الحزب الشيوعي في ذكرى تأسيسه الـ 60
مرسل: الأحد مايو 29, 2011 8:25 pm
عريب الرنتاوي
حدث ذلك في خريف العام 1970، وقد كنّا طلاباً في الثالث الإعدادي (التاسع بلغة هذه الأيام)، عندما شرعنا زملاء لي في «مدرسة ذكور مخيم عمان» وأنا، في حوار مع أستاذ الرياضيات فتحي الحلو، الذي كان معروفاً في نطاقنا –غير الواسع على أية حال– بأنه شيوعي، وهو الحوار، غير المتكافئ، الذي سرعان ما انتهى بنا إلى عضوية الحزب الشيوعي الأردني، الذي عرفنا فيما بعد، أنه كان قد انشق للتو إلى حزبين، وأن الحلو ينتمي إلى جماعة الكادر اللينيني كما كانوا يقدمون أنفسهم، أو «السلافتة»، نسبة إلى فهمي السلفيتي أحد كبار قادة الحزب ومؤسسيه، أو «المنشقين» وفقاً لتسمية ثانية أطلقها عليهم، الحزب «الأصلي»... وهكذا وجدنا أنفسنا نحظى بلقب «المنشقين» حتى قبل أن ننضم للحزب؟! لم يطل المقام بالأستاذ فتحي الحلو حتى أعتقل، بعد احداث أيلول بقليل... لم يبق طويلاً في سجن المخابرات، فقد وقع على «إعلان البراءة والاستنكار»، وهو الإعلان الذي كان يُجبَر المعتقلون على توقيعه ونشره على نفقتهم في الصحف اليومية، إن هم أرادوا النجاة بأنفسهم واستعادة حريتهم.
انتقلت وزملائي إلى ولاية رفيق آخر، اسمه نبيل عمرو، وهو أول «نبيل عمرو» عرفته، ليبلغ عددهم ثلاثة فيما بعد، أحدهم الصحفي المتقاعد من جريدة الدستور، وثانيهم، نبيل عمرو، القيادي الفتحاوي الشهير وصديقنا... وأحسب أن «الكيمياء» بيننا وبين «مسؤول خليتنا» الجديد، لم تعمل على النحو المرجوّ منها، حيث دخلت علاقاتنا بالحزب في مرحلة من التوتر والشد والجذب... خلال هذه الفترة اجتاحنا الفضول لنعرف عن قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي الأردني، ومواقف الفريق الآخر، لنكتشف بأننا نغوص في قضايا الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري المنشق في توقيت متزامن تقريباً بين جناحي بكداش والترك، ونتابع تداعيات ذاك الانشقاق الإقليمية والدولية، من مداخلة يفغيني بريماكوف عن الخلاف داخل الحركة الشيوعية السورية، مرورا برد محمد حسنين هكيل عليه، وليس انتهاءً بمداخلات اليسار القومي وأطروحاته، ممثلاً بحزب العمل العربي، وهم المعادل القومي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بوصفه حزباً يسارياً منبثقا من رحم حركة القوميين العرب، ووريثاً شرعياً لها.
غادرنا «الكادر اللينيني» بعد أن أخفقت سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى مع قيادة الحزب في إقناعنا بالبقاء في صفوفه، وانتقلنا بقضنا وقضيضنا إلى الحزب الأم، الذي كان المنشقون يطلقون عليه اسم «الزغابة»، في إشارة إلى الزغب الذي يكسو جسم الطائر عند ولادته، والذي يبدأ بالتساقط والسقوط حين ينمو الريش وينبت له جناحان قويان يحلّق بهما... ولقد تعاقب على «ولايتنا» عدد من كوادر الحزب وقياداته، أذكر من بينهم الأستاذ رشيد شقير، أحد الكوادر القيادية في الحزب.. لم نعثر على فوارق جوهرية بين جناحي الحزب، واكتشفنا سريعاً أن الأسباب التي دفعتنا لمغادرة «المنشقين» كفيلة بدفعنا لمغادرة «الزغابة»... وهذا ما حصل، إذ لم نكمل الثاني الثانوي –الحادي عشر آنذاك– إلا وكنا قد انضممنا وانشققنا عن الحزب الشيوعي «الهدّام» بشقيه، من دون أن نجبر على توقيع «صك البراءة والاستنكار» المرذول إياه، أو نشره على نفقتنا الخاصة قبالة صفحة «الوفيات» في الجرائد اليومية أو أسفلها.
في رحلة التعرف على الحزب، مرت بنا أسماء وقصص وحكايات، ما زال وقعها يتردد في العقل والذاكرة والضمير والوجدان، سمعنا عن فؤاد نصار وفهمي السلفيتي وفائق وراد ويعقوب زيادين وخالد حمشاوي و»عائلة نفّاع»، سمعنا عن عبدالعزيز العطي وعيسى مدانات وغيرهم كثر من رجالات الحركة الشيوعية في بلادنا، الذين قضوا الهزيع الأخير من الخمسينات والنصف الأول من الستينيات في سجن الجفر الصحراوي، ولقد تعرضوا لما تعرضوا إليه من صنوف التعذيب والضغوط وضنك العيش.
