثير على موقفه إزاءها؟
يبقى من الواضح أن المواقف الشعبية الأوروبية في مثل قضية العراق تأتي في إطار ازدياد المعارضة الشعبية والسياسية للسياسات الدولية الأمريكية عموما، وهذا ما أسقط الورقة الثانية التي لجأت إليها المعارضة في ألمانيا وهي تلوّح بإثارة "نزعة العداء والكراهية للأمريكيين"، وهي الورقة التي كان لها تأثيرها في حقبة الحرب الباردة، ولم يظهر لها مفعول في غمرة المعركة الانتخابية الجارية.
كما بدأ التلويح بورقة خطورة سلوك حكومة شرودر فيما يوصف بالطريق الخاص بألمانيا، أي دون تنسيق وتفاهم مسبق مع الدول الأوروبية والغربية عموما، وكان أوّل ما عُرف هذا التعبير كمصطلح سياسي في حقبة سياسة الانفتاح نحو الشرق التي مارسها المستشار الأسبق فيلي براندت من الديمقراطيين الاشتراكيين، والمقصود بالتعبير هو أن تثير المواقف السياسية الانفرادية من جانب ألمانيا مخاوف جيرانها الأوروبيين على ضوء الخبرة التاريخية مع ألمانيا في الحربين العالميتين خلال القرن الميلادي العشرين، ولكن هذه أيضا أمست حجة ضعيفة نسبيا، بل سبق أن تجاوز اتحاد الحزبين المسيحيين المعارض حاليا مثل هذه التحذيرات عندما تجدّدت في فترة سقوط الشيوعية وهو يسعى لإعادة توحيد ألمانيا، ثم عند المسارعة أثناء تآكل الاتحاد اليوغوسلافي إلى الاعتراف باستقلال سلوفينيا وكرواتيا قبل الدول الأوروبية الأخرى.
ويضاف إلى ذلك أن التخويف من "طريق خاص" بشأن قضية العراق في ألمانيا يضعف مفعوله لدى الناخبين على ضوء ازدياد الشعور بالثقة بالنفس واستعادة السيادة الألمانية من جهة، والسياسة التي سبق أن اتبعتها حكومة شرودر من جهة أخرى، فقد كانت هي التي خرجت خلال أربع سنوات مضت بالسياسة الخارجية والعسكرية الألمانية من دائرة "التردّد" الذي كانت عرضة للاتهام به من جانب الحلفاء الأطلسيين إلى دائرة المشاركة المباشرة في ساحات القتال بدءًا بالبلقان وانتهاء بأفغانستان.. ولا يتردّد بعض الساسة من حزبي الحكومة عن القول، وعلامَ لا يحق لألمانيا ما يحق لدول أوروبية أخرى بشأن اتخاذ مواقف سياسية "انفرادية"، دون أن تتعرّض فرنسا أو بريطانيا أو سواهما إلى الاتهام باتخاذ "طريق خاص" مستقل عن الدول الأوروبية الأخرى؟.
زعامة أمريكية مرفوضة
قد يتبدّل الموقف الألماني بعد الانتخابات العامة بغض النظر عن تبدّل الائتلاف الحالي أو بقائه في السلطة، وربّما تتبدّل المواقف الأخرى، وقد بات معظمها باستثناء بريطانيا أقرب إلى الرفض المطلق للسياسة "الحربية" الأمريكية، ولكنّ طبيعة النقاش الذي يجري أثناء المعركة الانتخابية الراهنة في ألمانيا بالذات، تكشف عن طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة في العلاقات الأوروبية - الأمريكية، والتي بدأت بسقوط المعسكر الشرقي، وأطلقت العنان للحديث عن مستقبل "الزعامة الأمريكية" في الغرب وعالميا، من وراء شعار "النظام العالمي الجديد".. وهي المرحلة الانتقالية التي ما زالت مستمرّة، على النقيض ممّا يزعمه أنصار التسليم باستقرار تلك الزعامة الانفرادية عالميا.
لا شك أن جانبا كبيرا من المواقف الأوروبية في قضية العراق يستند إلى مصالح ذاتية مباشرة كالعقود العراقية مع شركات فرنسية مثلا، أو إلى مخاوف ترتبط بمستقبل المنطقة مثل احتمال نشوب اضطرابات أكبر تضاعف حجم الهجرة إلى أوروبا. ولكن يكاد يصبح الجانب الأظهر للعيان في تلك المواقف الأوروبية هو ارتباطها بتطور العلاقات مع واشنطون، وليس بما تفرضه العلاقات مع العراق، لا سيما أنّه لا يوجد في الوقت الحاضر ما يعطي الموقف العراقي "عمقا إستراتيجيا" على المستوى العربي والإسلامي بما فيه الكفاية.
