الحرّية في الإسلام
مرسل: الأحد مايو 29, 2011 4:11 pm
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
هناك تهم توجّه للإسلام ويردّدها بعض من لا يعرفون الإسلام حقّ معرفته. فهم يقولون: إنّ الإسلام كلّه محرّمات وقيود ونواهٍ. ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً فإنّ الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في كلّ مكان!
الإسلام يهدي ويرسم الطريق فقط من دون قسر وإكراه، بل كلّ أنواع الإكراه مرفوضة فيه. والحريات التي يمنحها الإسلام في مختلف المجالات لا نظير لها في تاريخ العالَم حتى في هذا اليوم المسمّى بعصر الحريات.
وهذه بعض إفاضات سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظلّه في بعض محاضراته العامّة، ارتأينا طبعها في كرّاس مستقلّ؛ نظراً لما تمتاز به من أهمّية في أيّامنا هذه التي اشتدّ فيها الهجوم وإثارة الشبهات في وجه إسلامنا العزيز، ومن الله نستمدّ التوفيق.
مؤسسة الرسول الاكرم الثقافية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ، فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)(1).
معنى الطاغوت
الطاغوت من الطغيان وهو التجاوز عن الحدّ؛ قال الله تعالى: (إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية)(2).
ويستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف.
العروة الوثقى
يقول الله سبحانه وتعالى: (فمَن يكفر بالطاغوت) بأيّ أشكال الطاغوت (ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى) أي الشديدة الإحكام، ثم وصفها بأنّها: (لا انفصام لها) أي أنّها ليست ضعيفة فتنقطع بل لا انقطاع لها أبداً، لأنّها عروة حقيقية وصادقة وليست بكاذبة ومزيّفة. فإنّه لا انقطاع ولا انفصام في الحق والصدق، خلافاً للكذب، فحبله ـ كما قيل ـ قصير سرعان ما يقطع بصاحبه.
مثال: فلو أنّك أردت شراء دار وسألت عنها صاحبها، فأخبرك أنّها صالحة وليس فيها عيوب أو مشاكل، وكان صادقاً في إخباره، فإنّك سوف تبادر إلى شرائها دون أن تعترض عليه أو ينقطع تصديقك به. أمّا إذا كان كاذباً، فإنّك قد تصدّقه حين الشراء، ولكن هذه الحالة ستزول عندما تكتشف أنّ الأمر لم يكن كذلك. أي سيحدث انفصام وانقطاع في تصديقك به.
أمّا دين الله تعالى فلا انفصام فيه. فعندما يخبر الله تعالى الإنسان ويعده أنّه سيسعده إذا ما اتّبع سبيله، فإنّ المسلم الحقيقي لاشكّ سينعم بالسعادة ما حيي، خلافاً لبقية المبادئ التي تعِد الناس ولا تفي ثم يظهر كذبها عاجلاً أم آجلاً.
حرية اختيار الدين في الإسلام
من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى: (لا إكراه في الدين). بل ليكن معلوماً ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً. وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق ـ من أوّله إلى آخره ـ لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ (لا إكراه في الدين) في مختلف مجالات الحياة.
رسول الله صلى الله عليه وآله القدوة في تطبيق المبدأ
لقد شنّ أهل مكّة حرباً ظالمة على رسول الله صلى الله عليه وآله قلّ نظيرها في التاريخ. فلقد عُرف صلى الله عليه وآله بينهم بالصدق والأمانة حتى لقّبوه بالصادق الأمين، ولكنهم مع ذلك حاربوه ـ إلاّ قليلاً منهم ـ عسكرياً واجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، حتى بلغ الأمر بهم أنّهم كانوا لا يردّون تحيّته إذا حيّاهم(3).
فكان الشخص منهم ـ وهو مشرك ـ يخشى إذا ردّ تحيّة النبي صلى الله عليه وآله أن يراه الرائي من المشركين فلا يتبايعون معه بعد ذلك ولا يزوّجونه ولا يتزوّجون منه.
وطردوا رسول الله صلى الله عليه وآله ومَن معه إلى أطراف مكّة، وحاصروهم في شعب أبي طالب وفرضوا العزلة عليهم، فكان لا يحقّ لهم دخول مكّة، وإذا دخلها أحدهم فدمه يهدر. واستمرّت الحالة هذه مدّة ثلاث سنين.
وبعدما هاجر النبيّ صلى الله عليه وآله إلى المدينة شنّ عليه مشركو مكّة عشرات الحروب ساندهم فيها اليهود والمنافقون. ودامت الحالة عشرين سنة بمختلف أساليب الحروب حتى أذن الله له بالفتح(4).. وجاء صلى الله عليه وآله مكّة فاتحاً .. وأصبحت مكّة في قبضته وتحت سلطته.
