- الأحد مايو 29, 2011 2:21 pm
#37271
نهلة الشهال
هل نجح الرئيس في إشعال الفتيل؟ كان منذ أسبوع قد توعد اليمن بـ «أيام عصيبة مقبلة»، قبل ساعات مما كان يُفترض أنه موعد توقيعه المبادرة الخليجية، بينما كانت أحزاب اللقاء المشترك توقعها.
بدا قوله مجرد رد فعل عُصابي لشخص حُشر أخيراً في زاوية ضيقة، بعدما استنفد المماطلة وما يسميه المصريون «التلكك»... ثم «وجدها»: ارسل قواته وأنصاره للاعتداء على هيئة الوساطة الخليجية أثناء وجودها في سفارة دولة الإمارات في صنعاء، مدعياً أن «الشعب لا يريد» استقالته، بدليل عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين انطلقوا يوم الأحد الفائت يرفضون توقيعه على المبادرة. واستند إلى ذلك ليعود إلى مسلك يجيده، وإن كان قد بلي من فرط استخدامه له: استنبط شرطاً جديداً، بأن يحضر ممثلو المعارضة إلى القصر الجمهوري ليوقعوا معاً. وراح يصرخ ببراءة، «لماذا لا يحضرون؟»، وهذه هي «طريقة صون الشرعية الدستورية»، وهكذا... علماً أنه كان اشترط منذ أسابيع أن تسبقه المعارضة في التوقيع على المبادرة، وتحجج بذلك كي لا يوقع في اللحظة الأخيرة، وقبلها تحجج بأن التوقيع يجب أن يتم في صنعاء وليس في الرياض. الخلاصة، هو لا يريد أن يوقع والسلام.
عدا مفاجآت اللحظة الأخيرة (فعلاً الأخيرة!) والطرح الدائم لشروط مستجدة حتى لو ناقض واحدها مباشرة ما سبقه، يمتلك الرئيس حزمة من الأساليب للتملص. والملفت من بينها تلك القدرة على ابتلاع خطاب المعارضة وإعادة إنتاجه. فإن اتهمته بالعمل على دفع البلاد إلى حرب أهلية، بدأ هو باستخدام المصطلح والحجة بوجهها وكأنه من استنبطه. وفي الواقعة الأخيرة مثلاً، أي اشتباك قواته مع آل الأحمر، واستخدام المدفعية الثقيلة، يكرر الرئيس بكل جدية روايته الخاصة للحدث التي لا تحفل كثيراً بالدقة أو الصدقية. ولعل الرجل والأجهزة المحيطة به يعتبرون السياسة فن الاحتيال، ويراهنون في الوقت نفسه على عنصرين، أولهما هو استفزاز الخصوم والمعارضين، في بلد تسوده قواعد سلوك قيمية مقننة بصرامة، مما يؤمل منه دفعهم إلى ارتكاب أخطاء أو استنزاف طاقتهم على التحمل وتبيان عجزهم، وثانيهما هو اللعب على جملة معطيات كلها متعلقة بشدة تعقد الموقف في اليمن: هناك الجنوب والشمال، وفي داخل كل واحد منهما انقسامات أخرى، قبلية وجهوية وسياسية وطائفية واجتماعية، وهناك امتلاك صالح لتأييد بعض العشائر وإن كان متزايد الانحسار، وهناك وحدات الجيش التي تخترقها كل هذه الاعتبارات فتتوزع بين انشقاق وولاء، وهناك دقة الوضع في الخليج، والقدرة على إحراجه، وتحويل الإحراج إلى مشكلة له وليس لصالح المتسبب بالإحراج (على طريقة ابتلاع الموسى الجارحة كيفما كانت).
