منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

#36381
هو خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، كان لابد أن تكون كل مرحلة من مراحل عمره المديد، محل عناية الباحثين والدارسين، فقد يدرك أبناء اليوم وآباء الغد من أصالتها ومعالمها ما قد تحجب بعضه المعايشة.
وسيجد القارىء في هذا العرض السريع عن طفولة هذا القائد آيات ناطقة بالحقائق الوثيقة الصلة بالثوابت والمنطلقات، وهي تطرح على الأجيال القادمة مسئولية الثبات على المنهج، والاستمرار في حمل الرسالة الخالدة.
لذلك آمل أن تكون دراسة مرحلة طفولة هذا الزعيم الكبير موضع فهم وعناية من الشباب والشابات حتى يدركوا مجموعة القيم التي بنى عليها قائد مسيرتنا مملكته الفتية لتأصل القيم التربوية ويتحقق الانتماء والولاء.. فعلاقة أمتنا بقيادتها«الأسرة السعودية» ليست علاقة بنية فوقية حاكمة ببنية تحتية محكومة، وإنما هي علاقة الجذور بالأغصان والثمار، علاقة تكامل عضوي لا ينفصل، وعلاقة وحدة ربطت الحاكم بالمحكوم فانصهر الجميع في بوتقة الولاء والانتماء والتعبير عن الأصالة وحب الوطن.

نشأة مثالية

إن نشأة خادم الحرمين الشريفين لابد أن تكون نشأة مثالية ليس ذلك فحسب، بل إنه لابد أن ينشأ قائداً وزعيماً بالفطرة، فقد ولد ونشأ في بيئة محملة بعناصر الخير والسؤدد، ولم يتعرض للتأثيرات المضادة بحمد الله.
حيث ولد على أرجح الأقوال وأقربها إلى الصحة عام 1340ه 1922م في الرياض في قصر الديرة، الذي أنشأه الملك عبدالعزيز عام 1328ه فكان لذلك المولود الميمون موعداً مع العظمة، وكانت ولادته بشارة خير وطالع سعد في دنيا الملك عبدالعزيز، فقد كانت فترة مولده هي الحين الذي عقد فيه السلام، وتعززت فيه أحلام الوحدة الشاملة، وتوالت الانتصارات في معارك التوحيد الحاسمة، وكانت قد تقاربت سنوات الفتوح للحجاز بكامله، وضمه إلى مخطط التوسع في سبيل توحيد المملكة العربية السعودية، لذلك كان التفاؤل بمولده من نجوم السعد على الملك عبدالعزيز الذي كان يحب الفأل ويكره التشاؤم اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقد كان يتفاءل عند قدوم أي مولود جديد من صلبه ينضم إلى إخوته فقد كان مولد ابنه الملك سعود فأل خير تحقق بفتح الرياض سنة مولده عام 1319ه، كما كان مولد ابنه الملك فيصل فأ لاً حسنا بانتصار الملك عبدالعزيز على ألد خصومه وقتله في معركة شرسة جرت عام 1324ه وكان لمولد ابنه الملك خالد من الفأل الحسن ما جعل الملك عبدالعزيز نفسه يقول: إن فتح الأحساء كان في العام الذي ولد فيه ابنه خالد. كما كان مولد ابنه الملك فهد حين أنجز الملك عبدالعزيز لتوه أو كاد ضم آخر إقليم في نجد وما هي إلا فترة حتى تحقق له حلم الوحدة، ولمسات النجاح في طريق نضاله وكفاحه الطويل. ولم يبلغ هذا الفتى الميمون السابعة من عمره حتى تحقق لوالده العظيم إزالة آخر عقبة كانت تقف أمامه حائلة دون تحقيق أهدافه وبالقضاء على تلك الفتنة التي أطلت بوجهها البشع لتنال من طهر جهاده وتنقض من نسيج عمله المتماسك الذي نسجه بدم قلبه وإيمانه وصبره، ولكن أنى للحق يهزم وأنى للباطل أن يعلو.. ولم تمض بعد ذلك سوى ثلاث سنوات. أي عندما أكمل الفتى الملك أحد عشر عاماً من عمره، أعلن والده ولادة المملكة العربية السعودية في 21 جمادى الأولى سنة 1351ه الموافق 22 سبتمبر 1932م. وهاهو المولود المبارك يدشن منذ أيام أفراح الذكرى الواحدة والسبعين لليوم الوطني، وفي الوقت نفسه تعلن الدوائر الرسمية عن مضي عشرين عاماً من الرخاء والازدهار على توليه قيادة المملكة العربية السعودية بزعامته، وفي عهده الممتد رحمه الله بإذن الله.
ومع أنه لا يمكن القول بأن مجرى التاريخ قد يتغير بميلاد مولود أو ظهور آخر فقد بدا لسنوات وكأن انتصار عبدالعزيز وتطور مملكته قبل وفاته وبعدها على يد أبنائه هو المجرى النهائي الذي اختاره التاريخ، إذ تتابعت سنوات الخير والبركة والتطور والازدهار سنة بعد سنة وعلى يد ملك بعد ملك، وهانحن بحمد الله نعيش عشرين عاما من الخير والازدهار في ظل قيادته الرشيدة مستشرفين بمستقبل أفضل مؤملين في قدرته الفذة على اتخاذ المبادرة والقرارات الحكيمة المناسبة في تحقيق معجزات وتطور حضري مديد. إن شاء الله.

الوالدة.. بيت كريم

ولد هذا الفتى الملك من أم سليلة أمجاد هي الأميرة المرحومة حصة بنت أحمد بن محمد بن أحمد السديري، وكانت امرأة بالغة الحنان والحب، فقد وهبت نفسها بإخلاص لتنشئة هذا الابن الأول منها للملك عبدالعزيز، ثم لتنشئة وتربية أبنائها الذين ولدوا لعبدالعزيز منها وهم على التوالي:
1 الملك فهد«خادم الحرمين الشريفين».
2 الأميرة موضي.
3 الأميرة لولوة.
4 الأمير سلطان.
5 الأمير عبدالرحمن.
6 الأميرة لطيفة.
7 الأمير تركي.
8 الأمير نايف.
9 الأميرسلمان.
10 الأميرة جواهر.
11 الأميرة فلوة.
12 الأميرة شعيع.
13 الأمير أحمد.
وكانت رحمها الله قد أنجبت ولداً ذكراً قبل الملك فهد من أخ الملك عبدالعزيز الأمير محمد ابن عبدالرحمن الذي فارقها بعد إنجابها لابنه الأمير عبدالله فاستعادها الملك عبدالعزيز إلى عصمته، وكان قد تزوجها وهي صغيرة، ففارقها، وبعد استعادتها أنجبت له هذه السلسلة المباركة من البنين والبنات.