ورغم كلّ ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه صلى الله عليه وآله أجبر ولو شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه صلى الله عليه وآله أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام. أمّا دعوى إسلام أبي سفيان فكان بتحريض وتخويف من العباس بن عبد المطلب (عمّ النبي) وليس من النبي صلى الله عليه وآله نفسه، فالعباس هو الذي طلب من أبي سفيان أن يُسلم حفاظاً على دمه لئلا يقتله النبي صلى الله عليه وآله، وكلام العباس ليس حجّة ولا تشريعاً، بل كان من عند نفسه. ولو أنّ أبا سفيان لم يسلم لما أجبره رسول الله صلى الله عليه وآله على الإسلام. فكثيرون من أمثال أبي سفيان كانوا موجودين في مكّة ولم يقتل النبيّ صلى الله عليه وآله أحداً منهم بسبب عدم إسلامه، ولا أجبر أحداً على الإسلام، بل تركهم على دينهم مع أنّه باطل وخرافي لكيلا يسلبهم حرية الفكر والدين.
هكذا روى التاريخ عن سلوك نبينا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم (فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر)(5)، (قد تبيّن الرشد من الغيّ فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى)(6)، (وهديناه النجدين)(7)، (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً)(8). هذا هو أسلوب الإسلام، لاضغط ولا إكراه فيه.
وهكذا الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذمياً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته. فالعلاّمة المجلسي رحمه الله وحده خصّص في موسوعته (بحار الأنوار) عشرة مجلّدات الواحد منها في أربعمئة صفحة أي ما مجموعه أربعة آلاف صفحة أو أكثر كلّها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وحروبه وأخلاقه وسيرته مع المسلمين ومع المشركين وأهل الكتاب. لا تجدون فيها موقفاً واحداً أجبر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله نصرانياً أو يهودياً على اعتناق الإسلام، بل تجدون أنّه صلى الله عليه وآله كان له صديق نصراني أو جار يهودي دون أن يجبره على اعتناق الإسلام مع أنّه كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية وكان بيده السيف والمال والقوّة الكافية.
أمثلة من سيرة أمير المؤمنين سلام الله عليه
ولو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة ناهيك عن كونه مُنَصّباً من قِبل رسول الله صلى الله عليه وآله وبأمر من العليّ القدير، بل كان يجيبهم ويترك لهم حريّة العقيدة ما لم يتآمروا ويلجأوا إلى استعمال القوّة والسيف.
عاش في عصر الإمام شخص يُسمّى ابن الكوا، وكان مشاغباً وذا مشاكل ومتاعب، يردّ على أمير المؤمنين سلام الله عليه ويناقشه دائماً، حتى والإمام على المنبر، ومع ذلك تركه الإمام وشأنه يعيش في المجتمع دون أن يفرض عليه شيئاً(9).
وهناك جرثومة أخرى ومنافق آخر يُدعى عمرو بن حريث، من طراز معاوية وأبيه، ومهما يُقال فيه من عيوب النفس ودناءة الخلق فقليل بحقّه، كان ممّن يحضر المسجد ويستمع إلى خطب أمير المؤمنين سلام الله عليه ثم يقطع حديثه متهكّماً. وإذا أخبر أمير المؤمنين سلام الله عليه عن أمور غير ظاهرة ـ أي غيبيّة ـ ترك ابن حريث أعماله وجرى خلف ما أخبر به أمير المؤمنين سلام الله عليه يزعم أنّه يريد أن يكشف للناس كذب أبي تراب!! وظلّت هذه الحسرة في نفس ابن حريث تنغّص عليه حياته حتى ذهب إلى قبره همّاً ونكداً دون أن يفلح في كشف ولو كذبة ـ حسب ما يزعم ـ لأبي تراب؛ وكأنه قد غفل ـ حاله حال المنافقين ـ أنه لا يتردّد على لسان أبي تراب سوى الصدق والواقع. عاش هذا المنافق في ظلّ عليّ سلام الله عليه وبعده، والإمام علي سلام الله عليه لم يصنع معه أيّ شيء، ولم يقل له يوماً تخلّ عمّا أنت عليه وإلاّ ضربت عنقك! لأنّه إمام الإسلام؛ دين حرية الفكر والعقيدة.
أجل، إنّ من عرف الحقّ ولم يترك الباطل فإنّ مصيره يوم القيامة إلى جهنّم وبئس المصير. أمّا في الدنيا ف (لا إكراه في الدين) ليتمّ الامتحان ويُعرف الطالح من الصالح، ويُميّز الخبيث من الطيّب. فإنّ ابن حريث هذا امتدّ به العمر حتى كان من الشهود ضدّ ميثم التمّار رضوان الله عليه حينما أراد الطغاة الطغام من بني أمية قتله، فقال في حقّه ـ ليدلي بشهادته ضده لكونه من أصحاب عليّ الحق ومواليه ـ : «هذا الكذّاب مولى الكذّاب» ـ يعني الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه مولى الصادقين وإمام المتّقين ـ(10).
