العلمنة البنيوية الكامنة
مرسل: الأحد مايو 29, 2011 1:35 am
يُلاحَظ أن معظم الناس لا ينادون، في أغلب الأحيان، إلا بالعلمانية الجزئية وحسب، إذ لا يجرؤ أحد، إلا قلة نادرة، على المناداة بالعلمانية الشاملة (الطبيعية ـ العدمية ـ المتجاوزة للأخلاق)، بماديتها الصارمة وعدائها الشرس للإنسان. ولكن، على مستوى الواقع الفعلي في المجتمع الحديث، يخضع السواد الأعظم من الناس لعمليات علمنة كامنة (نسميها «علمنة بنيوية كامنة») هي في الواقع تعبير عن نموذج العلمانية الشاملة وليس العلمانية الجزئية. وهذه العلمنة تقوم بها مؤسسات عديدة من بينها الدولة المركزية (بمؤسساتها الأمنية والتربوية التي تزداد مركزية وقوة على مر الأيام) وقطاع اللذة (الذي تصل أذرعته الأخطبوطية إلى كل مكان وإلى مجـالات الحـياة الإنسـانية الخاصة والعامة كافة) والمؤسسات الإعلامية. ويمكن أن نضرب مثلاً بالإعلانات التليفزيونية، فهي تنزع القداسة عن الإنسان وتحوِّله إلى إنسان اقتصادي وجسماني ذي بُعد واحد، ربما دون إدراك من جانب أصحاب هذه الإعلانات لحقيقة ما يمارسونه من علمنة شاملة، ودون إدراك من جانب من يشاهدون هذه الإعلانات لطبيعة ما يتعرضون له هم وأولادهم من آراء ونماذج معرفية تُعيد صياغة رؤيتهم لأنفسهم وللعالم بطريقة قد لا يوافقون هم أنفسهم عليها إن أدركوا تضميناتها الفلسفية والمعرفية والأخلاقية.
ولعل أهم آليات هذه العلمنة البنيوية الكامنة الشاملة الكاسحة هو قطاع اللذة ككل، وخصوصاً الأفلام الأمريكية والبرامج التليفزيونية التي تصل إلى السواد الأعظم من البشر، وتقوم بإعادة صياغة رؤيتهم لأنفسهم (عادةً في إطار دارويني أو فرويدي أو برجماتي) بشكل بنيوي كامن غير واع، ولكنه شـامل. ونحن نرى أن عمليات الأمركة والعولمة هي في جوهرها عمليات علمنة شاملة كامنة تؤدي إلى إلغاء كل الثنائيات والخصوصيات الدينية والقومية، وهذا هو جوهر النظام العالمي الجديد.
وفي هذه الموسوعة، نتحدث عن «العلمانية» وعن «العلمنة» دون أن نُميِّز، في بعض الأحيان، بين الجزئية والشاملة (أو الواعية الظاهرة وغير الواعية البنيوية الكامنة) إلا في القليل النادر. ولكن ما نعنيه عادةً، حينما تَرد كلمتا «علمانية» أو «علمنة»، هو «العلمانية الشاملة» واعية كانت أو غير واعية، حيث إننا ندرس ظواهر في المجتمع الغربي حيث تسود العلمانية الشاملة على مستوى الواقع، وحيث تمت بلورة رؤية علمانية شاملة على مستوى النظرية.
الواحدية الذاتية والتمركز حول الذات والواحدية الموضوعية والتمركز حول الموضوع
تُعيِّن النماذج الحلولية الكمونية عنصرين أو ركيزتين أساسيتين تجعلهما موضع الحلول والكمون والإطلاق، أحدهما هو الإنسان الذي يمكن أن يكون مرجعية ذاته، والذي يمكنه أن يولِّد معياريته من داخل ذاته، والركيزة الأخرى هي الطبيعة/المادة التي يمكن أن تكون مرجعية ذاتها والمصدر الوحيد للمعيارية.
وقد منح هذا النموذج الإنسان مركزية في الكون وأسبقية على الطبيعة/المادة، وقدراً من المطلقية باعتباره كائناً عاقلاً، قادراً على استخدام عقله في دراسة الطبيعة/المادة وفهمها وتجاوزها وتسخيرها لصالحه، وعلى توليد معيارية إنسانية مستقلة عن قوانين الطبيعة، ومن ثم ظهرت الفلسفة الإنسانية (الهيومانية) وأصبحت رؤية الإنسـان الغربي الأسـاسية في بداية مشروعه التحديثي، وهي رؤية يتمركز فيها الإنسان حول ذاته الإنسانية.
