منتديات الحوار الجامعية السياسية

تعريف بدول العالم المعاصر
#37939

خدمة كامبردج بوك ريفيوز

أهمية هذا الكتاب لا تأتي من موضوعه فحسب بل وأيضاً من لغته الألمانية, ومكان صدوره بألمانيا. فالموضوع هو مراجعة للمقولات التاريخية الإسرائيلية التقليدية عن نشوء إسرائيل وشرعية ما قامت به تجاه الفلسطينيين. وكما هو معروف فإن "الموضوع الإسرائيلي" يمتاز بحساسية بالغة في ألمانيا بسبب الماضي النازي مع اليهود, ولهذا فإن الأكاديميات الألمانية خلال نصف القرن الماضي كانت تتصف بسيطرة نوع من "الرهاب الفكري" عندما تريد أن تعالج جوانب الصراع العربي الإسرائيلي.


واجه كثير من الأكاديميين الألمان نوعاً من التمزق الضميري عند معالجتهم للقضية الفلسطينية فهناك "عقدة الذنب" التاريخية التي تسيطر على المخيلة الألمانية عامة تجاه اليهود, وهناك في المقابل عدالة القضية الفلسطينية التي يصل إليها ببساطة أي بحث أكاديمي منصف

وقد واجه كثير من الأكاديميين الألمان نوعاً من التمزق الضميري عند معالجتهم ذلك الصراع، فمن ناحية هناك "عقدة الذنب" التاريخية التي تسيطر على المخيلة الألمانية عامة تجاه اليهود, وهناك في المقابل عدالة القضية الفلسطينية التي يصل إليها ببساطة أي بحث أكاديمي منصف. ومن هنا فإن صدور كتاب باربرا شيفر الباحثة والمؤرخة الألمانية عن أهم ظاهرة جديدة في مناهج التأريخ الإسرائيلي خلال السنوات الحالية وباللغة الألمانية يعتبر من زاوية ما اختراقا للمسكوت عنه نظراً لما يحويه الكتاب من مساءلات تمس عمق وجود إسرائيل والشرعية الأخلاقية لما قامت وتقوم به.

التاريخ الإسرائيلي يخرج للرأي العام
ترى شيفر أن علم التاريخ في إسرائيل يواجه منذ أكثر من عقد ظاهرة مهمة سرعان ما خرجت عن الإطار الأكاديمي ووصلت إلى معظم شرائح الرأي العام الإسرائيلي عن طريق الإعلام, وهي مدرسة "المؤرخين الجدد" أو ما يسميه البعض مدرسة التحريفيين أو مدرسة ما بعد الصهيونية، وهؤلاء المؤرخون الإسرائيليون هم جيل من المحرضين, في غالبيتهم شباب, يريدون أن يهزوا قواعد الوعي التاريخي لخلفية الدولة العبرية وبداياتها ويهدفون بذلك إلى تغيير الذهنية والتصورات الإسرائيلية المعاصرة عن ولادة دولة إسرائيل وما رافق هذه الولادة من جرائم بحق الفلسطينيين.
ويدور الجدل الذي يثيره المؤرخون الإسرائيليون الجدد بالدرجة الأولى باللغة العبرية والمنبر الذي يستعملونه هو الجامعات والإعلام الإسرائيلي. كما أن المناقشات التي يثيرها هؤلاء تلفت انتباه شرائح ونخب سياسية وثقافية من خارج إسرائيل، لا سيما من الرأي العام الأنغلو أميركي، وفي الفترة الأخيرة في بقية دول أوروبا أيضا. ورغم أن أكثر الدراسات الأولية والمحفزة لبروز هذا التيار جاءت من الخارج وذلك من مؤرخين إسرائيليين قاموا بأبحاثهم (في معظمها رسائل دكتوراه) تحت الإشراف الأكاديمي لجامعات إنجليزية وأميركية، فإن الساحة الإسرائيلية الداخلية تحولت إلى حلبة الصراع الحقيقية في وقت قصير وأصبحت اللغة العبرية هي الوسيط الذي تتم به المساجلات، أي لغة الذين يهمهم الأمر. وسرعان ما انتقل الخلاف من العالم الأكاديمي إلى الصحف وأمكنة أخرى من المناقشات العلنية، وبذلك كان من الصعب على المراقب خارج إسرائيل أن يأخذ فكرة عن أهمية المناقشة وأبعادها.

