دور الجغرافيا السياسية في ولادة وقتل الوحدة المصرية-السورية
مرسل: السبت مايو 28, 2011 9:25 am
مقال للدكتور / إبراهيم علوش
لا بد من الإشارة في البداية، عشية الذكرى الخمسين لإعلان الوحدة المصرية-السورية، إلى أن انهيار ذلك المشروع الوحدوي، أو أي مشروع وحدوي أخر، لا يعني سقوط المشروع القومي أو الفكرة الوحدوية نفسها، إلا إذا اعتبرنا أن انهيار الاتحاد السوفياتي يعني سقوطاً أخيراً للاشتراكية، أو اعتبرنا انهيار الدولة العثمانية سقوطاً للمشروع الإسلامي، أو اعتبرنا فشل أية تجربة أو محاولة شرطاً كافياً للدلالة على عدم صلاحية المثال الأعلى الذي تسعى لتحقيقه. والتجارب الوحدوية في إيطاليا أو ألمانيا مثلاً، أو في الصين، وغيرها، استمرت بالمحاولة والفشل عشرات السنين، وأحياناً مئات، قبل أن تنجح بترجمة الوحدة القائمة بالقوة في الذات القومية إلى وحدة قائمة الفعل في دولة أمة.
ثمة مشاريع أيديولوجية تخطاها الزمن بالفعل، ولكن الوحدة العربية ليس وحداً منها. فمهمة تحقيق الوحدة تبقى مشروعاً راهناً بالنسبة للعرب لأنها تمثل المخرج الوحيد للأمة من حالة التخلف والذل والتبعية والضعف والتأخر والتفكك التي نعيشها. فإما الوحدة، وإما الموت. والتجربة الفاشلة هي أم التجربة الناجحة، ما دام هدف التجربة مستمداً من ضرورة موضوعية وتاريخية كما الوحدة بالنسبة للعرب. بالتالي يمكن القول أن الوحدة المصرية-السورية قضت شهيدة في الفكرة الوحدوية، ولم تقضِ الفكرةُ الوحدوية شهيدةً في تجربة الوحدة المصرية-السورية.
ولكن الوحدة لا تتحقق في فراغ، كما لا تنمو النبتة في العدم. فسياق الوحدة التاريخي والسياسي كان المقدمة الطبيعية لها. والوحدة المصرية-السورية ما كانت لأن تتحقق لولا توفر: 1) الحد الأدنى من الشروط السياسية على الأرض، و2) نزوعٍ قومي أصيل في الوجدان الشعبي العربي نحو الوحدة، في آنٍ معاً. ولولا توفر تلك الشروط السياسية لما تجسد النزوع القومي بهيئة جمهورية عربية متحدة. كما أن عدم تحقق بعض الشروط المادية للوحدة على الأرض كان العامل الأهم على الأرجح الذي سمح لأعداء الوحدة أن يغتالوها.
ويتميز المفكر القومي اليساري ياسين الحافظ، بين أقرانه من المفكرين القوميين، بأنه أعطى المثال القومي مضموناً علمياً تحليلياً، وحوَّل الفكرة القومية بالتالي من صنمٍ يقبع خارج التاريخ إلى روحٍ حيةٍ متوثبةٍ تتأقلم مع الظرف الراهن وعينها أبداً على المستقبل. فتحقيق الذات القومية عند ياسين الحافظ يعتمد على استيعاب شروط الزمان والمكان الراهن، أو استيعاب قوانين حركة الواقع إن شئنا الالتصاق بمصطلحات المنهج العلمي. وبهذا المعنى يمكن القول أن حافظ منح المثال القومي روحاً جدلية، أو أعطى النهج الجدلي في الوطن العربي تأصيلاً قومياً، لا فرق.
وفي تحليله لتجربة الوحدة المصرية-السورية بين عامي 1958-1961، تجده يبدأ بالسياق السياسي إذن لا بالشعار القومي.
فالوحدة جاءت، من الناحية الجغرافية السياسية، نتيجة مشروع حصار سوريا في الخمسينات. وها هنا نجد أساسها السياسي كضرورة راهنة للاستقلال عن قوى الهيمنة الخارجية، والإفلات من الحصار وبراثن التبعية وذكرى الاستعمار لم تزل غضة في النفوس.
وكانت الإمبريالية البريطانية عام 1955 قد استكملت تأسيس ما يسمى "بحلف بغداد"، وهو ما يعادل اليوم "حلف المعتدلين العرب" في الخمسينات، باستثناء أنه كان "حلف المعتدلين المسلمين" وقتها الذي ضم في عضويته بريطانيا والباكستان وتركيا وإيران والعراق، كجزء من إستراتيجية احتواء حركات التحرر الصاعدة في الوطن العربي بالأخص، وإستراتيجية الولايات المتحدة في الحرب الباردة.
