By عبدالرحمن ي الدخيل1 - الاثنين مايو 30, 2011 8:25 pm
- الاثنين مايو 30, 2011 8:25 pm
#37758
النظام العالمي الجديد والادعاء العالمي بالحق في القوة
--------------------------------------------------------------------------------
في اليوم السادس عشر من شهر يناير (كانون الثاني) من عام 1991، عند بداية حرب الخليج، أعلن الرئيس الأمريكي عن "نظام عالمي جديد" يتميز بسيادة القانون، قائلاً: "حيث سيادة القانون، لا قانون الغاب، هي التي تحكم سلوك الأمم". وبعد انتهاء الحرب حاول جورج بوش أن يعرِّف صيغ المصطلحات الغامضة التي وردت في بياناته باستخدام أسلوب عاطفي كالذي استخدمه السير ونستون تشرتشل بعد الحر ب العالمية الثانية، وذلك برفع شعارات العدالة والإنصاف والحرية واحترام حقوق الإنسان كقاعدةٍ لنظامٍ عالميٍّ جديدٍ بين الشعوب، وهو نظام كان من شأنه حماية الضعيف من القويِّ. وعلى المنظِّر السياسي أن يستقصي إلى أيِّ مدىً تشكِّلُ هذه البيانات وغيرها من البيانات المماثلة، التي يلقيها الساسة الغربيون منذ انهيار الشيوعية، أكثر من مجرد محاولة لإضفاء الشرعية الأيديولوجية على ممارسة القوة، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية؛ بل وإلى أيِّ مدىً يمكن تبرير غُلُوِّ جورج بوش في الإشادة بفترة حكمه، بكلام كأنه صادر عن إيمان عميق – "كانت فترة زمنية بلغت فيها الإنسانية أشُدَّها"– كيف يمكن تبريره من حيث حدوث تغيُّر تاريخي أساسي، أي التغيُّر النموذجي في صورة العالم السياسية؟
إن لدى كل عهدٍ مَيْلاً إلى تمجيد منجزاته بلهجة المؤمن إيماناً عميقاً. فالمرء، إذْ يُفرِطُ في التعميمات عن روح العصر، يسارع إلى الاستشهاد بـ "الروح التاريخية العالمية"، بينما لا يعدو الأمر أن يكون في الحقيقة مجرد حماية لمصالح القوة المعرَّضة للخطر. لقد بيَّن ذلك هيغِل – كما فعل هايديغَر فيما بعد – في انتهازيته المحرجة بالحديث عن روح العصر التي بُرِّرت بمفهوم فلسفة التاريخ المثالية غير المنطقية، وحققت استمراريتها في الصور المتعددة للأنظمة الاستبدادية في هذا القرن. ثم إن فرانسيس فوكوياما، أحد أبطال الدفاع عن نمط الحياة الأمريكية، الذي بولِغَ في تقديره كفيلسوفٍ في الحضارة، قد وقع في غواية الإشادة قبل الأوان بمنجزات النظام الغربي وتحصينه، وذلك عندما أعلن أن انهيار الشيوعية هو بمثابة نهاية "التاريخ في حدِّ ذاته". ونظراً إلى كون "ديمقراطية الغرب الليبرالية" أثبتت في هذه التطورات أنها النظام الاقتصادي الأكثر نجاحاً، فإن فوكوياما يجادل بأنها قد تشكِّل "نقطة النهاية لتطوُّر البشرية الأيديولوجي". إن النجاح الفعلي لهذا النموذج من التنظيم السياسي، من حيث سياسة القوة، يمكِّن المدافعين عن هذا النظام، مثل فوكوياما، من إهمال التحليل النقدي لمفهوم الديمقراطية إهمالاً يكاد يكون تاماًّ، والقول بوجود "إجماع مرموق على شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظامٍ للحكم"، حتى وإن انتشر في عدد كبير من الدول نظامُ قِيَمٍ يختلف عن ذلك اختلافاً تاماًّ. وإن التصريحات القائلة بأن هذا النظام "خالٍ من أيَّةِ تناقضات داخلية جوهرية" تحول فعلاً دون مواجهةٍ عقلانيةٍ غير متحيزة مع الهياكل الأساسية لهذا النموذج من الديمقراطية. ويزيد في تعزيز هذه التفسيراتِ الاستنتاجُ الخاطئُ لسياسة القوة، القائل بأن فشل النموذج المناوئ قد أثبت بالفعل صحة النظام الغربي – أي كفايتَهُ الديمقراطية.