أرأيت نفسية هذا المنافق؟! إنّ رجلاً مثل هذا عاش مع أمير المؤمنين سلام الله عليه ثلاثين سنة وكان سلام الله عليه رئيساً وحاكماً بيده القوّة، ومع ذلك لم ينل منه!
فهل يوجد في تاريخ العالَم رئيس كعليّ؟! وهل رأيتم سماحة كسماحة الإسلام؟ وهل رأيتم حرية كقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)؟!
عن ابن عباس قال:
مرّ أمير المؤمنين سلام الله عليه بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، يصلّون الخمس ويسبغون الوضوء.
فقال له أمير المؤمنين سلام الله عليه: «قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟» فقال: والله لأصدقنّك يا أمير المؤمنين، لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلتُ وتحنطتُ وصببتُ عليَّ سلاحي، وأنا لا أشك في أنّ التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني منادٍ: يا حسن إلى أين؟ ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار! فرجعت ذعراً وجلست في بيتي فلمّا كان في اليوم الثاني لم أشكّ أن التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنّطتُ وصببتُ عليَّ سلاحي وخرجت إلى القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني منادٍ من خلفي: يا حسن إلى أين؟ مرّة بعد أخرى، فإنّ القاتل والمقتول في النار!
قال علي سلام الله عليه: «صدقك أفتدري مَن ذلك المنادي؟» قال: لا.
قال سلام الله عليه: «ذلك أخوك إبليس، وصدقك إنّ القاتل والمقتول منهم في النار».
فقال الحسن البصري: الآن عرفتُ ياأمير المؤمنين أنّ القوم هلكى»(11).
حقّاً هل يجرؤ أحد من الرعية أن يكلّم رئيساً بهذا الكلام ـ والإمام مع ذلك يلاطفه ويحاوره ـ حتى في عصرنا هذا؛ حيث يمضي على صدر الإسلام أربعة عشر قرناً، وتطوّر العالَم حتى صار يسمّى عصرنا بعصر الحرّيات؟!
لقد قتل وشرّد «لينين» ـ رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وأمين سرّ الحزب الشيوعي السوفيتي ـ وحده في عصر الحرية والتقدّم خمسة ملايين إنسان من أجل تطبيق مادّة قانونية واحدة من قانون المزارع الجماعية في الاتّحاد السوفياتي السابق!!
وفي العراق ـ الذي حكمه أمير المؤمنين بحرّية بلا نظير ـ كان أحد الرؤساء يوماً ما يخطب فانبرى أحد المواطنين ليردّ عليه ويناقشه، فقام الجلاوزة باعتقاله وسجنه وتعذيبه وقتله، لأنّه قال كلمة ينتقد فيها رئيساً في القرن العشرين!!
وحدثت قصّة شبيهة لهذه القصّة في بلد آخر ـ كما طالعتنا الصحف حينها – وحلّ به المصير نفسه!! كلّ ذلك ونحن في ما يُسمّى بعصر الحريات. فهل هذه هي الحرية حقّاً أم الحرية الموجودة في ظلّ الإسلام؟!
لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان(12). ومع ذلك ذكر المؤرخون ـ سنّة وشيعة ـ أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه على رأسهم ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه أن يذهبوا إلى الكوفة وينظروا هل فيها مَن لا يرضى بخلافته. فقال الناس بأجمعهم: رضينا بأمير المؤمنين ونطيع أمره ولانتخلّف عن دعوته، والله لو لم يستنصرنا لنصرناه، سمعاً وطاعةً(13). بل حتى طلحة والزبير لم يتخلّفا عن بيعة أمير المؤمنين سلام الله عليه عندما انعقدت له، ولكنهما نكثا بعد ذلك، ولم يعترض أيّ أحد في هذا الأمر ولو حصل لما عاقبه الإمام بالقتل أو السجن أو الضرب ولا قال له شيئاً من شأنه أن يهينه أوينال منه، فهل رأيتم أو سمعتم مثل هذا في عصر الديمقراطية الحديثة؟! والتي تعني ـ من جملة ما تعنيه ـ حكم الأكثرية، فلو حصل شخص ما على واحد وخمسين في المئة من الأصوات فهذا يخوّله لأن يصبح رئيساً للبلاد ـ وهذا يعدّ من أكبر أخطاء الديمقراطية، وبحثه موكول إلى محلّه ـ أمّا الإمام علي سلام الله عليه فقد بايعته الأكثرية المطلقة من الناس ومع ذلك يصعد المنبر ليبحث إن كان هناك معارض له أم لا، وليبحث عن سبب معارضته له! فهل تجدون لهذا نظيراً في التاريخ؟!
لقد كتب محبّو «صلاح الدين الأيوبي» أنّه قتل قرابة مليون إنسان ـ في عصر كان سلاحه السيف ـ ليس لشيء إلاّ لأنّهم يختلفون معه في الرأي.
