منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#38333
إن أول ما ينبغي أن يبدأ به أي حديث عن شئوننا العامة، الحاضرة والمستقبلة، هو أننا نحيا في مرحلة من مراحل غزو واحتلال استعماري بمثل ما عرفناه في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فلسطين محتلة والعراق احتل والسودان يراد له أن يتفكك، والخليج كله محتل بالقواعد العسكرية الأمريكية، والإرادة الوطنية لغير هذه البلاد إما مسيطر عليها أو مضغوط عليها بما يشل فاعليتها أو مهددة بذلك ومضيق عليها ومحاصرة، بالتهديد العسكري المباشر أو بالضغوط الاقتصادية الفعالة، أو بتغلغل الصالح الأجنبي في الإرادة السياسية المحلية ذاتها. والأخطار هنا تتعلق بالأمن العربي القومي بعامة وبالأمن المحلي القُطْري لكل من بلادنا، وبأمن الجماعة والشعب في حياته ومصادر عيشه، وهي أخطار ليست مظنونة، ولكنها مؤكدة، وليست وشيكة ولكنها حالة ومتحققة.

وثاني ما ينبغي أن نبدأ به أي حديث أيضًا، أن من خصائص هذه الحالة الحاضرة، ما نلحظه من عجز الحكومات والنظم السياسية عن مواجهة هذه المخاطر، وهو عجز يتراوح بين العجز الكلي بالنسبة لبعضها وبين العجز الجزئي، كما أنه يتراوح بين عدم القدرة المادية على المواجهة وبين وهن الإرادة السياسية أو انسياقها في سياق التبعية. وعلى كل حال، وأيًّا كانت أسباب العجز والوهن، وأيًّا كانت درجات المراوحة، فلم تَعُد النظم السياسية قادرة على مواجهة الأخطار الحالة والمحدقة بالأمة كلها، وإن تجارب التاريخ تعلن أنه عندما لا تستطيع النظم الحاكمة أن تقوم بواجبها الرئيس في حراسة أمن الجماعة، فيلزم أن تتولى الحركات الشعبية هذا الواجب، وهو يتعلق بحفظ أمنها هي ووجودها، ويلزم أن تتعدل صياغة النظم بما يمكن من الإفساح لهذه الحركات وبمنح النظم مددًا يأتيها من جماعاتها السياسية.

المطلوب إذن هو دمج الهدف الوطني بالهدف الديمقراطي، وإن تاريخنا الحديث كله يكشف عن أن هذين الهدفين كانا دائمًا مندمجين؛ لأن تحقق الإرادة الشعبية هو ما يكفل تحقق السيادة الوطنية، وهما سبيكة واحدة، وأن نظم الحكم لا تقوم جدارتها في الوجود الشرعي إلا بقدر قدرتها على حفظ الأمن القومي لبلدها، فإن هي عجزت عن ذلك آذنت بزوال، وأن حركات التحرير في كل بلادنا المحتلة قامت على اتساع الجماعات الشعبية لتحل محل حكوماتها التي عجزت عن القيام بهذه المهمة. وأنا لا أقصد معنى البلاد المحتلة تلك التي غزيت بقوات عسكرية أجنبية، إنما أقصد هذه البلاد فضلاً عما يوجد بها من قواعد عسكرية أجنبية، وفضلاً عمن أمكن احتلال إرادتها السياسية الرسمية وصرفها عن مراعاة صالح شعبها. وعندما رفع المصريون في نهايات القرن التاسع عشر شعار "مصر للمصريين" إنما كانوا يدمجون بهذا الشعار هدفيهما الوطني والديمقراطي، ولا ديمقراطية إلا أن تكون خادمة للهدف الوطني.

إن نظم الحكم تختلف عندنا من بلد إلى بلد بحيث يصعب تحديد تفاصيل دستورية معينة تكون صالحة للتطبيق في كل منها، إنما يمكن الإشارة إلى عدد من المبادئ والأسس التي لا بد أن تُلتزم بصرف النظر عن أساليب تطبيقها في كل حالة.