ولذلك، بعد انتهاء الحرب الباردة حل التنـزيه محل النقد الذاتي. ويتجسد هذا الموقف في الحديث عن نظام عالمي جديد مصوغٍ على غِرار الخطوط الأساسية للديمقراطية "الليبرالية". وكُبِتَتْ أيُّ أسئلةٍ أخرى حولن النوع المحدد من أنواع الديمقراطية ومدى تحقُّق هذا النوع في النموذج الذي يمارسه الغرب، لأن هذا النموذج – الذي يُدَّعى بأنه نموذجٌ يُحتَذى منذ نهاية الحرب الباردة – يمثِّل على أتمِّ وجهٍ الأساس الذي يقوم عليه ادِّعاء العالم الغربي بحق السيطرة على العالم ومكانةُ الولايات المتحدة كزعيمة له. بل إن الإيمان السياسي المصاحب لهذا الافتراض يسمح ببعثِ نظرية "الحرب العادلة" في خدمة الديمقراطية والسلام، التي يُفترَضُ أنها اندثرت. وهكذا نرى أن النـزعة المتطرفة غير الناقدة التي كانت سائدة في العهد الاستعماري، والتي ترى أن أوروبا هي مركز العالم، بُعِثَت من جديد بكل صلفها واستبدادها السياسي عندما نجد ممثِّلاً لما يسمىّ بالعقلانية "الناقدة"، مثلاً، وهو السير كارل بوبر، يتحدث عن "دول العالم المتحضِّر" ويفترض ضمناً أنها يمكن أن تستخدم أسلحة الدمار الشامل بمسؤولية وأن لها الحق في تأديب دول العالم الثالث "غير الناضجة".وهذه العنصرية الممجَّدة، التي تسمح لمفكرين من أمثال بوبر بأن يشبِّهوا العالم الثالث بـ "روضة أطفال" تتفق مــع كثير من المقالات الافتتاحية الصحفية التي كثيراً ما تبرر تدخُّلات الغرب العسكرية الوحشية.
ويتبيَّن من الفحص الدقيق للمُثُل، التي يتذرعون بها مراراً وتكراراً في الإعلانات السياسية، أن هذه المثل جزء لا يتجزَّأ من استراتيجية لإضفاء الشرعية على تصرفات هذه البلدان تروِّج سياسة المعايير المزدوجة لتحقيق مصالحها هي نفسها القائمة على القوة، أي أنها تهدف إلى جعل هذه السياسة مقبولة لدى العالم أجمع. وفي هذه الظروف، وتماماً بمعنى القانون الدولي التقليدي، الذي كان يُعتقَدُ أن الناس قد تغلَّبوا عليه، يمكن تبرير ممارسة القوة - بل استخدام العنف– أخلاقياًّ. فإذا كانت هذه الأعمال تخدم "هدفاً أسمى" – كـ"ضمان السلم" والديمقراطية، مثلاً، أياًّ كان المعنى المفترض لهذه العبارة– فهي عندئذٍ أعمال مشروعة. بل يبدو من الممكن، في إطار النظام العالمي الجديد، التحايل على حظر استخدام القوة، المكرَّس في ميثاق الأمم المتحدة، إذا نجحت الدولة المعنية في إضفاء الشرعية على مصالحها تحت رعاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ونتيجةً لذلك، يُعلَنُ بسخريةٍ أن الحروب العدوانية (التي تكون في شكل حروب ائتلافية) تدابير اتُّخِذت دفاعاً عن القانون الدولي.
