الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات (مقال 8)
مرسل: الاثنين مايو 30, 2011 12:36 am
الموازنة بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية
الفروق من حيث مجال تقرير السياسة في كل منهما
د. سعد بن مطر العتيبي
http://saaid.net/Doat/otibi
ذكر الفرق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية، من حيث مجال تقرير السياسة في كل منهما.
الفرق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية من حيث مجال تقرير السياسة - أو ما يُعبَّر عنه بــ(الناحية الموضوعية) - فرق في غاية الأهمية والمفاصلة؛ فمجال تقرير السياسة الشرعية ينحصر في استمداد الأحكام السياسية الشرعية من الأصلين السابقين: الكتاب والسنة؛ فوظيفة (أولى الأمر) لا تتجاوز بيان الأحكام التي تقتضيها الشريعة، من الكتاب والسنة، بطريق من طرق الاستنباط وقواعده المعتبرة شرعاً، سواء كانت أحكاماً نصِّيَّة ظاهرة، أو اجتهاديَّة مستنبطة (1).
أمَّا مجال تقرير السياسات الوضعية، فإنه غير مقيد بقيد، إلا كون أحكامه ضمن إطار السياسات الموضوعي (المسائل الدستورية)؛ فإنَّ السلطة التأسيسية غير مقيـدة بقيد (2)، و كذلك ما يسمّى بـ(السلطة التشريعية) (3)؛ فهي في الأنظمة الوضعية ذات الدساتير المرنة - كالنظام الإنجليزي - غير مقيَّدة بقيد، فالبرلمان الإنجليزي يمكنه سنّ ما يشاء من القوانين، دون ضابط أو رقيب؛ فلا يوجد مبادئ ثابتة يُقَرَّرُ ويَسُنّ في إطارها؛ والدستور مَرِنٌ فلا رقابة على دستورية القوانين، ويزداد الأمر انقلاباً إذا سيطر على مثل هذا البرلمان (4) ذوو اتجاهات استبدادية (5)؛ بل حتى الأنظمة الوضعية ذات الدساتير الجامدة التي تتقيد بالدستور، هي الأخرى - عند التأمل - غير مقيدة، لأنَّ الدستور ذاته قانون وضعي قابل للتعديل والإلغاء والتغيير بالطريقة المنصوص عليها فيه، ليكون ملائماً ما يجد من تطورات وتغيرات في المجتمع، لافتقاده صفة السمو التي تضمن المرونة في إطار ثابت (6)؛ بل إن الأمر في غاية الفوضى وعدم الانضباط في الأنظمة التي تخول المجلس الأعلى فيها التحللَ من القانون متى شاءت (7).
وهذا الانفلات في مجال تقرير السياسات، جعل وظيفة (سلطة إعداد الدستور) التأسيسية والمشتقة، تشمل وضع الدساتير إنشاءً، وإلغاءً، وتعديلاً.
وهنا يتجلى الفارق العميق بين مجال تقرير السياسة الشرعية، ومجال تقرير السياسات الوضعية؛ إذ مجال تقرير السياسة الشرعية يقتصر على كشف الأحكام السياسية الشرعية وبيانها؛ أما مجال تقرير السياسات الوضعية، فيتعدى مجال الكشف والبيان، ويتجاوزه إلى مجال (التشريع) أي إنشاء الأحكام ابتداء (8) الذي هو كـ"الخلق" من خصائص الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54]، وهذا التعدي من أصول الفكر الوضعي الحديث، وهو يؤكِّد ما سبق من أنَّ "الوضعية" صفة لها مدلول لفظي ومنهج فكري "الأيدلوجية الوضعية"، وليست مجرد مسلك قانوني.
وبما سبق يتضح أنَّ سلطة إعداد الدستور، غير مقيدة في تقريراتها بقيد، فلا نصوص ولا مبادئ تقيد سلطتها؛ ولهذا فإنَّ الباحث في إطار القوانين الوضعية (الخبير القانوني في أحسن أحواله)، يسعى لتحقيق ما يراه من مصالح آنية أو قريبة، وحين لا تعود هذه القوانين – التي وضعها - محققة لتلك المصالح، أو تتغير نظرة المجتمع إليها، تبادر السلطة المخولة بتعديلها أو إلغائها، واستبدالها بقوانين جديدة. وهذا ما يستدعي متابعة القاضي والمحامي والباحث القانوني، كل تغيير يطرأ عليها (9)؛ إذ بمجرد إلغاء ما سبق أو تعديله، تكون البحوث التي أهدر فيها الجهد والوقت والمال شيئا تاريخياً لا قيمة له من الناحية القانونية القائمة.