* أسس الإصلاح السياسي:

أول أسس الإصلاح السياسي بالنسبة للدولة أن تقوم هيئاتها على أسس من الصفة التمثيلية لمن يشغلها، فكل من يمارس سلطة عامة إنما يستمد شرعية ممارسته لها من تفويض له واختيار له من الجماعة السياسية، وحق الجماعة لا يرتد إلى أحد من الخلق أبدًا، وهو في الفقه الإسلامي مردود إلى حق الله تبارك وتعالى؛ لأن حق الجماعة هو حق الله سبحانه، وفي الفقه الوضعي هو مردود إلى مبدأ سيادة الأمة بحسبانها مصدر السلطات، والجماعة لا تتجلى في هيئة واحدة، إنما تتجلى في إرادتها العامة من خلال الهيئات المتعددة التي يوازن كل منها الآخر ويقيده ويكمله.

وما من ذي سلطة في الشأن العام ويكون أصيلاً عن نفسه في ممارستها، وحتى ملوك أوربا المستبدون في القرون الوسطى كانوا يستندون إلى فكرة "التفويض الإلهي"، والوضعيون المحدثون يتكلمون عن النيابة عن الشعب حتى إن كانوا نازيين أو فاشيين، والفقه الإسلامي يصدر عن البيعة من الأمة والنيابة عنها في إطار الشريعة الإسلامية وبشرط حراسة الدين والدنيا.

وإن مبدأ التمثيل بأي من هذه الأصول الفلسفية التي ينحدر منها لا بد أن يكون ذا تحقق فعلي وواقعي، من انتخاب نزيه أو نيابة صحيحة أو بيعة تطوعية أو اختيار حر، وهو يفقد شرعيته إذا كان مزيفًا أو كان صادرًا عن إكراه، وقديمًا قيل: "ليس لمكره بيعة" قياسًا على "ليس لمكره طلاق"، كما أن هذا المبدأ يفقد شرعيته إن تجاوزت الممارسة شروط الولاية أو النيابة؛ لأنه ما من نيابة إلا وهي محدودة لا تقبل التجاوز، ومقيدة لا تقبل الإطلاق، ومشروطة لا تقبل الانفلات من شرطها.

وإذا لم تتحقق إرادة التمثيل أو النيابة ينكسر وعاء الشرعية في ممارسة السلطة العامة، وتغدو الممارسة عدوانًا بحتًا من فرد أو أفراد أو جماعة محددة بعينها.

ويتفرع على ذلك وجوب أن تمارَس السلطة لا من هيئة واحدة حتى لا تحتكرها أي هيئة بمفردها، فانفراد جهاز واحد بالممارسة خليق بأن يهيمن عليها، إنما يكون من الضروري أن يختص كل جهاز أو هيئة بجانب من جوانب الممارسة لا يتجاوزه، ولا يتم صدور القرار وممارسة السلطة إلا عبر هيئات ومؤسسات يشارك بعضها ويراقب بعضها ويكمل بعضها بعضًا، ومن هنا يظهر قدر التوازن المطلوب، وألا تملك هيئة على هيئة أخرى مكنة السيطرة عليها في وجودها أو في استمرارها فيما تتخذه من قرارات؛ لأن الاستقلالية النسبية هي ما بها يتحقق التوازن المطلوب.

ويتفرع على ذلك أيضا مبدأ جماعية القرار، فلا يصدر أي قرار من فرد واحد، أو أفراد محدودين إنما يصدر من جماعة يتوازن أفرادها بعضهم عن بعض بغير هيمنة فردية لأحدهم أو لبعضهم على الآخرين، وذلك حذر الهيمنة الفردية من داخل أية مؤسسة تشارك في العمل العام. وجماعية القرار تتشكل وفقًا لأنماط متعددة، منها نظام التصويت في المجالس، ومنها اتخاذ ما يسمى القرارات المركبة؛ إذ تتوافق إرادات عديدة من جهات عديدة على إصدار القرار الواحد.

ويتفرع على ذلك أيضا مبدأ تأقيت تولي الوظائف والمناصب العامة، وتداول هذه الوظائف من أفراد ومجموعات متعددة ومتوالية.. والتأقيت والتداول عنصران أساسيان لكي يستقل أو يتميز العمل العام عن القائم به، ولكي لا يتشخصن العمل العام ويفقد موضوعيته وعموميته.