وقد شهدت المرحلة الانتقالية الراهنة اتساع نطاق الخلافات الأوروبية - الأمريكية، وازدياد حدّتها في مختلف الميادين، ولا يكاد يخلو تعليق أو تحليل يدور حول الأوضاع الدولية أو السياسة الأمريكية من الحديث عن خطوات متتالية تستهدف "الهيمنة" الأمريكية المحضة، بدءا بميدان التسلّح عبر شبكة الدرع الصاروخي وميدان السياسة الأمنية عبر حلف شمال الأطلسي، مرورا بالميادين التجارية والبيئية كما تكرر ظهوره في المؤتمرات والاتفاقات الدولية، وانتهاء بالمروق عن الشرعية الدولية، الذي وصل إلى مداه في الموقف المعادي لمحكمة الجزاء الدولية، وهذا ما يرتبط أيضا بالحديث الأمريكي العلني عن "إسقاط نظام حكم بالقوة" دون الرجوع إلى الأجهزة الدولية أصلا - كما هو الحال مع العراق - بعد التمهيد لهذه الممارسات والتسويق لها، من خلال خطوات سابقة استهدفت تقويض مبدأ "سيادة الدولة" بدعوى تقديم مبادئ حماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات عليه.
وكانت تفجيرات نيويورك وواشنطن قد أحدثت موجة من التضامن الأوروبي - الأمريكي أشبه بما تصنعه كارثة طبيعية، بمعنى أنّ فترة التضامن نفسها تجاوزت واقع الخلافات والتنافس إلى درجة الصراع على جانب الأطلسي، بتبديل "الأولويات" مؤقتا، ولكن لم يبلغ ذلك مستوى القضاء بحلها أو اضمحلال مفعولها، وهذا في مقدّمة ما يعتبر إخفاقا ذريعا للسياسة الأمريكية التي لم تفلح في تحويل عنوان "الحرب ضدّ الإرهاب العالمي" إلى محور بديل عن محور المصلحة الأمنية التي جمعت الغرب من قبل بزعامة أمريكية أثناء الحرب الباردة في "الحرب ضد الشيوعية العالمية" تجاه المعسكر الشرقي. بل على النقيض من ذلك كان للخطوات الأمريكية خلال الشهور التالية للتفجيرات أثرها في انتشار الاقتناع بأن حكومة بوش تريد توظيف هذه الحرب لتثبيت "الهيمنة الأمريكية" وليس للدفاع عن "مصالح الغرب" المشتركة، وهذا ما عززّه أسلوب التعامل الأمريكي مع الأحداث السياسية اليومية، بما في ذلك القضايا الساخنة كقضية فلسطين وقضية العراق، وما تضمّن إظهار الحرص على تجاوز الأوروبيين ومواقفهم بصورة استعراضية متعجرفة، ورغم أن التأثير المباشر لمجرى الأحداث في المنطقة المجاورة جغرافيا على الأوروبيين يبلغ أضعاف تأثيرها على الولايات المتحدة الأمريكية.
وصحيح أنّ السياسة الرسمية البريطانية لا تزال تشذ بوضوح عن السياسات والمواقف الأوروبية الأخرى في النظرة إلى السياسة الأمريكية والتعامل معها، إلا أنّ المعارضة داخل بريطانيا تزداد بوضوح بما يشمل حزب العمال نفسه، وهو ما يحرج رئيس الوزراء الحالي توني بلير بصورة قوية، ممّا قد يفسّر التناقض فيما نقل يوم 2/9/2002م عن حديثه الهاتفي مع الرئيس الأمريكي، ما بين صحيفة تقول إنّه يؤيد الحرب وأخرى تقول إنّه يعارضها في المرحلة الراهنة على الأقل، هذا إلى جانب تبدّل الموقف البريطاني مؤخرا تبدّلا نسبيا، عبّر عنه حديث وزير الخارجية جاك سترو عن ضرورة استصدار قرار من جانب مجلس الأمن الدولي يتضمّن إنذارا "زمنيا" محددا للعراق بشأن بعثات "التفتيش" الدولية.