كانت الأميرة حصة والدة الملك فهد من فضليات النساء، ومن أعقلهن وأقربهن إلى قلب الملك عبدالعزيز، وقد أشار إلى احترامه لهذه السيدة والإشادة بعظمتها وحصافة رأيها ودينها في أكثر من مناسبة.
وكانت لهذه السيدة العظيمة طريقتها الخاصة في تنشئتها لأبنائها تنشئة صالحة، كانت تعقد معهم ذكوراً وإناثاً اجتماعات خاصة تستعرض فيها معهم حسن سير تقدمهم في دراستهم وشؤون حياتهم وتناقش معهم بصراحة ووضوح كل ما يهمهم.
كانت شديدة الاهتمام بالغة الحرص في تنشئة أبنائها على الدين القويم، والولاء الشديد لأسرتهم ووالدهم، وقد كان الملك عبدالعزيز يحب هذه السيدة ويقدرها حق قدرها حتى آخر رمق في حياته.
كانت تلك السيدة فخورة أيما افتخار بأبنائها جميعاً، وكانت تعتز بتقدمهم ونجاحهم في حياتهم وبذلهم نشاطهم في خدمة والدهم العظيم الملك عبدالعزيز، فكان من ثمار ذلك الاعتزاز وتلك التنشئة أن أصبح أبناؤها من عبدالعزيز في مقدمة حاملي مسئوليات الحكم في عهد والدهم وفي عهد الملوك من إخوتهم إلى أن آل الأمر إلى أكبرهم سناً الملك فهد خادم الحرمين الشريفين.
شب وترعرع الملك فهد في حقل تلك البيئة الصالحة، شامخ القامة رجلاً ولا كل الرجال، يعمر قلبه الإيمان، ومحبة والديه وعائلته الكريمة، وكان لأخيه الأمير عبدالله بن محمد الذي يكبره بأكثر من أربع سنوات فضل توجيهه إلى الشموخ والابتعاد عما يشين، وكان يلازمه وكل إخوته الآخرين ويعيش معهم في دار واحدة، كما كان لهذا الفتى الملك حاشية من أترابه منهم من يكبره والبعض الآخر في مثل سنه، وقد اختيروا بعناية وصحبوه وطالت بهم الصحبة ولازال بعضهم يصحبه حتى اليوم مما عد مأثرة لها مدلولها الإنساني الرفيع. وأتذكر من بين أولئك الرجال: إبراهيم بن حماد، وسليمان المطوع، والمرحوم فيصل ابن محيسن آل رشيد، ومحمد وعبدالعزيز آل دحام، والهيلم أبو وردة العجمي، وأخوان من آل دغيم، وعبدالله وثنيان آل ثنيان، وسليمان بن عرفج، ومحمد بن نايف العتيبي، ومحمد الملقب ب«الدخيخين» وطويل بن طويل، وراشد بن عبدالرحمن بن رويشد، وغيرهم ممن لا يحضرني أسماؤهم.
وكان الفتى الملك وأخوه عبدالله يستقبلان الناس في مجلس واحد، ويزوران الوالد العظيم الملك عبدالعزيز ويجتمعان به وبوالدتهما في وقت واحد مع إخوتهما ممن يصغرهما سناً، بل كانت مجموعة المرافقين والحاشية لهما ولإخوتهما الصغار واحدة فكان ذلك مما يلفت الانتباه ويثير الدهشة لدى والدهما ولدى الآخرين.
دراسته وأساتذته
وعندما بلغ الفتى السادسة من عمره وشب عن الطوق ألحقه والده بمدرسة القصر، وهي عبارة عن غرفة واسعة الأرجاء يدعم سقفها ثلاثة أعمدة وتقع غرف منافعها خارجها، وكانت في الطابق العلوي إلى جوار مكاتب الملك عبدالعزيز، وهي غير المدرسة القديمة التي أسست في نهاية قصر الديرة من الغرب بجوار مخازن القصر، وتقع في الدور الأرضي من القصر، والتي أنشئت حين أنشىء قصر الديرة عام 1328ه، وقد درس بها الجيل الأول من أبناء الملك عبدالعزيز، الأمير محمد والملك خالد والأمير سعد والأمير ناصر، وعدد من الأمراء من الأسرة المالكة وبعض الأتباع.
كان يقوم بالتدريس في تلك المدرسة المغفور لهم بإذن الله محمد بن عقيف، وعبدالرحمن ابن عقيف وناصر بن حمدان، وهم من حفظة القرآن الكريم ومن طلبة العلم الشريف. وهذه المدرسة غير مدرسة الأمراء الأخيرة التي أنشأها الملك عبدالعزيز لأنجاله، وأحضر لها عدداً من المدرسين المجيدين بإدارة أحمد العربي وصالح خزامي، وأخيراً إدارة عبدالله خياط، وأحمد علي الكاظمي، وحامد الحابس.
أما المدرسة التي نشير إليها فهي مدرسة وسط بين الأولى والأخيرة وكان يقوم بالتدريس فيها أستاذ يتقن فنون التدريس والخط وتعليم الفنون الشائعة آنذاك، وهو المرحوم« محمد الحساوي» وهو من أهل الرياض، وكان يطلق عليه لقب«الحساوي» لكثرة زياراته وأسفاره للأحساء وبلدان الخليج، إلى جانب مدرسي المدرسة الأولى : محمد بن عقيف وعبدالرحمن ابن عقيف.
لازم الفتى الملك الدراسة في هذه المدرسة ومعه بعض إخوته ممن يكبره سناً، وبعضهم أصغر منه، ومنهم الأمير ناصر بن عبدالعزيز والأمير منصور بن عبدالعزيز، والأمير سعد بن عبدالعزيز، والأمير عبدالله بن عبدالعزيز، والأمير بندر بن عبدالعزيز، والأمير مساعد بن عبدالعزيز، والأمير مشعل بن عبدالعزيز، والأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز، والأمير سلطان بن عبدالعزيز، والأمير فيصل بن تركي، وبعض أبناء أصدقاء الملك عبدالعزيز والملتحقين بالقصر أمثال الشيخ عبدالله بن نافع بن فضلية، والشيخ محمد بن فضلية، والعم راشد بن رويشد، والشيخ عبدالعزيز بن شلهوب، والشيخ سليمان بن حمد السليمان.
وكان يقوم بتدريس المواد الرياضية والخط وبعض الفنون الأخرى الأستاذ المغفور له إن شاء الله الشيخ محمد بن عبدالله العماني الملقب ب«السناري» وهو أستاذ كبير في شؤون التربية والتعليم، ويتقن العديد من الفنون المعرفية، وقد استقدمه الملك عبدالعزيز من الحجاز إلى تلك المدرسة عندما سمع عن إجادته لفنون التربية والتعليم، ويدعوه الناس بالسناري على أنه من«سنار» لكن الحقيقة أنه من عمان ووالدته تنزانية من سنار فنسب إليها.