* الديمقراطية "الحقيقية" هي المطلب:

كل ذلك مقرر فكرًا ومتفق عليه حتى ممن يخالفونه في التطبيق، وحتى ممن يضعون العراقيل في وجه تطبيقه، ونحن لم نَعُد نطالب بالديمقراطية في مواجهة من يعارضونها ويجهرون بذلك، أو حتى يسرون به؛ لأنه لم يَعُد أحد من مخالفيها وخصومها إلا ويؤكد أنه نصير لها ومنفذ لمبادئها، فصرنا إزاء ذلك نطالب "بالديمقراطية الحقيقية" في مواجهة من يخالفونها بالفعل، لا بالفكر ولا بالقول، وهذا يكشف عن أن المشكل هنا لم يَعُد مشكلاً فكريًّا، إنما صار مشكلاً فعليًّا وواقعيًّا، ولم يَعُد أحد يطالب بالانتخابات ولا بالبيعة ولا بالاختيار، إنما يطالب في كل ذلك أن يكون "نزيهًا" و"تطوعيًّا" و"حرًّا" و"صحيحًا".

والحال أن الحديث عن الإصلاح السياسي والدستوري إن جرى في المبادئ مثل ما سبقت الإشارة، يكون حديثًا معادًا ومكررًا بما قد يثير السأم، ولكن استحسان ذكره يرد بسبب أن الواقع يخالفه، ويخشى أنه إذا استمر الحال على ما هو عليه أن يعتاد الناس على هذا الواقع، فتفقد المبادئ صلتها بالواقع في عادات الناس وسلوكهم، إما بأن يستقر في اعتبارهم الفكري أن المبادئ خيال غير قابل للتحقيق والتطبيق، وإما أن تلتوي معاني الألفاظ والعبارات لتفيد عكس مؤداها، أو لتصير كما يقال أحيانًا من "ألفاظ الأضداد" والتي تعني الأمر وضده! لذلك يتعين علينا أن نبقى مجاهرين بالحق مع أنفسنا لنحفظ للمبادئ معانيها الحقيقية ولنعي أنها قابلة للتحقق، وأن ما يجري في الواقع باسمها يتعارض معها، وأن الأمر يستدعي حركة شعبية نخرج بها من النفق المظلم.

فالمسألة هنا تتعلق بالواقع، وبموقفنا منه وبسعينا لإصلاحه لا بنظر جديد ولكن بفعل جديد، والمشكل في جوهره مشكل حركي يتعلق بالوسائل والمكنات التي تتيح توفير القدرة على أن ما هو عقلي يصير واقعيًّا.

ما دام الأمر في ظني يتعلق بالواقع السياسي الشعبي فينبغي النظر إلى المسألة من هذه الزاوية، وفي ظني أن الأمر يحتاج إلى سعي عملي ملموس لتحقيق أوسع مجال للتآزر الشعبي في كل بلادنا، تآزر يشمل الجماعات السياسية والتيارات الفكرية وهيئاتهم المتعددة والمتنوعة، ما داموا يتشاركون أو يتقاربون في نظرهم إلى المخاطر المعيشة، ويكون معيار تآزرهم هو مواجهة هذه المخاطر، وتكون الأولوية في أي عمل هو مواجهة هذه المخاطر، ويكون معيار التجاذب والتباعد هو مدى الموافقة أو المخالفة حول هذه المواجهات، أي مواجهة الأخطار الخارجية الحالة أو المحدقة، ومسائل الأمن القومي الإقليمي والقطري لبلادنا ومسألة توفير الحاجيات الشعبية الأساسية باعتبار ذلك من قضايا الأمن القومي أيضًا، وبملاحظة أن أخطار الخارج المطلوب مواجهتها لا تقتصر على مسائل الغزو والاحتلال، إنما تشمل ضغوط الخارج الاقتصادية والسياسية التي تهدد الإرادة الوطنية لبلادنا، وكذلك ما تغلغلت به المصالح الأجنبية في النسيج السياسي الاجتماعي المحلي، بما يعوق تبلور المصلحة الوطنية في إرادة سياسية واضحة وبما يعوق من فاعلية العمل الوطني.


