منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#37171
سعيد بن جبير

هذه الشخصية العظيمة التي يجب أن نفخر بها ...
كان الحجاج ابن يوسف الثقفي ذلك الطاغي العاصي مثلاً في العنف و القسوة والظلم لأهل العراق ، لكن هذه الشخصية العظيمة أصابته بالجنون و من ثم الموت ...
فما قصة سعيد بن جبير رضوان الله تعالى عليه ؟

كان سعيد بن جبير ذا أصل حبشي ، و سكن الكوفة و كان من أصحاب سيد الساجدين و زين العابدين الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام ...

كان سعيد بن جبير لا يحبّ شيئاً مثلما يحبّ الصلاة.

و كان يستيقظ على صياح الديك فينهض من فراشه ، و يتوضّأ ثم يصلّي صلاة الفجر ، و بعدها يقرأ القرآن حتى شروق الشمس .
و ذات يوم لم ينهض سعيد لصلاة الفجر ، لأن الديك لم يصح ذلك اليوم .

استيقظ سعيد بعد طلوع الشمس . شعر بالحزن لأن صلاة الفجر قد فات وقتها ، و شعر بالغضب من الديك لأنه لم يصح .
و عندما وقع بصره على الديك قال سعيد بغضب
ـ ما لَكَ ؟! قطع الله صوتك .
و منذ ذلك اليوم لم يسمع للديك صياح .
عندما شاهدت أُم سعيد ذلك ، عرفت ان ولدهامُستجابُ الدعاء ، فقالت له
ـ يا سعيد يا ولدي لا تدع على أحد .
أطاع سعيد أمر والدته فلم يدع على أحد أبداً إلاّ مرّة واحدة فقط ، فمتى كان ذلك ؟؟

حدثت أثناء حكم الطاغي الحجاج بعض التمردات ، فأدى ذلك للإلتجاء سعيد بن جبير لمكة المكرمة ، فطلبه الحجاج في كل مكان ...



كان جواسيس الحجاج يبحثون عنه في كل مكان ، و كان عبد الملك أكثر حقداً على سعيد من الحجاج ، لهذا أرسل مبعوثه الخاص خالد بن عبد الله القسري يبلغ أهل مكة برسالته .

وصل خالد بن عبد الله القسري إلى مكة و كان الوالي عليها محمد بن مسلمة فقطع خطاب الوالي و صعد المنبر .

أخرج طوماراً ( رسالة ) مختوماً بختم عبد الملك و فتحه ثم قرأ رسالة عبد الملك إلى أهل مكة .

من عبد الملك بن مروان إلى أهل مكة . أما بعد فانّي قد ولّيت عليكم خالد بن عبد الله القسري فاسمعوا له و أطيعوا ، و لا يجعلنّ امرؤ على نفسه سبيلاً فانّما هو القتل لا غير ، و قد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير و السلام .

و معنى الرسالة أن أي شخص يقدّم مساعدة لسعيد بن جبير فهو محكوم بالإعدام .

و بعد أن قرأ رسالة عبد الملك صاح خالد بعصبية

ـ لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته و هدمت داره و دور جيرانه .

ثم حدد مهلة تبلغ ثلاثة أيام فقط لتسليم سعيد بن جبير .


كان سعيد يعرف ان الذي يقدّم له عوناً فهو محكوم بالقتل ، لهذا لم يطلب مساعدة من أحد ، بل أخذ أُسرته الصغيرة و سكن في أحد الأودية القريبة من مكة .

و ذات يوم اكتشف أحد الجواسيس مكان سعيد بن جبير فأسرع ليخبر الأمير خالد بن عبد الله القسري .

أصدر حاكم مكة أمراً بإلقاء القبض على سعيد بن جبير .

انطلق بعض الفرسان المسلّحين إلى الوادي ، فشاهدوا خيمة صغيرة بين الصخور .

كان سعيد بن جبير يصلّي ، عندما ترجّل الفرسان عن خيولهم و اقتربوا من الخيمة .