ورغم أنّ الموقف البريطاني بصورة خاصة منع من التوصل إلى موقف مشترك في مؤتمر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، فإنّه كان واضحا للعيان أنّ أحدا لم يكن ينتظر موقفا مؤيّدا للأمريكيين، إنّما كان الخلاف حول نوعية المعارضة ومداها ولهجتها وتوقيتها. وكان من التصريحات المعبرة بعد ذلك قول المستشار الألماني شرودر إنّه لم يعد يكفي تشاور الحكومة الأمريكية مع حلفائها حول كيفية تنفيذ قرار ما أو موعده، إنّما يجب أن يشمل التشاور أصل اتخاذ القرار نفسه، وفي ذلك ما يعتبر ردّا على تصريحات سابقة صدرت عن ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، بأن الحرب ضد العراق قادمة بغض النظر عن موقف الحلفاء الأوروبيين، ثم قول وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد إنّه إذا ما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب فسوف تجد تأييد الحلفاء لها.
اعتبارات ثابتة في المواقف الأوروبية
رغم أنّ الرأي السائد في التحليلات الأوروبية أنّ واشنطن لم تعد تعبأ بالموقف الأوروبي، فإن هناك من بدأ يميل إلى القول بأن المواقف الأوروبية بدأت تؤثر على النقاش المتزايد داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بشأن الحرب ضد العراق، لا سيما أنّ غالبية معارضيها من داخل الأجهزة الرسمية يؤكّدون أنّه لا ينبغي الدخول في حرب "انفرادية" إنما ينبغي الحصول على تأييد الحلفاء الأوروبيين أولا. ويعزّز هذا الرأيَ الموقفُ المتأخر الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في اتجاه مشابه، وبما يتناقض مع المواقف الأخرى الصادرة عن "أركان أنصار الحرب" في حكومة بوش.
ويميل بعض المحللين الأوروبيين فقط إلى القول إنّ واشنطن ستصل في النهاية إلى قرار بالامتناع عن خوض حرب واسعة النطاق في الوقت الحاضر على الأقل، وهذا مع عدم استبعاد أن يكون "ضغط التهديدات العسكرية المتزايدة" يستهدف من الأصل الوصول إلى موقف دولي موحّد يتبنى الموقف الأمريكي السابق، من حيث فرض قرار عبر مجلس الأمن الدولي بشأن عودة بعثات التفتيش الدولية دون تلبية المطلب العراقي بتحديد موعد ما لإنهاء "العقوبات الدولية". وهذا ما يمكن أن تجد حكومة بغداد نفسها في واجهته فيما لو أعلنت واشنطن فجأة استعدادها للقبول به، وهذا بالذات ما يشير إليه الموقف الرسمي البريطاني الجديد نسبيا.
ويرتبط ذلك بحقيقة أنّ معارضة الحرب أوروبيا، على المستوى الحكومي وغير الحكومي، ليست معارضة مطلقة، بل توجد اعتبارات عديدة أصبحت في حكم الثوابت -مرحليا على الأقل- في السياسة الأوروبية الراهنة، تجاه الزعامة الأمريكية وممارساتها الدولية عموما، وبما يشمل العراق على وجه التخصيص، وهي الاعتبارات التي تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية ما بين نظام الحرب الباردة، ونظام عالمي لم تستقر معالمه النهائية بعد، وما زال ساحة لتجاذب القوى الدولية، وفي مقدّمة هذه الاعتبارات:
1- لم يصل الاستقلال الاقتصادي والمالي الأوروبي عن الولايات المتحدة الأمريكية إلى مداه، كما لم يحقق التميّز الأمني الأوروبي هدفه بعد، ولا يتوقع تحقيق هذا وذاك قبل مضي بضعة عشر عاما، من الأرجح أن تتعزّز خلالها الهوة التقنية وهوّة طاقة التسلح تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما استكمل تنفيذ مشروع الدرع الصاروخي.
2- لا تزال العلاقات ما بين الدول الأوروبية الرئيسية نفسها، علاقات تعزّزها المصالح المشتركة، لا سيما في عصر "العولمة" وحقبة الزعامة الانفرادية الأمريكية، ولكن تفرّقها وتضعفها المصالح الذاتية في نطاق ما يتراوح بين التنافس والصراع اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، على مستوى الاتحاد الأوروبي وفي مسيرة توسعته وتطويره من جهة، وعلى مستوى الجناحين الوطني والأوروبي لكل دولة في خريطة العلاقات الدولية القائمة من جهة أخرى.
3- لا يزال يوجد عدد من المحاور الأساسية المشتركة التي تجمع السياسات الأوروبية والأمريكية عالميا، أبرزها للعيان منع وصول أسلحة وتقنيات متطورة (عسكرية وغير عسكرية) إلى غالبية الدول النامية ولا سيما الدول العربية والإسلامية، فضلا عن الخشية المشتركة أن تؤدّي الخلافات الأوروبية-الأمريكية من جهة والصحوة الإسلامية من جهة أخرى، إلى سقوط الهيمنة الغربية المشتركة في المنطقة العربية والإسلامية، مع ما يعنيه ذلك على الأصعدة الاقتصادية والأمنية.
