صفحة 1 من 1

معوقات الديمقراطية في الوطن العربي

مرسل: الاثنين مايو 30, 2011 1:53 am
بواسطة احمد الصالح (9)
معوقات الديمقراطية في الوطن العربي

بقلم الدكتور برهان الدين غليون

1- سيطرة الحزب الواحد وضعف التعددية السياسية
2- غياب مبدأ التنافس على الحكم وتداوله
3- معوقات قيام ديمقراطية وتعددية سياسية
4- الديمقراطية والمعوقات الاجتماعية
5- الديمقراطية والمعوقات المرتبطة ببنية الدولة
6- هشاشة القوى الديمقراطية



1- سيطرة الحزب الواحد وضعف التعددية السياسية

رغم النقاش الواسع الذي تثيره مسألة تجاوز النظم التسلطية والتحول نحو الديمقراطية في الوطن العربي منذ عدة عقود، لا يوجد هناك اقتناع بأنها تشكل أولوية بالنسبة للمجتمعات العربية إذا ما وضعت بجانب مسائل خطيرة مثل مسألة مواجهة حركة الاستيطان الصهيوني في فلسطين التي لم ينجح العرب في وضع حد لها بعد ثلاث حروب إقليمية مدمرة ومقاومة فلسطينية مستمرة منذ نصف قرن على إعلان دولة إسرائيل، أو إذا ما وضعت بجانب مسألة التنمية ومواجهة تحديات الإفلاس الاقتصادي وما ينجم عنه من مخاطر الإفقار المتزايد والبطالة المستفحلة والانتفاضات الداخلية المحتملة والمتوقعة. ولا يزال هناك قسم كبير من الرأي العام السياسي يعتقد أن نظام التعددية والديمقراطية بما يتضمنه من غياب المراقبة المباشرة على الفضاء العام وإباحة التنافس والصراع بين الأحزاب السياسية وحرية التعبير والتفكير، قد يساهم في توفير تربة صالحة لتزايد النفوذ الأجنبي وتنمية الصراعات الداخلية التي تهدد بتصديع الكيان الوطني وربما العودة نحو قيم الطائفية والعشائرية والمحافظة الدينية. ويلتقي هذا التفكير النابع من الحرص على حد أدنى من الانسجام الداخلي الوطني مع رأي النخب الحاكمة التي تعتقد أن الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية ومنع التدخل الأجنبي.. كل ذلك لن يكون ممكناً من دون تقييد حرية الرأي والتعبير والحد من الحريات السياسية والتنطيمية، بل ومن دون فرض الأحكام العرفية.


لا يزال الجدل قائما حول أولوية الحديث عن التعددية والديمقراطية في العالم العربي، إذ يرى البعض وخاصة الفئات الحاكمة أن الحفاظ على الأمن والاستقرار أولى وأن الحريات تهدد باتساعها تلك الأولويات

والنتيجة هي أنه رغم بعض مظاهر التعددية الشكلية التي تعرفها بعض النظم العربية بقي العالم العربي من أقل المناطق تأثراً برياح التغيير القوية التي هزت المعسكر السوفياتي والاشتراكي سابقاً كما هزت النظم العسكرية والدكتاتورية في معظم جنوب أميركا وأفريقيا وآسيا، كما أن تحرر هذا العالم من نير النظام السياسي التسلطي أو الشمولي لا يزال إشكالياً بالمعنى العميق للكلمة، فلا تزال النخب الحاكمة بعيدة جداً عن أن تقر وتعترف بمبدأ صدور السلطة عن الشعب، وبحق هذا الشعب في المشاركة فيها فردياً وجماعياً، بل في قول رأيه فيها من دون طموح للمشاركة، ولا تزال الوصاية على المجتمعات هي العقيدة الرئيسية التي تحكم ممارسات النخب العربية الحاكمة، مع تعدد الحجج التي تسند إليها هذه النخب وصايتها وطرق التعبير عن هذه الوصاية وأشكال ممارستها.

فالسياسة -سواء أوجدت مظاهر للتعددية أو لم توجد- لا تزال معتبرة مسألة اختصاصية لا يحق لمن كان ولا لأي كان أن يدلي بدلوه فيها، وبالأحرى المطالبة بالتدخل في مسائلها وقضاياها. إنها محصورة بفئة محددة من السكان، يمكن أن تكون عائلة أو عشيرة أو أسرة مالكة أو حزباً واحداً أو تياراً سياسياً معيناً يعتبر أن كل ما عداه من تيارات سياسية -حتى حين يقر بوجودها- غير قادر على خدمة المصالح الوطنية والدفاع عنها.

هناك بالتأكيد بعض الانفتاحات التي لا يمكن إنكارها لكنها لا تغير في نظري من السمة الرئيسية للأنظمة السياسية العربية الراهنة، أو لمعظمها على الأقل، وهي لا تأتي غالباً من منطلق الإيمان بضرورة تحقيق الديمقراطية أو بنجاعة وأهمية المشاركة الشعبية بقدر ما تأتي نتيجة شعور بعض النخب المسؤولة بعمق الأزمة وسعيها عن طريق بعض الانفتاح إلى إصلاح النظام التسلطي والواحدي أو إنقاذه.

