منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

#36793
محمد أحمد عواد
ما نعنيه بالعقلانية العلمية هي تلك العقلانية التي أنتج من خلالها العلماء علومهم المختلفة . وهي بصيغة أُخرى المسؤولة عن إنتاج المعرفة العلمية. وهناك معنى ثانٍ للعقلانية العلمية، حيث تستخدم للإشارة إلى نظام فلسفي معين أقيم تحت تأثير العلم، مثل فلسفة رسل أو الوضعية المنطقية أو الماركسية ، فكل واحد من هؤلاء يعتقد أنّ فلسفته هي العقلانية العلمية فقط.

قمنا بدراسة العوامل المشتركة بين أصحاب العقلانيات العلمية المختلفة من أجل الوصول إلى الحد الأدنى الذي يتفقون حوله . وقد توصلنا إلى مبادئ ستة موجهة .
هي(1) :
أولا : مبدأ مصادر المعرفة الأربعة.
ثانيا : مبدأ حصر النشاط الميتافيزيقي على العقل.
ثالثا : مبدأ ضرورة الموضوعية في المعرفة (التفسير السببي ).
رابعا : مبدأ الفصل بين عالم السماء وعالم الإنسان .
خامسا : مبدأ الفصل بين الأنساق الثلاثة .
سادسا: مبدأ الالتزام بالروح العلمية .
نحن نعتقد بأنَّ العقلانيات العلمية -تتبنى إلى حد ما- المبادئ الستة بوصفها تشكل نقطة انطلاقها ، ثم هي تختلف فيما بعد ذلك . وجاءت هذه الفلسفات تحت تأثير وتطور العلم الوضعي في أوروبا منذ عصر النهضة . وكان السؤال المطروح علينا منذ فترة هو: هل تشكلت عقلانية علمية من أي نوع كان في التراث العربي الإسلامي بفعل العلوم الرياضية والتجريبية فيه ؟

وقد أنجزنا في الإجابة عن الســـؤال الــسابــق أطروحة دكتوراه دولة سنة 1998م(2) . ولم نتعرض فيها للفقيه الماوردي، ومن ثم سنحاول في هذه الدراسة معرفة ما إذا كان الماوردي الفقيه قد تشكلت لديه عقلانية علمية من نوع ما .

الماوردي حياته وعصره :-

هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي(3) ، ولد بالبصرة سنة أربع وستين وثلاثمائة للهجرة، وبها تلقى دراسته الأولى في الحديث والفقه والأدب، فأصبح قاضياً، وعمل في بلدان كثيرة، إلى أن تمَّ اختياره أقضى القضاة في بغداد سنة تسع وعشرين وأربعمائة للهجرة. وقد ارتبط بعلاقات جيدة مع الخليفة، فاختاره سفيراً له مع البويهيين والسلاجقة. وبلغت مؤلفات الماوردي اثنى عشر كتاباً في حقول شتى، منها(4): التفسير الكبير، الحاوي في الفقه، أعلام النبوة، الأحكام السلطانية، تسهيل النظر، أدب الدنيا والدين.

درس الماوردي الفقه على الإسفراييني والبافي والصيمري(5)، وأصبح قاضياً، وألّف في الفقه الشافعي كتاب الحاوي الكبير(6)، وهو عبارة عن شرح لمختصر(7) المزني(8) (264هـ) وهو كتاب ضخم اختصره لاحقاً في كتاب صغير اسمه الإقناع في الفقه الشافعي، ويبدو أنّ لديه أيضاً مختصراً آخر له اسمه الكافي في شرح مختصر المزني(9) ، وقد أشاد ابن خلكان بكتاب الحاوي إذ يقول: "لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامة في المذهب"(10).

رفض الماوردي التقليد في الفقه، لأنه "قبول قول بغير دليل" (11)، وطالب بالرجوع إلى "أدلة الأصول"(12) ، وهذه يمكن الوصول إليها بإتقان اللغة العربية، وما يسميه "علم الحسّ وهو العقل؛ لأنّ حُجَج العقل أصلٌ لمعرفة الأصول، إذ ليس تُعْرَفُ صحةُ الأُصول إلا بحجج العقول.."(13)، والأصول عنده أربعة هي: "الكتاب والسنة والإجماع والقياس"(14)، ونجد عرضاً موسعاً لهذه الأصول في أدب القاضي(15).

كان الماوردي فقيهاً شافعيّاً لامعاً، وتبنى موقفاً كلاميّاً على صعيد علم أصول الدين، وهو في عُرْفِ الباحثين من الأشاعرة، وقد اتهمه ابن الصلاح بالاعتزال في بعض القضايا(16)، وعلى الرغم من أنّ ابن حجـر العسقلانـي كـان عليماً بأنّ الماوردي قد أخذ بعض قضايا الاعتزال إلا أنّه رفض وضعه مع المعتزلة(17)، وعموماً لم يترجم له العسكري في رجالات الأشعرية، وكذلك لم يذكره المرتضى اليماني في طبقات المعتزلة. ومن ثم يمكن القول: إنّه كان يتبنى علم الكلام، ويدافع عنه، وقد أخذ من المعتزلة بعض القضايا، وكذلك أخذ من الأشاعرة بعض القضايا، الأمر الذي أبعده عن كليهما، فالقضايا التي أخذها عن الاعتزال جعلته بعيداً عن الأشاعرة وبالذات في مسألة خلق الأفعال؛ لأنّ هذا جعله يؤمن بالتفسير السببي على طريقة الفلاسفة والعلماء، فلا نجد عنده دوراً للعادة في مجرى العلاقة السببية، كما هو الحال عند الباقلاني مثلاً(18).