شاهد ابن سعيد الفرسان المسلّحين فأدرك انّهم جاءوا لاعتقال ابيه .

بكى الولد من أجل أبيه ، فقال الأب

ـ لماذا تبكي يا ولدي ، لقد عشت سبعاً و خمسين سنة ، و هذا عمرٌ طويل .

ودّع الأب ابنه بعد أن أوصاه بالصبر و التحمّل .

تقدّم سعيد بن جبير بثبات إلى قائد الفرسان ، و سلّم نفسه .

تأثر القائد بشخصية سعيد ، تأثر لمنظره و هو يصلّي لله في تلك الصحراء ، و تأثر له و هو يودّع إبنه الوداع الأخير .

قال القائد

ـ لقد كلّفني الأمير بإلقاء القبض عليك ، و أعوذ بالله من ذلك فاهرب إلى أي بلد تريد و أنا معك .

سأل سعيد قائد الفرسان

ـ ألك أُسرة و عيال ؟

أجاب القائد

ـ نعم .

قال سعيد

ـ أفلا تخاف عليهم من القتل و انتقام الأمير منهم ؟

قال القائد

ـ أتركهم في رعاية الله .

رفض سعيد فكرة الفرار حتى لا ينتقم الحاكم من الناس الأبرياء ، فسلّم نفسه .

الكعبة

كان أمير مكة مسنداً ظهره إلى الكعبة الشريفة ، و ينتظر عودة الشرطة .

جاء الشرطة بسعيد بن جبير . أمر خالد بن عبد الله القسري أمير مكة بشّد يديه إلى رقبته .

فقال رجل من أهل الشام

ـ أيها الأمير أعف عنه و لا ترسله إلى الحجاج فيقتله ، انه رجل صالح فتقرّب إلى الله بحقن دمه ، لعل الله يرضى عنك .

قال الأمير

ـ و الله لو علمت ان عبد الملك لا يرضى عني إلاّ بهدم الكعبة لهدمتها حجراً حجراً حتى يرضى عني .
(لعنة الله عليه أما خاف أن تنخسف به الأرض [(!] ولكنه حطام للنار بإذن الله)

كانوا سفّاحين ظالمين لا يفكّرون بمرضاة الله بل بمرضاة عبد الملك . لهذا ثار سعيد بن جبير و غيره من المؤمنين .

بَنَى الحجاج مدينة جديدة بين الكوفة والبصرة هي مدينة واسط ، و بنى في وسطها قصراً كبيراً له و لأعوانه ، و بنى سجناً كبيراً يعذّب فيه الناس الأبرياء ، كان في سجنه آلاف الرجال و آلاف النساء و الأطفال .

كان الحجاج جالساً في قصره الكبير و حوله الحرّاس و معه طبيب نصراي اسمه " تياذوق " .
و كان الحجاج يحب أن يشاهد بنفسه قتل الناس و ينظر إلى دمائهم و هي تنزف .

لهذا عندما أُدخل سعيد بن جبير ، كان كلّ شئ جاهزاً . فالجلاّد كان واقفاً ينتظر الإشارة .

دخل سعيد بن جبير في القصر المملوء برائحة الدم . لم يشعر سعيد بالخوف لأنّه كان مؤمناً بالله و اليوم الآخر .

سأل الحجاج عن اسمه فقال

ـ سعيد بن جبير .

فقال الحجاج

ـ بل شقيّ بن كسير .

قال سعيد

ـ امي أعلم باسمي و اسم أبي .

ـ شَقيتَ و شقيتْ اُمك .

ـ لا يعلم الغيب إلاّ الله .

سكت الحجاج ثم صفق بيده .

فجاء بعض الهزليين و قاموا بحركات مضحكة .

قهقه الحجاج بصوت عالٍ و ضحك الحاضرون ، غير ان سعيد ظلّ ساكتاً .