فأين هذا من سيرة النبي صلى الله عليه وآله الذي حاربه قومه عشرين سنة وأخرجوه من داره، ولكنّه عندما عاد إليهم ظافراً بنصر الله وعزّته وقدرته لم يجبر أحداً منهم على اتّباع دينه، بل قال: «مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»(14). ولم يقل مَن أسلم وشهد الشهادتين فهو آمن، مع أنّ مهمّته صلى الله عليه وآله هي تبليغ الشهادتين؛ لأنّ حرية الرأي في نظام الله وقانون الإسلام لا تقلّ تقديساً من الشهادتين. فالإسلام يسعى لجعل الناس أحراراً. قال تعالى: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(15).
أنت حرّ ما لم تضرّ
يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك؛ فإنّه «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(16) والإسلام يضرب بشدّة على يد الظالم ومَن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، وبعد ذلك فأنت حرّ في كلّ أمورك، في ذهابك ومجيئك وسفرك وعلاقاتك، فلا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحرية في الإسلام، ولكن ثمة توجيهات وإرشادات تبيّن لك السلوك الأحسن، تقول: هذا صحيح وهذا مستحبّ وهذا مفضّل وهذا مكروه.
فلنقرأ عن الإسلام، ولنقرأ عن غيره أيضاً ثم نقارن بينهما. ففي القرون الوسطى كان العالِم في الغرب يُقتل لمجرّد إبداء رأيه في قضية ما وإن كانت علمية محضة لا علاقة لها بالدين وتشريعاته!
فقتلوا القائل بكروية الأرض، وكذلك الرجل الذي ترجم الكتاب المسمّى عندهم بالمقدّس؛ فقد كان هذا الكتاب حكراً على رجال الكنيسة فقط ولا يعرف لغته غيرهم.
هكذا كانت حالة أوربا في القرون الوسطى أي بعد مرور أربعمئة سنة على الإسلام. فهل يصحّ مقارنتها مع عهد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه؟ كلاّ بالطبع؛ إذ كيف يصحّ مقارنة الصفر بالكثير بل لابدّ أن يكون مقابل الكثير عدد لتصحّ المقارنة. ومن هنا قيل: مَن فضّل علياً على معاوية فقد كفر، لأنّ معاوية لا فضل عنده ليكون علي أفضل منه. بل لا يقاس بآل محمد من هذه الأمّة ـ ولا من غيرها ـ أحد(17)، فلقد كانوا صلوات الله عليهم أجمعين يمثّلون القرآن.
التزم بتوجيهات الإسلام ولا تكن عبد غيرك
هناك تهمة وجّهها بعض المستشرقين إلى الإسلام ويردّدها بعض الشباب الذين لا يعرفون الإسلام حق معرفته. فهم يقولون: إنّ الإسلام كلّه محرّمات وقيود ونواهٍ. ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً فإنّ الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في أيّ مكان!
خذوا أكثر بلدان العالَم ادعاءً للحرية كفرنسا والولايات المتّحدة مثلاً، ترى القيود الكثيرة للسفر منها وإليها، وفي جوانب كثيرة أخرى. فهذه القيود موجودة في كلّ دول العالَم وإن كانت في بلداننا أشدّ. أمّا الإسلام فلا يوجد فيه مثل هذا، فلا يقول لك الإسلام: أين تسكن؟ وأين تذهب؟ وكيف تذهب؟ ومتى تذهب؟ بل يقول لك: إنّ الله خلقك وهو الذي أعطاك الفكر والعقل فلا تكن عبد غيرك، ولا يجب أن تخبر الدولة عن خروجك ودخولك، وإقامتك ورحيلك، وما تستورد وما تصدّر ـ غير المحرّمات ـ لكن الإسلام يضع لك التوجيهات ويقول لك إن التزمت بها تفلح وإلاّ تخسر!
الإسلام يهدي ويرسم الطريق، وبعده لا إكراه في الدين، وكلّ أنواع الإكراه مرفوضة فيه. والحريات الموجودة في الإسلام لا نظير لها في التاريخ. وكانت تلك نماذج وهناك آلاف النماذج في سيرة النبي وأهل بيته سلام الله عليهم.
فمَن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. ومَن يتمسّك بالطاغوت ويذهب وراء المبادئ الهدّامة والطواغيت البشرية والفكرية فإنّما يتمسّك بعروة منفصمة، حيث سيكتشف بعد مرور عدّة أيام أو أعوام أنّه كان مخطئاً.
إذن الحرية التي يمنحها الإسلام في مختلف المجالات ليس لها نظير ولا شيء يقرب منها في تاريخ العالَم حتى في هذا اليوم المسمّى بعصر الحريات.
وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
هناك تهم توجّه للإسلام ويردّدها بعض من لا يعرفون الإسلام حقّ معرفته. فهم يقولون: إنّ الإسلام كلّه محرّمات وقيود ونواهٍ. ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً فإنّ الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في كلّ مكان!
الإسلام يهدي ويرسم الطريق فقط من دون قسر وإكراه، بل كلّ أنواع الإكراه مرفوضة فيه. والحريات التي يمنحها الإسلام في مختلف المجالات لا نظير لها في تاريخ العالَم حتى في هذا اليوم المسمّى بعصر الحريات.
وهذه بعض إفاضات سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظلّه في بعض محاضراته العامّة، ارتأينا طبعها في كرّاس مستقلّ؛ نظراً لما تمتاز به من أهمّية في أيّامنا هذه التي اشتدّ فيها الهجوم وإثارة الشبهات في وجه إسلامنا العزيز، ومن الله نستمدّ التوفيق.
مؤسسة الرسول الاكرم الثقافية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ، فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)(1).
معنى الطاغوت
الطاغوت من الطغيان وهو التجاوز عن الحدّ؛ قال الله تعالى: (إنّا لمّا طغى الماء حملناكم في الجارية)(2).
ويستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف.
العروة الوثقى
يقول الله سبحانه وتعالى: (فمَن يكفر بالطاغوت) بأيّ أشكال الطاغوت (ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى) أي الشديدة الإحكام، ثم وصفها بأنّها: (لا انفصام لها) أي أنّها ليست ضعيفة فتنقطع بل لا انقطاع لها أبداً، لأنّها عروة حقيقية وصادقة وليست بكاذبة ومزيّفة. فإنّه لا انقطاع ولا انفصام في الحق والصدق، خلافاً للكذب، فحبله ـ كما قيل ـ قصير سرعان ما يقطع بصاحبه.
مثال: فلو أنّك أردت شراء دار وسألت عنها صاحبها، فأخبرك أنّها صالحة وليس فيها عيوب أو مشاكل، وكان صادقاً في إخباره، فإنّك سوف تبادر إلى شرائها دون أن تعترض عليه أو ينقطع تصديقك به. أمّا إذا كان كاذباً، فإنّك قد تصدّقه حين الشراء، ولكن هذه الحالة ستزول عندما تكتشف أنّ الأمر لم يكن كذلك. أي سيحدث انفصام وانقطاع في تصديقك به.
أمّا دين الله تعالى فلا انفصام فيه. فعندما يخبر الله تعالى الإنسان ويعده أنّه سيسعده إذا ما اتّبع سبيله، فإنّ المسلم الحقيقي لاشكّ سينعم بالسعادة ما حيي، خلافاً لبقية المبادئ التي تعِد الناس ولا تفي ثم يظهر كذبها عاجلاً أم آجلاً.
حرية اختيار الدين في الإسلام
من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى: (لا إكراه في الدين). بل ليكن معلوماً ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً. وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق ـ من أوّله إلى آخره ـ لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ (لا إكراه في الدين) في مختلف مجالات الحياة.
رسول الله صلى الله عليه وآله القدوة في تطبيق المبدأ
لقد شنّ أهل مكّة حرباً ظالمة على رسول الله صلى الله عليه وآله قلّ نظيرها في التاريخ. فلقد عُرف صلى الله عليه وآله بينهم بالصدق والأمانة حتى لقّبوه بالصادق الأمين، ولكنهم مع ذلك حاربوه ـ إلاّ قليلاً منهم ـ عسكرياً واجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، حتى بلغ الأمر بهم أنّهم كانوا لا يردّون تحيّته إذا حيّاهم(3).
فكان الشخص منهم ـ وهو مشرك ـ يخشى إذا ردّ تحيّة النبي صلى الله عليه وآله أن يراه الرائي من المشركين فلا يتبايعون معه بعد ذلك ولا يزوّجونه ولا يتزوّجون منه.
وطردوا رسول الله صلى الله عليه وآله ومَن معه إلى أطراف مكّة، وحاصروهم في شعب أبي طالب وفرضوا العزلة عليهم، فكان لا يحقّ لهم دخول مكّة، وإذا دخلها أحدهم فدمه يهدر. واستمرّت الحالة هذه مدّة ثلاث سنين.
وبعدما هاجر النبيّ صلى الله عليه وآله إلى المدينة شنّ عليه مشركو مكّة عشرات الحروب ساندهم فيها اليهود والمنافقون. ودامت الحالة عشرين سنة بمختلف أساليب الحروب حتى أذن الله له بالفتح(4).. وجاء صلى الله عليه وآله مكّة فاتحاً .. وأصبحت مكّة في قبضته وتحت سلطته.
