صفحة 1 من 1

بقايا الحرب الباردة

مرسل: الأحد مايو 29, 2011 11:37 pm
بواسطة احمد العثمان 15
بعد عقدين من انتهاء الحرب الباردة، ما زال الحظر التجاري الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا مستمرا، وليس من المرجح أن يتم رفعه في وقت قريب، بخاصة بعد النتائج الأخيرة للانتخابات النصفية. في نفس الوقت، وفي احتفاء واضح بالنموذج الصيني، تحدث تطورات على المستوى الاقتصادي في كوبا. ففي الوقت الذي تتعارض فيه المصالح الاستراتيجية الأميركية مع السياسات المحلية، تستعد دول أخرى لاغتنام الفرصة.

قبل فرض الولايات المتحدة للحظر التجاري على كوبا، كان لدى الرئيس جون كينيدي مساعد يجمع له ما يحتاجه من السيجار الكوبي الذي يفضله. وبعد ذلك بخمسة عقود، وبعد عشرين عاما من انتهاء الحرب الباردة، ما زال الحصار قائما، وما زال السيجار الشهير هو أحد المصادر القليلة للعائدات بالنسبة للنظام الذي أقر، فعليا، بفشل نموذجه الاقتصادي.

وقد ولّت الأيام التي كان الشعب الكوبي يعقد آماله فيها على الثورة. ويعد الهجوم على القصر الرئاسي في هافانا من أهم أحداث ثورة 1959، وهي حلقة من العنف ما زالت الفجوات التي خلفها الرصاص الذي أطلق خلالها شاهدة عليها. وفي إحدى غرف ما أصبح متحفا للثورة، حفرت السطور الأخيرة من «دليل الثورة» على لوحة برونزية عتيقة تقول: «حتى لا يهيمن الظلم والقمع على كوبا مرة أخرى».

وما زال الظلم والقمع حتى الآن، وهي القضايا التي زعمت الثورة محاربتها، يمثلان أمرا واقعا بالنسبة لمعظم الكوبيين.


بين شقي الرحى

وفي الوقت الذي تمثل فيه معضلة الكوبيين الحالية صورة مألوفة، خفتت القصة القديمة للحياة الماضية في كوبا قبل الثورة التي لم تعد مبهجة مع الوقت. فالعنف والفساد المزمن اللذان رسخهما الدكتور الذي كان يحكم الجزيرة، فلوجنسيو باتيستا، هما ما ميزا سنوات من الاستقلال حتى الثورة. فقد ظل العسكري الكوبي، باتيستا، في السلطة من خلال سلسلة من الرؤساء الصوريين حتى استولى بنفسه على السلطة في 1940. ثم تقاعد بعد ذلك بأربع سنوات ثم عاد للسلطة عبر انقلاب عسكري في 1952.

وفي ذلك الوقت، كانت كوبا جنة المافيا الأميركية، وكانت العاصمة هافانا معروفة بـ«لاس فيغاس أميركا الوسطى». العنف، والأموال السهلة، والكازينوهات، والدعارة كانت شائعة في ذلك الوقت بمثل شيوع الفقر والظلم في الوقت الراهن. فقد حقق المسؤولون الكوبيون ثروات من خلال تحويل الرشوة والابتزاز إلى مشاريع مزدهرة. وعلى الرغم من أن الناتج القومي للفرد بكوبا كان مرتفعا للغاية، وفقا للمعايير الخاصة بأميركا اللاتينية، أعلن تقرير البنك الدولي عام 1950 أن نحو 60 في المائة من الكوبيين يعانون من سوء التغذية.

وبالتالي، لم يكن الاحتفاء واسع النطاق بالثورة الكوبية وفيديل كاسترو بعدما استولت قوات المتمردين التابعة له على هافانا في 1959 مفاجئا، فقد حصل كاسترو على سلطة مطلقة من دون منازع حتى عام 2006 عندما بدأت صحته في التدهور. وخلال تلك العقود الخمسة، أخفق النظام إلى حد كبير في تعويض الكوبيين الذين شهدوا نظاما أوليغاركيا عنيفا وفاسدا يتم استبداله بنظام شيوعي قمعي وأكثر انحطاطا.

