منتديات الحوار الجامعية السياسية

خاص بالمشكلات السياسية الدولية
By احمد العواجي 1
#37094
لم يكن وضعي يحتمل التأجيل ..فقد تناقلوني بين مشفى وآخر حتى استقر بي الحال في عمان وفي مشفى (الأردن) .
وأمام إصرار الأطباء على القيام بالعملية ركض أخي في اتجاهات عدة . لتأمين مستلزمات العملية .
الساعات الطوال التي أمضيتها وحيداً مسمراً في سريري كانت تمر ببطء قاتل ورائحة الدواء تكاد تزكم أنفي .
لم يكن يعنيني درجة الخطورة التي أشار إليها الأطباء وصرت أبحث عن أي نوع من الخلاص حتى حينما كنت أفكر في أسوأ السيناريوهات المحتملة لعمليتي والتي هي النهاية , والتي لم تكن أكثر سوءاً من تبديل خرطوم القثطرة البولية .
حين استأذنتني الممرضة لاستضافة مريض آخر في غرفتي لم أتردد في القبول فسيصير إلى جواري من أتكلم معه ومن يسمع أنيني
كان في العقد السادس . ابتدأ الكلام شاكراً قبوله في غرفتي وعرف عن نفسه
قائلاً : فلسطيني
- سوري
- الله يحييكم انتم السوريون والله لم يقف أحد إلى جوارنا نحن الفلسطينيين غيركم .
لا أعرف لماذا أحسست في كلمات ضيفي نوعاً من المجاملة
كان حضور( أبو ياسين ) إلى غرفتي مثلما عرف عن نفسه . قد أبعد الكآبة عني فكان كثير الحديث ويتمتع بطريقة شيقة في السرد بلكنة فلسطينية محببة , فحدثني عن أول عملية قام بها وعن معركة الكرامة وعن أيلول الأسود وعن رحيله إلى بيروت مع من رحلوا .
كنت أرغب في مقاطعته لسؤاله عن كيفية عودته إلى عمان بعد رحيله إلى بيروت حين دخلت علينا الممرضة لتفتح النافذة وتبدل هواء الغرفة .
كشفت النافذة عن جزء من مساحة عمان تتلخص كلها في مبنى رمادي ضخم بنوافذ ضيقة , جاثم في مركز دائرة من الأسوار الشاهقة تعتليها أبراج مراقبة وأكاد أميز رجالاً داكني اللون يعتمرون كوفيات مرقطة يعتلون تلك الأبراج ويحملون بنادق ( ال أم سكستين) .
- هل تعرف ذلك المبنى .................لقد نهشوا أجزاء من جسدي داخله
فيه رجال لا يعرفون الله ولا يعرفون إلا الملك وويل لك إن هم لاحظوا أن صورتك لم تكن مطابقة لصورته .
( 2 )
دخل علينا شاب في مقتبل العمر .
- من منكم نضال
بالطبع كان نضال هو أبو ياسين
- يبدو أنه قد حانت ساعة عمليتك ... لذلك طلبوا إلي الحضور إلى هنا لتهيئة المكان بعد خلو سريرك .
رحت أرقب ملامح أبو ياسين التي لم تتبدل و لم يبدو عليه الاكتراث أو الخوف
ومع هذا فقد شعرت أنه من الواجب علي أن أواسيه ببعض الكلمات
- أبو ياسين ... يا جبل ما تهزك ريح .
أبتسم أبو ياسين ونظر إلي وقال :
لطالما كرهت جسدي وربما هي فرصة للخلاص منه الآن هذا الجسد الذي تناهشواه في ذاك المبنى والذي نجي من ثلاث رصاصات لا تزال آثارها منتشرة في أنحاء صدري لا أظن أنه اليوم سيتركني لهذا السبب .
هل تعرف أخي السوري أنا أخاف أن أعيش دون كرامة لا دون جسد !!!!!!! .
........
خلفت كلمات أبو ياسين الأخيرة غمامة حزن في فضاء الغرفة وترك الفراغ الذي أحدثه مكان سريره شيئاً من الخوف لدي لكن حركة عامل التنظيف وترنمه بتلك الأغنية جعلت المشهد يبدو روتينياً .
طلبت إليه أن يكتب لي كلمات الأغنية التي يترنم بها لأتمكن من ترنيمها مثلما يفعل هو
سألني :
_ سوري ؟
وسألته إن كان أردنيا ؟ فأجاب :
أنا (مفلح العبد الله) سوري مثلك من حوران !
جلس إلى الكرسي وراح يكتب الكلمات . وحين ذكر لي اسمه ذكرته برفيق لي تعرفت عليه في بيروت يحمل نفس الكنية فسألته عنه فذكر لي أنه أبن عمه الذي بالكاد يتذكره
وأضاف نحن الحوارنة مشتتون هنا وهناك سعيا وراء لقمة العيش التي بالكاد نحصل عليها . ونرفد لبنان بالكثير من العمال حتى أن السوري في لبنان يطلقون عليه اسم الحوراني !.
بالكاد أنهى صاحبي كلماته حين دخل علينا أخي برفقة الممرض ليعلمني أن كل شيء قد صار جاهزاً الآن ولم يتبقى سوى تأمين الدماء
_ من أين لنا أن نؤمن هذا القدر من الدماء الذي يطلبه المشفى قبل العملية ؟
لا بد أن يكون هناك حل لذلك .
في الأثناء كان الممرض يعاير أنبوبة السيروم عندما قال :
بإمكانكم تأمين ذلك من العمال المصريين أو الحوارنة المتواجدين في عمان بكثرة في مقابل بضع ليرات .
لا أعرف لماذا كان لكلمات الممرض وقع مؤلم في نفسي ربما هي الطريقة ال لا مبالية التي تلفظها بها أو ربما لأنه خص بها فئتين من البشر .
نقلت نظري نحو صاحبي ( الحوراني) الذي لم تعرب ملامحه عن مقدار الإساءة التي نالها من الممرض .