إن مهمة الفيلسوف هي أن يطعن بعينٍ ناقدة في الادعاءات بالشرعية، لا أن يكتفي بمجرد الأخذ بالتوضيحات الرسمية دون أن يختبرها. ولذلك، سيكون من الضروري إلقاء نظرة فاحصة بصورة أوثق على المصطلحات المستخدمة في الخطاب عن النظام العالمي الجديد، وتعريف المفهوم الرئيسي للديمقراطية تعريفاً أدقَّ مما يحدث عادة في الأحاديث السياسية. ومما يعزز ارتياب الفلسفة السياسية من وجود ادعاءات أيديولوجية في الخطاب السياسي بوجه عام، ومن إعلان نظام عالمي جديد بوجه خاص، وهو ارتياب سليم، بيان جورج بوش الذي ذكرناه في بداية هذا البحث وأكَّده بِزُهُوٍّ في خطابه عن حالة الاتحاد الذي ألقاه في 29 يناير (كانون الثاني) 1992 وأعلن فيه انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وصاغ فيه نوعاً من أيديولوجية الدولة العظمى للنظام العالمي الجديد– وكان قد امتدح حماية القويِّ للضعيف قبل ذلك بسنة. وفي هذا السياق ترك تحديد المعايير الأخلاقية لممارسة القوة لحسن تقديره هو، إذ قال: "إن استخدام القوة بحكمة يمكن أن يعود بالخير العميم." ومن الجدير بالملاحظة مدى السرعة التي حلت بها المصطلحات الكلاسيكية لسياسة القوة محل صيغ المثاليات التي تميزت بها "المرحلة الانتقالية" في الفترة 1989-1991، حالما أصبح مركز الولايات المتحدة واضحاً ووطيداً. وكانت أدوات الهيمنة التقليدية قد استُخدِمت بالفعل في بداية أزمة الخليج عام 1990، وإن كانت مزخرفة بعبارات مثالية. ومنذ ذلك الحين أخذ الرئيس يبرر علناً استخدام الأمم المتحدة كأداةٍ سياسية-عسكرية لخدمة مصالح سياسة الولايات المتحدة تعبيراً عن سياسة القوة، إذ قال: "لأن العالم يثق بنا وعَهِدَ إلينا بالقوة …" ولذلك، نجد مبرراًّ لإثارة منظِّري العلاقات الدولية مسألة إلى أي مدى يبعد الكلام عن النظام العالمي الجديد – وما يلازمه من الإعلانات المتعلقة بالديمقراطية وسيادة القانون، ومـا إلى ذلك –، عن كونه مجرد تورية في وصف السلام الأمريكي بعد انتهاء الحرب الباردة.
السؤال الرئيسي الذي لا تستطيع إخفاءه كل التصريحات والإعلانات المتعلقة بنظام عادل هو: إلى أي مدى يمكن تحقيق نظام جديد أساساً بهياكل النظام القديم. بعبارة أخرى، إذا تمسك المرء بنموذج سياسة القوة هل يكون صادقاً في ادعائه ببناء نظام جديد يتميَّز أيضاً بتطبيق الديمقراطية في العلاقات بين الدول؟ ألا يستتبع إحلال نظام أحادي القطب محل نظام ثنائي القطب بعث سياسة القوة التقليدية لأن من الطبيعي أنه لا يمكن تحقيق الضوابط والتوازنات – التي هي شروط لازبة للديمقراطية وسيادة القانون – إلا في إطار نظام متعدد الأقطاب؟ ألم يكن بعثُ مجلس الأمن من سباته كفاعلٍ على المسرح الدولي بعد عقود من الشلل في نظام ثنائي القطب قائماً على الريبة المتبادلة والعوائق المتناوبة بناء على امتياز حق النقض – قد تم على حساب تجانس في مجموعة الدول العالمية أكثر حتى مما عهدناه في عقود الحرب الباردة؟ أليس "تفعيل" الأمم المتحدة أكثر من مجرد نتيجة لشلل جميع القوى المنافسة في مجال سياسة القوة؟ وكيف يتسنى للمرء أن يتحدث عن نظام جديد إذا كان صُلْبُ النظام القديم يعبر عن نفسه الآن بصورة أوضح وأكثر بروزاً من ذي قبل؟ وكيف يمكن نشر الديمقراطية بوسائل سياسة القوة؟ وكيف يمكن للفلسفة السياسية أن تبرر إلغاء المبادئ المعيارية - كاتخاذ القرارات بطريقة ديمقراطية، مثلا ً- بالضبط، في الظروف التي يمكن فيها لهذه المبادئ أن تؤثر تأثيراً مباشراً في حياة البشرية، وخاصةً في ميدان الأمم المتحدة على وجه التحديد؟ ولماذا لم يوسَّع مرمى الأصوات المطالبة بإشاعة الديمقراطية في العلاقات الدولية ليشمل منظمة الأمم المتحدة؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن تُطرح بعد انتهاء الصراع بين الشرق والغرب إذا أراد المرء أن يحترم الادعاء الأيديولوجي الذي يتجلىّ في كل التصريحات المتعلقة بالنظام العالمي الجديد. وهناك ضرورة مطلقة لإجراء تقييمٍ ناقدٍ لسياسة الواقع لمعالجة هذه المسائل، تقييمٍ يجب أن يقوم على نقدٍ فلسفي للمفاهيم السائدة عن الديمقراطية إذا أراد المرء أن يتجنب مزالق الوقوع في مجرد وصفٍ للأعراض.