وكان ذلك الحلف الموالي للاستعمار يزحف غرباً، ويحيق بمصر من خلال بسوريا، ومنها محاولتي انقلاب في سوريا مدعومتين من حلف بغداد في عام 1956 وحده، إحداها كان يفترض أن يترافق مع العدوان الثلاثي في نفس العام.
ويضيف ياسين الحافظ في الفصل الخاص بتقييم تجربة الوحدة المصرية-السورية في كتابة "حول المسألة القومية الديموقراطية": "كانت مصر، التي وقعت مع إنكلترا اتفاقية الجلاء في تشرين أول 1954، قد رفضت رفضاً قاطعاً الدخول في أحلاف مع الدول الغربية. لذا اتجه حلف بغداد، في محاولة لعزل مصر وإجبارها بالتالي على القبول بالدخول في عضويته، إلى تكثيف مؤامراته وضغوطه على سوريا للسيطرة عليها وإدخالها في الحلف! وعندما أدركت مصر هذه الواقعة بادرت إلى هجوم معاكس كان بداية انفجار أكبر وأعظم المعارك السياسية والعسكرية التي شهدها الوطن العربي، منذ الاجتياح الاستعماري".
فالوحدة المصرية-السورية جاءت لتعبر فقط لا عن مثال أعلى قد نسعى إليه "لأنه أفضل"، بل انبثقت الحاجة للوحدة من ثنايا الصراع مع الاستعمار، وضرورة الحفاظ على الاستقلال الوطني حتى بمعناه القطري التافه وضيق الأفق. ففقط عندما يدرك الناس راهنية المهمة الوحدوية، باعتبارها ضرورة من ضرورات الجغرافيا السياسية هنا والآن، لا مجرد هدف مثالي، ولا نتاج تجميع "أنظمة وطنية-ديموقراطية" في كل قطر عربي بمفرده، يمكن أن تتحول الوحدة من فكرة رائعة، ولكن عائمة، تدور في الرؤوس إلى مقبضٍ يُعلق عليه فولاذ الفؤوس.
أما اغتيال الوحدة، وهي التي اغتيلت اغتيالاً نتيجة انقلاب مدبر بالتحالف مع قوى الهيمنة الخارجية، ولم تمت موتاً طبيعياً، فقد كان من أهم أسباب حدوثها هو غياب التواصل الجغرافي بين الإقليم الشمالي، سوريا، والإقليم الجنوبي، للجمهورية العربية المتحدة. ولو كانت سوريا متصلة جغرافياً بمصر، كما كانت أيام صلاح الدين الأيوبي عبر صحراء النقب في فلسطين، لما أمكن لانقلاب سخيف مدعوم من الخارج ومن بعض أجزاء النخب السورية، وغير مدعوم من الشعب أو الجيش السوري، أن يفصل سوريا عن مصر، أكثر مما كان من الممكن لانقلاب سخيف أن يفصل القاهرة عن مصر.
فهنا أيضاً تطل الجغرافيا السياسية برأسها، وقد تعلم الصهاينة من درس صلاح الدين الأيوبي والصليبيين عندما تركوا له صحراء النقب معتقدين أنها أرض غير ذي زرع، دون الانتباه لأهميتها الجغرافية السياسية كحلقة وصل بين سوريا ومصر، ولذلك أصرت بريطانيا والحركة الصهيونية على جعل النقب جزءاً من دولة "إسرائيل" كما يظهر من الخرائط الأولى الموضوعة أمام مؤتمر فرساي في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، وقد ضمت تلك الخرائط ضمن دولة "إسرائيل" بالإضافة لصحراء النقب في جنوب فلسطين، جنوب لبنان والجولان وكل الأراضي الخصبة إلى شرق نهر الأردن، وصولاً عبر الصحراء للعقبة.
ولكن الجغرافيا السياسية ليست قدراً لا يرد، سوى أن فهمها هو أساس إدراك الواقع السياسي الذي نعيشه. وبالرغم من انقطاع التواصل الجغرافي، فقد كان بإمكان عبد الناصر أن يحتفظ بسوريا لولا نزعته الإنسانية المفرطة. وتدخل عبد الناصر في سوريا لمنع الانفصال، بحكمها جزءٌ من الجمهورية العربية المتحدة، كان سيجد شروطاً للنجاح أفضل بكثير من تدخله بعد عام، أي في 1962، في اليمن.
وعلى كل حال، فإن وحدة الأمة من الثوابت التي لا تناقش، وليس فيها رأي أو خلاف، إلا فيما يتعلق بالشروط المادية لتحقيقها. والانفصال، خاصة المدعوم خارجياً، لا يجوز التسامح معه بغض النظر...