ورغم كلّ ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه صلى الله عليه وآله أجبر ولو شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه صلى الله عليه وآله أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام. أمّا دعوى إسلام أبي سفيان فكان بتحريض وتخويف من العباس بن عبد المطلب (عمّ النبي) وليس من النبي صلى الله عليه وآله نفسه، فالعباس هو الذي طلب من أبي سفيان أن يُسلم حفاظاً على دمه لئلا يقتله النبي صلى الله عليه وآله، وكلام العباس ليس حجّة ولا تشريعاً، بل كان من عند نفسه. ولو أنّ أبا سفيان لم يسلم لما أجبره رسول الله صلى الله عليه وآله على الإسلام. فكثيرون من أمثال أبي سفيان كانوا موجودين في مكّة ولم يقتل النبيّ صلى الله عليه وآله أحداً منهم بسبب عدم إسلامه، ولا أجبر أحداً على الإسلام، بل تركهم على دينهم مع أنّه باطل وخرافي لكيلا يسلبهم حرية الفكر والدين.
هكذا روى التاريخ عن سلوك نبينا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم (فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر)(5)، (قد تبيّن الرشد من الغيّ فمَن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى)(6)، (وهديناه النجدين)(7)، (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً)(8). هذا هو أسلوب الإسلام، لاضغط ولا إكراه فيه.
وهكذا الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذمياً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته. فالعلاّمة المجلسي رحمه الله وحده خصّص في موسوعته (بحار الأنوار) عشرة مجلّدات الواحد منها في أربعمئة صفحة أي ما مجموعه أربعة آلاف صفحة أو أكثر كلّها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وحروبه وأخلاقه وسيرته مع المسلمين ومع المشركين وأهل الكتاب. لا تجدون فيها موقفاً واحداً أجبر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله نصرانياً أو يهودياً على اعتناق الإسلام، بل تجدون أنّه صلى الله عليه وآله كان له صديق نصراني أو جار يهودي دون أن يجبره على اعتناق الإسلام مع أنّه كان الحاكم الأعلى في الجزيرة العربية وكان بيده السيف والمال والقوّة الكافية.
أمثلة من سيرة أمير المؤمنين سلام الله عليه
ولو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة ناهيك عن كونه مُنَصّباً من قِبل رسول الله صلى الله عليه وآله وبأمر من العليّ القدير، بل كان يجيبهم ويترك لهم حريّة العقيدة ما لم يتآمروا ويلجأوا إلى استعمال القوّة والسيف.
عاش في عصر الإمام شخص يُسمّى ابن الكوا، وكان مشاغباً وذا مشاكل ومتاعب، يردّ على أمير المؤمنين سلام الله عليه ويناقشه دائماً، حتى والإمام على المنبر، ومع ذلك تركه الإمام وشأنه يعيش في المجتمع دون أن يفرض عليه شيئاً(9).
وهناك جرثومة أخرى ومنافق آخر يُدعى عمرو بن حريث، من طراز معاوية وأبيه، ومهما يُقال فيه من عيوب النفس ودناءة الخلق فقليل بحقّه، كان ممّن يحضر المسجد ويستمع إلى خطب أمير المؤمنين سلام الله عليه ثم يقطع حديثه متهكّماً. وإذا أخبر أمير المؤمنين سلام الله عليه عن أمور غير ظاهرة ـ أي غيبيّة ـ ترك ابن حريث أعماله وجرى خلف ما أخبر به أمير المؤمنين سلام الله عليه يزعم أنّه يريد أن يكشف للناس كذب أبي تراب!! وظلّت هذه الحسرة في نفس ابن حريث تنغّص عليه حياته حتى ذهب إلى قبره همّاً ونكداً دون أن يفلح في كشف ولو كذبة ـ حسب ما يزعم ـ لأبي تراب؛ وكأنه قد غفل ـ حاله حال المنافقين ـ أنه لا يتردّد على لسان أبي تراب سوى الصدق والواقع. عاش هذا المنافق في ظلّ عليّ سلام الله عليه وبعده، والإمام علي سلام الله عليه لم يصنع معه أيّ شيء، ولم يقل له يوماً تخلّ عمّا أنت عليه وإلاّ ضربت عنقك! لأنّه إمام الإسلام؛ دين حرية الفكر والعقيدة.
أجل، إنّ من عرف الحقّ ولم يترك الباطل فإنّ مصيره يوم القيامة إلى جهنّم وبئس المصير. أمّا في الدنيا ف (لا إكراه في الدين) ليتمّ الامتحان ويُعرف الطالح من الصالح، ويُميّز الخبيث من الطيّب. فإنّ ابن حريث هذا امتدّ به العمر حتى كان من الشهود ضدّ ميثم التمّار رضوان الله عليه حينما أراد الطغاة الطغام من بني أمية قتله، فقال في حقّه ـ ليدلي بشهادته ضده لكونه من أصحاب عليّ الحق ومواليه ـ : «هذا الكذّاب مولى الكذّاب» ـ يعني الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه مولى الصادقين وإمام المتّقين ـ(10).