كان الماوردي فقيهاً شافعيّاً، ويتبنى منهجية علم الكلام في قضايا أصول الدين، لكن إلى أي مدى بقي محافظاً على منهجيته في كتابه أدب الدنيا والدين؟ وقد أشار هو إلى أنّ المنهج الذي سيتبعه يجمعُ "بينَ تحقيقِ الفقهاءِ، وترقيقِ الأدباء فلا ينبو عن فَهْمٍ ولا يَدِقُّ في وَهْمٍ، مستشهداً من كتاب الله -جلَّ اسمه- بما يقتضيه، ومن سنن رسول الله -صلواتُ اللهِ عليه- بما يُضاهيه، ثم مُتْبِعاً ذلك بأمثال الحكماءِ وآدابِ البُلغاءِ وأقوالِ الشُّعراءِ؛ لأنَّ القلوبَ ترتاحُ إلى الفنونِ المختلفةِ وتسأمُ من الفن الواحد"(19)، ويقع هذا الكتاب في خمسة أبواب: لن نقوم باستعراض هذه المادة، وإنّما سنركز على قضايا خمس لها علاقة بتكوين العقلانية العلمية .

أولاً: العلاقة بين العقل والتجربة:

يذهب الماوردي إلى أنّ العقلَ هو أسُّ الفضائل، وينبوعُ الآداب، وبه تُعْرفُ حقائقُ الأمور، ويُفْصَلُ بين الحسنات والسيئات، وبذا فهو يجمع جانبي العقلِ: النظر والعمل، ويميّز بين قسمين من العقل غريزيّ ومكتسب(20).

العقل الغريزي:

لا يقدم الماوردي تعريفه للعقل الغريزي مباشرة، وإنّما يلجأُ قبل ذلك إلى دحض ثلاثة تعريفات شائعة في الخطاب الفلسفي والكلامي وهي: أولاً: تذهب فئة إلى أنّ العقل جوهر، ويرفض الماوردي هذه الأطروحة مستنداً في ذلك إلى حجتين(19):

الحجة الأولى: " أنّ الجواهرَ متماثلة، فلا يصحُّ أن يُوجِبَ بعضُها ما لا يوجِبُ سائرُها، ولو أوجبَ سائرُها ما يوجِبُهُ بعضُها لاستغنى العاقل بوجود نفسه عن وجود عقله".

الحجة الثانية: " أنَّ الجوهرَ يَصِحُّ قيامه بذاتهِ، فلو كان العقلُ جَوْهراً لجازَ أنْ يكونَ عقلٌ بغير عاقلٍ، كما جازَ أن يكونَ جِسمٌ بغير". ثانياً: تذهب فئة أخرى إلى أنَّ العقلَ هو المدركُ للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعنى، لكنْ ،لا يقبل الماوردي هذا الأمرَ استناداً إلى أنّ "الإدراك من صفاتِ الحيِّ، والعقلُ عَرَضٌ يستحيلُ ذلكَ مِنْهُ، كما يستحيلُ أنْ يكونَ متلذذاً أو ألِما أو مشتهياً"(22). ثالثاً: ذهب بعض المتكلمين إلى أنَّ العقلَ "هو جملةُ علوم ضروريّةٍ، وهذا الحدُّ غيرُ محصورٍ لما تضمّنه من الإجمال، وتناوَلَهُ من الاحتمال، والحدُّ إنما هو بيانُ المحدودِ، بما ينفي عنه الإجمالَ والاحتمالَ"(23).

يؤكد الماوردي أنَّ العقلَ الغريزيَّ هو العلمُ بالمدْرَكاتِ الضروريَةِ، وهي نوعان:
أولاً: المُدْرَكاتُ الحسّيةُ مثل " المرئياتُ المُدْرَكَةُ بالنظرِ، والأصْوَاتُ المُدْرَكةُ بالسمع، والطعومُ المدْرَكةُ بالذوقِ، والروائحُ المدْرَكةُ بالشمِ، والأجسامُ المدْرَكَةُ باللَمْسِ"(24). ثانياً: البدهيات أو ما كان مبتدأً في النفوس ، كالعِلم بأنَّ الشيءَ لا يخلو من وجود أو عدم، وأنَّ الموجودَ لا يخلو من حُدوثٍ أو قِدَمٍ، وأَنَّ من المُحَالِ اجتماعَ الضِدّين، وأَنَّ الواحد أقلُّ من الاثنين، وهذا النوع من العلمِ لا يجوزُ أن ينتفيَ عن العاقل مع سلامِة حالِهِ وكمالِ عَقْلهِ"(25).

العقل المكتسب:

يتكون هذا العقل نتيجة للعقل الغريزي، ويمكنُ أن ينمو ويتطور بلا حدود عن طريقين:
أ) كثرة الاستعمال إذا لم يعارضْهُ مانعٌ من هوىً ولا حيادٌ من شهوة، كالذي يحصلُ لذوي الإنسْانِ من الحِنْكَة وصِحّةِ الرّوّيةِ بكثرةِ التجاربِ ومُمارسة الأمور…"(26).
ب) إذا كانَ الشخصُ فَرِطَ الذكاءِ وحَسَنَ الفطنةِ قادراً على أنْ يحْدِسَ الأمورَ بطلاقة"(27).

لا توجدُ قطيعةٌ بين العقلين عند الماوردي، فالعقلُ المكتسب هو نتاجٌ للغريزي، بل لا ينفكُّ عنه، وقد "ينفكُّ العقل الغريزي عن العقل المُكتسب، فيكونَ صاحبُهُ مسلوبَ الفضائل"(28)، والمهم بالنسبة لأغراضنا، هو الدورُ الذي تلعبه التجربةُ والاختبارُ بعامة في نمو العقل المكتسب، فهو يؤكّد هذه الحقيقة بقوله: " إذا اجتمع هذان الوجهان في العقل المُكْتَسَبِ، وهو ما ينمّيه فَرْطُ الذّكاءِ بِجَوْدةِ الحَدْس،ِ وصحةُ القريحةِ بحسن البديهة، مع ما ينميه الاستعمالُ بطول التجارب، ومرورُ الزمانِ بكثرةِ الاختبار فهو العقلُ الكاملُ على الإطلاق"(29).