ومن هنا لا ينبغي البناء كثيراً على هذه التحولات والانفتاحات والرهان عليها، فهي لا تصبح ذات قيمة مقياسية إلا عندما تمس بالفعل مبدأ المشاركة الفعلية في القرار من قبل رأي عام استقر وتهيكل وما عدا ذلك من مظاهر السماح بأشكال مختلفة ومسيطر عليها من التعددية تحت إشراف أجهزة الأمن التي تمارس وحدها القرار السياسي في نهاية المطاف أو تشكل الأداة الرئيسية لممارسة السلطة ودعم النخبة التي تحتكرها، فلا يمثل إلا تكتيكاً سياسياً استخدم منذ عقود ولا يزال من قبل الأنظمة ذاتها، ولا يشكل قطيعة حقيقية مع احتكار القرار والتحكم، بل والتلاعب به من قبل المجموعة الصغيرة الحاكمة مهما كانت طبيعة العصبية التي تستند إليها.

إن الذي يميز الانفتاحات السياسية التي تنبع من المسارات التي يمكن تسميتها بالفعل مسارات التحول الديمقراطي أو الانتقال نحو الديمقراطية عن تلك التي تهدف إلى تعزيز الدكتاتورية أو التغطية على التسلطية، هو الغاية التي توجهها في المسار العام. فهي لا تأخذ قيمتها كخطوة على طريق التحول الديمقراطي إلا إذا كانت بداية لوضع حد لمبدأ الوصاية السياسية على المجتمع والرأي العام وللاعتراف بالحق الذي لا يصادر للشعب في تقرير سياسته بنفسه عبر ممثلين منتخبين بنزاهة وبطريقة دورية. ويعني الانتقال عندئذ التدرج في تطبيق هذا الحق سواء من حيث ضيق أو اتساع دائرة المشاركين في التقرير السياسي، أو من حيث المراحل الانتقالية للوصول إلى تعميم حق هذه الممارسة السياسية.

وحتى في المغرب الأقصى الذي يبدو وكأنه خرق القاعدة، من الصعب أن نقول إن طريق الانتقال لا رجعة فيه، لأنه لم يقر بشكل واضح بعد مبدأ ومنطق السيادة الشعبية. إن الديمقراطية جاءت عن طريق التفاهم والاتفاق بين الملك الراحل والمعارضة السياسية التي نجحت في إثبات وجودها خلال الفترة الماضية، وكان الدافع الرئيسي لذلك لدى القصر هو قطع الطريق على احتمال تفاهم بين المعارضة الاشتراكية والمعارضة الإسلامية، مما كان يمكن أن يهدد وجود الملكية ذاتها في مرحلة دقيقة لانتقال السلطة. لقد وجد القصر أن إدراج المعارضة الاشتراكية في الحياة السياسية هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الانحدار نحو مواجهة حتمية مليئة بالمخاطر. وليس لدي اعتراض على ما حصل كخطوة أولى وقد شجعت عليه، إنما لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الاعتراف بحق المعارضة في التداول يعني الإقرار بمبدأ صدور السلطة عن الشعب أم أنه استجابة لأزمة متوقعة للنظام.

ثم إننا لا ينبغي أن نسحب تجربة المغرب على التجارب العربية الأخرى، فمن الواضح أن الدول العربية التي تسيطر عليها نخب علمانية قد فضلت مواجهة المعارضة الإسلامية الواسعة وسحقها، ولم تجد حاجة في سبيل تحقيق ذلك للتحالف مع القوى شبه الديمقراطية، بل إنها في مواجهتها القاطعة للمعارضة الإسلامية أجبرت المعارضة العلمانية على الاصطفاف وراءها بتبعبية واستزلام كاملين. وبالمقابل لم يكن بإمكان ملكية مثل الملكية المغربية أن تقوم بمثل هذه المواجهة أو تخاطر بها من دون أن تخسر الأساس العميق الذي تقوم عليه، وهو التوحيد بين الشرعية التاريخية والشرعية الدينية لسلطة الأسرة الشريفية. وهنا لعب الطابع الديني للملكية دوراً غير مباشر في الدفع نحو الديقراطية.

2- غياب مبدأ التنافس على الحكم وتداوله

يشكل هذا الرفض العام والجامع في المنطقة العربية لمبدأ صدور السلطة عن الشعب وحقه الكامل في مراقبتها -حتى عندما تسمح النخب بوجود مؤسسات برلمانية أو انتخابات شكلية- القاعدة التي تقوم عليها الحياة السياسية المزورة للشعوب العربية، وهو الذي يفسر أن هذه الحياة السياسية لا تزال بشكل عام محتجزة وأسيرة تماماً في معظم الدول العربية، ولا يزال من الصعب الحديث عن تنافس حقيقي ونزيه على الحكم أو تداوله في عموم البلاد العربية.