4- لا يجد الاتحاد الأوروبي ما يمكن الاعتماد عليه أو الركون إلى استمراريته في المنطقة العربية والإسلامية كمواقف عربية أو إسلامية مشتركة، سيّان في أي اتجاه، لا سيما إذا كان المطلوب هو تخفيف ثقل الهيمنة الأمريكية وممارساتها، ويسري هذا على غالبية القضايا المحورية كقضية فلسطين، وقضية العراق أيضا التي يبرز فيها للعيان التشكيك الراهن بحقيقة المعارضة الرسمية في دول الخليج وتركيا بشأن التهديدات الأمريكية، فيسري هنا ما باتت بعض التحليلات تطرحه أحيانا في صيغة تساؤل استنكاري تهكّمي إذا ما كان المطلوب من الأوروبيين أن يمارسوا مواقف عربية وإسلامية المنطلق أكثر من العرب والمسلمين أنفسهم.
اقرأ أيضًا:
مغامرات أمريكا تقلق الأوربيين ويريدون كبح جماحها
فرنسا والعراق.. عين على المنطقة وعين على الحليف الأمريكي
العراق الأمريكي.. استمرار لنظام صدام!
محددات الضربة الأمريكية للعراق
أفغنة العراق.. سيناريو مثير للجدل
باول يعترف بوجود خلافات بشأن العراق
باول: عودة المفتشين خطوة لحل الأزمة
--------------------------------------------------------------------------------
لا تزال المواقف السياسية والشعبية الحكومية والمعارضة في الدول الأوروبية متباينة بدرجات متفاوتة في قضية العراق، ولم يصل مؤتمر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي غير الرسمي في مدينة هيليسنجر الدنمركية (30و31-8-2002م) إلى موقف مشترك، ولكن أين تكمن نقاط الخلاف والاتفاق مع الأمريكيين؟ وما مدى تأثيرها على صناعة القرار الأمريكي أو تأثيرها على أرض الواقع إذا ما بدأ هجوم عسكري أمريكي بالفعل؟
تابع في هذا المقال:
الموقف الألماني قبيل الانتخابات
زعامة أمريكية مرفوضة
اعتبارات ثابتة في المواقف الأوروبية
الموقف الألماني قبيل الانتخابات
من بين المواقف الأوروبية الرسمية تجاه التهديدات الأمريكية للعراق يبرز موقف ألمانيا لأكثر من سبب، وقد تكرّر على لسان المستشار الألماني "جيرهارد شرودر" ووزير خارجيته "يوشكا فيشر" مرارًا، مع التأكيد القاطع لرفض الحرب ورفض المشاركة فيها، واعتبر "طه ياسين رمضان" نائب الرئيس العراقي هذا الموقف "مثالا نموذجيًّا على البلدان التي حسّنت مواقفها إزاء العراق".. ولكنّ للموقف الألماني حدوده الواضحة أيضًا، فرفض الحرب لا يعني رفض الحصار المفروض على العراق، وهذا ما اتضح بصورة مباشرة في التعليل الرسمي الذي أعلن في برلين يوم 2-9-2002م لرفض استقبال مبعوث عراقي.
على أنّ "رفض الحرب والمشاركة فيها" أيضًا موقف مشكوك فيه، على الأقل إلى ما بعد يوم الانتخابات النيابية في 22-92002م؛ فحكومة المستشار شرودر من الديمقراطيين الاشتراكيين ووزير الخارجية فيشر من الخضر، هي التي خطت الخطوات الحاسمة خلال السنوات الأربع الماضية؛ للانتقال بالمشاركات العسكرية الألمانية إلى خارج النطاق الجغرافي لحلف شمال الأطلسي، وكان ذلك تلبية للرغبات الأمريكية في الدرجة الأولى بدءا بمنطقة البلقان ومرورا بالقتال في أفغانستان، ثمّ بإرسال الوحدات البحرية الألمانية إلى سواحل الصومال، والدبابات المتطورة الكاشفة للأسلحة الكيمياوية والحيوية إلى الكويت.
فإن قيل إن التأكيدات الحالية تجعل من "المستحيل" على حكومة قادمة بزعامة شرودر أن تتراجع عنها دون أن تفقد مصداقيتها لدى الناخبين، يمكن التذكير بأنّ أحدا في ألمانيا لم يكن قبل أربع سنوات يقدّر أن تصدر خطوات "الانتشار العسكري العالمي" المشار إليها عن حكومة ائتلافية تجمع حزب الديمقراطيين الاشتراكيين الذي صنع سياسة الانفتاح نحو الشرق ووضع البذور الأولى للوفاق الدولي بين المعسكرين مع حزب الخضر الذي انبثق عن "حركة السلام وحماية البيئة" الرافضة في حينه لحلف شمال الأطلسي من حيث الأساس.