ويهدف كل ذلك إلى البقاء في السلطة ولو فوق تلة من الخراب. ويقوم هذا المسلك على تيئيس الطرف المقابل، ودفعه للاستسلام فيتحقق الغرض، أو للصدام فـ «تضيع الطاسة». وفي اليمن، تتوافر بكثرة عناصر الصدام العنفي ـ أو ما يقال له الحرب الأهلية، ولعل المصطلح خاطئ ـ لانتشار السلاح بكثافة وبسبب التعاضدات القبلية والجهوية، ولأن مسلك الرئيس يخالف كل الأصول الاجتماعية المتعارف عليها والتي تدخل في لب صوغ العلاقات وإبقائها منضبطة في ما دون سقف الاشتباك. وقد روى لي صديق أن الخناجر التي تزين وسط كل يمني، أو تكاد، تخضع لقواعد من قبيل أن سحب واحدها في وجه شخص يعني دفع ديته حتى لو لم يقتل، وأن وضع قبضة اليد عليها يعني دفع نصف دية، إلى آخر ما يعيق استخدامها الثقيل النتائج، وإلا لذبح الناس بعضهم بعضاً في الطرقات!
وقد سعى صالح إلى تفجير الصدام العنفي مراراً، حين كان يواجه المعتصمين في ساحة التغيير في صنعاء وفي ساحات المدن الأخرى، فأطلق النار عليهم على أمل استدراج ردود فعل من الطبيعة نفسها، أو حاول عزل كل مدينة وتخصيص بعضها بمسلك غاية في الشراسة. ولما لم ينجح، لأن المعتصمين كانوا قد قرروا إغلاق باب العنف وتمسكوا بالتحرك السلمي ـ مبالغين حتى في استخدام رموزه، مفرطين في توزيع الورود والبالونات ـ ولأن اللقاء المشترك سد كل الذرائع، لجأ الرئيس إلى استدراج العنف العشائري.
وهذا العنف، علاوة على الحاقه الاضطراب بمسار الأمور، ومنحه الرئيس فرصة الخوض في ما يجيد، وتبرير كل أعماله القمعية، فهو محبِط تماماً لأنه إجهاض للتغيير المأمول، حيث يبدو واضحاً أن ما يهم هؤلاء الذين مضى على اعتصامهم وتظاهراتهم أكثر من أربعة أشهر طويلة، من شبيبة، وأعضاء في الجسم التعليمي أو الحقوقي، ونساء... هو تحقيق نقلة لليمن تجيب على مآزق التنمية المعطلة التي تضع البلاد في المراتب الدنيا دولياً وتُخضع نصف سكانها للعيش دون خط الفقر. وهم كذلك يتطلعون إلى ترسيخ المساءلة وتداول السلطة، بغاية تحقيق الهدف الأول، وكذلك من أجل توفير الكرامة والمساواة لكل مكونات البلاد. وحدها تلك الآفاق يمكنها تأمين الإبقاء على اليمن موحداً بوجه التفتت اللامتناهي، واستنفار طاقات أبنائه من أجل تدبر بنائه رغم كل الصعوبات الموضوعية. من المؤكد أن هؤلاء جميعاً ليسوا في وارد استبدال صالح بآخر قد يكون أفضل منه شخصياً، بعدما تورط الرجل على مدار عقود في الحروب والفساد والقمع والتسلط.
لكن الطموحات ذات الحمولة العشائرية فحسب لا يمكنها تأسيس عقد اجتماعي يتخطى تلك المشكلات الحيوية، بغض النظر عن المرشحين. وهو، وليس القمع وحده ما يفسر فشل حركة الحوثيين. مع الإقرار بأن الاعتبارات العشائرية ستدخل بالضرورة في صوغ أي عقد اجتماعي مقبل.
وقد تكون أهم نقطة ينبغي تسجيلها في تقويم مسار الأشهر الفائتة، وبانتظار الآتي، هي قدرة تلك الانتفاضة على لجم النوازع والعوامل التفكيكية، وهي «معجزة» تصلح قانوناً في كل مكان يواجه المآل نفسه.
ولكن لماذا يريد الرئيس البقاء في سلطة لن يتمكن على أية حال من ممارستها إلا بطريقة جزئية للغاية، على فرض هذا الإمكان أصلاً؟ تراه مثلاً لم يتمكن منذ سنوات من القيام بأدنى زيارة لليمن الجنوبي، فيجابه ذلك بمزيد من الإهمال لهذا الجزء الكبير من البلاد! وهي حلقة مفرغة. علي عبد الله صالح نموذج معبِّر عن انحدار بعض هؤلاء «القادة» الذين يمســـكون بالسلطة في بلادنا إلى ما دون التعريفات الشائعة لأنماط الحكم: بلا تصورات لبلدانهم، بلا مخططات لكيفية إدارة مشكلاتها، بلا حلول من أي نوع. بلا روادع.
