النظام الدولي - والتحول عن الأحادية القطبية
لا يخفى على أي مراقب مدى تأثير الأزمة المالية الدولية الراهنة على مستقبل النظام الدولي والأطراف الفاعلة فيه, وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
فمن المعلوم أن المكانة العليا التي تبوأتها الولايات الأمريكية في النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى يومنا هذا تعود في جزء منها إلى قوة النظام الاقتصادي والمالي الأمريكي, الذي كان مثالاً يحتذى به من جانب القوى الدولية الأخرى, سواء كانت دولاً أو تجمعات إقليمية.
إن آثار الأزمة المالية العالمية على العالم والولايات المتحدة بشكل خاص جعلت بعض دارسي العلاقات الدولية يُنظّرون لنهاية عصر الأحادية القطبية, فذهب البعض منهم إلى اعتبار أننا ننتقل اليوم إلى نظام دولي متعدد الأقطاب توافقي, أو عالم اللا قطبية.
إن الحديث عن انتهاء عصر الأحادية القطبية يثير عدداً من التساؤلات والشكوك حول مدى واقعيته, فالولايات المتحدة ما زالت القوة العسكرية الأولى عالمياً, وتحتل المرتبة الأولى في معدل إنفاقها العسكري الذي يبلغ 4% من الناتج القومي الإجمالي الأمريكي, والقواعد العسكرية الأمريكية هي الوحيدة التي تنتشر في جميع أنحاء العالم. كما أن الناتج القومي الإجمالي للولايات المتحدة يبلغ 13.78 تريليون دولار, ويجب علينا جمع الناتج القومي الإجمالي لأهم أربعة قوى اقتصادية منافسة للولايات المتحدة، وهي الصين واليابان وألمانيا وبريطانيا على الترتيب (بتريليونات الدولارات) : 4.4 + 4.3 + 2.8 + 2.6 = 14.1 من أجل أن نتجاوز الناتج القومي الإجمالي الأمريكي وبقليل.
من خلال ما سبق يرى البعض أن الولايات المتحدة ما زالت هي القطب الأوحد في العالم, ويدللون على ذلك بإجراء مقارنة للعالم بين فترة بوش وفترة أوباما. ففي عهد الإدارة الأمريكية السابقة, شهد العالم توتراً كبيراً، وخصوصاً بين الدول التي تجمع بينها روابط جغرافية وتاريخية متعددة, فقد شهدت العلاقات الروسية مع بعض دول الجوار القريب لروسيا توتراً كبيراً, والعلاقات الروسية – الأوروبية توترت أيضاً على خلفية عدة أزمات لا تزال موجودة, كما شهدت العلاقات بين سورية وكل من لبنان, السعودية ومصر قدراً كبيراً من الخلل, ولا يخرج عن هذا الإطار تفعيل الأزمات الداخلية لبعض الدول، كأزمة التيبت في الصين، بالإضافة إلى حرب تموز 2006 في لبنان, والعدوان الإسرائيلي على غزة، وحرب العراق 2003, والملف النووي الإيراني, بالإضافة إلى الأزمة الكبرى وهي الأزمة الاقتصادية العالمية.
أما في فترة الرئيس أوباما فقد شهدت معظم الأزمات السابقة إما حلاً أو تراجعاً أو سكوناً, ويخرج عن هذا الإطار الملف النووي الإيراني والذي ربما كان سيشهد نوعاً من التقدم لولا التعقيدات الداخلية الإيرانية، كما يخرج عنه الوضع في أفغانستان التي تدفع فيها إدارة أوباما ثمناً ورثته عن إدارة بوش.
إذاً نلاحظ كيف تغيرت العلاقات بين الوحدات الفاعلة في النظام الدولي بمجرد تغير في سلوك الولايات المتحدة, مما يدل على أن هذه التغيرات هي تغيرات في هرم النظام الدولي. ويرد البعض بأن هذه التغيرات ليست نتيجةً للتغيير الحاصل في سياسة الولايات المتحدة, وإنما لأن العالم يشهد أزمة مالية عالمية, وهنا يجيب أصحاب الرأي الأول بأن للأزمة المالية تأثيراً كبيراً, ولكن تأثيرها هو على السياسة الأمريكية التي أثرت لاحقاً بالعالم, أي المتغير الرئيسي هو السياسة الأمريكية.
وبالمقابل نلاحظ بعض المؤشرات التي قد تدل على تراجع الدور الأمريكي في السياسة العالمية, ففي نهاية عام 2009 بلغ المديونية الحكومية الأمريكية ما يزيد على 11 تريليون دولار أمريكي, وهي تتزايد كديون بما يعادل 3.7 بلايين دولار يومياً, وهذا ما يضع الولايات المتحدة في حالة إصدار سندات تمويل لعجزها بشكل مستمر بلا توقف, واستناداً للبيانات الصادرة عن وزارة الخزانة الأمريكية فإن زيادة قيمة حيازات الصين لسندات الخزانة الأمريكية قد تباطأت خلال سنة 2009، ففي شهر آذار وأيار وتموز وأيلول ازدادت قيمة حيازات الصين ب23.7 و38 و24.1 و1.8 مليار دولار على التوالي، لكن في شهر نيسان وحزيران وآب انخفضت قيمة حيازات الصين للسندات الأمريكية ب4.4 و1.25 و3.4 مليار دولار على التوالي. ومن بين الدول الدائنة للولايات المتحدة الأمريكية أيضاً اليابان، حيث انخفضت قيمة الحيازات من 5 مليار دولار أمريكي إلى 746.5 مليون دولاراً أمريكياً في شهر تشرين الأول سنة 2009، مما قد يطرح تساؤلات كبيرة حول الكيفية التي ستعالج بها الولايات المتحدة هذا العجز في حال استمر تباطؤ الصين والدول الأخرى بشراء سندات الخزينة الأمريكية.
كما بلغت نسبة البطالة في الولايات المتحدة في آب 2009 حسب الأرقام الرسمية 9.7% , وهي أعلى نسبة في 26 عاماً. ومن الناحية السياسية لا تستطيع الولايات المتحدة معالجة بعض القضايا بمفردها, كالملف النووي الإيراني, بل تعتمد على آخرين لدعم العقوبات السياسية والاقتصادية, أو منع وصول إيران إلى التكنولوجيا والمواد النووية، بالإضافة إلى عجزها عن القضاء على الإرهاب, وتحقيق الاستقرار في أفغانستان والعراق.
من خلال ما سبق, نستطيع أن نقول بأن الولايات المتحدة ما زالت قوة عظمى في النظام الدولي, ولكنها تواجه مؤشرات متعددة لتراجع دورها, كما أن بعض الفاعلين الدوليين الآخرين ما زالوا يكسبون المزيد من القوة, في حين أن زيادة دور المنظمات الدولية ما زال مثيراً جداً للشكوك والتساؤلات, فلذلك فإن فكرة أننا انتقلنا أو سننتقل على المدى القريب إلى عصر اللاقطبية، التي تفترض توزيع القوة بين الدول وزيادة دور المنظمات الدولية، قد تكون مستبعدة لفترة.
وعلى الأغلب أننا قد نكون أمام الانتقال إلى نظام دولي تعددي توافقي، وهو ما سيكون موضوعاً لمقالة قادمة.