منظمات "حركة السلام" الأقلّ فعالية في ألمانيا في الوقت الحاضر تطرح هذه الشكوك وتتساءل عن مدى جدية "الوعد الانتخابي" بعدم المشاركة في الحرب، وتشير-على سبيل المثال- إلى أن حكومة شرودر لم تبلّغ واشنطن رسميا عن طريق مذكرة أو رسالة حكومية كما هو معتاد، بالموقف المتكرّر في "خطب المعركة الانتخابية".. وهو رفض لا قيمة له ما لم يشمل رفض المشاركة في التمويل، وسحب الدبابات المرابطة في الكويت، وعدم وضع المنشآت الألمانية والأطلسية والأمريكية على الأرض الألمانية تحت التصرف، فضلا عن رفض التعاون فيما يسمّى المجال "اللوجستي" لدعم التحرّك العسكري المباشر على جبهات القتال، ناهيك عن التحرّك بالمقابل بمبادرة فعالة في اتجاه إنهاء الأزمة الحالية مع العراق عبر الأمم المتحدة أو من خلال الاتحاد الأوروبي.
كما يلفت النظر في الموقف الرسمي الألماني بطبيعة الحال أنّه لم يصدر بهذا الوضوح وبصورة مباشرة إلاّ بعد أن سجّلت عمليات استطلاع الرأي هبوط شعبية الحزبين الائتلافيين هبوطا شديدا يهدّد بخسارة الانتخابات، لأسباب عديدة، في مقدمتها العجز عن تنفيذ الوعد السابق بتخفيض نسبة البطالة عما كانت عليه قبل أربع سنوات، فأصبحت قضية العراق إلى جانب التعامل السريع و"السخيّ" مع كارثة الفيضانات، بمثابة مصدر جديد للتعويض والحصول على تأييد الناخبين من جديد.
مفعول المعركة الانتخابية هو أوّل ورقة أمسكت بها أحزاب المعارضة اليمينية التي تحدّثت عن خداع يستهدف كسب أصوات الناخبين، ولكن سرعان ما أدركت المعارضة أنها تخسر بموقفها هذا تلك الأصوات بالذات، بل ساهمت بصورة غير مباشرة في الكشف عن أنّ الغالبية العظمى من سكان ألمانيا - وهو ما يسري في أوروبا عموما- تعارض الحرب الأمريكية ضدّ العراق، وهنا تذكر عمليات استطلاع الرأي الدورية نسبا مئوية تتراوح بين 75 و92 في المائة، فعلام لا تلتزم "حكومة ديمقراطية ألمانية" بالإرادة الشعبية للناخبين، وهو ما تؤكّد أي حكومة أمريكية الالتزام به عادة، وهذا بغض النظر عن الدور السياسي والإعلامي في عرض مثل هذه القضايا على الرأي العام والتأثير على موقفه إزاءها؟
يبقى من الواضح أن المواقف الشعبية الأوروبية في مثل قضية العراق تأتي في إطار ازدياد المعارضة الشعبية والسياسية للسياسات الدولية الأمريكية عموما، وهذا ما أسقط الورقة الثانية التي لجأت إليها المعارضة في ألمانيا وهي تلوّح بإثارة "نزعة العداء والكراهية للأمريكيين"، وهي الورقة التي كان لها تأثيرها في حقبة الحرب الباردة، ولم يظهر لها مفعول في غمرة المعركة الانتخابية الجارية.
كما بدأ التلويح بورقة خطورة سلوك حكومة شرودر فيما يوصف بالطريق الخاص بألمانيا، أي دون تنسيق وتفاهم مسبق مع الدول الأوروبية والغربية عموما، وكان أوّل ما عُرف هذا التعبير كمصطلح سياسي في حقبة سياسة الانفتاح نحو الشرق التي مارسها المستشار الأسبق فيلي براندت من الديمقراطيين الاشتراكيين، والمقصود بالتعبير هو أن تثير المواقف السياسية الانفرادية من جانب ألمانيا مخاوف جيرانها الأوروبيين على ضوء الخبرة التاريخية مع ألمانيا في الحربين العالميتين خلال القرن الميلادي العشرين، ولكن هذه أيضا أمست حجة ضعيفة نسبيا، بل سبق أن تجاوز اتحاد الحزبين المسيحيين المعارض حاليا مثل هذه التحذيرات عندما تجدّدت في فترة سقوط الشيوعية وهو يسعى لإعادة توحيد ألمانيا، ثم عند المسارعة أثناء تآكل الاتحاد اليوغوسلافي إلى الاعتراف باستقلال سلوفينيا وكرواتيا قبل الدول الأوروبية الأخرى.