سأل الحجاج

ـ لماذا لا تضحك ؟

فقال سعيد بحزن

ـ لم أرَ شيئاً يضحكني ، و كيف يضحك مخلوق من طين و الطين تأكله النار .

قال الحجاج

ـ فأنا أضحك .

ـ كذلك خَلَقَنا الله أطواراً !

أمر الحجاج أن يحضروا له الخزانة .

أحضر الحرّاس صندوقاً كبيراً مليئاً بالذهب و الفضة و الجواهر .

راح الحجاج يصبّ أمام سعيد قطع النقد الذهبية و الفضية و الجواهر الثمينة .

سأل الحجاج

ـ ما رأيك بهذا ؟

فقال سعيد و هو يلقنه درساً

هذا حسن إن قمت بشرطه .

سأل الحجاج

ـ و ما هو شرطه .

ـ تشتري به الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة .

مرّة أُخرى سكت الحجاج أمام منطق سعيد .

التفت الحجاج إلى الجلاّد و أشار بقتله .

تقدّم الجلاّد نحو التابعي الجليل .

توجّه سعيد نحو الكعبة بقلبٍ مطمئن . طلب أن يصلي ركعتين قبل إعدامه ، توجّه نحو الكعبة و قال

ـ وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفاً مسلماً و ما أنا من المشركين .

صاح الحجاج

ـ احرفوه عن القبلة .

دفعه الجلاّد إلى جهة اُخرى ، فقال سعيد

ـ أينما تولّوا فثم وجه الله .

زمجر الحجاج بغضب

ـ اكبّوه إلى الأرض .

فقال سعيد

ـ منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارةً اُخرى .

صرخ الحجاج و قد ضاق ذرعاً به

اضربوا عنقه .

و هنا توجّه سعيد إلى السماء و دعا الله عزَّ و جَلَّ قائلاً

ـ اللهم لا تترك له ظلمي و اطلبه بدمي و اجعلني آخر قتيل يقتله من اُمة محمد ( صلى الله عليه وآله ) .

و كان هذا الدعاء الوحيد الذي دعا به سعيد على إنسان بعد وصية والدته له .

هوى الجلاّد بسيفه الغادر علىعنق سعيد فسقط الرأس فوق بلاط القصر .

و هنا حدث أمر عجيب . عندما نطق الرأس قائلاً

ـ لا اله إلاّ الله .

راح الحجّاج ينظر إلى تدفّق الدماء بلا انقطاع فتعجّب من كثرة الدم .

التفت إلى الطبيب تياذوق ، و سأله عن السرّ في ذلك .

فقال الطبيب

ـ ان كل الذين قتلتهم كانوا خائفين ، و كان الدم يتجمّد في عروقهم ، فلا ينزف منه إلاّ القيل .

امّا سعيد بن جبير ، فلم يكن خائفاً ، و ظلّ قلبه ينبض بشكل طبيعي .

لقد كان قلب سعيد مملوءاً بالايمان ، و لهذا لم يخف من الموت ، فرحل إلى الله شهيداً و كان سعيداً كما سمّاه أبواه .


اختلّ عقل الحجاج بعد هذه الجريمة ، و كان يرى كوابيس مخيفة و أحلاماً مزعجة في نومه فكان يهبّ من نومه مرعوباً و يصيح

ـ مالي و لسعيد بن جبير .

لم يعيش الحجاج بعد هذه الجريمة سوى خمسة عشر يوماً ثم مات .

لقد استجاب الله دعا ذلك الشهيد ، فكان آخر من قتله الحجاج في حياته السوداء الحافلة بالجرائم و الظلم .

و عندما فتحت أبواب السجون وجدوا فيها خمسين ألف رجل و ثلاثين ألف امرأة و طفل .

لقد مات الجلاّد و الضحية في نفس العام ، و أضحت قصّتهما عبرة للأجيال . فالتاريخ يذكر سعيد بإجلال ، امّا الحجاج فلا يُذكر إلاّ باللعنة مدى الأيام