منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#36990
أنت لا تحتاج إلى دليل يبرهن على فشل هذه العلاقة الوقحة بين المال والسياسة، انظر فقط إلى هذه الوجوه الحبيسة خلف أسوار مزرعة طرة، لتعرف أن هذا التحالف بين سلطان
البنكنوت، وسلطة صناعة القرار فى الدولة، لا نهاية له سوى زنازين السجون، هذه نتيجة حتمية لا محالة، وهذا درس لا يجب أن تعمى عنه الأبصار، ونحن نؤسس لعصر جديد وبيئة سياسية طاهرة، وأحزاب واعدة.. ننتظر منها أن تمنح لمصر روحا مختلفة، لا أن تكرر الخطيئة نفسها بلا حساب، وبلا رقيب، وبلا خطوط فاصلة بين أصحاب المال وأصحاب الكلمة، وبين جموح الثروات ومصالح البلد، وبين بنيان الحزب وأصحابه ومموليه، وبنيان الدولة وأحزابها وسياسييها وأعضاء برلمانها المرتقب.

أذكرك فقط بهذه الخطوط العريضة وأنت تتابع هذا الانفجار المتتابع لحركة إنشاء الأحزاب السياسية الجديدة فى مصر، فالبلد الذى اشتدت عليه قسوة العلاقة الآثمة بين المال والسلطة، ودفع ثمنا باهظا لعدم التمييز بين دور رجل الأعمال فى ميدان الاقتصاد وعالم البيزنس والشركات، ودور رجل الأعمال فى البرلمان أو فى الحزب أو فى الحكومة، هو نفس البلد الذى يتبارز فيه اليوم عدد كبير من رجال الأعمال على تأسيس الأحزاب السياسية فى السر أو فى العلن، وهو نفس البلد الذى تتحلق فيه الأحزاب اليوم حول أشخاص مرموقين فى عالم المال، لديهم القدرات المالية للإعلان عن أحزابهم فى الصحف، أو عقد المؤتمرات السياسية باهظة التكاليف، وأخشى هنا أن يكون للمال الدور الأكبر فى مسيرة تشكيل الأحزاب الجديدة، وأن تكون أحزاب الأفكار والتيارات السياسية الحقيقية هى الأكثر فقرا، والأقل تأثيرا، فيعود المرض نفسه إلى جسد السياسة فى مصر من جديد، فيصبح من يملك يحكم، ومن يستطيع شراء الأصوات هو الأكثر تأثيرا، وتدور الأحزاب الجديدة فى دوائر المال بلا ضوابط قانونية حقيقية لحدود استخدام المال فى السياسة، وبلا ضمانات فاعلة لعدم تأثير هذا المال على صناعة القرار السياسى لاحقا فى البرلمان أو فى الحكومة.

لا أنطلق هنا من أرضية التشكيك فى نوايا رجال الأعمال الذين أقدموا على تأسيس أحزاب سياسية جديدة، ولا يجوز لى أن أطعن فى نزاهة هؤلاء الذين ينفقون من ثرواتهم بسخاء، أملا فى حياة ديمقراطية نظيفة، ولكننى أنبه، حتما، إلى ضرورة صياغة ضوابط قانونية ترسم بوضوح حدود الدور الذى يمكن أن يلعبه أصحاب الأموال المتحمسون إلى المشاركة الحزبية فى الكيانات الحزبية الوليدة، فالفرق كبير بين أن يجتمع الناس على الأفكار، وبين أن يتحلق السياسيون حول رجل أعمال، والفجوة واسعة بين مبادرة يقوم بها أحد المستثمرين الوطنيين لدعم مشروع حزبى، وبين أن يكون المشروع الحزبى نفسه خارجا من عباءة رجل أعمال.

أعرف بالقطع أن عددا من مؤسسى التجارب الحزبية الجديدة لديهم مشروعات ليبرالية أو أحلام سياسية سابقة على الثورة، فرجل مثل نجيب ساويرس لعب دورا مغامرا من الناحية السياسية خلال عصر مبارك فى حدود التوازنات التى اعتمد عليها، ما بين طموحه السياسى وبين الخطر الذى قد يتهدد استثماراته عند معارضته للنظام، وبالمثل شارك رجال أعمال آخرون فى مشروعات حزبية معارضة، رغم ما يفرضه ذلك من أعباء، أو رامى لكح فى بعض المشروعات الحزبية الصغيرة قبل تجربة الانضمام، ثم الاستقالة أو الإقالة من الوفد، وكذلك كانت هناك أسماء رجال أعمال بارزين ومخلصين فى مشروعات حزبية ووطنية متعددة، حامد محمود، رحمه الله، فى الحزب الناصرى، أو هانى عنان مع حركة كفاية، أو السيد البدوى فى الوفد، وأسماء متعددة لعبت دورا بارزا فى تيار المعارضة للنظام السابق، ولم تبتغ من ذلك شيئا سوى الحرية والعدالة ووجه مصر.

فالفكرة هنا ليست عيبا فى ذاتها، ولكن العيب هو أن فرص الصعود السياسى ما بعد الثورة تختلف جملة وتفصيلا عن سنوات النظام السابق، فالآن تستطيع هذه الأحزاب أن تضمن نوابا لها فى البرلمان، ويمكنها أيضا أن تشارك فى الحكومات الائتلافية المرتقبة، أو تدخل فى تحالفات مع الرئيس القادم، ولذلك تصير الضوابط فريضة لا مفر منها حتى لا تتبدل القلوب والمصالح، والله سبحانه وتعالى هو وحده مقلب القلوب والأبصار، وأنت تعلم بالتأكيد، أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ومن السذاجة أن نترك الأمر اختياريا بناء على الثقة أو حسن النوايا، دون أن ننظر كيف يمكن أن ينعكس دور المال على المسارات السياسية لهذه الأحزاب، أو على مشروعات القوانين التى قد تقترحها فى البرلمان أو فى ميدان المصالحة أو الخصومة على الأصعدة العربية والإقليمية.

تبادل الشكوك مسبقا ليس هو الحل الأمثل، وليس هو الغاية التى أرجوها لهذه الكلمات، ولكن ما أرجوه بالفعل أن نرسم لمصر خطوطا بيضاء واضحة فى ميدان السياسة، حتى لا نسمح للمال أن يكون له السطوة على الأفكار، ولا نسمح للثروات أن تكون صاحبة الكلمة العليا على صناعة القرار فى مصر مرة أخرى.