أمَّا "أولوا الأمر"، فمقيدون في تقريراتهم بالنصوص والكليات الشرعية الثابتة المثمرة المرنة، التي هي: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24-25]؛ فنصوصها وكلياتها ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فهي نور دائم يُسَيِّر المجتهد، ولا يسيره المجتهد، وما ثبت حكمه من المسائل يبقى حكمه كذلك دون تغيير أو تبديل، وهكذا تتابع المسائل والبحوث دون أن تهدر، فهي مسائل قد أشبعت بحثاً، فثبتت أحكامها جهداً فقهياً يعمل به القاضي، ويفتي به المفتي، ويستند إليه الباحث، ويطبقه المكلّف، عند تماثل المسائل صوراً ومناطات.
ومن هنا كان تعبير كل من المجتهد الشرعي، والخبير القانوني، دالاً على هذه الحقيقة، فإنَّ المجتهد الشرعي يعبر بـ(ثبت) وما في معناها، أمَّا الخبير القانوني وشراح القوانين فيعبِّرون بـ(استقر) بعد (كان)؛ وهذا لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب شروح القوانين.
وهنا يسعدني أن أُذكِّر بأنَّ تراثنا الفقهي المتعلق ببيان دلالات نصوص الشريعة من كتاب وسنّة، يبقى تراثا حيّاً فاعلاً، على مرّ العصور، بل إنَّ تلك الشروح تكون أقوى سبكا وأدق فهما كلّما كان صاحبها إماماً من أئمة الشريعة المتقدمين؛ بخلاف شروح الدساتير الوضعية والنصوص القانونية الوضعية، فإنَّها بمجرد أن تلغى تلك القوانين التي تم شرحها أو تغيّر، تتحول تلقائيا إلى ما يعرف بـ(تاريخ القانون)، لتخرج من دائرة القانون ذاته. ولست بحاجة إلى التذكير بقيمة تفسير ابن جرير أو شروح صحيح البخاري أو كتاب المغني - على سبيل المثال - منذ وجدت وإلى اليوم بل والغد!
وهكذا يتجلى المثل القرآني العظيم، الذي يوجه السؤال التقريري لكل ذي عقل مستنير؛ ليوازن بين من يمشي مكباً على وجهه تائها، ومن يمشي سوياً مهتدياً: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك:22].
وبهذا تم الحديث في بيان الفرق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية، وبه أختم الحديث في سلسلة: مقالات أضواء السياسة الشرعية، التي شجعني على طرحها الإخوة في موقع المسلم جزاهم الله خيرا. ولله الحمد والمنة، والله تعالى أعلم.
الفروق من حيث مجال تقرير السياسة في كل منهما
د. سعد بن مطر العتيبي
http://saaid.net/Doat/otibi
ذكر الفرق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية، من حيث مجال تقرير السياسة في كل منهما.
الفرق بين جهة تقرير السياسة الشرعية، وجهة تقرير السياسات الوضعية من حيث مجال تقرير السياسة - أو ما يُعبَّر عنه بــ(الناحية الموضوعية) - فرق في غاية الأهمية والمفاصلة؛ فمجال تقرير السياسة الشرعية ينحصر في استمداد الأحكام السياسية الشرعية من الأصلين السابقين: الكتاب والسنة؛ فوظيفة (أولى الأمر) لا تتجاوز بيان الأحكام التي تقتضيها الشريعة، من الكتاب والسنة، بطريق من طرق الاستنباط وقواعده المعتبرة شرعاً، سواء كانت أحكاماً نصِّيَّة ظاهرة، أو اجتهاديَّة مستنبطة (1).
أمَّا مجال تقرير السياسات الوضعية، فإنه غير مقيد بقيد، إلا كون أحكامه ضمن إطار السياسات الموضوعي (المسائل الدستورية)؛ فإنَّ السلطة التأسيسية غير مقيـدة بقيد (2)، و كذلك ما يسمّى بـ(السلطة التشريعية) (3)؛ فهي في الأنظمة الوضعية ذات الدساتير المرنة - كالنظام الإنجليزي - غير مقيَّدة بقيد، فالبرلمان الإنجليزي يمكنه سنّ ما يشاء من القوانين، دون ضابط أو رقيب؛ فلا يوجد مبادئ ثابتة يُقَرَّرُ ويَسُنّ في إطارها؛ والدستور مَرِنٌ فلا رقابة على دستورية القوانين، ويزداد الأمر انقلاباً إذا سيطر على مثل هذا البرلمان (4) ذوو اتجاهات استبدادية (5)؛ بل حتى الأنظمة الوضعية ذات الدساتير الجامدة التي تتقيد بالدستور، هي الأخرى - عند التأمل - غير مقيدة، لأنَّ الدستور ذاته قانون وضعي قابل للتعديل والإلغاء والتغيير بالطريقة المنصوص عليها فيه، ليكون ملائماً ما يجد من تطورات وتغيرات في المجتمع، لافتقاده صفة السمو التي تضمن المرونة في إطار ثابت (6)؛ بل إن الأمر في غاية الفوضى وعدم الانضباط في الأنظمة التي تخول المجلس الأعلى فيها التحللَ من القانون متى شاءت (7).