أرأيت نفسية هذا المنافق؟! إنّ رجلاً مثل هذا عاش مع أمير المؤمنين سلام الله عليه ثلاثين سنة وكان سلام الله عليه رئيساً وحاكماً بيده القوّة، ومع ذلك لم ينل منه!
فهل يوجد في تاريخ العالَم رئيس كعليّ؟! وهل رأيتم سماحة كسماحة الإسلام؟ وهل رأيتم حرية كقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)؟!
عن ابن عباس قال:
مرّ أمير المؤمنين سلام الله عليه بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء. فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، يصلّون الخمس ويسبغون الوضوء.
فقال له أمير المؤمنين سلام الله عليه: «قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟» فقال: والله لأصدقنّك يا أمير المؤمنين، لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلتُ وتحنطتُ وصببتُ عليَّ سلاحي، وأنا لا أشك في أنّ التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني منادٍ: يا حسن إلى أين؟ ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار! فرجعت ذعراً وجلست في بيتي فلمّا كان في اليوم الثاني لم أشكّ أن التخلّف عن أمّ المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنّطتُ وصببتُ عليَّ سلاحي وخرجت إلى القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني منادٍ من خلفي: يا حسن إلى أين؟ مرّة بعد أخرى، فإنّ القاتل والمقتول في النار!
قال علي سلام الله عليه: «صدقك أفتدري مَن ذلك المنادي؟» قال: لا.
قال سلام الله عليه: «ذلك أخوك إبليس، وصدقك إنّ القاتل والمقتول منهم في النار».
فقال الحسن البصري: الآن عرفتُ ياأمير المؤمنين أنّ القوم هلكى»(11).
حقّاً هل يجرؤ أحد من الرعية أن يكلّم رئيساً بهذا الكلام ـ والإمام مع ذلك يلاطفه ويحاوره ـ حتى في عصرنا هذا؛ حيث يمضي على صدر الإسلام أربعة عشر قرناً، وتطوّر العالَم حتى صار يسمّى عصرنا بعصر الحرّيات؟!
لقد قتل وشرّد «لينين» ـ رئيس جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وأمين سرّ الحزب الشيوعي السوفيتي ـ وحده في عصر الحرية والتقدّم خمسة ملايين إنسان من أجل تطبيق مادّة قانونية واحدة من قانون المزارع الجماعية في الاتّحاد السوفياتي السابق!!
وفي العراق ـ الذي حكمه أمير المؤمنين بحرّية بلا نظير ـ كان أحد الرؤساء يوماً ما يخطب فانبرى أحد المواطنين ليردّ عليه ويناقشه، فقام الجلاوزة باعتقاله وسجنه وتعذيبه وقتله، لأنّه قال كلمة ينتقد فيها رئيساً في القرن العشرين!!
وحدثت قصّة شبيهة لهذه القصّة في بلد آخر ـ كما طالعتنا الصحف حينها – وحلّ به المصير نفسه!! كلّ ذلك ونحن في ما يُسمّى بعصر الحريات. فهل هذه هي الحرية حقّاً أم الحرية الموجودة في ظلّ الإسلام؟!
لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان(12). ومع ذلك ذكر المؤرخون ـ سنّة وشيعة ـ أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه على رأسهم ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه أن يذهبوا إلى الكوفة وينظروا هل فيها مَن لا يرضى بخلافته. فقال الناس بأجمعهم: رضينا بأمير المؤمنين ونطيع أمره ولانتخلّف عن دعوته، والله لو لم يستنصرنا لنصرناه، سمعاً وطاعةً(13). بل حتى طلحة والزبير لم يتخلّفا عن بيعة أمير المؤمنين سلام الله عليه عندما انعقدت له، ولكنهما نكثا بعد ذلك، ولم يعترض أيّ أحد في هذا الأمر ولو حصل لما عاقبه الإمام بالقتل أو السجن أو الضرب ولا قال له شيئاً من شأنه أن يهينه أوينال منه، فهل رأيتم أو سمعتم مثل هذا في عصر الديمقراطية الحديثة؟! والتي تعني ـ من جملة ما تعنيه ـ حكم الأكثرية، فلو حصل شخص ما على واحد وخمسين في المئة من الأصوات فهذا يخوّله لأن يصبح رئيساً للبلاد ـ وهذا يعدّ من أكبر أخطاء الديمقراطية، وبحثه موكول إلى محلّه ـ أمّا الإمام علي سلام الله عليه فقد بايعته الأكثرية المطلقة من الناس ومع ذلك يصعد المنبر ليبحث إن كان هناك معارض له أم لا، وليبحث عن سبب معارضته له! فهل تجدون لهذا نظيراً في التاريخ؟!
لقد كتب محبّو «صلاح الدين الأيوبي» أنّه قتل قرابة مليون إنسان ـ في عصر كان سلاحه السيف ـ ليس لشيء إلاّ لأنّهم يختلفون معه في الرأي.