هل نجح الرئيس في إشعال الفتيل؟ كان منذ أسبوع قد توعد اليمن بـ «أيام عصيبة مقبلة»، قبل ساعات مما كان يُفترض أنه موعد توقيعه المبادرة الخليجية، بينما كانت أحزاب اللقاء المشترك توقعها.
بدا قوله مجرد رد فعل عُصابي لشخص حُشر أخيراً في زاوية ضيقة، بعدما استنفد المماطلة وما يسميه المصريون «التلكك»... ثم «وجدها»: ارسل قواته وأنصاره للاعتداء على هيئة الوساطة الخليجية أثناء وجودها في سفارة دولة الإمارات في صنعاء، مدعياً أن «الشعب لا يريد» استقالته، بدليل عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين انطلقوا يوم الأحد الفائت يرفضون توقيعه على المبادرة. واستند إلى ذلك ليعود إلى مسلك يجيده، وإن كان قد بلي من فرط استخدامه له: استنبط شرطاً جديداً، بأن يحضر ممثلو المعارضة إلى القصر الجمهوري ليوقعوا معاً. وراح يصرخ ببراءة، «لماذا لا يحضرون؟»، وهذه هي «طريقة صون الشرعية الدستورية»، وهكذا... علماً أنه كان اشترط منذ أسابيع أن تسبقه المعارضة في التوقيع على المبادرة، وتحجج بذلك كي لا يوقع في اللحظة الأخيرة، وقبلها تحجج بأن التوقيع يجب أن يتم في صنعاء وليس في الرياض. الخلاصة، هو لا يريد أن يوقع والسلام.
عدا مفاجآت اللحظة الأخيرة (فعلاً الأخيرة!) والطرح الدائم لشروط مستجدة حتى لو ناقض واحدها مباشرة ما سبقه، يمتلك الرئيس حزمة من الأساليب للتملص. والملفت من بينها تلك القدرة على ابتلاع خطاب المعارضة وإعادة إنتاجه. فإن اتهمته بالعمل على دفع البلاد إلى حرب أهلية، بدأ هو باستخدام المصطلح والحجة بوجهها وكأنه من استنبطه. وفي الواقعة الأخيرة مثلاً، أي اشتباك قواته مع آل الأحمر، واستخدام المدفعية الثقيلة، يكرر الرئيس بكل جدية روايته الخاصة للحدث التي لا تحفل كثيراً بالدقة أو الصدقية. ولعل الرجل والأجهزة المحيطة به يعتبرون السياسة فن الاحتيال، ويراهنون في الوقت نفسه على عنصرين، أولهما هو استفزاز الخصوم والمعارضين، في بلد تسوده قواعد سلوك قيمية مقننة بصرامة، مما يؤمل منه دفعهم إلى ارتكاب أخطاء أو استنزاف طاقتهم على التحمل وتبيان عجزهم، وثانيهما هو اللعب على جملة معطيات كلها متعلقة بشدة تعقد الموقف في اليمن: هناك الجنوب والشمال، وفي داخل كل واحد منهما انقسامات أخرى، قبلية وجهوية وسياسية وطائفية واجتماعية، وهناك امتلاك صالح لتأييد بعض العشائر وإن كان متزايد الانحسار، وهناك وحدات الجيش التي تخترقها كل هذه الاعتبارات فتتوزع بين انشقاق وولاء، وهناك دقة الوضع في الخليج، والقدرة على إحراجه، وتحويل الإحراج إلى مشكلة له وليس لصالح المتسبب بالإحراج (على طريقة ابتلاع الموسى الجارحة كيفما كانت).
ويهدف كل ذلك إلى البقاء في السلطة ولو فوق تلة من الخراب. ويقوم هذا المسلك على تيئيس الطرف المقابل، ودفعه للاستسلام فيتحقق الغرض، أو للصدام فـ «تضيع الطاسة». وفي اليمن، تتوافر بكثرة عناصر الصدام العنفي ـ أو ما يقال له الحرب الأهلية، ولعل المصطلح خاطئ ـ لانتشار السلاح بكثافة وبسبب التعاضدات القبلية والجهوية، ولأن مسلك الرئيس يخالف كل الأصول الاجتماعية المتعارف عليها والتي تدخل في لب صوغ العلاقات وإبقائها منضبطة في ما دون سقف الاشتباك. وقد روى لي صديق أن الخناجر التي تزين وسط كل يمني، أو تكاد، تخضع لقواعد من قبيل أن سحب واحدها في وجه شخص يعني دفع ديته حتى لو لم يقتل، وأن وضع قبضة اليد عليها يعني دفع نصف دية، إلى آخر ما يعيق استخدامها الثقيل النتائج، وإلا لذبح الناس بعضهم بعضاً في الطرقات!