ثانياً: السببية في العالم والتفسير السببي:

يذهبُ الماوردي إلى أنَّ ظواهرَ العالم تحكمها القوانين السببية، والتي هي نتاجٌ للفعل الإلهي(30)، وهو في هذا يلتقي مع الفلاسفة والعلماء والمتكلمين. وخالف الأشعرية في مسألة القُبْح والحُسْن في الأفعال(31)، وبذا اقترب من المعتزلة والفلاسفة والعلماء في اعتبار أنَّ الحُسْنَ والقُبْح صِفاتٌ ذاتيةٌ في الأشياء والأفعال، ومن ثم فقد انعكس هذا الأمرُ في تفسيره للظواهر المختلفة، فسيطرتْ عليه النزعةُ السببيةُ في التفسير، فالإنسانُ ابتداءً "مطبوعٌ على الافتِقارِ إلى جِنْسِهِ، واستعانتُهُ صفةٌ لازمةٌ لطبعه، وخِلْقَةٌ قائمةٌ في جَوْهَرِهِ"(32)، وجعلَ اللهُ "لنيلِ حاجتِهِ أسباباً ولِدَفْعِ عجزه حِيَلاً، دَلّهُ عليها العقلُ، وأرشدَهُ إليها بالفطنة"(33).

لذا يشدد الماوردي على ضرورة النظر في أمور الدنيا "وسَبْرِ أحوالِها والكَشْفِ عن جهةِ انتظامها، لنعلمَ أسبابَ صلاحِها وفسادِها وموادَّ عِمرانها وخَرَابها، لتنتفيَ عن أهلِها شُبَهُ الحَيْرة، وتنجليَ لهم أسبابُ الخيرة، فيقصدِوا الأمورَ من أبوابِها، ويعتمدوا صلاحَ قواعدِهَا وأسبابِهَا"(34).

يؤكد النصُّ السابق بوضوح أنَّ الماوردي يتبنى التفسير السببي في نظرته إلى الأمور والظواهر المختلفة، فمثلاً نجد هذا الأمر في معالجته للقيم الخلقية، إذ يقول في حديثه عن الكِبْر: "فمن أقوى أسبابه علو اليد، ونفوذُ الأمر، وقلةٌ مخالطة الأكْفاء.. فإذا قطعَ أسبابَ الكبر، وحَسَمَ موادَّ العُجْبِ، اعتاضَ بالكِبْرِ تواضعاً، وبالعُجْبِ تودّداً، وذلك من أوْكَدِ أسبابِ الكرامةِ، وأقوى موادِّ النِّعَمِ، وأبلغِ شاف إلى القلب.."(35).

ثالثاً: نموذج من أدب الدنيا:

يلجأ الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين إلى التفسير السببي حيثما أراد معالجة قضية من القضايا فهو دائما يلجأ إليه . ولدعم هذه القضية نأخذ نموذجاً لحديثه عن أدب الدنيا .

يعتقدُ الماوردي أنَّ الدنيا هي الطريق إلى الآخرة(36)، وصلاح الدنيا" مُعْتَبَرٌ مِنْ وجهين: أوّلهما ما ينتظمُ به أمورُ جملتها، والثاني ما يصلحُ به حالُ كلِّ واحد من أهلها، فهما شيئان لاصَلاحَ لأحدِهما إلا بصاحبِهِ"(37). أمّا ما تصلحُ به الدنيا فسِتّةُ أشياءَ وهي: "دينٌ متبعٌ وسلطانٌ قاهرٌ وعدلٌ شامل، وأمنٌ عام، وخِصْبٌ دائمٌ، وأملٌ فسيح"(38). وأمّا ما يَصْلُحُ به حالُ الإنسان فيها فهي: " نفسٌ مطيعةٌ إلى رشدِها، منتهيةٌ عن غيّها، وأُلفة جامعةٌ تنعطـفُ القلـوبُ عليها، ويندفعُ المكروهُ بها، ومادةٌ كافية تسكنُ نفس الإنسانِ إليها، ويستقيمُ إوَدُهُ بها"(39) .

لا يمكنُ بالطبع أنْ نستعرضَ تفاصيلَ هذه القضايا، ولأغراض هذا البحث سيتم التركيزُ على الألفة التي هي القاعدة الثانية، التي إذا تحققت أسهمت في صلاح حال الإنسان في الدنيا، فهذه الألفة تُحقِّقُها أسبابٌ مختلفة(40)، منها المَوَدَّة التي تحدثُ بفعل المؤاخاة بين الناس، ومن هذه المؤاخاة نوعان(41): "أحدُهُما يحدثُ بفعْل الاتّفاقِ الجاري مجرى الاضطرار، والآخر ناتجٌ عن القَصْدِ والاختيار"(42). واتخاذُ الإخوانِ بالاختيار لا يتأتى اعتباطاً بل يؤكّد الماوردي أنَّ الشخص إذا عَزَمَ على اصطفاء الإخوان عليه "خبرةُ أخلاقهم قبلَ اصطفائهم"(43). فهناك خصالٌ أربعُ يجب أن تتوافرَ فيه، هي(44): العقلُ، والدينُ والخُلُقُ والرغبةُ، ومن ثم يدعو الماوردي إلى اختبار الشخص في ضَوْءِ هذه السمات الأربع(45).

رابعاً: دور التجربة في تكوين القيم الخلقية:

يذهب الماوردي إلى أنَّ هناك قيماً أخلاقية يجب أنْ يتحلى بها الفرد، ولا يجوزُ أن تُترك النفس دون توجيه اعتماداً على ما يقوم به العقل والطبعُ "لأن الأدبَ مكتسبٌ بالتجربة، أو مستحسنٌ بالعادة، ولكلِّ قوم مُوَاضعةٌ، وكل ذلك لا يُنالُ بتوقيفِ العقل ولا بالانقيادِ للطبع، حتى يُكْتسب بالتجربة والمعاناة ويستفادَ بالدُّرْبَةِ والمعاطاة، ثم يكونُ العقل عليه قيّماً، وزَكِىُّ الطبع إليه مُسلِّماً" (46).