ففي مصر التي عرفت بداية التعددية في فترة ما بعد الاستقلال منذ عام 1970 مع مجيء أنور السادات إلى الحكم، لا تزال السلطة السياسية حكراً على حزب الرئيس منذ ثورة الخمسينيات وهو الحزب الذي ولد من الحزب الحاكم في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ونجح في الاستمرار في الحكم مع تغيير جميع عقائده وسياساته. ورغم مرور ثلاثين عاماً على الانفتاح السياسي في هذه البلاد لم يتطور أي شكل من أشكال المشاركة السياسية للنخب المعارضة أو للمواطنين عموماً في القرارات المصيرية، ولا تزال التعددية تراوح في مكانها مع هامش لا يتغير من حرية التعبير والتنظيم.


يلاحظ أن مساحة الحرية والديمقراطية والتداول السلمي في الدول العربية تنحسر لصالح النظم الأحادية سواء أكانت أشخاصا أم أحزابا

أما في الجزائر التي همت بالانتقال نحو التعددية منذ 1988 إثر الأزمة التي عرفها نظام الحزب الواحد، فقد نجح الفريق العسكري الذي يسيطر عملياً على مقاليد الأمور في منع أي تحول سياسي حقيقي في اتجاه المشاركة السياسية، وكانت الحرب الداخلية ولا تزال وسوف تبقى لفترة طويلة ربما هي التكريس المباشر والدائم لأزمة التحول الديمقراطي.

وفي العراق -أكثر مما حصل في مصر وسوريا- كانت التصفية السياسية المباشرة والمنهجية للتعددية الموروثة عن الحقب السابقة هي السمة البارزة للتطور السياسي، ولم يكن من الممكن الحفاظ على الحكم المطلق والأحادي من دون الدخول في حروب داخلية وخارجية مستمرة كان من نتيجتها التدمير السياسي والمعنوي والاقتصادي للمجتمع والبلاد معاً.

أما في سوريا فقد نجح الحزب الواحد الذي وضع يده على مقاليد الأمور منذ عام 1963 تحت حماية قانون الطوارئ في شق جميع الأحزاب وتمزيقها وتحويل القسم الأكبر منها إلى واجهة لتعددية شكلية لا وظيفة لها سوى تمجيد الحزب الواحد الذي ضمن لها عوضاً عن المشاركة في السلطة مشاركة في المنافع والامتيازات.

وفي ليبيا التي أراد لها معمر القذافي أن تكون جمهورية أكثر من كل ما سبقها من جمهوريات فأطلق عليها اسم الجماهرية الكبرى، تكاد السياسة تقتصر على استعراض ذاتي لمواهب شخص واحد، وهو نفسه غالباً ما يضن على شعبه بتوضيح رأيه السياسي، فلا تفتقر البلاد إلى التعددية فحسب ولكن إلى الحكم السياسي.

وفي السودان الذي عرف حركة شعبية ديمقراطية أطاحت بالنميري منذ منتصف الثمانينيات، آلت الأمور في النهاية إلى حكم عسكري منقسم على نفسه، وبدل أن يقود انهيار نظام الحزب الواحد إلى التعددية، عمق النزوع نحو الاقتتال الداخلي من دون أي أمل في الخروج من دوامة الحرب المستمرة منذ عقود بين الشمال والجنوب.

وفي تونس لم يعمل إبعاد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة على توسيع دائرة المشاركة السياسية كما كان متوقعا، وإنما ساهم في التضييق المتزايد على الحريات الفكرية والتنظيمية حتى لم يبق منها شيء.

وربما كان الاستثناء الوحيد في مسار التطور السلبي هذا في العالم العربي هو المغرب الأقصى الذي شهد أول تجربة حكومة تناوب وطني بفضل الحوار الذي بدأ منذ بدايات التسعينيات بين الملك والمعارضة بقصد تجنيب البلاد -كما سبق وأشرت- مخاطر انتقال السلطة في مناخ من التوتر وانعدام الثقة بين الحكم والمعارضة وفقدان الأمل في المستقبل لدى أغلبية الشعب.

وليس الحال كذلك بالتأكيد في المملكة العربية السعودية التي لا تزال تعتبر الممارسة السياسية ذاتها أمراً غريباً على ثقافة البلاد وتقاليدها وتفضل الاختباء وراء غلالة الحكم باسم الدين وإخفاء العرف العائلي الحاكم وراء التعاليم القرآنية.

ومن الواضح في جميع هذه الأمثلة أن العالم العربي لا يزال يفتقر في جميع دوله إلى نموذج من الحكم السياسي الحي أي القادر على بلورة حد أدنى من الإرادة الجمعية والتعبير عن المصالح المتعددة والمتباينة للمجتمع والعمل على تقنينها وتوفير الإطار المناسب للتوفيق فيما بينها وتجاوز تناقضاتها وحلها بطريقة سلمية.
رد مع اقتباس