انسحب الممرض من الغرفة فيما بقي الحوراني وأخي .
- أنا سأؤمن لكم ما تحتاجونه من دماء
أحدثت كلمات مفلح أرتياحا لدى أخي . وبدى واثقا من ما قاله مفلح وقبل أن يغادرا إلى بنك الدم ناولني مفلح قصاصة الورق التي تحمل كلمات الأغنية
.....................
كنت أخاف من العودة للوحدة لكن ثمة جلبة حدثت في الممر أحدثها خروج أبو ياسين من غرفة العمليات .......... كان صراخه يملأ المكان
استبقت دخوله غرفتي الممرضة التي طمأنتني عن نجاح عمليته وأردفت قائلة
- أنه الآن في حالة استيقاظ من جرعة التخدير ولذلك الرجل ليس في وعي تام لما يقوله فالذي يتكلم الآن هو عقله الباطن فأرجو أن لا تؤاخذه على ما يقوله !.
كان منظر أبو ياسين في العربة رهيبا وأنابيب منوعة تلف صدره ورأسه
وكأنه اكتشف وجودي في الغرفة فحدق بي وراح يتمتم أشياء عن تل الزعتر !!
- أنتم السوريون لن ننسى لكم تل الزعتر .......... أوقفتموني على الحدود لساعات لأنني رفضت أن ادفع رشوة ولا أدري لماذا علي أن ادفع رشوة !!! من اجل كيلوين من الفستق الحلبي أخذتها لأختي التي نجت من مذبحة تل الزعتر
كتبوها على جواز سفري
كيلوين فستق حلبي !
هل يوجد جواز سفر في الدنيا مكتوب عليه فستق حلبي !!
هدأ أبو ياسين أخيرا , وانتظمت أنفاسه قبل أن تدخل علينا الممرضة لتخبرنا بأن كل شيء صار جاهزا لعمليتي
..................................(3)
حين استيقظت كان الجميع حولي .. أخي وأبو ياسين والطبيب الذي طمأنني على نجاح الجراحة والممرضة .
سألتهم عن مفلح فأخبرتني الممرضة أنه قد ذهب لزيارة أهله في حوران وقد ترك لي شيئا
كان مغلفا يحتوي على مبلغ من المال ورسالة .
..........................................الرسالة. .........................................
أخي .........
كان أن أعطاني أخوك مبلغا لقاء دمي ودم أخوتي الذين طلبت منهم أن يتبرعوا لك
وأعترف لك أنني حاولت قبول ذلك المبلغ لما يمكن أن يعنيه الثمن لي ولعائلتي
ولكن فكرة أخرى قد برزت جعلتني ارفض قبول الثمن .
نحن أهل حوران كرماء حالنا حال كل العرب . ولأننا لا نملك المال للكرم فلا باس أن نكرم بدمائنا .
هو دمنا أذا ودم أخوتي أتركه أمانة تجري في عروقك .......... أو ربما طالبتك به يوما . لتدفعه أمام من كان السبب في إفقارنا وهجرنا لبيوتنا .



كلمات الأغنية التي كان يترنم بها مفلح

( الناس بتحشي علينا أيمت ما رحنا وجينا .. يم العريس حنينا ... خلك معانا يا خشف يا دمع عيني ما نشف .. بكرى تروح وتنكشف والناس بتكضب شاربك والناس بتحشي علينا )


منقول