استمر هذا الأستاذ يعطي الدروس في المدرسة فترة طويلة، وكان الفتى الملك من بعض تلامذته، ورغم شدته وقسوته فإن خادم الحرمين الشريفين عندما يتذكره يثني عليه ويعترف بفضله الكبير عليه لاتقانه بعض العلوم.
وكان الشيخ السناري أول من أدخل في تلك المدرسة طريقة تعليم الكسور في الرياضيات على الطريقة التجارية، وهي طريقة تختلف عن الطرق الحديثة في الكسور الاعتيادية والعشرية، حيث كانت تلك الطريقة تضع مصطلحاً خاصاً لأرقام النصف والربع والثلث والعشر..الخ وذلك قبل تطور علم الرياضيات في بلادنا، وكانت الطريقة شائعة في الحجاز وفي بلدان الخليج بعامة، وقد هجرت تلك الطرقة في عهدنا الحاضر.
ويظهر أن الشيخ السناري لم يستمر في تلك المدرسة نظراً لشدته وقسوته على الطلاب واستخدامه للعقوبات الجسدية للتلاميذ، فطلب منه الملك عبدالعزيز أن يترك المدرسة الأميرية وأعطاه إذناً بفتح مدرسة خاصة في مدينة الرياض، فكان أن أسس مدرسة السناري المشهورة في «دخنة» مع الشيخ المرحوم ناصر بن عبدالله بن مفيريج وذلك في حدود عام 1354ه.
ومنذ ذلك الحين تغير وضع مدرسة الأمراء بالرياض حيث أمر الملك عبدالعزيز عام 1354ه بتنظيم مدرسة الأمراء في الرياض، وعهد بالقيام بأمرها إلى الأستاذين أحمد العربي، وحامد الحابس، وفي عام 1356ه أسندت إدارة تلك المدرسة إلى الشيخ المرحوم عبدالله خياط فاختار معه عدداً من الأساتذة منهم الأستاذ أحمد علي الكاظمي، والأستاذ صالح خزامي، وقد استقبلهم الملك عبدالعزيز نفسه عند افتتاح المدرسة بنظامها الجديد، وتحدث معهم بصراحة عما يريده لتعليم أبنائه، وأنه يريد قبل كل شيء الاهتمام بالقرآن الكريم والكتابة وبعد ذلك بقية الدروس، ثم أوضح لهم جلالته كيف يحسن أن يكون سيرهم مع الأمراء وأن يبدأوا معهم باللين والحسنى، وألا يتشددوا ويشددوا عليهم في أول الأمر فينفروا من التعليم.
وكان موقع المدرسة الجديد في الدور الثاني من قصر الديرة قريباً من الشعبة السياسية فهي عبارة عن عدد من الغرف ومنافعها.
والفتى الملك الطالب في تلك المدرسة السابقة هو الابن التاسع للملك عبدالعزيز من بين أبنائه الذكور البالغ عددهم ستة وثلاثين ذكراً.
وكان الملك عبدالعزيز يزور أبناءه في تلك المدرسة، وقد لاحظ تقدم هذا الشاب في دراسته، وأعجب بذكائه وإدراكه ورغبته في الحصول على المزيد من العلم والمعرفة. وفي إحدى المرات لزيارات جلالته لتلك المدرسة ألقى على جلالته الفتى الملك ارتجالاً مجموعة من الأمثال والحكم والمقطوعات الأدبية شعراً ونثراً فسأله الوالد من أين أخذت هذه المختارات التي ألقيتها حفظاً؟ فأجابه الفتى بصدق: أخذتها من كتابي«دروس التهذيب» وهي مادة كانت تدرس في المدارس الابتدائية آنذاك قبل أن يستغنى عنها بمادة المطالعة، فسر الملك عبدالعزيز لجوابه، وشكر مدرسيه على عنايتهم.
في المعهد العلمي
بعد ذلك انتقل الفتى الملك إلى المعهد العلمي وهو معهد أنشأه الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة عام 1344ه على إثر ضم الملك عبدالعزيز الحجاز إلى بقية أجزاء المملكة، وكان الغرض من إنشائه سد احتياج المدارس الابتدائية من المعلمين والمؤهلين، فهو أول مؤسسة تعليمية سعودية خرجت عدداً من الأفراد الذين لعبوا دوراً جيداً في تطور التعليم في المملكة فيما بعد، وقد أعلن عن افتتاح هذا المعهد في الجريدة الرسمية عام 1345ه وكان هذا المعهد يشتمل على أقسام ليلية للموظفين الذين لا تسمح ظروف عملهم بمواصلة دروسهم نهاراً، وكان منهج هذا المعهد يشتمل على دراسة القرآن الكريم والتجويد ودروس العقيدة والإملاء والحساب والقراءة والمحادثة والإنشاء وقواعد اللغة العربية والخطابة ومسك الدفاتر والجغرافيا والاخلاق، وسنن الكائنات«أي العلوم» وغير ذلك.
وقد عهد بإدارة هذا المعهد عند بدء إنشائه إلى فضيلة الشيخ محمد بهجت البيطار الذي قام أيضاً بعد فترة بالإسهام في إنشاء مدرسة دار التوحيد بالطائف عام 1363ه وهو من كبار علماء الشام السلفيين، استقدمه الملك عبدالعزيز للتدريس مع بعض الأساتذة السوريين والمصريين أمثال، الأستاذ محمود الحمصي، والأستاذ سعد ياسين، والأستاذ حسن زكريا، والأستاذ سليمان أباظة الأزهري، وغيرهم.
وكان الإقبال على ذلك المعهد كبيراً من جانب الأهالي، ومن أبرز من انضم إليه آنذاك الشيخ المرحوم سليمان بن حمدان، والأستاذ محمد صادق الكردي، والشيخ عبدالرحمن القويز قارئ جلالة الملك عبدالعزيز فيما بعد، والشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ، والشيخ حمد الجاسر، والأستاذ عبدالكريم الجهيمان، والشيخ أحمد علي، والشيخ صالح ابن هليل، والشيخ محمد بن عبدالله آل الشيخ.
وقد تعثرت مسيرة هذا المعهد في أول الأمر، ولم يلبث أن عاد إلى الاستمرار بعد بحث المشكلات التي اعترضت سبيل استمراره في الفترة الأولى، وخصصت مكافآت لطلابه، وكانت تلك المكافآت الصغيرة هي أول محاولة لتخصيص مكافآت ثابتة لطلبة العلم في المملكة.