ويميز الماوردي بين شكلين من التأديب، أحدِهما ما يقومُ به الوالد لولده في الصِّغَر، والثاني ما يجبُ أنْ يقوم به الإنسانُ في نَفْسِهِ عندما يكبر ويسميه أدبَ النشأة، ويُقسم أدب النشأة إلى قسمين هما:
أولاً: أدب المواضعة والاصطلاح: يؤخذُ هذا الأدب" تقليداً على ما استقرَّ عليه اصطلاحُ العُقلاء، واتّفقَ عليه استحسان الأدباء، وليس لاصطلاحهم على وَضْعِهِ تعليلٌ مُسْتَنْبَط، ولا لاتفاقهم على استحسانه دليلٌ موجب.."(47) ، وهذه الآدابُ ضربان "أحدهما ما تكون المواضعة في فروعِهِ والعقلُ موجبٌ لأصولِهِ، والثاني ما تكون المواضعةُ في فروعِهِ وأُصوله"(48)، ويذكر عدداً من هذه الآداب مثل المشورةِ والصبر.. إلخ(49).
ثانياً: أدب الرياضة والاستصلاح: هو الأدب الذي يكون "محمولاً على حال لا يجوز في العقل أنْ يكونَ بخلافها، ولا أن تختلف العقلاء في صلاحها وفسادها، وما كان كذلك فتعليلهُ بالعقل مُستَنْبَط ووضوح صحته بالدليل مُرتبطٌ…"(50)، ويذكر الماوردي عدداً من القيم الأخلاقية المرتبطة بهذا الجانب مثل: الحياء والحلم والصدق..إلخ(51).

المشورة نموذجاً:


تعتبر المشورةُ من آداب المواضَعَةِ والاصطلاح، وهي واجبة بصورة مطلقة إذ " إنَّ من الحزم لكلِّ ذي لُبّ أَلاّ يُبْرِمَ أمراً، ولا يُمضِيَ عَزْماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومُطالَعَةِ ذي العقل الراجح"(52)، ويجب أن تتوافر في المستشار خمس خصال:
أولاً : العقل والتجربة: يذهب الماوردي إلى أن المستشار يجب أن يكون ذا "عقلٍ كاملٍ مع تجربةٍ سالفةٍ فإنّه بكثرةِ التجارب تَصحُّ الرَّوية"(53)،والشواهد التي يلجأ إليها لدعم هذه القضية،هي (54):
1. "روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "استرشِدوا العاقلَ تَرشُدُوا، ولا تعصوه فتندموا".
2. قال عبدالله بن الحسن لابنه محمد: "احذرْ مشاورةَ الجاهلِ وإنْ كان ناصحاً، كما تحذرُ عداوةَ العاقلَ إذا كان عدّواً، فإنّه يوشِكُ أن يورِّطَكَ بمشاورتِهِ، فيسْبِقَ إليه مَكْرُ العاقلِ وتوريطُ الجاهل".
3. "وقيل لرجل من عبس:ٍ ما أكثرَ صوابَكُم؟ قال: نحن ألفُ رجل، وفينا حازمٌ، ونحن نطيعه، فكأنّا ألفُ حازم".
4. "وكان يقال: إياك ومشاورةَ رجلين: شابٌ معجبٌ بنفسِهِ قليلُ التجاربِ في غيره، أو كبيرٌ قد أخذَ الدهرُ من عقله كما أخذَ من جسمه".
5. "قيل في منثور الحكم: كلُّ شيء يحتاج إلى العقل، والعقلُ يحتاجُ إلى التجارب، ولذلك قيل: الأيام تهتِكُ لك عن الأستار الكامنة".
6. "قال بعض الحكماء: التجاربُ ليستْ لها غايةٌ، والعاقل منها في زيادة".
7. "وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدَرْكِ المأمول".
8. قال أبو الأسود الدُّؤلي :
وما كلَّ ذي لُبٍ بمؤتيك نُصْحَهُ
ولا كلُّ مؤتٍ نُصْحَهُ بلبيبِ
ولكن إذا ما استُجْمِعَتَا عند صاحب
فَحُقَّ له من طاعة بنصيب
يلاحظ المتأمل أنَّ هذه السمة -وهي اقتران العقل بالتجربة- مستمدة من الشاهد السادس المأخوذ من الحكماء، ويبدو أنّه يُولي هذا الشاهد أهمية خاصة وكبيرة، إذ نجده في السمة الرابعة يعود إلى الاستشهاد به على الرغم من أنّه ليس بالشاهد القوي لدعم القضية، وهذا يكشف عن اهتمامه الكبير بالتجربة(55).
ثانياً: أن يكون صاحب دين وتقى: "فإنَّ ذلك عِمادُ كلِّ صلاح وبابُ كلِّ نجاح، ومن غلب عليه الدينُ فهو مأمونُ السريرة موفّقُ العزيمة". ثالثاً: أن يكون ناصحاً ودوداً: فإنًّ النصح والمودّة يصْدُقان الفكرة ويمحضان الرأي".

رابعاً: أن يكون سليم الفكر من هَمٍّ قاطع وغَمٍّ شاغِلٍ، فإنَّ من عارضتْ فكرَهُ شوائبُ الهمومِ لا يسلمُ له رأيٌ ولا يستقيمُ له خاطرٌ". خامساً: ألا يكون له في الأمر المستشار غرضٌ يتابعه، ولا هوىً يساعدُهُ فإنَّ الأغراض جاذبةٌ، والهوى صادٌّ، والرأي إذا عارضَهُ الهوى وجاذبته الأغراضُ فَسَدَ".

يلاحظُ أنّ الماوردي يُعطي للتجربة دوراً كبيراً في بناء القيم الخُلُقية، والفقرة الأولى من الباب الأول من كتابه تسهيل النظر تشهد بذلك إذ يقول: "الأخلاقُ غرائزٌ كامنة تظهر بالاختبار، وتُقْهَرُ بالاضطرار. وللنفس أخلاقٌ تحدث عنها بالطبع، ولها أفعال تصدر عنها بالإرادة، فهما ضربان لا تنفك النفسُّ عنهما: أخلاقُ الذات وأفعالُ الإرادة"(56).

-التجربة في العلم السياسي:

لا يلجأ الماوردي إلى التجربة فقط في الظاهرة الأخلاقية , وإنّما نجده أيضاً بصورة صريحة في معالجة الظاهرة السياسية، ويندرج علم السياسة عند الماوردي تحت صناعة الفكر، والسياسةُ هي التدبيراتُ الصادرة عن نتائج الآراء الصحيحة(57)، فالعلم السياسي جملة من "المبادئ النظريّة إذا اتّخَذَها الأميرُ مقياساً وموجِّهاً كانت تدبيراتُه صادرةً عن نتائج الآراء الصحيحة"(58)، ومن ثم فهناك شروط يجب أن تتوافر في السائس: "أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصِحَّ معها مباشرةُ ما يُدرك بها. والرابع: سلامةُ الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسُرعة النهوض. والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعيّة… والسادس: الشجاعة والنجدة… والسابع: النّسب وهو أنْ يكون من قريش"(59).