ونظرا لمشكلاته الصحية، تخلى كاسترو في النهاية عن السلطة لأخيه راؤول، الضابط العسكري. وكانت الآمال في أن وصول راؤول للسلطة سوف يعقبه إصلاح اقتصادي وثقافة سياسية أكثر انفتاحا قد تزايدت بعد قراره خصخصة بعض الأراضي والسماح للكوبيين باستخدام الهواتف الجوالة. ولكن تلك الآمال سرعان ما خفتت حدتها وأدرك معظم الكوبيين أنه لم تحدث تغيرات كبرى. فكما يقول طالب بجامعة هافانا فإن «الأمور قد ازدادت سوءا مع راؤول لأن لديه عقلية عسكرية أقوى، وبالتالي أحكم قبضته على البلاد. فنحن نقول حاليا إن عدد سكان كوبا يبلغ 10 ملايين نسمة يتألفون من 5 ملايين مواطن عادي وخمسة ملايين شرطي». ويتحدث سائق تاكسي بأسى حول هجرة ذوي الخبرة من المهنيين وأي شخص آخر لديه الموارد التي تسمح له بالمغادرة، قائلا: «كل من أعرفه سيغادر إذا ما أتيحت له الفرصة. فلدينا أطباء جيدون مجانا ونعيش في مكان آمن ولكن ذلك كل ما في الأمر». ولكن حتى الأمن الذي يشير سائق التاكسي إليه لا يوجد إلا من أجل من لا يجرؤون على التعبير عن آرائهم بحرية.


النموذج الصيني

في حوار حديث مع كاسترو، سأل جيفري غولدبرغ مراسل المجلة الأميركية «ذا أتلانتيك»، الرئيس السابق، إذا ما كان يعتقد أن النموذج الكوبي يستحق التصدير، فأجاب فيديل قائلا: «إن النموذج الكوبي لم يعد ناجحا حتى بالنسبة لنا». وبالفعل فإن أكثر الأسباب قوة لكي يكون هناك أمل في ما يتعلق بمستقبل كوبا هو التقييم الصريح لإخفاق النموذج الاقتصادي للبلاد.

في أواخر العام الماضي، أعلن راؤول أن الحكومة سوف تخفض ميزانية الرواتب الضخمة بنسبة 15 في المائة. ولكي يتم السماح للقطاع الخاص بالتدخل، إلى حد ما، والحلول محل الدولة كموفر لفرص العمل، شجع راؤول أيضا الأجانب على الاستثمار في أسواق العقارات بالبلاد وشراء المشاريع الصغيرة.

ومع ذلك، فمن الواضح أن الإصلاح السياسي ليس على الطاولة. وبالفعل، وبالتزامن مع ذلك الحذر، فإن تحرير الاقتصاد التقدمي هو جهد مثابر من قبل النظام لمنع بزوغ أي حريات سياسية في ما يبدو أنه احتفاء بالنموذج الصيني. والسؤال هو كيف سيتعامل النظام مع تلك التحولات فيما يتجنب مصير نصيره السابق، الاتحاد السوفياتي.

إن إقناع واشنطن برفع الحظر الاقتصادي هو خطوة حيوية. وكما يقول مواطن كوبي يعمل بصناعة السياحة ويحصل على 20 دولار شهريا: «إن إنهاء الحظر الأميركي سوف يغير كل شيء بالنسبة لنا، ولكنني أعتقد أن ذلك لن يحدث إلا في جيل ابنتي. وتلك كراهية قديمة وغير عقلانية وبدائية من كلا الجانبين ولكن من يعاني من العواقب في النهاية هو الشعب الكوبي». وقال إن «ما نتعلمه في المدرسة هو أن الولايات المتحدة شيطان وما إلى ذلك ولكن معظمنا لا يؤمن بذلك فنحن نعلم أن ذلك هو ما يروج له النظام».

كما أن فكرة أن الحظر الأميركي ما زال موجودا لأن النظام الكوبي معاد لحقوق الإنسان، ليس لها أي مصداقية، بخاصة في ظل الواقعية السياسية التي تتعامل بها واشنطن مع الأنظمة القمعية مثل مصر واليمن والصين، وهي مجرد أمثلة. وعلى غرار أي حظر اقتصادي، فإن من يرزح تحت وطأة العقوبات الأميركية بالأساس هو الطبقة العاملة الكوبية، والتي لا تحمل أي ضغينة ضد الولايات المتحدة فيما يتجول الوزراء الكوبيون والجنرالات في جميع أنحاء هافانا في سيارات حديثة ويعيشون في قصور فاخرة.