وهذا الانفلات في مجال تقرير السياسات، جعل وظيفة (سلطة إعداد الدستور) التأسيسية والمشتقة، تشمل وضع الدساتير إنشاءً، وإلغاءً، وتعديلاً.
وهنا يتجلى الفارق العميق بين مجال تقرير السياسة الشرعية، ومجال تقرير السياسات الوضعية؛ إذ مجال تقرير السياسة الشرعية يقتصر على كشف الأحكام السياسية الشرعية وبيانها؛ أما مجال تقرير السياسات الوضعية، فيتعدى مجال الكشف والبيان، ويتجاوزه إلى مجال (التشريع) أي إنشاء الأحكام ابتداء (8) الذي هو كـ"الخلق" من خصائص الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54]، وهذا التعدي من أصول الفكر الوضعي الحديث، وهو يؤكِّد ما سبق من أنَّ "الوضعية" صفة لها مدلول لفظي ومنهج فكري "الأيدلوجية الوضعية"، وليست مجرد مسلك قانوني.
وبما سبق يتضح أنَّ سلطة إعداد الدستور، غير مقيدة في تقريراتها بقيد، فلا نصوص ولا مبادئ تقيد سلطتها؛ ولهذا فإنَّ الباحث في إطار القوانين الوضعية (الخبير القانوني في أحسن أحواله)، يسعى لتحقيق ما يراه من مصالح آنية أو قريبة، وحين لا تعود هذه القوانين – التي وضعها - محققة لتلك المصالح، أو تتغير نظرة المجتمع إليها، تبادر السلطة المخولة بتعديلها أو إلغائها، واستبدالها بقوانين جديدة. وهذا ما يستدعي متابعة القاضي والمحامي والباحث القانوني، كل تغيير يطرأ عليها (9)؛ إذ بمجرد إلغاء ما سبق أو تعديله، تكون البحوث التي أهدر فيها الجهد والوقت والمال شيئا تاريخياً لا قيمة له من الناحية القانونية القائمة.
أمَّا "أولوا الأمر"، فمقيدون في تقريراتهم بالنصوص والكليات الشرعية الثابتة المثمرة المرنة، التي هي: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24-25]؛ فنصوصها وكلياتها ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فهي نور دائم يُسَيِّر المجتهد، ولا يسيره المجتهد، وما ثبت حكمه من المسائل يبقى حكمه كذلك دون تغيير أو تبديل، وهكذا تتابع المسائل والبحوث دون أن تهدر، فهي مسائل قد أشبعت بحثاً، فثبتت أحكامها جهداً فقهياً يعمل به القاضي، ويفتي به المفتي، ويستند إليه الباحث، ويطبقه المكلّف، عند تماثل المسائل صوراً ومناطات.
ومن هنا كان تعبير كل من المجتهد الشرعي، والخبير القانوني، دالاً على هذه الحقيقة، فإنَّ المجتهد الشرعي يعبر بـ(ثبت) وما في معناها، أمَّا الخبير القانوني وشراح القوانين فيعبِّرون بـ(استقر) بعد (كان)؛ وهذا لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب شروح القوانين.
وهنا يسعدني أن أُذكِّر بأنَّ تراثنا الفقهي المتعلق ببيان دلالات نصوص الشريعة من كتاب وسنّة، يبقى تراثا حيّاً فاعلاً، على مرّ العصور، بل إنَّ تلك الشروح تكون أقوى سبكا وأدق فهما كلّما كان صاحبها إماماً من أئمة الشريعة المتقدمين؛ بخلاف شروح الدساتير الوضعية والنصوص القانونية الوضعية، فإنَّها بمجرد أن تلغى تلك القوانين التي تم شرحها أو تغيّر، تتحول تلقائيا إلى ما يعرف بـ(تاريخ القانون)، لتخرج من دائرة القانون ذاته. ولست بحاجة إلى التذكير بقيمة تفسير ابن جرير أو شروح صحيح البخاري أو كتاب المغني - على سبيل المثال - منذ وجدت وإلى اليوم بل والغد!
وهكذا يتجلى المثل القرآني العظيم، الذي يوجه السؤال التقريري لكل ذي عقل مستنير؛ ليوازن بين من يمشي مكباً على وجهه تائها، ومن يمشي سوياً مهتدياً: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك:22].
وبهذا تم الحديث في بيان الفرق بين السياسة الشرعية والسياسات الوضعية، وبه أختم الحديث في سلسلة: مقالات أضواء السياسة الشرعية، التي شجعني على طرحها الإخوة في موقع المسلم جزاهم الله خيرا. ولله الحمد والمنة، والله تعالى أعلم.