وأقبل كثير من الطلاب على الدراسة في ذلك المعهد.. وفي عام 1347ه بعد أن أصبح الشيخ حافظ وهبة أحد مستشاري الملك عبدالعزيز مديراً للمعارف ازداد نشاط هذا المعهد وأصبحت حالته أفضل من ذي قبل، ودعم هذا المعهد بكل قوة من جلالة الملك عبدالعزيز، وأصبح رحمه الله على صلة بمسؤولي المعهد بعد إعادة افتتاحه، وكان رحمه الله يشارك مباشرة في اختيار مديريه وأساتذته وفي الموافقة على استقدام عدد من الأساتذة من الخارج للتدريس فيه وفي عام 1348ه أمر رحمه الله بإيفاد عدد كبير من شبان المنطقة الوسطى للقدوم إلى مكة، والالتحاق بهذا المعهد، وأضيف إلى المواد التي كانت تدرس به سابقاً مادة التربية والتاريخ واللغة الأجنبية، وأصبح الشيخ إبراهيم الشورى مديراً لهذا المعهد. وفي عام 1350ه سمح جلالة الملك عبدالعزيز لخريجي المعهد في العمل بالجهات الحكومية في مختلف مرافق الدولة، وفي سنة 1352ه أنشئ في المعهد فرع للقضاء الشرعي.
وقد ابتهج الملك عبدالعزيز بتخريج أول دفعة من طلبةالمعهد، وألقى في أبنائه خطاباً تربوياً عظيماً عند لقائه بهم في قصره بالمعابدة، وكان رئيس المعهد آنذاك الشيخ محمد بهجت البيطار وذلك في عام 1350ه.
ثقافة عملية
فكان ذلك الحدث العظيم الذي حضره الفتى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز قد وفر الحافز عنده للدراسة في ذلك المعهد، فكان من الطبيعي أن يضم عبدالعزيز أبناءه إلى مجلسه الخاص في مثل تلك المناسبة ، وهناك حاول الشاب إرواء نهمه إلى المعرفة حيث كان مجلس والده يضم نخبة من رجال العلم من فقهاء وعلماء وأدباء من مواطنين وغيرهم. فكان مهمة الفتى الملك في تلك الجلسات هي الإصغاء بعناية إلى ما يتحدث عنه جلالة والده العظيم، وكان ذلك الفتى الملك دوماً في مستوى المهمات والأحداث، وقد التحق بذلك المعهد العلمي في مكة، وأعجب والده بخطواته الأولى التي قطعها كما سر من ثناء أساتذته وإشادتهم بذكائه وشغفه الشديد بالعلم، وحب الاستطلاع، واستيعاب التعليم الديني، واهتمامه بدروسه مما كان له الأثر العظيم في مستقبل إيامه.
وكان الشاب الملك ملازماً لمجالس والده حريصاً على أن يطلع مباشرة على طرق والده في إدارة الحكم وتناول شؤون الناس والأساليب الحكيمة التي يتبعها ذلك القائد في تسوية الخلافات ومعالجة مشكلات مواطنيه، مما أكسبه خبرة عظيمة فيما بعد في معالجة شؤون الحياة.
وقد انعكست هذه التربية العلمية على حياة الفتى الملك حيث كان يتعامل مع أبنائه وهم الأمير المرحوم فيصل وبه يكنى، ومحمد، وسعود، وسلطان، وخالد، وعبدالعزيز بعطف وود وإخلاص، كما كان حفظه الله محباً لعائلته الكبرى التي تشمل مواطنيه فهو الأخ لكبيرهم والأب لصغيرهم فالجميع يتطلع إليه كقائد وأب عطوف، ومصدر خير وراع للمحبة والإخلاص والإلفة.
كان من أثر دورسه العلمية التي تلقاها عن والده إغداقه على أبنائه حبه العميق وتعاطفه المليء بالحكمة، ومثالية السلوك، وكان يذكر أبناءه دائماً بأنهم لم يعانوا الظروف التي عاشها، وأن عليهم أن يكونوا مستعدين لمواجهة مصاعب الحياة وأن يتعودوا ولا يستسلموا.
كان يقول لهم بصريح العبارة: أنتم أحرار في تحديد مستقبلكم، لكني أذكركم بأن الصلحاء والأقوياء من الناس هم الذين يعرفون كيف يخططون لمستقبلهم، وليكن لديكم معلوم أنها لا تتحقق الأهداف مالم تدعموها بالعلم والمعرفة والخبرة والخلق القويم، وفوق كل هذا بالإيمان بالله وكتبه ورسله.
وقد عزز الفتى الملك تعليمه وثقافته بمختلف العلوم وبالرحلات العديدة إلى الخارج وحبه لعلم التاريخ، وعلم تاريخ العرب وتقاليد أسرته، وقبل ذلك تفهمه لتعاليم الدين الحنيف وفضائله، وبدأ ذلك واضحاً كما يقول من عرفه في استفساراته المستمرة من والده ومن كبار معاوني والده، فكان الفتى النابغة يحضر مجلس والده ويتعلم خفايا الحياة.
كان ذلك الشاب محباً للقراءة والمعرفة وملماً منذ طفولته بدقائق الحياة السياسية ليس في المملكة فقط بل في العالم العربي والإسلامي والدولي، وذلك من خلال حضوره لقاءات والده مع ضيوفه العرب والمسلمين والأجانب، وقد تميز بين أقرانه برغبة شديد في خوض تجارب الحياة العلمية في سن مبكرة.
شب الفتى الملك هادئاً رصين التفكير، لطيف المعشر، سريع البديهة، وعرف منذ ذلك الحين وهو في سن الصبا بالتعلق بوالده الملك عبدالعزيز، فكانت تميزه خصلتان كريمتان عرفهما كل من عرفه فيما بعد صبياً وشاباً وكهلاً، تلك الخصلتان هما: الحزم في غير شطط أو عنف واللين دون تراخٍ أو تسيب.
وقد أبدى ذلك الفتى منذ طفولته الأولى شغفاً كبيراً بالحفاظ على التقاليد المرعية للأسرة السعودية الكبيرة، فكان شغوفاً إلى حد كبير بحب الخيل والتعلق بها، وإعداد مرابط للأصائل منها إلى درجة أنه لا يذكر له فرس أصيل إلا حاول أن يشتريه وأن يغري مالكه بالتخلي عنه بأي ثمن، وكان وهو في سن مبكرة يمتطي الخيل، ويشارك إخوته وأعمامه في السباق الذي يقام بين فترة وأخرى بين يدي والده في مضمار الخيل القديم والذي يقع خلف بوابات الرياض الشرقية مباشرة، وكان مضمار السباق يومذاك يمتد ما بين مدخل بناء بستان الشمسية شمال الرياض الواقع في قلب أسواق الشمسية اليوم، إلى أن ينتهي بنهاية أسوار بساتين البطيحاء جنوب الرياض القديمة، و«البطيحاء» بستان نخيل واسع يمتلكه أبناء المرحوم سعد بن عبدالرحمن أخو جلالة الملك عبدالعزيز، ويقع نهاية المضمار اليوم بالقرب من كلية البنات جنوبي البطيحاء.