--------------------------------------------------------------------------------
في اليوم السادس عشر من شهر يناير (كانون الثاني) من عام 1991، عند بداية حرب الخليج، أعلن الرئيس الأمريكي عن "نظام عالمي جديد" يتميز بسيادة القانون، قائلاً: "حيث سيادة القانون، لا قانون الغاب، هي التي تحكم سلوك الأمم". وبعد انتهاء الحرب حاول جورج بوش أن يعرِّف صيغ المصطلحات الغامضة التي وردت في بياناته باستخدام أسلوب عاطفي كالذي استخدمه السير ونستون تشرتشل بعد الحر ب العالمية الثانية، وذلك برفع شعارات العدالة والإنصاف والحرية واحترام حقوق الإنسان كقاعدةٍ لنظامٍ عالميٍّ جديدٍ بين الشعوب، وهو نظام كان من شأنه حماية الضعيف من القويِّ. وعلى المنظِّر السياسي أن يستقصي إلى أيِّ مدىً تشكِّلُ هذه البيانات وغيرها من البيانات المماثلة، التي يلقيها الساسة الغربيون منذ انهيار الشيوعية، أكثر من مجرد محاولة لإضفاء الشرعية الأيديولوجية على ممارسة القوة، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية؛ بل وإلى أيِّ مدىً يمكن تبرير غُلُوِّ جورج بوش في الإشادة بفترة حكمه، بكلام كأنه صادر عن إيمان عميق – "كانت فترة زمنية بلغت فيها الإنسانية أشُدَّها"– كيف يمكن تبريره من حيث حدوث تغيُّر تاريخي أساسي، أي التغيُّر النموذجي في صورة العالم السياسية؟
إن لدى كل عهدٍ مَيْلاً إلى تمجيد منجزاته بلهجة المؤمن إيماناً عميقاً. فالمرء، إذْ يُفرِطُ في التعميمات عن روح العصر، يسارع إلى الاستشهاد بـ "الروح التاريخية العالمية"، بينما لا يعدو الأمر أن يكون في الحقيقة مجرد حماية لمصالح القوة المعرَّضة للخطر. لقد بيَّن ذلك هيغِل – كما فعل هايديغَر فيما بعد – في انتهازيته المحرجة بالحديث عن روح العصر التي بُرِّرت بمفهوم فلسفة التاريخ المثالية غير المنطقية، وحققت استمراريتها في الصور المتعددة للأنظمة الاستبدادية في هذا القرن. ثم إن فرانسيس فوكوياما، أحد أبطال الدفاع عن نمط الحياة الأمريكية، الذي بولِغَ في تقديره كفيلسوفٍ في الحضارة، قد وقع في غواية الإشادة قبل الأوان بمنجزات النظام الغربي وتحصينه، وذلك عندما أعلن أن انهيار الشيوعية هو بمثابة نهاية "التاريخ في حدِّ ذاته". ونظراً إلى كون "ديمقراطية الغرب الليبرالية" أثبتت في هذه التطورات أنها النظام الاقتصادي الأكثر نجاحاً، فإن فوكوياما يجادل بأنها قد تشكِّل "نقطة النهاية لتطوُّر البشرية الأيديولوجي". إن النجاح الفعلي لهذا النموذج من التنظيم السياسي، من حيث سياسة القوة، يمكِّن المدافعين عن هذا النظام، مثل فوكوياما، من إهمال التحليل النقدي لمفهوم الديمقراطية إهمالاً يكاد يكون تاماًّ، والقول بوجود "إجماع مرموق على شرعية الديمقراطية الليبرالية كنظامٍ للحكم"، حتى وإن انتشر في عدد كبير من الدول نظامُ قِيَمٍ يختلف عن ذلك اختلافاً تاماًّ. وإن التصريحات القائلة بأن هذا النظام "خالٍ من أيَّةِ تناقضات داخلية جوهرية" تحول فعلاً دون مواجهةٍ عقلانيةٍ غير متحيزة مع الهياكل الأساسية لهذا النموذج من الديمقراطية. ويزيد في تعزيز هذه التفسيراتِ الاستنتاجُ الخاطئُ لسياسة القوة، القائل بأن فشل النموذج المناوئ قد أثبت بالفعل صحة النظام الغربي – أي كفايتَهُ الديمقراطية.