ويذهب الماوردي إلى أنَّ السائسَ يجب أن يكونَ صاحب عقلّية علمية تجريبية، فيقول: "وقد شبّه المتقدمون السائسَ المدبر للمملكة في السَلمِ والحرب بالطبيب المدبّر للجسد في حفظ الصحة، وعلاج الأمراض: فاليدان في بطشهما بالجند والأعوان، والرجلان بالكُراع، والظهر والعينان بالحجاب والحرس، والأذنان بأصحاب البريد والأخبار، واللسان في نطقه بالوزراء والكتاب. والأعضاء المجاورة في القلب بحاشية الملك على طبقاتهم في القرب والبعد. وحاجة الخاصة للعامة في الاستخدام كحاجة الأعضاء الشريفة إلى التي ليست بشريفة؛ لأنَّ بعض الأمور لبعضٍ سببٌ، وعوامَّ الناس لخواصهم عُدَّةٌ، وبكل صنف منهم إلى الآخر حاجةٌ. وإذا كان أعوانه منه بمنزلة أعضائهِ التي لا قِوامَ للجسد إلا بها، ولا يقدر على التصرف إلا بصحبتها واستقامتها، وجبَ عليه تقويمُ عِوَجِهِم، وإصلاح فاسدِهم ليستقيموا فيستقيمَ الملك بهم كما لا تستقيم أفعاله إلا باستقامة أعضائه من جَسَدِهِ"(60).

لا ينقل الماوردي هذا الشاهد على سبيل الدعم لقضية، وإنّما يتبناه؛ إذ نجده بعد ذلك يقول : "وأصل ما يُبنى عليه قاعدةُ أمره في اختيار أعوانه وكُفاته أنْ يَخْتبرَ أهل مملكتِهِ، ويَسبُرَ جميع حاشيته بتصفُّح عقولهم وآرائهم، ومعرفة هِمهم وأخلاقهم حتى يعرف به باطن سرائِرهم، وما يلائم كامن شِيَمهم، فإنه يجد طباعَهُم مختلفةً، وهِمَمهم متباينةً ومِنَنَهُم متفاضلة"(59). وهناك قرائن أخرى تدعم هذا الأمر: أولاً: يؤكد الماوردي أنَّ على المستشار أنْ يكون صاحب تجربة إذ يقول: "وينبغي للملك ألا يُمضي الأمور المُسْتَبهَمَةَ بهاجسِ رأيه، ولا يُنفِذَ عزائمَهُ المحتملة ببداهة فِكْرِهِ تحرُّزاً من إفشاء سرِّه، وأَنفةً من الاستعانة بغيره حتى يشاورَ ذوي الأحلام والنُّهى، ويستطلع برأي ذوي الأمانة والتُّقى ممن حَنّكتهم التجارب فارتاضوا بها، وعرفوا موارد الأمور وحقائقَ مصادرها"(62). ثانياً: يؤكد الماوردي أنَّ على الملك معالجة الفساد الذي يظهر في الدولة عن طريق القضاء على أسبابه إذ يقول: "ربما اختلفتْ الأسبابُ لامتزاجِ الفساد فتحسمَ الأسباب المتنوعةِ بأضداد متنوعة، كما تُعَالَجُ الأمراض المضادة بأدويةٍ مضادة، فيُستخرج حسم كلَّ فساد من سَببه، وما يصعب عن هذه السياسة إلا معرفة الأسباب، فإذا عرفها وقف على الصواب"(63). ثالثــاً: يحـدّد المـاوردي أربع مَهَامّ أساسية يقوم بها وزير التنفيذ، وهي بمرتبة القوانين عنده(64). القانون الأول: السِّفارة بين الملك وأهل مملكته: والشروط التي يجب أنْ تتوافر في الوزير الذي يقوم بهذه المُهمّة هي" أن يكون جيد الحَدْس. صحيح الاختبار، قليل الاغترار، عارفاً بكفاءة العُمَّال ومقادير الأعمال، ليُحْمَدَ اختيارُهُ ويَقِلَّ عِثارُهُ"(65). القانون الثاني: تقديم الرأي والمشورة: على الوزير أن يُمِدَّ الملك برأيه ومشورته، فإنَّ الملك مع جزالة رأيه وصحة رويته محجوب الشخص عن مباشرة الأمور، فصار محجوب الرأي عن الخبرة بها، فاحتاج إلى بارز الشخص بالمباشرة ليكون بارز الرأي بالخبرة، فليس المشاهِدُ كالغائب، ولا المُخْبِرُ كالمُعايِن"(66). القانون الثالث: عنايةُ الوزيرِ بالملك. القانون الرابع: حرص الوزير على مصالح الملك. رابعاً: يقترح الماوردي مجموعة وصايا للوزير(67)، والوصية الثانية منها قولُه: "حقّ عليك أيها الوزير أنْ تكون لأعوانِك مُخْتبِراً، ولأحوالهم مُتطلِّعاً، وبِهمْ على نفسك وعليهم مُسْتَظْهِراً… إلخ(68)، ويقول في موضع آخر: "اختبرْ أحوال من استكفيتَهُ لِتَعْلَم عَجْزه من كِفايتِهِ.. إلخ(69). خامساً: أخلاقيات العالم: يؤكد الماوردي "أنَّ العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدّ فيه الطالب.."(70) ، وهو يتعامل هنا مع المعرفة بصورتها المطلقة، فكلّ "العلوم شريفةٌ، ولكل علم منها فضيلة"(71)، لكنه يُفَضّل علوم الدين إذا طُلِب منه التفضيل بَيْنَها؛ "لأنَّ العلم يبعث على فعل العبادة، والعبادة مع خلو فاعلها من العلم بها، قد لا تكون عبادة، فَلَزِم علم الدين كلّ مكلف.."(72). ويرتبط العلم عنده بالعقل، ويشكلّ الهوى العقبة المعرفيّة الكبيرة التي تقف أمام العقل، "فهو عن الخير صَادٌّ، وللعقل مُضادٌّ، لأنه يُنتِج من الأخلاق قبائحَها، ويُظهر من الأفعال فضائحَها، ويجعل سِتْر المروءة مهتوكاً، ومَدْخَلُ الشَّرِّ مَسْلوكاً"(73). ونظراً لما يشكله الهوى من خطورة على الإنسان" جعل عليه العقل رقيباً مجاهداً يلاحظ عَثْرَةَ غفلتِهِ، ويدفع بادرة سطوته، ويدفع خِداع حيلته"(74) ، لكن قد يتمكن من الانتصار. أولاً: قوة سلطانه: قد يقوى سلطان الهوى "بكثرة دواعيه حتى تستوليَ عليه غلبُة الهوى والشهوات، فيكل العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها في العقل المقهور بها"(75). وعلاج هذا الأمر "أن يستعين العقل بالنفس النفور، فيشعرها في عواقب الهوى، من شدة الضرر، وقبح الأثر"(76). ثانياً: قوة المكر: قد يقوم الهوى بإخفاء مَكْرِهِ" حتى تموّه أفعالُه على العقل، فيتصوَّر القبيح حسناً والضرر نفعاً"(77) ، وهناك سببان وراء وقوع الإنسان في هذا الأمر، هما: أ) "أنْ يكون للنفس ميل إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لِحُسْنِ ظَنِّها، وتتصوره حَسَناً لشدة ميلها"(78)، وعلاج هذه الحالة "أن يجعل فكر قلبه حَكَماً على نظر عينيه، فإنَّ العين رائد الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل"(79). ب) "استثقال الفكر في تمييز ما اشتَبَهَ، وطلب الراحة في إتباع ما يَسْهُل، حتى يَظُنَّ أنَّ ذلك أوفق أمريه، وأحمد حاليه، اغتراراً بأنَّ الأسهل محمودٌ، والأعسر مذموم، فلن يَعْدَمَ أن يتورّط بِخُدَع الهوى وزينة المَكْر في كلّ مَخُوف حذر، ومكروه عَسِر"(80).