ويضاف إلى ذلك أن التخويف من "طريق خاص" بشأن قضية العراق في ألمانيا يضعف مفعوله لدى الناخبين على ضوء ازدياد الشعور بالثقة بالنفس واستعادة السيادة الألمانية من جهة، والسياسة التي سبق أن اتبعتها حكومة شرودر من جهة أخرى، فقد كانت هي التي خرجت خلال أربع سنوات مضت بالسياسة الخارجية والعسكرية الألمانية من دائرة "التردّد" الذي كانت عرضة للاتهام به من جانب الحلفاء الأطلسيين إلى دائرة المشاركة المباشرة في ساحات القتال بدءًا بالبلقان وانتهاء بأفغانستان.. ولا يتردّد بعض الساسة من حزبي الحكومة عن القول، وعلامَ لا يحق لألمانيا ما يحق لدول أوروبية أخرى بشأن اتخاذ مواقف سياسية "انفرادية"، دون أن تتعرّض فرنسا أو بريطانيا أو سواهما إلى الاتهام باتخاذ "طريق خاص" مستقل عن الدول الأوروبية الأخرى؟.
زعامة أمريكية مرفوضة
قد يتبدّل الموقف الألماني بعد الانتخابات العامة بغض النظر عن تبدّل الائتلاف الحالي أو بقائه في السلطة، وربّما تتبدّل المواقف الأخرى، وقد بات معظمها باستثناء بريطانيا أقرب إلى الرفض المطلق للسياسة "الحربية" الأمريكية، ولكنّ طبيعة النقاش الذي يجري أثناء المعركة الانتخابية الراهنة في ألمانيا بالذات، تكشف عن طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة في العلاقات الأوروبية - الأمريكية، والتي بدأت بسقوط المعسكر الشرقي، وأطلقت العنان للحديث عن مستقبل "الزعامة الأمريكية" في الغرب وعالميا، من وراء شعار "النظام العالمي الجديد".. وهي المرحلة الانتقالية التي ما زالت مستمرّة، على النقيض ممّا يزعمه أنصار التسليم باستقرار تلك الزعامة الانفرادية عالميا.
لا شك أن جانبا كبيرا من المواقف الأوروبية في قضية العراق يستند إلى مصالح ذاتية مباشرة كالعقود العراقية مع شركات فرنسية مثلا، أو إلى مخاوف ترتبط بمستقبل المنطقة مثل احتمال نشوب اضطرابات أكبر تضاعف حجم الهجرة إلى أوروبا. ولكن يكاد يصبح الجانب الأظهر للعيان في تلك المواقف الأوروبية هو ارتباطها بتطور العلاقات مع واشنطون، وليس بما تفرضه العلاقات مع العراق، لا سيما أنّه لا يوجد في الوقت الحاضر ما يعطي الموقف العراقي "عمقا إستراتيجيا" على المستوى العربي والإسلامي بما فيه الكفاية.
وقد شهدت المرحلة الانتقالية الراهنة اتساع نطاق الخلافات الأوروبية - الأمريكية، وازدياد حدّتها في مختلف الميادين، ولا يكاد يخلو تعليق أو تحليل يدور حول الأوضاع الدولية أو السياسة الأمريكية من الحديث عن خطوات متتالية تستهدف "الهيمنة" الأمريكية المحضة، بدءا بميدان التسلّح عبر شبكة الدرع الصاروخي وميدان السياسة الأمنية عبر حلف شمال الأطلسي، مرورا بالميادين التجارية والبيئية كما تكرر ظهوره في المؤتمرات والاتفاقات الدولية، وانتهاء بالمروق عن الشرعية الدولية، الذي وصل إلى مداه في الموقف المعادي لمحكمة الجزاء الدولية، وهذا ما يرتبط أيضا بالحديث الأمريكي العلني عن "إسقاط نظام حكم بالقوة" دون الرجوع إلى الأجهزة الدولية أصلا - كما هو الحال مع العراق - بعد التمهيد لهذه الممارسات والتسويق لها، من خلال خطوات سابقة استهدفت تقويض مبدأ "سيادة الدولة" بدعوى تقديم مبادئ حماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات عليه.