بين الفرسان
كان الفتى الملك يشارك إخوته الكبار وأبناء عمومته وعدداً من الفرسان في السباق، وكان الأمراء آنذاك والفرسان يمتطون صهوات جيادهم بأنفسهم عند انطلاق السباق، ومن بينهم الفتى الملك في منظر أخاذ، حيث تصطف الخيول جنباً إلي جنب عند بدء السباق على مدى المضمار الشمالي، وقد أطلق كل واحد منهم شعر رأسه، وتخلى عن الغترة والعقال وأمسك بندقيته أو رمحه يلوح بهما في الهواء، ويستعرضون بها مهاراتهم الفروسية، حيث يطلقون تلك الرماح والبنادق في الهواء ثم يلتقطونها وهم على ظهور الجياد، قبل أن تهوي إلى الأرض عند صرخات المشجعين والمشاهدين، وإني لأتذكر وأنا إذ ذاك في عداد الأطفال بعض مشاهد السباق التقليدية تلك، وكنت أرى في مقدمة المتسابقين: الأمير سعود، والأمير فيصل، والأمير محمد، والأمير سلمان بن محمد، والأمير محمد بن سعود بن فيصل، والأمير سعود بن عبدالله وعدداً كبيراً لا تحضرني أسماؤهم من الأمراء والفرسان، يأتي بعدهم الأمراء والفرسان الأصغر سناً: الأمير ناصر بن عبدالعزيز، والأمير سعد، والأمير منصور، والأمير فهد خادم الحرمين الشريفين، والأمير عبدالله ولي العهد، وعدداً من الأمراء والفرسان أتذكر من بينهم الفارس نافع بن فضيلة، وشجاع بن حميضان، وفهد بن حميضان وحسن بن غشيان، ومطلق بن ربيعان، وعبدالرحمن الطبيشي، وعدد من الفرسان لا أتذكر أسماءهم.
وبلغ من حب الفتى الملك للفروسية وتعلقه باقتناء الخيل آنذاك أن أصبح يملك مربطاً مشهوراً في جنوبي الرياض، يملكه مع أخيه الأمير عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن، ويقع ذلك المربط قرب مربط الأمير محمد بن عبدالعزيز، وكلا المربطين يقعان فيما يعرف اليوم بمسجد العيد جنوبي الرياض.
وكان يمتلك فرساً مشهورة بلغت شهرتها حداً كبيراً وقد أقيم في حياة الملك عبدالعزيز حفل سباق حافل كسبت به تلك الفرس فوز السبق بين خيول كثيرة لها شهرتها وكان يمتطيها في ذلك السباق أحد أتباعه ويدعى «الهيلم» من فرسان العجمان من آل سفران، وهو لا يزال بحمد الله حياً يرزق، فأجزل الملك عبدالعزيز رحمه الله لصاحبها الجائزة لتميزها فتبرع بالجائزة للفارس، وانهالت على الفارس من المشاهدين والمعجبين بتلك الفرس الجوائز الكثيرة إعراباً عن إعجابهم بالفرس وحركات الفارس.
الزواج الميمون
ولن نسترسل في الحديث عن الفروسية، فالخيل والفروسية عادة أصيلة في حياة البيت السعودي وأفراده.
وعندما بلغ الفتى الملك السادسة عشرة من عمره سنة 1356ه اختار له والده ابنة عمه الجوزاء ويدعونها «جوزاء» بنت الأمير عبدالله بن عبدالرحمن أخي الملك عبدالعزيز فتم زواجه منها، لكن ذلك الزواج لم يدم طويلاً، نظراً لصغر سنهما فكان الفراق.. ثم تزوج بعد فترة من ابنة عمه تركي بن عبدالله بن سعود آل فيصل ثم تزوج أخرى بعدها من أخواله آل السديري الكرام، وأخيراً تم زواجه من ابنة عمه العنود بنت عبدالعزيز بن مساعد ابن جلوي التي أنجبت له عدداً من البنين والبنات وهم: فيصل الرئيس العام السابق لرعاية الشباب رحمه الله، ومحمد أمير المنطقة الشرقية، وسعود نائب رئيس الاستخبارات العامة، وسلطان الرئيس العام الحالي لرعاية الشباب، وخالد وهو رجل أعمال، أما ابنه الذكر الأخير الأمير عبدالعزيز فهو من الأميرة جواهر بنت الأمير إبراهيم بن عبدالعزيز آل إبراهيم، ويشغل هذا الأمير اليوم رئيس ديوان مجلس الوزراء.
وما دمنا بصدد الحديث عن طفولة هذا العاهل فلابد أن يمتد بنا الحديث إلى عهد الشباب عنده، وقبل أن يشغل مناصبه الرفيعة في عهد والده ثم في عهد إخوته الملوك: سعود وفيصل وخالد، الذين شغل في عهودهم مختلف المناصب الحساسة وحمل مسئوليات جساما ما جعله الملك الأكثر خبرة واستعداداً في تاريخ هذه الدولة.
فقد كان في شبابه يقوم بمعالجة الكثير من شؤون البادية والحاضرة بأمر من والده مما أكسبه خبرة ظهرت قيمتها عند تولي مسئولياته الجسام بعد ذلك.. وكان وهو شاب لم يتجاوز الرابعة والعشرين من العمر إلا بقليل قد كلفه والده بمرافقة أخيه الأمير فيصل إلى الاجتماع التأسيسي لهيئة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية في 16 رجب عام 1364ه الموافق 26 يونيو 1945م ثم بعد ذلك بعثه والده الملك عبدالعزيز ليمثل المملكة العربية السعودية في حفل تتويج ملكة بريطانيا، وعندما توفي الملك عبدالله ابن الحسين مغدوراً به في القدس سنة 1367ه 1948م بعثه الملك عبدالعزيز نيابة عنه ليحضر الصلاة عليه ويشارك في العزاء مع رؤساء الوفود العربية التي شاركت في دفنه وتقديم العزاء لذويه، ثم بعث في مهمة مماثلة عند وفاة الشيخ أحمد الجابر الصباح نيابة عن والده للتعزيه وتهنئة الحاكم الجديد.
نبوغ وفطنة
وعندما ارتقى المغفور له الملك سعود عرش المملكة عين الشاب الأمير فهد أول وزير للمعارف عام 1373ه 1953م ومنذ ذلك الوقت أحس الشاب الملك بأن الحلم بدأ يتحقق حيث أصبح أباً روحياً للتطور التربوي والرائد الأول له في المملكة العربية السعودية.