مناسبة هذه «الذكريات»، أننا كنا بالأمس في لقاء فكري سياسي مع الحزب الشيوعي الأردني، وضيوفه، ممثلي اليسار والأحزاب الشيوعية القادمين من عدد من الدول العربية لإحياء الذكرى الستين لتأسيس الحزب... وهي مدة زمنية تعادل ثلثي عمر الدولة الأردنية... ولقد استحضرنا بعض صور التضحية والمعاناة التي عاشها الآباء المؤسسون للحركة الشيوعية الأردنية، ولكم سعدت بوجود عدد من قادتها ومؤسسيها بين ظهرانينا بالأمس، وأخص بالذكر الاستاذ عبد العزيز العطي.
لقد اختار الحزب «الثورات العربية» موضوعا لورشة العمل الفكرية التي نظمها إحياء للذكرى العزيزة على قلوب التقدميين واليساريين الأردنيين والفلسطينيين والعرب... ولكم كنت أتمنى لو أنه خصص الورشة للبحث في البحث عن الأسباب التي تضافرت في تكوين أزمة اليسار الأردني والعربي، وتناول دور هذا اليسار في ثورات العرب وانتفاضاتهم... لكم تمنيت لو أنها كانت جلسة للتقيم والتقويم، للنقد والنقد الذاتي... كم تمنيت لو أن الجلسة قد خصصت للبحث عن إجابة على سؤال: كيف ننهض بدور اليسار الأردني والعربي.. لا سيما أننا كنّا مجمعين على أن «ربيع العرب» في خطر، وأن ثوراته في خطر... خطر «الاحتواء الناعم» والرغبة في مصادرة مآلات الثورة ومستقبلاتها... وخطر الأصولية السلفية المنفلتة من كل عقال... وخطر نظم الفساد والاستبداد المنهارة التي لم ترفع الراية البيضاء بعد.
أياً يكن من أمر، فإنني أحسب أن الباب ما زال مفتوحا لحوارات من هذا النوع، ففرصة الاستفادة من تجارب عقود ستة، لم تنفذ بعد، وتحية للحزب الشيوعي في ذكرى تأسيسه الستين.
منقول
حدث ذلك في خريف العام 1970، وقد كنّا طلاباً في الثالث الإعدادي (التاسع بلغة هذه الأيام)، عندما شرعنا زملاء لي في «مدرسة ذكور مخيم عمان» وأنا، في حوار مع أستاذ الرياضيات فتحي الحلو، الذي كان معروفاً في نطاقنا –غير الواسع على أية حال– بأنه شيوعي، وهو الحوار، غير المتكافئ، الذي سرعان ما انتهى بنا إلى عضوية الحزب الشيوعي الأردني، الذي عرفنا فيما بعد، أنه كان قد انشق للتو إلى حزبين، وأن الحلو ينتمي إلى جماعة الكادر اللينيني كما كانوا يقدمون أنفسهم، أو «السلافتة»، نسبة إلى فهمي السلفيتي أحد كبار قادة الحزب ومؤسسيه، أو «المنشقين» وفقاً لتسمية ثانية أطلقها عليهم، الحزب «الأصلي»... وهكذا وجدنا أنفسنا نحظى بلقب «المنشقين» حتى قبل أن ننضم للحزب؟! لم يطل المقام بالأستاذ فتحي الحلو حتى أعتقل، بعد احداث أيلول بقليل... لم يبق طويلاً في سجن المخابرات، فقد وقع على «إعلان البراءة والاستنكار»، وهو الإعلان الذي كان يُجبَر المعتقلون على توقيعه ونشره على نفقتهم في الصحف اليومية، إن هم أرادوا النجاة بأنفسهم واستعادة حريتهم.
انتقلت وزملائي إلى ولاية رفيق آخر، اسمه نبيل عمرو، وهو أول «نبيل عمرو» عرفته، ليبلغ عددهم ثلاثة فيما بعد، أحدهم الصحفي المتقاعد من جريدة الدستور، وثانيهم، نبيل عمرو، القيادي الفتحاوي الشهير وصديقنا... وأحسب أن «الكيمياء» بيننا وبين «مسؤول خليتنا» الجديد، لم تعمل على النحو المرجوّ منها، حيث دخلت علاقاتنا بالحزب في مرحلة من التوتر والشد والجذب... خلال هذه الفترة اجتاحنا الفضول لنعرف عن قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي الأردني، ومواقف الفريق الآخر، لنكتشف بأننا نغوص في قضايا الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري المنشق في توقيت متزامن تقريباً بين جناحي بكداش والترك، ونتابع تداعيات ذاك الانشقاق الإقليمية والدولية، من مداخلة يفغيني بريماكوف عن الخلاف داخل الحركة الشيوعية السورية، مرورا برد محمد حسنين هكيل عليه، وليس انتهاءً بمداخلات اليسار القومي وأطروحاته، ممثلاً بحزب العمل العربي، وهم المعادل القومي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بوصفه حزباً يسارياً منبثقا من رحم حركة القوميين العرب، ووريثاً شرعياً لها.