وكانت تفجيرات نيويورك وواشنطن قد أحدثت موجة من التضامن الأوروبي - الأمريكي أشبه بما تصنعه كارثة طبيعية، بمعنى أنّ فترة التضامن نفسها تجاوزت واقع الخلافات والتنافس إلى درجة الصراع على جانب الأطلسي، بتبديل "الأولويات" مؤقتا، ولكن لم يبلغ ذلك مستوى القضاء بحلها أو اضمحلال مفعولها، وهذا في مقدّمة ما يعتبر إخفاقا ذريعا للسياسة الأمريكية التي لم تفلح في تحويل عنوان "الحرب ضدّ الإرهاب العالمي" إلى محور بديل عن محور المصلحة الأمنية التي جمعت الغرب من قبل بزعامة أمريكية أثناء الحرب الباردة في "الحرب ضد الشيوعية العالمية" تجاه المعسكر الشرقي. بل على النقيض من ذلك كان للخطوات الأمريكية خلال الشهور التالية للتفجيرات أثرها في انتشار الاقتناع بأن حكومة بوش تريد توظيف هذه الحرب لتثبيت "الهيمنة الأمريكية" وليس للدفاع عن "مصالح الغرب" المشتركة، وهذا ما عززّه أسلوب التعامل الأمريكي مع الأحداث السياسية اليومية، بما في ذلك القضايا الساخنة كقضية فلسطين وقضية العراق، وما تضمّن إظهار الحرص على تجاوز الأوروبيين ومواقفهم بصورة استعراضية متعجرفة، ورغم أن التأثير المباشر لمجرى الأحداث في المنطقة المجاورة جغرافيا على الأوروبيين يبلغ أضعاف تأثيرها على الولايات المتحدة الأمريكية.
وصحيح أنّ السياسة الرسمية البريطانية لا تزال تشذ بوضوح عن السياسات والمواقف الأوروبية الأخرى في النظرة إلى السياسة الأمريكية والتعامل معها، إلا أنّ المعارضة داخل بريطانيا تزداد بوضوح بما يشمل حزب العمال نفسه، وهو ما يحرج رئيس الوزراء الحالي توني بلير بصورة قوية، ممّا قد يفسّر التناقض فيما نقل يوم 2/9/2002م عن حديثه الهاتفي مع الرئيس الأمريكي، ما بين صحيفة تقول إنّه يؤيد الحرب وأخرى تقول إنّه يعارضها في المرحلة الراهنة على الأقل، هذا إلى جانب تبدّل الموقف البريطاني مؤخرا تبدّلا نسبيا، عبّر عنه حديث وزير الخارجية جاك سترو عن ضرورة استصدار قرار من جانب مجلس الأمن الدولي يتضمّن إنذارا "زمنيا" محددا للعراق بشأن بعثات "التفتيش" الدولية.
ورغم أنّ الموقف البريطاني بصورة خاصة منع من التوصل إلى موقف مشترك في مؤتمر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، فإنّه كان واضحا للعيان أنّ أحدا لم يكن ينتظر موقفا مؤيّدا للأمريكيين، إنّما كان الخلاف حول نوعية المعارضة ومداها ولهجتها وتوقيتها. وكان من التصريحات المعبرة بعد ذلك قول المستشار الألماني شرودر إنّه لم يعد يكفي تشاور الحكومة الأمريكية مع حلفائها حول كيفية تنفيذ قرار ما أو موعده، إنّما يجب أن يشمل التشاور أصل اتخاذ القرار نفسه، وفي ذلك ما يعتبر ردّا على تصريحات سابقة صدرت عن ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، بأن الحرب ضد العراق قادمة بغض النظر عن موقف الحلفاء الأوروبيين، ثم قول وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد إنّه إذا ما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب فسوف تجد تأييد الحلفاء لها.
اعتبارات ثابتة في المواقف الأوروبية
رغم أنّ الرأي السائد في التحليلات الأوروبية أنّ واشنطن لم تعد تعبأ بالموقف الأوروبي، فإن هناك من بدأ يميل إلى القول بأن المواقف الأوروبية بدأت تؤثر على النقاش المتزايد داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بشأن الحرب ضد العراق، لا سيما أنّ غالبية معارضيها من داخل الأجهزة الرسمية يؤكّدون أنّه لا ينبغي الدخول في حرب "انفرادية" إنما ينبغي الحصول على تأييد الحلفاء الأوروبيين أولا. ويعزّز هذا الرأيَ الموقفُ المتأخر الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في اتجاه مشابه، وبما يتناقض مع المواقف الأخرى الصادرة عن "أركان أنصار الحرب" في حكومة بوش.