وهكذا أخذت مسيرة العلو والصعود تجتذب ذلك الطفل المهذب ثم الشاب الذي عرف بتواضعه وتسامحه إلى درجة أذهلت كافة من عرفه سواء من المواطنين السعوديين أو من رفاق والده، أو من الضيوف الأجانب الذين التقى بهم والتقوا به، لكنهم مع ذلك يعترفون أنه مع ذلك التواضع والتسامح رجل المواقف الصعبة التي تظهر عندها عزيمته ويبدو حزمه للعيان، كما يعرفون جيداً وبعد ممارسة طويلة مدى قدرته الفائقة على اتخاذ القرارات الحازمة في المواقف التي يتردد عندها الكثيرون وتأخذهم الحيرة. وما من شك أن ما يميز ذلك العاهل في طفولته وشبابه وكهولته تلك المقدرة على الإحساس بآلام الآخرين، وهمومهم، وهذه الصفة بالذات تعد قاعدة أساسيه لديه مع مجموعة أخرى من الصفات النبيلة.
ولعل من أبرز صفاته طفلاً وشاباً وكهلاً أنه من الخطباء المعدودين في المملكة بل وفي العالم العربي، كما أنه ممن لا يقرأون من ورقة أو يخطب من سجل معد مسبقاً، بل إنه يتحدث دائماً إلى مستمعيه بشكل تلقائي، وعلى الرغم من ارتجاله للكلمات فإنها تجيء آية في البلاغة والإحكام، ويقول الذين يعرفونه حق المعرفة إن كلامه العادي مليء بالملاحظات الذكية والأمثال والاستطرادات التي تجعل سامعه يود ألا يتوقف عن الحديث، وله من الكلمات المتألقة ذات الدلالة على عمق صلته بثوابت أمته في شؤون الدين والمجتمع والحكم والسياسة ماهو مبثوث في خطبه ومقابلاته. وما من شك أن ذلك مرده إلى النشأة الأولى التي تلقاها على يد والده الملك عبدالعزيز.
وقد ورث عن والده عبدالعزيز شخصية جذابة وقوية شديدة الهيبة سواء في المملكة أو خارجها وقد أعرب العديد من القادة والزعماء الذين التقى بهم في العديد من المناسبات عن قوة شخصيته في المباحثات والمفاوضات.
.................................................. ..................................................
من مواليد مدينة الرياض في السابع عشر من شهر ربيع الأول من عام 1343ه نشأ وترعرع في كنف والده فتلقى التعليم في طفولته بمدرسة الأمراء بالرياض ثم درس بالمعهد العلمي بمكة المكرمة وكان شغوفاً بملازمة مجلس والده وفي الثامن عشر من ربيع الآخر 1373ه عين وزيراً للمعارف كأول وزير يستلم هذا المنصب بعد إنشاء الوزارة حيث أسس مبادئ وقواعد السياسة التعليمية في المملكة ثم عين وزيراً للداخلية في الثالث من شهر جمادى الآخرة 1382ه فساهم بفعالية في إرساء قواعد الأمن والاستقرار والحفاظ على المملكة من القلاقل والاضطرابات التي تحيط بالمنطقة ثم اختاره جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء عام 1387ه علاوة على القيام بمهام وزارة الداخلية فأصبح بحكم هذا المنصب يرأس جلسات مجلس الوزراء وفي ربيع الأول عام 1395ه اختار جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين ولياً للعهد ونائباً أول لرئيس مجلس الوزراء وفي الحادي والعشرين من شهر شعبان عام 1402ه أصبح فهد بن عبدالعزيز ملكاً قائداً لوطنه وشعبه فكان توليه الحكم حدثاً متميزاً في تاريخ البلاد ومسيرة قيادتها.
ولقد اهتم خادم الحرمين الشريفين بالعلم حيث بلغ عدد الجامعات الموجودة بالمملكة ثماني جامعات وعدد المعاهد والكليات والمدارس للبنين والبنات 22301 . وأخيراً ستبقي ذكراك على مدى السنين
.................................................. ..................................................

أثناء المعارك العظيمة وفي الأوقات العصيبة واللحظات الحاسمة من تاريخ الشعوب والأمم يولد أفذاذ الرجال الذين لا يتركون بصماتهم واضحة على التاريخ فحسب، بل يشاركون في صنع أحداثه وهذه ظاهرة تتكرر في حياة الكثير من الشخصيات المؤثرة التي كان تاريخ ميلادها في مرحلة لا تنسى من تاريخ شعوبها.
الحكم والعقيدة
.................................................. ..................................................
وهكذا كان مولد فهد بن عبدالعزيز سنة 1343ه الموافق 1924م، في مرحلة حقق فيها الامام والقائد الرباني عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود انتصارات عدة على مناوئيه وعلى اعدائه،وكان يعمل جاهداً على توحيد ما تبقى من جزيرة العرب لا ليكون سلطاناً عليها وانما ليحررها مما توارثته عن جهل بالعقيدة الصحيحة من بدع وخرافات واباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، ليكون الحكم كله لله، ولا يكون الحكم كله لله الا اذا تم الحكم بما أنزل الله «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».
من هذا الوعي الراسخ بالصلة بين «الحكم» و «العقيدة» انطلق عبدالعزيز بن عبدالرحمن يحقق الانتصارات في طول جزيرة العرب وعرضها ليخضعها لحكم الله وحده، لا يبتغي من وراء ذلك غرضاً من اغراض الدنيا ولا جاهاً فيها. كان هو «عبدالعزيز» قبل فتح الرياض وظل هو «عبدالعزيز» بعد فتح الرياض، ولم يتغير «عبدالعزيز» قط حتى بعد ان استتب له حكم جزيرة العرب وانشأ مملكته المترامية الاطراف، فقد استقر في فؤاده انه لم يكن الا منفذاً لاحكام الله وحاميا لشرعه القويم وخادماً لشعبه وامة المسلمين من مشرقها إلى مغربها.
ليست مصادفة
ففي الفترة التي ولد فيها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حقق الله لوالده الامام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الظفر بدخول الحرمين الشريفين مسالماً دون سفك دماء، واعطاه الله شرف خدمتهما.
فقبل ان ينصرم عام 1342ه اعلن الشريف حسين حاكم الحجاز آنذاك نفسه خليفةً على المسلمين بعد الغاء الخلافة الاسلامية في تركيا وانتصار العلمانية على كمال اتاتورك. ولم يكن في نية الامام عبدالعزيز ان يناوئ الشريف في ذلك، ولا كان ذلك من خلقه ولا في سياسته، بل تشهد احداث التاريخ بمحاولات الامام عبدالعزيز المتعددة، في مد يد السلم والتعاون مع حاكم الحجاز لخدمة المسلمين، ولكن الاخير كان يقابل ذلك كله بالصد حيناً وبالعدوان حيناً آخر، فصبر عبدالعزيز حتى لم يعد في قوس الصبر منزع، ووصل الامر بالشريف حسين ان منع حجاج نجد عن اداء مناسكهم فضلاً عن رفضه ترسيم الحدود بين الحجاز ونجد التي كانت تدل على حسن نية الملك عبدالعزيز وعدم رغبته في التوسع آنذاك.