غادرنا «الكادر اللينيني» بعد أن أخفقت سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى مع قيادة الحزب في إقناعنا بالبقاء في صفوفه، وانتقلنا بقضنا وقضيضنا إلى الحزب الأم، الذي كان المنشقون يطلقون عليه اسم «الزغابة»، في إشارة إلى الزغب الذي يكسو جسم الطائر عند ولادته، والذي يبدأ بالتساقط والسقوط حين ينمو الريش وينبت له جناحان قويان يحلّق بهما... ولقد تعاقب على «ولايتنا» عدد من كوادر الحزب وقياداته، أذكر من بينهم الأستاذ رشيد شقير، أحد الكوادر القيادية في الحزب.. لم نعثر على فوارق جوهرية بين جناحي الحزب، واكتشفنا سريعاً أن الأسباب التي دفعتنا لمغادرة «المنشقين» كفيلة بدفعنا لمغادرة «الزغابة»... وهذا ما حصل، إذ لم نكمل الثاني الثانوي –الحادي عشر آنذاك– إلا وكنا قد انضممنا وانشققنا عن الحزب الشيوعي «الهدّام» بشقيه، من دون أن نجبر على توقيع «صك البراءة والاستنكار» المرذول إياه، أو نشره على نفقتنا الخاصة قبالة صفحة «الوفيات» في الجرائد اليومية أو أسفلها.
في رحلة التعرف على الحزب، مرت بنا أسماء وقصص وحكايات، ما زال وقعها يتردد في العقل والذاكرة والضمير والوجدان، سمعنا عن فؤاد نصار وفهمي السلفيتي وفائق وراد ويعقوب زيادين وخالد حمشاوي و»عائلة نفّاع»، سمعنا عن عبدالعزيز العطي وعيسى مدانات وغيرهم كثر من رجالات الحركة الشيوعية في بلادنا، الذين قضوا الهزيع الأخير من الخمسينات والنصف الأول من الستينيات في سجن الجفر الصحراوي، ولقد تعرضوا لما تعرضوا إليه من صنوف التعذيب والضغوط وضنك العيش.
مناسبة هذه «الذكريات»، أننا كنا بالأمس في لقاء فكري سياسي مع الحزب الشيوعي الأردني، وضيوفه، ممثلي اليسار والأحزاب الشيوعية القادمين من عدد من الدول العربية لإحياء الذكرى الستين لتأسيس الحزب... وهي مدة زمنية تعادل ثلثي عمر الدولة الأردنية... ولقد استحضرنا بعض صور التضحية والمعاناة التي عاشها الآباء المؤسسون للحركة الشيوعية الأردنية، ولكم سعدت بوجود عدد من قادتها ومؤسسيها بين ظهرانينا بالأمس، وأخص بالذكر الاستاذ عبد العزيز العطي.
لقد اختار الحزب «الثورات العربية» موضوعا لورشة العمل الفكرية التي نظمها إحياء للذكرى العزيزة على قلوب التقدميين واليساريين الأردنيين والفلسطينيين والعرب... ولكم كنت أتمنى لو أنه خصص الورشة للبحث في البحث عن الأسباب التي تضافرت في تكوين أزمة اليسار الأردني والعربي، وتناول دور هذا اليسار في ثورات العرب وانتفاضاتهم... لكم تمنيت لو أنها كانت جلسة للتقيم والتقويم، للنقد والنقد الذاتي... كم تمنيت لو أن الجلسة قد خصصت للبحث عن إجابة على سؤال: كيف ننهض بدور اليسار الأردني والعربي.. لا سيما أننا كنّا مجمعين على أن «ربيع العرب» في خطر، وأن ثوراته في خطر... خطر «الاحتواء الناعم» والرغبة في مصادرة مآلات الثورة ومستقبلاتها... وخطر الأصولية السلفية المنفلتة من كل عقال... وخطر نظم الفساد والاستبداد المنهارة التي لم ترفع الراية البيضاء بعد.
أياً يكن من أمر، فإنني أحسب أن الباب ما زال مفتوحا لحوارات من هذا النوع، ففرصة الاستفادة من تجارب عقود ستة، لم تنفذ بعد، وتحية للحزب الشيوعي في ذكرى تأسيسه الستين.
منقول