وقد سعى صالح إلى تفجير الصدام العنفي مراراً، حين كان يواجه المعتصمين في ساحة التغيير في صنعاء وفي ساحات المدن الأخرى، فأطلق النار عليهم على أمل استدراج ردود فعل من الطبيعة نفسها، أو حاول عزل كل مدينة وتخصيص بعضها بمسلك غاية في الشراسة. ولما لم ينجح، لأن المعتصمين كانوا قد قرروا إغلاق باب العنف وتمسكوا بالتحرك السلمي ـ مبالغين حتى في استخدام رموزه، مفرطين في توزيع الورود والبالونات ـ ولأن اللقاء المشترك سد كل الذرائع، لجأ الرئيس إلى استدراج العنف العشائري.
وهذا العنف، علاوة على الحاقه الاضطراب بمسار الأمور، ومنحه الرئيس فرصة الخوض في ما يجيد، وتبرير كل أعماله القمعية، فهو محبِط تماماً لأنه إجهاض للتغيير المأمول، حيث يبدو واضحاً أن ما يهم هؤلاء الذين مضى على اعتصامهم وتظاهراتهم أكثر من أربعة أشهر طويلة، من شبيبة، وأعضاء في الجسم التعليمي أو الحقوقي، ونساء... هو تحقيق نقلة لليمن تجيب على مآزق التنمية المعطلة التي تضع البلاد في المراتب الدنيا دولياً وتُخضع نصف سكانها للعيش دون خط الفقر. وهم كذلك يتطلعون إلى ترسيخ المساءلة وتداول السلطة، بغاية تحقيق الهدف الأول، وكذلك من أجل توفير الكرامة والمساواة لكل مكونات البلاد. وحدها تلك الآفاق يمكنها تأمين الإبقاء على اليمن موحداً بوجه التفتت اللامتناهي، واستنفار طاقات أبنائه من أجل تدبر بنائه رغم كل الصعوبات الموضوعية. من المؤكد أن هؤلاء جميعاً ليسوا في وارد استبدال صالح بآخر قد يكون أفضل منه شخصياً، بعدما تورط الرجل على مدار عقود في الحروب والفساد والقمع والتسلط.
لكن الطموحات ذات الحمولة العشائرية فحسب لا يمكنها تأسيس عقد اجتماعي يتخطى تلك المشكلات الحيوية، بغض النظر عن المرشحين. وهو، وليس القمع وحده ما يفسر فشل حركة الحوثيين. مع الإقرار بأن الاعتبارات العشائرية ستدخل بالضرورة في صوغ أي عقد اجتماعي مقبل.
وقد تكون أهم نقطة ينبغي تسجيلها في تقويم مسار الأشهر الفائتة، وبانتظار الآتي، هي قدرة تلك الانتفاضة على لجم النوازع والعوامل التفكيكية، وهي «معجزة» تصلح قانوناً في كل مكان يواجه المآل نفسه.
ولكن لماذا يريد الرئيس البقاء في سلطة لن يتمكن على أية حال من ممارستها إلا بطريقة جزئية للغاية، على فرض هذا الإمكان أصلاً؟ تراه مثلاً لم يتمكن منذ سنوات من القيام بأدنى زيارة لليمن الجنوبي، فيجابه ذلك بمزيد من الإهمال لهذا الجزء الكبير من البلاد! وهي حلقة مفرغة. علي عبد الله صالح نموذج معبِّر عن انحدار بعض هؤلاء «القادة» الذين يمســـكون بالسلطة في بلادنا إلى ما دون التعريفات الشائعة لأنماط الحكم: بلا تصورات لبلدانهم، بلا مخططات لكيفية إدارة مشكلاتها، بلا حلول من أي نوع. بلا روادع.