وهناك فارق بين الشهوة والهوى على الرغم من اجتماعهما " في العلة والمعلول واتفاقهما في الدلالة والمدلول، فهو أنَّ الهوى مختص بالآراء والاعتقادات، والشهوة مختصة بنيل المُسْتَلَذّات، فصارتْ الشهوةُ من نتائج الهوى، وهي أخصُّ، والهوى أصل هو أَعم"(81). ويأتي حرص الماوردي على إبعاد الهوى، لأن غاية العلم عنده هي الحقيقة، والحقيقة مرتبطة بالعقل، "وهو أصل كلّ معلوم من دليل ومدلول عليه، ولذلك سُمي أمَّ العلم، … والعلم الحادث عنه ما تميز به الحقّ من الباطل، والصحيح من الفاسد، والممكن من الممتنع"(82). يرتبط العقل بالحقيقة، أمّا الهوى فيرتبط بالباطل، والتمادي بالباطل "مذموم عند الجميع، واللِّجاج عند ظهور الحقِّ سُنّة عند الجمهور، ولا معنى فيهما يُعقل، ولا فائدة وراءهما تُؤمّل، لأنّ المراد من العلم والنظر والتبيّن والفِكر إصابة الحقّ، والبغية منه الظفر بالصواب، فإذا أصابه فلا معنى للعِناد والجَحْد وتضييع المُبتغى المطلوب"(83). وتنقسم المعرفة عنده إلى قسمين بانقسام العقل إلى غريزيّ ومكتسب: أولاً: المعرفة الضرورية: ويسميها علم الاضطرار، وهو ما أُدرك ببداهة العقول وهو نوعان: "حِسٌّ ظاهر وخبرٌ متواتر، وعلمُ الحسِّ متأخر عن العقل، وعلم الخبر متقدم عليه، ولا يفتقر علم الاضطرار إلى نظر واستدلال لإدراكه ببداهة العقل، ويشترك فيه الخاصة والعامة ولا يتوجّه إليه جَحْدٌ، ولا تَحْسُنُ المطالبة فيه بدليل؛ لأنّه غاية لِتناهي النّظر" (84)، فهو قضايا صادقة بصورة يقينّية مطلقة. ثانياً: المعرفة الاكتسابية: وطريقها النظر والاستدلال، وهي إمّا أحكام سمعية وإما قضايا عقلية، وهذه الأخيرة تنقسم عنده قسمين: أ- قضايا عُلِمَتْ استدلالاً بضرورة العقل مثل" ما لا يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد، فيوجبُ العلم الضروري، وإن كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل"(85). ب- قضايا عُلِمَتْ استدلالاً بدليل العقل مثل" ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كآحاد الأنبياء إذا ادعى النبوة، فيوجب علم الاستدلال، ولا يوجب علم الاضطرار لحدوثه عن دليل العقل لا عن ضرورته"(86).

يؤكد الماوردي أنَّ العقل والرأي والهوى من أفعال الإرادة(87) ، والفارق بين العقل والرأي أنَّ العقلَ "ما تَيَقّنُ به الصواب من الخطأ.. وهو الموجب لأمر لا يجوز بخلافه"(88)، أما الرأي فهو "غلبةُ الظن في ترجيح الصواب على الخطأ.. وهو سكون النفس إلى ترجيح أمر يجوز خلافه"(89)، بالإضافة إلى أنَّ العقل " لازم لمحله، ومستقِلٌ بحُكمه، والرأي معترِضٌ يستمد العقل ويستضيء بنوره.. ولئن كان العقل مستقلاً ببصيرته فقد يزداد بالتجارب تيقّظاً، وبممارسة الأمور تحفّظاً، فلا يلتبس عليه حزم، ولا ينتقض عليه عزم. وقيل: كلّ شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب"(90).