ويميل بعض المحللين الأوروبيين فقط إلى القول إنّ واشنطن ستصل في النهاية إلى قرار بالامتناع عن خوض حرب واسعة النطاق في الوقت الحاضر على الأقل، وهذا مع عدم استبعاد أن يكون "ضغط التهديدات العسكرية المتزايدة" يستهدف من الأصل الوصول إلى موقف دولي موحّد يتبنى الموقف الأمريكي السابق، من حيث فرض قرار عبر مجلس الأمن الدولي بشأن عودة بعثات التفتيش الدولية دون تلبية المطلب العراقي بتحديد موعد ما لإنهاء "العقوبات الدولية". وهذا ما يمكن أن تجد حكومة بغداد نفسها في واجهته فيما لو أعلنت واشنطن فجأة استعدادها للقبول به، وهذا بالذات ما يشير إليه الموقف الرسمي البريطاني الجديد نسبيا.
ويرتبط ذلك بحقيقة أنّ معارضة الحرب أوروبيا، على المستوى الحكومي وغير الحكومي، ليست معارضة مطلقة، بل توجد اعتبارات عديدة أصبحت في حكم الثوابت -مرحليا على الأقل- في السياسة الأوروبية الراهنة، تجاه الزعامة الأمريكية وممارساتها الدولية عموما، وبما يشمل العراق على وجه التخصيص، وهي الاعتبارات التي تفرضها طبيعة المرحلة الانتقالية ما بين نظام الحرب الباردة، ونظام عالمي لم تستقر معالمه النهائية بعد، وما زال ساحة لتجاذب القوى الدولية، وفي مقدّمة هذه الاعتبارات:
1- لم يصل الاستقلال الاقتصادي والمالي الأوروبي عن الولايات المتحدة الأمريكية إلى مداه، كما لم يحقق التميّز الأمني الأوروبي هدفه بعد، ولا يتوقع تحقيق هذا وذاك قبل مضي بضعة عشر عاما، من الأرجح أن تتعزّز خلالها الهوة التقنية وهوّة طاقة التسلح تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما استكمل تنفيذ مشروع الدرع الصاروخي.
2- لا تزال العلاقات ما بين الدول الأوروبية الرئيسية نفسها، علاقات تعزّزها المصالح المشتركة، لا سيما في عصر "العولمة" وحقبة الزعامة الانفرادية الأمريكية، ولكن تفرّقها وتضعفها المصالح الذاتية في نطاق ما يتراوح بين التنافس والصراع اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، على مستوى الاتحاد الأوروبي وفي مسيرة توسعته وتطويره من جهة، وعلى مستوى الجناحين الوطني والأوروبي لكل دولة في خريطة العلاقات الدولية القائمة من جهة أخرى.
3- لا يزال يوجد عدد من المحاور الأساسية المشتركة التي تجمع السياسات الأوروبية والأمريكية عالميا، أبرزها للعيان منع وصول أسلحة وتقنيات متطورة (عسكرية وغير عسكرية) إلى غالبية الدول النامية ولا سيما الدول العربية والإسلامية، فضلا عن الخشية المشتركة أن تؤدّي الخلافات الأوروبية-الأمريكية من جهة والصحوة الإسلامية من جهة أخرى، إلى سقوط الهيمنة الغربية المشتركة في المنطقة العربية والإسلامية، مع ما يعنيه ذلك على الأصعدة الاقتصادية والأمنية.
4- لا يجد الاتحاد الأوروبي ما يمكن الاعتماد عليه أو الركون إلى استمراريته في المنطقة العربية والإسلامية كمواقف عربية أو إسلامية مشتركة، سيّان في أي اتجاه، لا سيما إذا كان المطلوب هو تخفيف ثقل الهيمنة الأمريكية وممارساتها، ويسري هذا على غالبية القضايا المحورية كقضية فلسطين، وقضية العراق أيضا التي يبرز فيها للعيان التشكيك الراهن بحقيقة المعارضة الرسمية في دول الخليج وتركيا بشأن التهديدات الأمريكية، فيسري هنا ما باتت بعض التحليلات تطرحه أحيانا في صيغة تساؤل استنكاري تهكّمي إذا ما كان المطلوب من الأوروبيين أن يمارسوا مواقف عربية وإسلامية المنطلق أكثر من العرب والمسلمين أنفسهم.
اقرأ أيضًا:
مغامرات أمريكا تقلق الأوربيين ويريدون كبح جماحها
فرنسا والعراق.. عين على المنطقة وعين على الحليف الأمريكي
العراق الأمريكي.. استمرار لنظام صدام!
محددات الضربة الأمريكية للعراق
أفغنة العراق.. سيناريو مثير للجدل
باول يعترف بوجود خلافات بشأن العراق
باول: عودة المفتشين خطوة لحل الأزمة
--------------------------------------------------------------------------------