ورغم أن الفلسفة الهيومانية تدور في إطار مادي (واحدي بسبب ماديته)، فإنها بإعلانها انفصال الإنسان عن الطبيعة/المادة واستقلاليته عنها ومقدرته على تجاوزها، استعادت مفهوم قداسة الإنسان وقدراً من الميتافيزيقا الإنسانية، ومن ثم أصبح من الممكن تأسيس منظومات أخلاقية. وقد تدهورت الواحدية الإنسانية وتحولت إلى واحدية إمبريالية حين أعلن الإنسان الغربي أنه مركز الكون وموضع الحلول.
ولكن النموذج الواحدي المادي قد جعل الطبيعة/المادة هي أيضاً مركز الكون، وهو ما يعني أسبقيتها على الإنسان وأن الإنسان ليس مقولة مستقلة عن عالم الطبيعة/المادة (الواحدية الموضوعية المادية). وقد نشأ عن هذا الثنائية الصلبة، التي صُفيت لصالح الطبيعة/المادة فهيمنت الواحدية المادية تماماً. وقد واكب هذا تغيرات عميقة دعمت هذا الوضع الجديد. فبعد تأكيد مركزية الإنسان في الكون وأسبقيته على الطبيعة يكتشف الإنسان أن قوانين العقل الإنساني هي نفسها قوانين الطبيعة/المادة (فعقله جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة)، والذات الإنسانية هي موضوع طبيعي/مادي، وأن الإنسان الطبيعي/المادي عقله طبيعي/مادي، لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة، والحيز الوحيد الذي يتحرك فيه هو الحيز الطبيعي/المادي، وآفاقه المعرفية والأخلاقية تحدها حدود الطبيعة/المادة، ومهمته من ثم هي معرفة الطبيعة/المادة وقوانين حركتها المنفصلة عن العقل الإنساني وعن الغائيات الإنسانية وعن القيم الإنسانية، التي تحوَّلت إلى مجرد أوهام ولَّدها الإنسان في اللحظات الهيومانية التي توهَّم فيها استقلاله عن الطبيعة/المادة. فالعقل الإنساني المادي لا يُولِّد معياريته وقيمه وغائيته من داخل ذاته وإنما يستمدها من الطبيعة/المادة. وهي معيارية وقيم وغائيات متحررة تماماً من أوهام الإنسان عن نفسه وعن مركزيته. وهكذا يؤدي التمركز حول الذات الإنسانية إلى التمركز حول الموضوع الطبيعي/المادي واختفاء الحيز الإنساني تماماً وهيمنة الواحدية المادية. وبيَّن التطور التاريخي في المجتمع الغربي أن تصاعد معدلات العلمنة تؤدي إلى انتقال المجتمع من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة ويعني هيمنة النماذج الواحدية المادية الصارمة.
منقول
ولعل أهم آليات هذه العلمنة البنيوية الكامنة الشاملة الكاسحة هو قطاع اللذة ككل، وخصوصاً الأفلام الأمريكية والبرامج التليفزيونية التي تصل إلى السواد الأعظم من البشر، وتقوم بإعادة صياغة رؤيتهم لأنفسهم (عادةً في إطار دارويني أو فرويدي أو برجماتي) بشكل بنيوي كامن غير واع، ولكنه شـامل. ونحن نرى أن عمليات الأمركة والعولمة هي في جوهرها عمليات علمنة شاملة كامنة تؤدي إلى إلغاء كل الثنائيات والخصوصيات الدينية والقومية، وهذا هو جوهر النظام العالمي الجديد.
وفي هذه الموسوعة، نتحدث عن «العلمانية» وعن «العلمنة» دون أن نُميِّز، في بعض الأحيان، بين الجزئية والشاملة (أو الواعية الظاهرة وغير الواعية البنيوية الكامنة) إلا في القليل النادر. ولكن ما نعنيه عادةً، حينما تَرد كلمتا «علمانية» أو «علمنة»، هو «العلمانية الشاملة» واعية كانت أو غير واعية، حيث إننا ندرس ظواهر في المجتمع الغربي حيث تسود العلمانية الشاملة على مستوى الواقع، وحيث تمت بلورة رؤية علمانية شاملة على مستوى النظرية.