لا بد من الإشارة في البداية، عشية الذكرى الخمسين لإعلان الوحدة المصرية-السورية، إلى أن انهيار ذلك المشروع الوحدوي، أو أي مشروع وحدوي أخر، لا يعني سقوط المشروع القومي أو الفكرة الوحدوية نفسها، إلا إذا اعتبرنا أن انهيار الاتحاد السوفياتي يعني سقوطاً أخيراً للاشتراكية، أو اعتبرنا انهيار الدولة العثمانية سقوطاً للمشروع الإسلامي، أو اعتبرنا فشل أية تجربة أو محاولة شرطاً كافياً للدلالة على عدم صلاحية المثال الأعلى الذي تسعى لتحقيقه. والتجارب الوحدوية في إيطاليا أو ألمانيا مثلاً، أو في الصين، وغيرها، استمرت بالمحاولة والفشل عشرات السنين، وأحياناً مئات، قبل أن تنجح بترجمة الوحدة القائمة بالقوة في الذات القومية إلى وحدة قائمة الفعل في دولة أمة.
ثمة مشاريع أيديولوجية تخطاها الزمن بالفعل، ولكن الوحدة العربية ليس وحداً منها. فمهمة تحقيق الوحدة تبقى مشروعاً راهناً بالنسبة للعرب لأنها تمثل المخرج الوحيد للأمة من حالة التخلف والذل والتبعية والضعف والتأخر والتفكك التي نعيشها. فإما الوحدة، وإما الموت. والتجربة الفاشلة هي أم التجربة الناجحة، ما دام هدف التجربة مستمداً من ضرورة موضوعية وتاريخية كما الوحدة بالنسبة للعرب. بالتالي يمكن القول أن الوحدة المصرية-السورية قضت شهيدة في الفكرة الوحدوية، ولم تقضِ الفكرةُ الوحدوية شهيدةً في تجربة الوحدة المصرية-السورية.
ولكن الوحدة لا تتحقق في فراغ، كما لا تنمو النبتة في العدم. فسياق الوحدة التاريخي والسياسي كان المقدمة الطبيعية لها. والوحدة المصرية-السورية ما كانت لأن تتحقق لولا توفر: 1) الحد الأدنى من الشروط السياسية على الأرض، و2) نزوعٍ قومي أصيل في الوجدان الشعبي العربي نحو الوحدة، في آنٍ معاً. ولولا توفر تلك الشروط السياسية لما تجسد النزوع القومي بهيئة جمهورية عربية متحدة. كما أن عدم تحقق بعض الشروط المادية للوحدة على الأرض كان العامل الأهم على الأرجح الذي سمح لأعداء الوحدة أن يغتالوها.
ويتميز المفكر القومي اليساري ياسين الحافظ، بين أقرانه من المفكرين القوميين، بأنه أعطى المثال القومي مضموناً علمياً تحليلياً، وحوَّل الفكرة القومية بالتالي من صنمٍ يقبع خارج التاريخ إلى روحٍ حيةٍ متوثبةٍ تتأقلم مع الظرف الراهن وعينها أبداً على المستقبل. فتحقيق الذات القومية عند ياسين الحافظ يعتمد على استيعاب شروط الزمان والمكان الراهن، أو استيعاب قوانين حركة الواقع إن شئنا الالتصاق بمصطلحات المنهج العلمي. وبهذا المعنى يمكن القول أن حافظ منح المثال القومي روحاً جدلية، أو أعطى النهج الجدلي في الوطن العربي تأصيلاً قومياً، لا فرق.
وفي تحليله لتجربة الوحدة المصرية-السورية بين عامي 1958-1961، تجده يبدأ بالسياق السياسي إذن لا بالشعار القومي.
فالوحدة جاءت، من الناحية الجغرافية السياسية، نتيجة مشروع حصار سوريا في الخمسينات. وها هنا نجد أساسها السياسي كضرورة راهنة للاستقلال عن قوى الهيمنة الخارجية، والإفلات من الحصار وبراثن التبعية وذكرى الاستعمار لم تزل غضة في النفوس.
وكانت الإمبريالية البريطانية عام 1955 قد استكملت تأسيس ما يسمى "بحلف بغداد"، وهو ما يعادل اليوم "حلف المعتدلين العرب" في الخمسينات، باستثناء أنه كان "حلف المعتدلين المسلمين" وقتها الذي ضم في عضويته بريطانيا والباكستان وتركيا وإيران والعراق، كجزء من إستراتيجية احتواء حركات التحرر الصاعدة في الوطن العربي بالأخص، وإستراتيجية الولايات المتحدة في الحرب الباردة.