المصالح الوطنية

هناك أسباب عدة تدفع الولايات المتحدة لرفع الحظر والتواصل مع كوبا. ففي أميركا اللاتينية ومعظم أنحاء آسيا، جلب التحرر الاقتصادي معه بذور التحرر السياسي، وإن كان بإيقاع بطيء. والأهم من ذلك، إذا لم تلب الشركات الأميركية دعوة النظام لمستثمري القطاع الخاص، ستسعد قوى أخرى باستغلال الفرصة. وعندما سئل إذا ما كانت الصين يمكن أن تكون تلك القوة، أجاب مهاجر كوبي للولايات المتحدة: «لا أدري، فالديون الكوبية الخارجية مع الصين مرتفعة للغاية.. كما أنني أرى فنزويلا وهي تغزو الفضاء الاقتصادي الكوبي مثلما كان الاتحاد السوفياتي يفعل من قبل».

ومن الأسباب الأخرى التي توجب أن تغير الولايات المتحدة سياستها تجاه كوبا هو احتمالات وجود احتياطات ضخمة من الطاقة في خليج المكسيك. ففي ما وصفته «ذا إيكونوميست» بأنه «الطريق البديل»، من المتوقع أن تشهد كوبا في 2011 العديد من عمليات الحفر الاستكشافية التي ستقوم بها شركات غير أميركية «ريبسول» الإسبانية و«ستاتويل» النرويجية و«مؤسسة النفط والغاز الطبيعي» الهندية و«غازبروم» الروسية، وشركة «PDVSA» الفنزويلية. ومن المحتمل أن تتزايد القائمة من خلال مشاركة دول مثل الصين وفيتنام وأنغولا والتي تجري مفاوضات حاليا.

كما يمثل الحظر أيضا أداة فعالة لنظام كاسترو لكي يلقي باللوم في سياساته الاقتصادية الكارثية على العقوبات الأميركية، وسوف يترك رفع تلك العقوبات قدرا أقل من الأعذار أمامه.

وهنا تتعارض المصالح الأميركية الاقتصادية والاستراتيجية والمتعلقة بالسياسة الخارجية مع المصالح المحلية. فمن بين جماعات الضغط العرقية التي تؤثر على صناعة السياسة الخارجية الأميركية، يعد اللوبي الكوبي، بخاصة «المؤسسة الوطنية الكوبية الأميركية» من أقوى جماعات الضغط بعد اللوبي الإسرائيلي. وتعارض تلك الجماعات التي ترتكز أساسا في فلوريدا ونيوجيرسي نظام كاسترو، كما أنها عملت باستمرار مع الكونغرس الأميركي، بخاصة المشرعين من الحزب الجمهوري المحافظ، على إبقاء الحظر. إلا أن تلك الجماعات ليست متجانسة كما هو ظاهر. فيبدو أن هناك انقسامات "جيلية" بين العجائز الكوبيين المنفيين الذين يتمنون العودة إلى كوبا ومساندة مساعي عزل نظام كاسترو وبين الشباب الكوبي الأميركي المولود في الولايات المتحدة الذي ينظر لموقف الجيل الأقدم باعتباره راديكاليا للغاية.

على أية حال، تتزايد كل يوم صعوبة تبرير الحظر التجاري الأميركي ولكن في ظل أزمة اقتصادية وحربين تشارك فيهما الولايات المتحدة، فإن آخر ما تحتاجه إدارة أوباما هو مواجهة مع الكونغرس بشأن كوبا بخاصة بعد الأداء الجمهوري القوي في الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني).

«إن الدولة التي تغرق نفسها في كراهية دولة أخرى أو محاباتها هي دولة مستعبدة على نحو ما. فهي عبد لذلك العداء أو الولع، وأي منهما كفيل بدفعها للانحراف عن واجبها ومصالحها». لقد كانت تلك هي كلمات جورج واشنطن في خطاب الوداع في سبتمبر (أيلول) 1796 مما يلقي الضوء على الصراع الذي ينضوي عليه ذلك الحظر.


مانويل ألميدا - محرر مشارك.