قضايا بالغة الأهمية
القضايا التي يثيروها المؤرخون الجدد بالغة الأهمية, وهي وإن كانت لم تصل إلى التساؤل بشأن شرعية وجود إسرائيل فإنها تكاد تحوم حولها.. ومن هذه القضايا مسؤولية الحركة الصهيونية عن تهجير الفلسطينيين والعودة إلى فكر جابوتنسكي وبن غوريون لإثبات أن فكرة التهجير كانت موجودة في صلب المشروع الصهيوني منذ ثلاثينيات القرن العشرين, وأن الهجرة الفلسطينية بالتالي لم تكن طوعية أو انصياعا لنداءات من الحكام العرب إبان حرب 1948 للفلسطينيين بأن يغادروا أماكن القتال كما دأبت الدعاية الصهيونية على القول.

وقبل قيام الدولة أيضاً، ينقض المؤرخون الجدد الصورة الطوباوية التي رسمتها الأدبيات الكلاسيكية الإسرائيلية عن التجمعات الاستيطانية الأولية "اليشوف" لناحية العلاقات التعاونية والإنتاجية فيما بينها, وكذا نظرتها "الطيبة" إلى الجيران العرب. فما نقرأه في التاريخ الجديد, ما يكتبه توم سيغيف مثلاً, أن تلك التجمعات كانت عدائية ومتنافرة وتغص بالأحقاد والمشكلات الداخلية وأن نظرتها إلى العرب كانت احتقارية واستعدائية.. وفي مراحل لاحقة فإن التأريخ الإسرائيلي الجديد قلب كثيراً من المسلمات تجاه حقيقة السياسة الإسرائيلية الخارجية منذ الخمسينيات وحتى أوسلو والقائمة على أن إسرائيل كانت دوماً تريد السلام لكن العرب كانوا يريدون الحرب, وأثبتت دراسات آفي شلايم وبني موريس عكس ذلك تماماً.

وتقول شيفر التي تعمل في معهد الدارسات اليهودية بجامعة برلين الحرة إنها اكتشفت قبل سنتين أنه كان من الصعب جدا الحصول على نظرة شاملة عن هذه الظاهرة وفهمها بشكل تحليلي بسبب تنوع التصريحات وكميتها الكبيرة, وكان ذلك أثناء إقامة دورة دراسية للطلاب عن الموضوعات التي يثيرها هؤلاء المؤرخون. ولكن بسبب اهتمام أوساط واسعة في إسرائيل بالموضوع بدأت الجامعات بعقد مؤتمرات وبإصدار كتب تضم المفكرين الرئيسيين من شتى مجالات المشهد الثقافي في إسرائيل. ويعتمد هذا الكتاب في الواقع على كتاب آخر صدر باللغة العبرية آخر عام 1997 عن مركز زلمان شازار في القدس بعنوان "بين الرؤية والتحريف".

الأسئلة الأساسية في كتابة التاريخ الإسرائيلي
وتهدف شيفر إلى تعريف الرأي العام الألماني بأصوات بعض الباحثين وممثلي الرأي في إسرائيل الذين اشتركوا بشكل أو بآخر بالمناقشة الجارية والذين تراهم شيفر مناسبين لإظهار الخطوط الرئيسية للمناقشة لجمهور خارج إسرائيل. وتركز محاور الكتاب على الأسئلة الأساسية في كتابة التاريخ. فالموضوع الأول كتبه يواف جلبر أستاذ تاريخ إسرائيل في جامعة حيفا، يعطي نظرة شاملة لتاريخ بحث الصهيونية ويستعرض تطور الأبحاث التي قامت بها الأجيال الثلاثة الأخيرة ويعرف بأهم التيارات الموجودة والشخصيات الرئيسية التي تمثلها والذين يشكلون الهدف الفعلي الذي يتوجه إليه المؤرخون الجدد. وينتقد جلبر المؤرخين الجدد بشدة في نهاية بحثه ويصف هذه الظاهرة بأنها رجوع إلى أسلوب أيدولوجي لكتابة التاريخ تم التغلب عليها منذ مدة طويلة وبأنها شكل من أشكال التصحيح السياسي الأميركي. وتعلق شيفر على حكم جلبر وتقول إن موقفه يعكس صوتا من المؤسسة الرسمية وهو ليس صوت شخص يقف على مسافة ما من البحث وهذا ما يظهر إشكالية المناقشة الجارية.