وكان ذلك الحلف الموالي للاستعمار يزحف غرباً، ويحيق بمصر من خلال بسوريا، ومنها محاولتي انقلاب في سوريا مدعومتين من حلف بغداد في عام 1956 وحده، إحداها كان يفترض أن يترافق مع العدوان الثلاثي في نفس العام.
ويضيف ياسين الحافظ في الفصل الخاص بتقييم تجربة الوحدة المصرية-السورية في كتابة "حول المسألة القومية الديموقراطية": "كانت مصر، التي وقعت مع إنكلترا اتفاقية الجلاء في تشرين أول 1954، قد رفضت رفضاً قاطعاً الدخول في أحلاف مع الدول الغربية. لذا اتجه حلف بغداد، في محاولة لعزل مصر وإجبارها بالتالي على القبول بالدخول في عضويته، إلى تكثيف مؤامراته وضغوطه على سوريا للسيطرة عليها وإدخالها في الحلف! وعندما أدركت مصر هذه الواقعة بادرت إلى هجوم معاكس كان بداية انفجار أكبر وأعظم المعارك السياسية والعسكرية التي شهدها الوطن العربي، منذ الاجتياح الاستعماري".
فالوحدة المصرية-السورية جاءت لتعبر فقط لا عن مثال أعلى قد نسعى إليه "لأنه أفضل"، بل انبثقت الحاجة للوحدة من ثنايا الصراع مع الاستعمار، وضرورة الحفاظ على الاستقلال الوطني حتى بمعناه القطري التافه وضيق الأفق. ففقط عندما يدرك الناس راهنية المهمة الوحدوية، باعتبارها ضرورة من ضرورات الجغرافيا السياسية هنا والآن، لا مجرد هدف مثالي، ولا نتاج تجميع "أنظمة وطنية-ديموقراطية" في كل قطر عربي بمفرده، يمكن أن تتحول الوحدة من فكرة رائعة، ولكن عائمة، تدور في الرؤوس إلى مقبضٍ يُعلق عليه فولاذ الفؤوس.
أما اغتيال الوحدة، وهي التي اغتيلت اغتيالاً نتيجة انقلاب مدبر بالتحالف مع قوى الهيمنة الخارجية، ولم تمت موتاً طبيعياً، فقد كان من أهم أسباب حدوثها هو غياب التواصل الجغرافي بين الإقليم الشمالي، سوريا، والإقليم الجنوبي، للجمهورية العربية المتحدة. ولو كانت سوريا متصلة جغرافياً بمصر، كما كانت أيام صلاح الدين الأيوبي عبر صحراء النقب في فلسطين، لما أمكن لانقلاب سخيف مدعوم من الخارج ومن بعض أجزاء النخب السورية، وغير مدعوم من الشعب أو الجيش السوري، أن يفصل سوريا عن مصر، أكثر مما كان من الممكن لانقلاب سخيف أن يفصل القاهرة عن مصر.
فهنا أيضاً تطل الجغرافيا السياسية برأسها، وقد تعلم الصهاينة من درس صلاح الدين الأيوبي والصليبيين عندما تركوا له صحراء النقب معتقدين أنها أرض غير ذي زرع، دون الانتباه لأهميتها الجغرافية السياسية كحلقة وصل بين سوريا ومصر، ولذلك أصرت بريطانيا والحركة الصهيونية على جعل النقب جزءاً من دولة "إسرائيل" كما يظهر من الخرائط الأولى الموضوعة أمام مؤتمر فرساي في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، وقد ضمت تلك الخرائط ضمن دولة "إسرائيل" بالإضافة لصحراء النقب في جنوب فلسطين، جنوب لبنان والجولان وكل الأراضي الخصبة إلى شرق نهر الأردن، وصولاً عبر الصحراء للعقبة.
ولكن الجغرافيا السياسية ليست قدراً لا يرد، سوى أن فهمها هو أساس إدراك الواقع السياسي الذي نعيشه. وبالرغم من انقطاع التواصل الجغرافي، فقد كان بإمكان عبد الناصر أن يحتفظ بسوريا لولا نزعته الإنسانية المفرطة. وتدخل عبد الناصر في سوريا لمنع الانفصال، بحكمها جزءٌ من الجمهورية العربية المتحدة، كان سيجد شروطاً للنجاح أفضل بكثير من تدخله بعد عام، أي في 1962، في اليمن.
وعلى كل حال، فإن وحدة الأمة من الثوابت التي لا تناقش، وليس فيها رأي أو خلاف، إلا فيما يتعلق بالشروط المادية لتحقيقها. والانفصال، خاصة المدعوم خارجياً، لا يجوز التسامح معه بغض النظر...