استشار الملك عبدالعزيز العلماء والفقهاء في امر الشريف حسين ومنعه حجاج نجد عن اداء مناسك الحج، فكان رأيهم بالاجماع ضرورة تحرير الحرمين الشريفين من جبروته ليتمكن حجاج بيت الله جميعاً من كل ارض وجنس من اداء مناسكهم بحرية وبلا قيود او صعوبات.. واستخار الملك عبدالعزيز ربه في فتح الحجاز فكانت الخيرة فيما اختاره الله.
وفي اوائل سنة 1343ه وصلت جنود الملك عبدالعزيز إلى مدينة الطائف فهرب منها اتباع الشريف حسين وانهزمت حملة النجدة التي جاءت بقيادة علي بن الشريف حسين.
واحس الشريف حسين ان الارض تزلزل من تحت قدميه..فتنازل عن عرش الحجاز لابنه «علي» بعد ان ازداد ضغط اهل مكة وعلمائها عليه.
وهنا استطاع «جيش الاخوان»..جيش الامام عبدالعزيز من دخول محرمين لاداء فريضة الحج دون حرب اوسفك دماء.
وفي هذه الأثناء بشر عبدالعزيز بمولد ابنه «فهد».
وتوالت بعد ذلك الاحداث.
لاذ الشريف بجدة بعد دخول جيش الاخوان مكة..
وكان حصار جدة المعروف لمدة 12 شهراً حيث كانت اوامر الملك عبدالعزيز صارمة «الصبر ولا الحرب» فلم يمس اهل جدة بأذى ولا اراد ان يصلهم شرر من نار اراد عبدالعزيز لهم ان يستضيئوا بنورها ولا يحترقوا بجمرها.
وفي الوقت نفسه كان الحصار حول «المدينة المنورة» قد انتهى بعد ان استمر عدة شهور فدخلها سمو الامير محمد بن عبدالعزيز سلماً في جمادى الاولى 1344ه.
وفي شهر جمادى الآخرة 1344ه استسلمت جدة بعد حصار دام اثني عشر شهراً ودخلها الملك عبدالعزيز منتصراً.
ثم سقطت ينبع وجميع مدن الساحل الغربي.
وفي يوم الجمعة 23/6/1344ه بايع اهل الحجاز عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ملكاً عليهم.
وعقدت البيعة عند بيت الله المعظم، فأصبح ملكاً على الحجاز ونجد وملحقاته، وبعد سبعة اعوام، اي في جمادى الآخرة من عام 1351ه اعلنت المملكة العربية السعودية دولة موحدة، وتحت ادارة واحدة في جميع شؤونها، وكان هذا الاعلان تتويجاً لرحلة شاقة، ولطموحات بدت في مهد تكوينها ومخاضها مستحيلة تماماً، ولذا كان التوحيد معجزة حقيقية، وقصته اشبه برواية خيالية محشوة بالاسطورة، وللمتابع ان يتصور مغامراً اراد اجتياز صحراء قاحلة يصل إلى واحة في الجانب الآخر ولا يملك زاداً ولا ماء ولا راحلة، وكل ادواته عزم وارادة وطموح، ولكن الملك عبدالعزيز لم يغامر، وانما سعى معتمداً على خالقه ثم على ارادته والمؤمنين الصادقين من اهله وابناء وطنه، فتحول الحلم حقيقة والاسطورة واقعاً.
وحقق عبدالعزيز الوحدة المنشودة لجزيرة العرب وعمل الملك عبدالعزيز منذ ان ملك على بناء دولته لبنة لبنة، وكانت معركة البناء تضاهي في جسامتها معركة التوحيد. استنهض هذه المرة الهمم والعزائم لاقامة اركان الدولة الفتية، وكرس كل الجهود وامكانياته لبسط الامن في جميع ارجائها، وسيطرت عليه هذه المهمة حتى وفقه الله إلى اقتلاع كل صور الشر والفتن والخوف والفساد من جذورها. واستقرت نفسه وهدأت بعد أن تمكن من تأمين طرق الحج للزائرين والقادمين إلى بيت الحرام من كل بقاع الأرض وافضى هذا الانجاز العظيم إلى اقبال الناس على المدينتين المقدستين وهم آمنون على دمائهم واموالهم واعراضهم، ومنذ ذاك الوقت والبيتان يشهدان عمارة مستمرة، عمرا بالطائفين والزائرين والركع السجود والعاكفين ثم عمارة بناء وسعة وضياء وتكييف تيسيراً على المسلمين والمسلمات.
وهكذا دانت اجزاء الجزيرة العربية للملك عبدالعزيز بعد كفاح مرير، واصبحت وحدة متناغمة يجمعها دين الله وحب الوطن،وحينها خاطب الملك عبدالعزيز ابناء الجزيرة والامة العربية والاسلامية فقال «جلبنا السلام للبلاد، ونشرنا العدل في ربوعها، وللعالم الاسلامي ان يحكم على اعمالنا في الماضي وبما سنقوم به في المستقبل بإذن الله». واعلن في نهاية خطابه:«ان الحجاز اصبح امانة في عنقي مقدسة».
واصبح الراكب من الاحساء إلى مكة المكرمة، ومن نجران إلى تبوك، ومن جيزان إلى الرياض آمناً على نفسه وماله ومتاعه لا يخشى مجرماً ولا قاطع طريق، واصبح الحاج يأتي من اقاصي الارض فيتمتع بالامن نفسه.
في مجلس الملك عبدالعزيز
ولم يهدأ للملك عبدالعزيز خاطر حتى اطمأن على رضى العالم الاسلامي كله عن حكمه للحجاز وليس اهل الحجاز فقط، حتى يغلق الباب على المنقولين وارباب الفتن واصحاب المعتقدات الضالة. فاجتمع علماء المسلمين سنة 1345ه في اول مؤتمر اسلامي لهم وباركوا خدمة عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود للحرمين الشريفين وحكمه للحجاز.
وكانت هذه الخطوة المباركة قد عكست غيرة حقيقية، وايماناً غير محدود بوحدة الكلمة الاسلامية، وشكلت ثوابت ومنهج الفكر السياسي السعودي القائم على العقيدة الصحيحة، وهو ما اورثه الاب لابنائه، وقد اختمرت هذه الاسس والمبادئ في ذهن فهد بن عبدالعزيز تشربها عقله وضمها قلبه بين جوانحه منذ باكر صباه.