الواحدية الذاتية والتمركز حول الذات والواحدية الموضوعية والتمركز حول الموضوع
تُعيِّن النماذج الحلولية الكمونية عنصرين أو ركيزتين أساسيتين تجعلهما موضع الحلول والكمون والإطلاق، أحدهما هو الإنسان الذي يمكن أن يكون مرجعية ذاته، والذي يمكنه أن يولِّد معياريته من داخل ذاته، والركيزة الأخرى هي الطبيعة/المادة التي يمكن أن تكون مرجعية ذاتها والمصدر الوحيد للمعيارية.
وقد منح هذا النموذج الإنسان مركزية في الكون وأسبقية على الطبيعة/المادة، وقدراً من المطلقية باعتباره كائناً عاقلاً، قادراً على استخدام عقله في دراسة الطبيعة/المادة وفهمها وتجاوزها وتسخيرها لصالحه، وعلى توليد معيارية إنسانية مستقلة عن قوانين الطبيعة، ومن ثم ظهرت الفلسفة الإنسانية (الهيومانية) وأصبحت رؤية الإنسـان الغربي الأسـاسية في بداية مشروعه التحديثي، وهي رؤية يتمركز فيها الإنسان حول ذاته الإنسانية.
ورغم أن الفلسفة الهيومانية تدور في إطار مادي (واحدي بسبب ماديته)، فإنها بإعلانها انفصال الإنسان عن الطبيعة/المادة واستقلاليته عنها ومقدرته على تجاوزها، استعادت مفهوم قداسة الإنسان وقدراً من الميتافيزيقا الإنسانية، ومن ثم أصبح من الممكن تأسيس منظومات أخلاقية. وقد تدهورت الواحدية الإنسانية وتحولت إلى واحدية إمبريالية حين أعلن الإنسان الغربي أنه مركز الكون وموضع الحلول.
ولكن النموذج الواحدي المادي قد جعل الطبيعة/المادة هي أيضاً مركز الكون، وهو ما يعني أسبقيتها على الإنسان وأن الإنسان ليس مقولة مستقلة عن عالم الطبيعة/المادة (الواحدية الموضوعية المادية). وقد نشأ عن هذا الثنائية الصلبة، التي صُفيت لصالح الطبيعة/المادة فهيمنت الواحدية المادية تماماً. وقد واكب هذا تغيرات عميقة دعمت هذا الوضع الجديد. فبعد تأكيد مركزية الإنسان في الكون وأسبقيته على الطبيعة يكتشف الإنسان أن قوانين العقل الإنساني هي نفسها قوانين الطبيعة/المادة (فعقله جزء لا يتجزأ من الطبيعة/المادة)، والذات الإنسانية هي موضوع طبيعي/مادي، وأن الإنسان الطبيعي/المادي عقله طبيعي/مادي، لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة، والحيز الوحيد الذي يتحرك فيه هو الحيز الطبيعي/المادي، وآفاقه المعرفية والأخلاقية تحدها حدود الطبيعة/المادة، ومهمته من ثم هي معرفة الطبيعة/المادة وقوانين حركتها المنفصلة عن العقل الإنساني وعن الغائيات الإنسانية وعن القيم الإنسانية، التي تحوَّلت إلى مجرد أوهام ولَّدها الإنسان في اللحظات الهيومانية التي توهَّم فيها استقلاله عن الطبيعة/المادة. فالعقل الإنساني المادي لا يُولِّد معياريته وقيمه وغائيته من داخل ذاته وإنما يستمدها من الطبيعة/المادة. وهي معيارية وقيم وغائيات متحررة تماماً من أوهام الإنسان عن نفسه وعن مركزيته. وهكذا يؤدي التمركز حول الذات الإنسانية إلى التمركز حول الموضوع الطبيعي/المادي واختفاء الحيز الإنساني تماماً وهيمنة الواحدية المادية. وبيَّن التطور التاريخي في المجتمع الغربي أن تصاعد معدلات العلمنة تؤدي إلى انتقال المجتمع من العلمانية الجزئية إلى العلمانية الشاملة ويعني هيمنة النماذج الواحدية المادية الصارمة.
منقول