ولذلك، بعد انتهاء الحرب الباردة حل التنـزيه محل النقد الذاتي. ويتجسد هذا الموقف في الحديث عن نظام عالمي جديد مصوغٍ على غِرار الخطوط الأساسية للديمقراطية "الليبرالية". وكُبِتَتْ أيُّ أسئلةٍ أخرى حولن النوع المحدد من أنواع الديمقراطية ومدى تحقُّق هذا النوع في النموذج الذي يمارسه الغرب، لأن هذا النموذج – الذي يُدَّعى بأنه نموذجٌ يُحتَذى منذ نهاية الحرب الباردة – يمثِّل على أتمِّ وجهٍ الأساس الذي يقوم عليه ادِّعاء العالم الغربي بحق السيطرة على العالم ومكانةُ الولايات المتحدة كزعيمة له. بل إن الإيمان السياسي المصاحب لهذا الافتراض يسمح ببعثِ نظرية "الحرب العادلة" في خدمة الديمقراطية والسلام، التي يُفترَضُ أنها اندثرت. وهكذا نرى أن النـزعة المتطرفة غير الناقدة التي كانت سائدة في العهد الاستعماري، والتي ترى أن أوروبا هي مركز العالم، بُعِثَت من جديد بكل صلفها واستبدادها السياسي عندما نجد ممثِّلاً لما يسمىّ بالعقلانية "الناقدة"، مثلاً، وهو السير كارل بوبر، يتحدث عن "دول العالم المتحضِّر" ويفترض ضمناً أنها يمكن أن تستخدم أسلحة الدمار الشامل بمسؤولية وأن لها الحق في تأديب دول العالم الثالث "غير الناضجة".وهذه العنصرية الممجَّدة، التي تسمح لمفكرين من أمثال بوبر بأن يشبِّهوا العالم الثالث بـ "روضة أطفال" تتفق مــع كثير من المقالات الافتتاحية الصحفية التي كثيراً ما تبرر تدخُّلات الغرب العسكرية الوحشية.
ويتبيَّن من الفحص الدقيق للمُثُل، التي يتذرعون بها مراراً وتكراراً في الإعلانات السياسية، أن هذه المثل جزء لا يتجزَّأ من استراتيجية لإضفاء الشرعية على تصرفات هذه البلدان تروِّج سياسة المعايير المزدوجة لتحقيق مصالحها هي نفسها القائمة على القوة، أي أنها تهدف إلى جعل هذه السياسة مقبولة لدى العالم أجمع. وفي هذه الظروف، وتماماً بمعنى القانون الدولي التقليدي، الذي كان يُعتقَدُ أن الناس قد تغلَّبوا عليه، يمكن تبرير ممارسة القوة - بل استخدام العنف– أخلاقياًّ. فإذا كانت هذه الأعمال تخدم "هدفاً أسمى" – كـ"ضمان السلم" والديمقراطية، مثلاً، أياًّ كان المعنى المفترض لهذه العبارة– فهي عندئذٍ أعمال مشروعة. بل يبدو من الممكن، في إطار النظام العالمي الجديد، التحايل على حظر استخدام القوة، المكرَّس في ميثاق الأمم المتحدة، إذا نجحت الدولة المعنية في إضفاء الشرعية على مصالحها تحت رعاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ونتيجةً لذلك، يُعلَنُ بسخريةٍ أن الحروب العدوانية (التي تكون في شكل حروب ائتلافية) تدابير اتُّخِذت دفاعاً عن القانون الدولي.