موريس: إسرائيل تواجه ماضيها
تضمن شيفر أيضاً بحثاً لبني موريس يحمل العنوان "ملاحظات حول الكتابة الصهيونية للتاريخ وفكرة الترانسفير".. ويعد موريس أشهر "المؤرخين الجدد" ويعتبر نفسه مؤسس هذه الحركة.. وفي مقاله المنهجي الذي صدر لأول مرة بالإنجليزية الأميركية عام 1988 بعنوان "حركة تأريخ جديدة: إسرائيل تواجه ماضيها" والذي نقحه على نحو مستمر حتى اليوم، صاغ لأول مرة أهداف التيار الجديد بين علماء التاريخ الإسرائيليين وهو التشكيك بالصورة المسيسة للتاريخ اعتبارا من تأسيس الدولة, مطلقاً بذلك السجال الدائر بشدة حتى اليوم.. ومنذ أطروحة الدكتواره التي تقدم بها عام 1987 بعنوان "ميلاد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من عام 1947 إلى عام 1949" يدعو موريس إلى أن تكون "مسألة العرب" في مركز اهتمام علماء التاريخ الإسرائيليين. وقد انضم إلى هذا المطلب عدد من باحثي التاريخ أمثال آفي شلايم وايلان بابي وآمون راز كاركوتزكين وآخرون.

بابي: المشروع الصهيوني استعمار مختلط

الأمر الذي يسبب إشكالية كبيرة هي كتابة تاريخ حرب 1948 ومعالجته في المنهج الدراسي الإسرائيلي، حيث يتم تجاهل التراجيديا الفلسطينية بشكل كامل بالإضافة طبعا إلى التهجير والمجازر
” المؤرخ الإسرائيلي راز كراكوتسكينز


وتضم شيفر أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا إيلان بابي إلى جملة الباحثين في الكتاب وتصفه بأنه المؤرخ الشاب الأعلى صوتا في التيار الجديد الذي أصبح بفعل التطرف الفكري لفرضيته وصياغته التحريضية لها الشخصية الأكثر إثارة للجدل بالنسبة إلى المؤرخين الذين يمثلون التيار الرئيسي في المؤسسات العلمية. وأحد مهاجميه في الكتاب هو يواف جلبر. وتقول فرضية بابي أن المشروع الصهيوني هو شكل خاص من أشكال الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر. وهو لا يطمح إلى برهنة المساواة بين الصهيونية والاستعمار، وهو ما ينادي به العديد من علماء التاريخ الشباب، بل إلى ضم البعد الاستعماري إلى التحليل التاريخي.. وهو يصل بذلك إلى صفة "الاستعمار المختلط".

ويضاف إلى هذه القائمة أوري رام عالم الاجتماع الذي يساند المؤرخين وطروحاتهم. وأوري رام أستاذ علم السلوك في جامعة بن غوريون في النقب، هو تلميذ باروخ كيمرلينك المؤرخ الذي شكك في ما يسمى بالقصة الصهيونية لتأسيس الدولة وطلب أن تتم صياغة أسئلة جديدة تخص هذه الحقبة. ويكمل رام مشوار أستاذه الفكري ويرى في هذه المناقشة المفتاح لفهم دولة إسرائيل. لكنه لا يعطي لعلماء التاريخ الأولوية في البحث بل يرى أن الموضوع يجب أن يتجاوز فرعا معينا. ويطبق أمنون راز كراكوتسكينز الفكرة التي طرحها أوري رام، فيسعى إلى إثارة مناقشة وسط المختصين في العصور الوسطى عن تفسير جديد لعلاقة الجلاد والضحية بين اليهود والمسيحيين في العصورالوسطى ويريد أن يستفيد من هذه المناقشة لفهم المواجهة الصهيونية الفلسطينية في القرن العشرين.

وأهمية معالجات كراكوتسكينز تتمثل في الابتعاد عن الصورة التقليدية لصورة الضحية لليهود واستبدال صفة جلاد به إلى حد, وهو الأمر الذي يعتبر "تجرؤاً" كبيراً بالنسبة إلى شرائح واسعة من القراء الإسرائيليين يصعب قبوله. ويقول راز كراكوتسكينز (ص 188-189) "الأمر الذي يسبب إشكالية كبيرة هي كتابة تاريخ حرب 1948 ومعالجته في المنهج الدراسي الإسرائيلي، حيث يتم تجاهل التراجيديا الفلسطينية بشكل كامل بالإضافة طبعا إلى التهجير والمجازر، والحقيقة أن الجزء الأكبر من أراضي العرب وبيوتهم ومناطق وجودهم انتقلت إلى أيد يهودية.. ولا يفهم كل ذلك كجزء من النقاش التاريخي، بل كجزء من عملية تأسيس دولة إسرائيل. ويبقى البلد وسكانه بلا تاريخ.