فأين هذا من سيرة النبي صلى الله عليه وآله الذي حاربه قومه عشرين سنة وأخرجوه من داره، ولكنّه عندما عاد إليهم ظافراً بنصر الله وعزّته وقدرته لم يجبر أحداً منهم على اتّباع دينه، بل قال: «مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»(14). ولم يقل مَن أسلم وشهد الشهادتين فهو آمن، مع أنّ مهمّته صلى الله عليه وآله هي تبليغ الشهادتين؛ لأنّ حرية الرأي في نظام الله وقانون الإسلام لا تقلّ تقديساً من الشهادتين. فالإسلام يسعى لجعل الناس أحراراً. قال تعالى: (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(15).
أنت حرّ ما لم تضرّ
يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك؛ فإنّه «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(16) والإسلام يضرب بشدّة على يد الظالم ومَن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، وبعد ذلك فأنت حرّ في كلّ أمورك، في ذهابك ومجيئك وسفرك وعلاقاتك، فلا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحرية في الإسلام، ولكن ثمة توجيهات وإرشادات تبيّن لك السلوك الأحسن، تقول: هذا صحيح وهذا مستحبّ وهذا مفضّل وهذا مكروه.
فلنقرأ عن الإسلام، ولنقرأ عن غيره أيضاً ثم نقارن بينهما. ففي القرون الوسطى كان العالِم في الغرب يُقتل لمجرّد إبداء رأيه في قضية ما وإن كانت علمية محضة لا علاقة لها بالدين وتشريعاته!
فقتلوا القائل بكروية الأرض، وكذلك الرجل الذي ترجم الكتاب المسمّى عندهم بالمقدّس؛ فقد كان هذا الكتاب حكراً على رجال الكنيسة فقط ولا يعرف لغته غيرهم.
هكذا كانت حالة أوربا في القرون الوسطى أي بعد مرور أربعمئة سنة على الإسلام. فهل يصحّ مقارنتها مع عهد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه؟ كلاّ بالطبع؛ إذ كيف يصحّ مقارنة الصفر بالكثير بل لابدّ أن يكون مقابل الكثير عدد لتصحّ المقارنة. ومن هنا قيل: مَن فضّل علياً على معاوية فقد كفر، لأنّ معاوية لا فضل عنده ليكون علي أفضل منه. بل لا يقاس بآل محمد من هذه الأمّة ـ ولا من غيرها ـ أحد(17)، فلقد كانوا صلوات الله عليهم أجمعين يمثّلون القرآن.
التزم بتوجيهات الإسلام ولا تكن عبد غيرك
هناك تهمة وجّهها بعض المستشرقين إلى الإسلام ويردّدها بعض الشباب الذين لا يعرفون الإسلام حق معرفته. فهم يقولون: إنّ الإسلام كلّه محرّمات وقيود ونواهٍ. ونحن نقول لهم: بالعكس تماماً فإنّ الحرية الموجودة في الإسلام لا يوجد لها نظير في أيّ مكان!
خذوا أكثر بلدان العالَم ادعاءً للحرية كفرنسا والولايات المتّحدة مثلاً، ترى القيود الكثيرة للسفر منها وإليها، وفي جوانب كثيرة أخرى. فهذه القيود موجودة في كلّ دول العالَم وإن كانت في بلداننا أشدّ. أمّا الإسلام فلا يوجد فيه مثل هذا، فلا يقول لك الإسلام: أين تسكن؟ وأين تذهب؟ وكيف تذهب؟ ومتى تذهب؟ بل يقول لك: إنّ الله خلقك وهو الذي أعطاك الفكر والعقل فلا تكن عبد غيرك، ولا يجب أن تخبر الدولة عن خروجك ودخولك، وإقامتك ورحيلك، وما تستورد وما تصدّر ـ غير المحرّمات ـ لكن الإسلام يضع لك التوجيهات ويقول لك إن التزمت بها تفلح وإلاّ تخسر!
الإسلام يهدي ويرسم الطريق، وبعده لا إكراه في الدين، وكلّ أنواع الإكراه مرفوضة فيه. والحريات الموجودة في الإسلام لا نظير لها في التاريخ. وكانت تلك نماذج وهناك آلاف النماذج في سيرة النبي وأهل بيته سلام الله عليهم.
فمَن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. ومَن يتمسّك بالطاغوت ويذهب وراء المبادئ الهدّامة والطواغيت البشرية والفكرية فإنّما يتمسّك بعروة منفصمة، حيث سيكتشف بعد مرور عدّة أيام أو أعوام أنّه كان مخطئاً.
إذن الحرية التي يمنحها الإسلام في مختلف المجالات ليس لها نظير ولا شيء يقرب منها في تاريخ العالَم حتى في هذا اليوم المسمّى بعصر الحريات.
وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.