شاهد الفهد في صباه والده ينظر للدول العربية على انها اساس نجاح اي عمل اسلامي، وان الاسلام يستهدف من خلالها، وان المنطقة بما تملكه من امكانات وموارد بشرية واقتصادية هي التي يسيل لها لعاب الطامعين، ولذلك سبق الفكر السياسي العربي وتفوق عليه، فكان صاحب اول فكرة لقيام جامعة عربية، وحين برزت هذه الفكرة فيما بعد انحاز اليها بشدة، وكان له القدح المعلّى في تأسيسها سعياً إلى ايجاد كيان عربي قوي يوحد كلمتهم ويصنع قرارهم، ويوجد لهم هيبة ومكانة في دوائر واوساط صناعة القرار العالمي. وادت هذه السياسات إلى ان تتحول المملكة العربية السعودية إلى قوة سياسية وكيان اقليمي ودولي يحسب له حساب في كل صغيرة وكبيرة.
في ظل هذه الظروف التاريخية عاش فهد بن عبدالعزيز صباه يتعلم في مدرسة «عبدالعزيز آل سعود» دروساً في العقيدة والخلق والشجاعة والشهامة والسياسة والحكنة من خلال المداومة على حضور مجالس والده فضلا عن ما كان يتلقاه في المعهد العلمي بمكة المكرمة من دروس على ايدي كبار العلماء.
وقد ادرك الملك عبدالعزيز نباهة ابنه فهد فحرص على حضوره المستمر معه في مجالسه، فكانت هذه المجالس المدرسة الكبرى التي تعلّم فيها الفهد وتخرج منها اخوانه الاكبر سناً ليسيروا في دروب المجد واحداً تلو الآخر.
كان مجلس الملك عبدالعزيز جامعة قائمة بذاتها تضم كل علوم الشريعة ومدارس السياسة وفنون الحرب، يجتمع فيها الساسة والقادة واهل الشرع والرأي والشعراء والأدباء من كل اوطان العرب والمسلمين، فكان المجلس مثل حديقة متنوعة الازهار حرص عبدالعزيز ان يضع فيه من كل بستان زهرة.
ففي هذا المجلس اتخذت القرارات الحكيمة، ووضعت انظمة الدولة، وأطر ادارة البلاد، واستمع عبدالعزيز آل سعود لنصح الناصحين بتواضع الحكيم ولآراء المستشارين بحصافة الخبير، وفي هذا المجلس نفسه شاهد فهد بن عبدالعزيز والده لا يرد سائلاً ولا يلقى مؤمناً بما يكره، ويخالط الناس بخلق حسن، فتشرب الكرم والتواضع وحسن الخلق.
مشاهدات الفهد
وشاهد فهد بن عبدالعزيز والده العظيم يولي اهتماماً كبيراً بالشأن الداخلي ويضع له الاسس والقواعد ولم يترك اي جزء من وقته يضيع بدداً، وهو السياسي والقائد صاحب الرؤية البعيدة النافذة، فقد استنفر طاقاته وطاقات ابنائه وشعبه لينهض ببلد تتباين طبوغرافيته وانتماءات اهله القبلية وهي مهمة صعبة وعسيرة دون شك تتطلب حكمة وحنكة وشجاعة. وبرغم انشغاله بتوحيد اجزاء البلاد الا انه لم يغفل الاخذ باسباب العلوم والصناعات الحديثة والاقتصاديات القائمة على العلم والتخطيط، ودعا في الوقت نفسه قادة الدول العربية إلى اخذ المفيد من معطيات العلم ومستجداته التي تتناسب عقيدة المواطنين وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم. ونبذ ايضا وبشدة اي محاولات لاستيراد البدع والطالح دون الصالح، ورفض الزيف والتدليس وبسبب هذا الادراك المستنير دخلت إلى المملكة وسائل العلم الحديث التي تعين على تيسير سبل الحياة للناس مثل الوسائل المتاحة آنذاك في الاتصالات والمواصلات.
وشاهد الفتى فهد بن عبدالعزيز اقبال الشركات والمؤسسات الاقتصادية العالمية على الاستثمار والاستيراد والتصدير، ووجدت حركة التجارة تشجيعاً هائلاً ولكن دون المساس بقيّم الناس وعقائدهم وتقالديهم.
وانشئت كذلك وسائل الاعلام، الاذاعة والصحف، لتسهم في ترقية وعي المواطنين وتربيتهم تربية دينية وثقافية واجتماعية. وبهذا النهج المتقدم في تطوير وسائل الحياة في مختلف مجالاتها كان الملك عبدالعزيز يهدف إلى النهوض بدولته الوليدة وبمواطنيه، وعلاوة على كل ذلك كان يدرك تمام الادراك ان الدول المتقدمة تكمن قوتها في سلاحها، وان اي دولة لا تملك سلاحاً يحميها هي دولة متخلفة ستبقى في الذيل تتجرع ذل الهوان والدونية والذيلية، والعاجز لا يأيه به أحد، وإن فعل فمن باب العطف والشفقة، وهاتان الصفتان بمعيار السياسية الدولية، صفتان فضفاضتان جعلتهما الدول المتقدمة جسراً للعبور إلى دول العالم الثالث لنهب مواردها وخاماتها الطبيعية ومصادرة قرارها.
واختزن عقل الشاب فهد بن عبدالعزيز خبايا دوافع السياسة العالمية واطماعها وهو يرى والده يدافع عن قضية فلسطين ويراسل زعماء العالم بهذا الخصوص ويتابع قضايا المسلمين في كل مكان، ويحفر مكاناً من الهيبة والاقدام والتقدير للمملكة العربية السعودية في نفوس الاعداء والاصدقاء على السواء.
ولما وجد الملك عبدالعزيز في ابنه الفهد منذ صغره هذا الحس السياسي، والوعي بأبعاد القضايا العربية والدولية جعل الفهد ضمن وفد المملكة الذي سافر إلى نيويورك برئاسة سمو الامير فيصل بن عبدالعزيز سنة 1365ه الموافق 1945م، وكان الفهد في الثانية والعشرين من عمره آنذاك، وذلك للتوقيع على ميثاق تأسيسها وافتتاح اعمالها.
وهكذا تدرج الفهد سريعاً في فهم واستيعاب الدروس البليغة التي اعطاها له والده في مجالات الامن والسياسة الداخلية والعلاقات الدولية فضلا عن حب العلم الشرعي، والاطلاع على العلوم الحديثة والانفتاح على العالم بما لا يتعارض مع الثوابت الشرعية ربما يخدم الوطن والمواطنين في حياتهم حاضراً ومستقبلاً.