إن مهمة الفيلسوف هي أن يطعن بعينٍ ناقدة في الادعاءات بالشرعية، لا أن يكتفي بمجرد الأخذ بالتوضيحات الرسمية دون أن يختبرها. ولذلك، سيكون من الضروري إلقاء نظرة فاحصة بصورة أوثق على المصطلحات المستخدمة في الخطاب عن النظام العالمي الجديد، وتعريف المفهوم الرئيسي للديمقراطية تعريفاً أدقَّ مما يحدث عادة في الأحاديث السياسية. ومما يعزز ارتياب الفلسفة السياسية من وجود ادعاءات أيديولوجية في الخطاب السياسي بوجه عام، ومن إعلان نظام عالمي جديد بوجه خاص، وهو ارتياب سليم، بيان جورج بوش الذي ذكرناه في بداية هذا البحث وأكَّده بِزُهُوٍّ في خطابه عن حالة الاتحاد الذي ألقاه في 29 يناير (كانون الثاني) 1992 وأعلن فيه انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وصاغ فيه نوعاً من أيديولوجية الدولة العظمى للنظام العالمي الجديد– وكان قد امتدح حماية القويِّ للضعيف قبل ذلك بسنة. وفي هذا السياق ترك تحديد المعايير الأخلاقية لممارسة القوة لحسن تقديره هو، إذ قال: "إن استخدام القوة بحكمة يمكن أن يعود بالخير العميم." ومن الجدير بالملاحظة مدى السرعة التي حلت بها المصطلحات الكلاسيكية لسياسة القوة محل صيغ المثاليات التي تميزت بها "المرحلة الانتقالية" في الفترة 1989-1991، حالما أصبح مركز الولايات المتحدة واضحاً ووطيداً. وكانت أدوات الهيمنة التقليدية قد استُخدِمت بالفعل في بداية أزمة الخليج عام 1990، وإن كانت مزخرفة بعبارات مثالية. ومنذ ذلك الحين أخذ الرئيس يبرر علناً استخدام الأمم المتحدة كأداةٍ سياسية-عسكرية لخدمة مصالح سياسة الولايات المتحدة تعبيراً عن سياسة القوة، إذ قال: "لأن العالم يثق بنا وعَهِدَ إلينا بالقوة …" ولذلك، نجد مبرراًّ لإثارة منظِّري العلاقات الدولية مسألة إلى أي مدى يبعد الكلام عن النظام العالمي الجديد – وما يلازمه من الإعلانات المتعلقة بالديمقراطية وسيادة القانون، ومـا إلى ذلك –، عن كونه مجرد تورية في وصف السلام الأمريكي بعد انتهاء الحرب الباردة.
السؤال الرئيسي الذي لا تستطيع إخفاءه كل التصريحات والإعلانات المتعلقة بنظام عادل هو: إلى أي مدى يمكن تحقيق نظام جديد أساساً بهياكل النظام القديم. بعبارة أخرى، إذا تمسك المرء بنموذج سياسة القوة هل يكون صادقاً في ادعائه ببناء نظام جديد يتميَّز أيضاً بتطبيق الديمقراطية في العلاقات بين الدول؟ ألا يستتبع إحلال نظام أحادي القطب محل نظام ثنائي القطب بعث سياسة القوة التقليدية لأن من الطبيعي أنه لا يمكن تحقيق الضوابط والتوازنات – التي هي شروط لازبة للديمقراطية وسيادة القانون – إلا في إطار نظام متعدد الأقطاب؟ ألم يكن بعثُ مجلس الأمن من سباته كفاعلٍ على المسرح الدولي بعد عقود من الشلل في نظام ثنائي القطب قائماً على الريبة المتبادلة والعوائق المتناوبة بناء على امتياز حق النقض – قد تم على حساب تجانس في مجموعة الدول العالمية أكثر حتى مما عهدناه في عقود الحرب الباردة؟ أليس "تفعيل" الأمم المتحدة أكثر من مجرد نتيجة لشلل جميع القوى المنافسة في مجال سياسة القوة؟ وكيف يتسنى للمرء أن يتحدث عن نظام جديد إذا كان صُلْبُ النظام القديم يعبر عن نفسه الآن بصورة أوضح وأكثر بروزاً من ذي قبل؟ وكيف يمكن نشر الديمقراطية بوسائل سياسة القوة؟ وكيف يمكن للفلسفة السياسية أن تبرر إلغاء المبادئ المعيارية - كاتخاذ القرارات بطريقة ديمقراطية، مثلا ً- بالضبط، في الظروف التي يمكن فيها لهذه المبادئ أن تؤثر تأثيراً مباشراً في حياة البشرية، وخاصةً في ميدان الأمم المتحدة على وجه التحديد؟ ولماذا لم يوسَّع مرمى الأصوات المطالبة بإشاعة الديمقراطية في العلاقات الدولية ليشمل منظمة الأمم المتحدة؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن تُطرح بعد انتهاء الصراع بين الشرق والغرب إذا أراد المرء أن يحترم الادعاء الأيديولوجي الذي يتجلىّ في كل التصريحات المتعلقة بالنظام العالمي الجديد. وهناك ضرورة مطلقة لإجراء تقييمٍ ناقدٍ لسياسة الواقع لمعالجة هذه المسائل، تقييمٍ يجب أن يقوم على نقدٍ فلسفي للمفاهيم السائدة عن الديمقراطية إذا أراد المرء أن يتجنب مزالق الوقوع في مجرد وصفٍ للأعراض.