لا يكفي توافر العقل للحصول على المعرفة وإنّما هناك منهجية يجب اتباعها " فإنَّ للعلوم أوائل تؤدِّي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائِقها، فليبتدئ طالب العالم بأوئلها، لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل، فلا يدرك الآخر ولا يعرف الحقيقة، لأنَّ البناء على غير أُسٍّ لا يبنى، والثمر من غير غرس لا يجنى"(91)، وهناك شروط يجب توافرها في طالب العلم ابتداءً هي(92): أولاً: العقل الذي يدرك حقائق الأمور.
ثانياً: الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم.
ثالثاً: الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوّره وفهم ما علمه.
رابعاً: الشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليها الملل.
خامساً: الاكتفاء بمادة تغنيه عن كُلَفِ الطلب.
سادساً:الفراغ الذي يكون معه التوفّر ويحصل به الاستكثار.
سابعاً: عدمُ القواطع المذهلة من هموم وأشغال وأمراض.
ثامناً: طول العمر واتساع المُدة لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال.
تاسعاً: الظفر بعالِم سَمْحٍ بعمله متأنٍّ في تعليمه.
أمّا العالِم فيجب أن تتوافر فيه القِيم الخلقيةُ العُليا، ومنها :
أولاً: التواضع ومُجانبة العُجْب: تمثل هذه السمة الروحَ الموضوعيّة بتمامها؛ "لأنّ التواضع عطوف، والعُجْبَ مُنَفِّرٌ، وهو بكل أحد قبيح؛ لأنَّ الناس بهم يقتدون، وكثيراً ما يُداخِلُهم الإعجاب، لتوحّدهم بفضيلة العلم، ولو أنهم نظروا حقّ النظر، وعملوا بموجب العلم لكان التواضع بهم أولى، ومُجانبة العُجْب بهم أحرى؛ لأنَّ العُجْب نقصٌ يُنافي الفضل"(93)، والإحاطة بالعلم أمر غير ممكن" فلا عارٌ أنْ يُجْهَلَ بعضُهُ، وإذا لم يكنْ في جهل بعضِهِ عارٌ لم يقبُحْ أن يقول: لا أعلم، فيما ليس يعلم"(94). ثانياً: العمل بالعلـــم: يجـب على العالم أنْ يعملَ بعلمه، وأنْ يحثّ النفس على أن تأتمر بما يأمرُ به"(95)، وعليه أن يتجنب "أنْ يقول ما لا يفعل، وأنْ يأمر بما لا يأتمِرُ، وأنْ يُسِرَّ غير ما يُظْهـــــِرُ"(96).

ثالثاً: بذل العلم لطالبه: يجب على العلماء "ألا يبخلوا بتعليم ما يُحسِنونَ ولا أن يمتنعوا من إفادة ما يعلمون، فإنَّ البخل به لؤمٌ وظلم، والمنع منه حسد وإثم"(97). وهناك فوائد تعود عليه إنْ قام بالتعليم، فأولُهما الأجر من الله تعالى، وثانيها زيادة العلم وإتقان الحفظ"(98). ومن ثم، فإنَّ على العالم" أن ينصحَ من يُعلّمُهُ، ويرفُقَ به، ويسهّل له السُّبُل، ويُعينَه بقْدر الطاقة، وعليه أنْ يبتعد عن التعفيف والتحقير، وألا يرد طالباً، ولا ينفِّر راغباً"(99). وقد اشترط الماوردي على المتعلم أن يَنْبُذَ تقليد العالم بصورةٍ مطلقة "فإنه ربما غالى بعض الأتباع في عالمِهم حتى يروا أنَّ قولَهُ دليلٌ، وإنْ لم يستدِلَّ، وأنَّ اعتقادَهُ حجة، وإنْ لم يَحْتجّ، فيُفْضي به الأمر إلى التسليم له فيما أخذ عنه.."(100). رابعاً: التنزه عن شبه المكاسب: على العالم ألا يأخذ ثمن تعليمه، " فإنَّ شُبَهَ المُكْتَسَبِ إثم، وكدَّ الطالبِ ذلٌّ والأجرَ أجدرُ به من الإثم والعزَّ أليقُ به من الذل"(101).

مراجعـــة:

يؤكد الماوردي أنَّ ما يهدف إليه العلم بإطلاق هو بلوغ الحقيقة، وهناك عقبات كثيرة في الطريق على الباحث أن يتجنّبها، وفي مقدمتِها الهوى بصوره المختلفة، والعقل هو القائد إلى عالم الحقائق، والقادر بإمكاناته على تجاوز عثرات الهوى والأهواء، وهو لا يعني بالعقل، مجرد العقل، وإنّما يرتبط العقل عنده ابتداءً بالحواس، ومن ثم فالعقل والحس يتساندان معاً في هذا الأمر، وقد تجسد هذا في قبوله لمنهجية التجريب والاستقراء بالإضافة إلى الاستنباط، فالعلمُ عنده مرتبط بالدليل والبرهان، ولا سلطةَ معرفيةً إلا لهما، ومن هنا، ينادي بضرورة أن يتمتع العالِم بالإنصاف والعدالة، والدقّة، والنّزاهة، وكلِّ القيم الخلقية العليا. اعتقد الماوردي أنَّ عالم الأشياء يحكمه مبدأ السببية، وأنه في آخر المطاف نتاج للفعل الإلهي، ودلالة صريحة على حكمة الله وإتقانه، ولا يتوقف هذا الأمر على عالم الأشياء، بل نجد أيضاً عالم الذات يخضع لهذا المبدأ، ومن هنا جاءت تفسيراته للظاهرة الخلقية والسياسية بالاستناد إلى هذا المبدأ، ثم يلاحظ أنه اعتنى كثيراً بالتفسير السببي على هذين الصعيدين. فالظواهر تحكمها أسباب ونتائج، والإنسان قادر على اكتشافها، ومعرفتها بما زوّد من حس وعقل، فهما مترابطان في فعلهما، وتشكل الأوليات العقلية والحسية بنية العقل الغريزي، والذي ينمو ويتطور فيما بعد، بفعل التجارب. والمتكلمون بإجماع نادوا بضرورة دعم التجربة للعقل المكتسب حتى يكتمل، ومن ثم كان الماوردي في هذا الأمر يتابع التيار الكلامي. لكن ما يميز الماوردي هو إعطاؤه دوراً كبيراً لمنهج التجربة في بناء القيم الخلقية، وتفسير الظاهرة السياسية، واهتمامه بهذا الأمر ليس عارضاً، وإنما كما لاحظنا في نصوصه الصريحة كان متأثراً بالعلوم الاختبارية، مثل الطب، وإذا كانت التجربة هي المنهج الرئيسي في العلم الاختباري، فإن الماوردي يوظفها في علوم أخرى مثل الأخلاق والسياسة، وهذا يشير إلى مدى دعمه للمذهب التجريبي، فهناك قرائن متكررة للاعتماد على التجريب والاختبار في الفعل الخلقي والسياسي، ولفظ الاختبار من ألفاظه الشائعة، وعموماً ليس هذا الأمر مأخوذاً من منهجية الفقه أو الكلام، وإنما مصدر تأثره فيه هو العلوم الاختبارية وهناك شواهد كثيرة تثبت اطلاعه على هذه العلوم، منها: أولاً: وقف الماوردي على علم الكيمياء، والشاهد قوله: "فأمّا الرمز فلست تجده في علم معنوي، ولا كلام لُغوي، وإنما يختصُّ غالباً بأحد شيئين: إما بمذهب شنيع يخفيه مُعْتَقِدُهُ، ويجعل الرمز سبباً لتطلًّع النفوس إليه، واحتمالَ التأويل فيه سبباً لدفع التهمة عنه، وإمّا لما يدعي أربابُهُ أنَّه علم مُعْوِزٌ وأن إدراكه بديعٌ مُعْجِزٌ، كالصنعة التي وضعها أربابُها اسماً لعلم الكيمياء، فرمزوا بأوصافِهِ وأخفوا معانيه، ليُوهِموا الشُحَّ به، والأسفَ عليه خديعةً للعقول الواهية والآراءِ الفاسدة… ثم ليكونوا بُرَآءَ من عُهْدَةِ ما قالوا إذا جُرِّب، ولو كان ما تضمن هذين النوعين وأشباههما من الرموز معنى صحيحاً، وعلماً مستفاداً، لخرج من الرمز الخفيّ إلى العلم الجليّ… فأما العلوم التي تطّلع النفوس إليها فقد استغنتْ بقوة الباعث عليها، وشدةِ الداعي إليها، عن الاستدعاء إليه برمز مُستحلىً، ولفظٍ مُستغرب، بل ذلك منفّر عنها، لما في الاشتغال باستخراج رموزِها، من الإبطاء عن دركها، وتصوّر معانيها"(102).

ثانياً: يبدو أن الماوردي قد وقف على علم أحكام النجوم، إذ يقول: "أخبرني عن نجم إبليس ونجم آدم ما هو؟ فإن هذين لعظم شأنهما لا يسأل عنهما إلا علماء الدين، فعجبتُ وعَجِبَ مَنْ في مجلسي من سؤاله، وبدَرَ إليه قومٌ منهم بالانكسار والاستخفاف، فَكَفْفتُهُم وقلت: هذا لا يقنع مع ما ظهر من حاله إلا بجواب مثله، فأقبلت عليه وقلت: يا هذا إنَّ المنجمين يزعمون أنَّ نجوم الناس لا تعرف إلا بمعرفة مواليدهم، فإن ظفرت بمن يعرف ذلك فاسْألْهُ. فحينئذ أقبل علي وقال: جزاك الله خيراً، ثم انصرف مسروراً"(103).

ثالثاً: ذكرنا النصوص التي قارن فيها بين الطبيب ورجل الدولة (104)، ويمكن أيضاً إضافة الإشارتين التاليتين، إذ يقول: "ومن نُسِبَ إلى رحمةٍ تُبْطِل حّداً أو تُحدِث فساداً كان الفسادُ عليه أعودَ وهو لنظرِهِ وسياستِهِ أفسد، وصار-كما قال المتقدمون- كالطبيب الذي يرحم العليل من مرارة الدواء، وألم الحديد، فتؤديه رحمتُهُ إلى هَلَكَتِهِ، وتسوقه الشفقة إلى مَنِيته، فتصير رحمته له أبلى من قسوته" (105)، ويقول أيضاً: "وزَعَمَ بعض علماء الطب أنَّ السجايا والأخلاق تابعة لمزاج البدن في أحوال الطباعة بالزيادة والنقصان ما تزيد بزيادتها، وتنقص بنقصانها، فزعموا أنَّ الغضب يُسْرِع بكثرة المرّة الصفراء… فإذا اعتدلَتْ فيه هذه الأمزجة اعتدلَت أخلاقُه…(106). تؤكد القرائن السابقة أن الماوردي قد وقف على علوم عصره، وأنه اتخذ منها موقفاً نقدياًّ. والمعيار الذي لجأ إليه في نقد دعوى علماء الصنعة هو التجربة، فهؤلاء أصحاب الصنعة اضطروا إلى استخدام الرموز والألغاز حتى يهربوا من المواجهة، فمعيار أقوالهم هو التجربة العلمية، وهذا هو الذي يكشف عن استيعاب الماوردي لمنهج التجريب في العلوم الاختبارية.

الخاتـــمة:

تأثر الماوردي الفقيه المتكلم بالعلوم الاختبارية، وحاول اصطناع مناهجها في البحث الخلقي والسياسي. واعتقد أنَّ العالم تحكمه قوانين السببية، وأنَّ ما يسعى إليه صاحب المعرفة العلمية هو التفسيرات السببية. ونادى بتكامل الحس والعقل على الصعيد المعرفي. وأكّد ضرورة أن يتحلى العلماء بقيم أخلاقية مثل العدالة والإنصاف والنزاهة.

يذهب الماوردي إلى أنَّ القيم الأخلاقية يجبُ أيضاً أنْ تحكم عالم السياسة، بل الحياة الاجتماعية. وذلك لأنّ الأخلاق في الدنيا هي جزء مكمل لأخلاق الدين، وبهما معاً تتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. حقق الماوردي عقلانية علمية محددة، أوضحنا معالمها في الصفحات السابقة، ونحن لا ندعي أنها عقلانية علمية مكتملة، ولكن هي واحدة من أشكال العقلانيات العلمية الممكنة. بوصفها موقفاً ورؤيا فلسفية.