* التآخي الفكري ممكن:

والسؤال الذي ينطرح علينا هو كيف نقيم التوازن في أمتنا؟ وكيف نصوغ التيار السياسي الأساسي؟ والتوازن المطلوب ليس هو توازن الجمود، إنما المقصود به توازن الثبات، أي التوازن الذي يكفل ثبات الحركة نحو ما تتراضى عليه الجماعة من أهداف. والمقصود من التيار السياسي ليس تنظيمًا سياسيًّا واحدًا ولا تيارًا فكريًّا واحدًا، ولكنه الإطار الجامع لقوى الجماعة السياسية والإطار الحاضن لهذه القوى، يجمعها ويحفظها على تعددها وتنوعها، وهو ما يعبر عن القاسم المشترك لجماعات الأمة وطوائفها ومكوناتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وهذا التيار السياسي الأساسي لا ينفي إمكانات الخلاف بين مكوناته؛ لذلك يتعين أن تكون صيغته مرنة وحركية تضبط الخلاف وتتعدل وفقًا لحصيلته، والحاكم في ذلك هو الصالح العام للجماعة والمحدد هو تحقيق موجبات الأمن القومي وتوفير الاحتياجات الأساسية الشعبية وتحقيق القدر المناسب من التوازن بين مكونات هذا التيار.

إن المرحلة التاريخية الراهنة التي نحياها قد قاربت بين ما يعتبر أهدافًا رئيسية لدى كل من التيارات السياسية ذات الوجود المعتبر في بلادنا. وإن المخاطر المحدقة بعقائدها هي ذاتها المخاطر المحدقة بأوطاننا، وهي ذاتها المخاطر المحدقة بنظم الحكم والحريات عندنا، وهي ذاتها المخاطر المحدقة بتوفير الحاجات المعيشية الأساسية. وإن مصادر الخطر واحدة فلم تَعُد تقوم فرقة ذات أهمية في ترتيب أولويات العمل السياسي، وصار السعي المشترك يجيء تلبية لنداء الحق والوطن معًا، ويجيء استجابة لاحتياجات العقيدة والمنفعة أيضًا، وما من أمر في تاريخنا الحديث المعيش كان مجمعًا لقوانا الوطنية بمثل ما جمعها وحدة الفعل العدواني الخارجي، فهو الاحتلال وهو سبب ذهاب الإرادة الوطنية، وهو مصدر الاستبداد، وهو سبب الإفقار.

ونحن إذا تابعنا حركاتنا السياسية في نصف القرن الأخير نلحظ أن ثمة أربعة مجالات للعمل والنشاط الشعبي تتعلق بالشأن العقيدي والثقافي، والشأن الوطني السياسي، والشأن الديمقراطي النظامي، وشأن التنمية والعدالة الاجتماعية، هذه الشئون اضطربت العلاقات بين بعضها البعض، وتوزعت الجهود وتباينت الأولويات، وبلغت في بعض الأوقات حد التضارب، وكان هذا مما فت في العضد وأوهن من العزيمة، وأضعف الحصيلة، والأخطر من ذلك كله أن الخلافات أهدرت إمكانية التراكم التاريخي لمكتسباتنا ولو كان تراكمًا بطيئا، وعانينا من النهايات المبتسرة للكثير والعزيز من وجوه نشاطنا وجهادنا في عقود القرن العشرين، وانتكست نهضاتنا وانفكت حشودنا.

أذكر ذلك لأوضح الأهمية الحيوية والتاريخية لكي نهتم بمراعاة الشأن العام المشترك لقوانا السياسية وتياراتنا الفكرية، بما يمكن تسميته ببلورة أسس وأطر التيار السياسي الأساسي، فهو ليس نافعًا فقط في المرحلة الجزئية المعيشة الآن، لكنه صار شرطًا مسبقًا لتراكم جهودنا وحفظ مكتسباتنا الماضية وأن نصير ذوي منعة؛ لأن الوطن ليس فقط حدودًا جغرافية وليس فقط جماعة سياسية متبلورة، لكنه أيضا إطار فكري يستخلص من تبين وجوه الصالح العام بعيد المدى للجماعة السياسية والمقومات الرئيسية لتكوينها الثقافي والسياسي والاجتماعي. دون نفي لوجوه التعدد والتباين وإمكانات الخلاف بشأنها.

وفي هذا الصدد لا يكفي أن تجتمع أحزاب السياسات الوطنية على أهداف سياسية معينة، في إطار تكتيكات العمل السياسي اليومي، وفي إطار برامج السياسات قصيرة المدى؛ لأن وضع المسائل بهذا التأقيت وفي حدود البحث عن العاجل دون الآجل من الأهداف بعيدة المدى، وضع المسائل هكذا من شأنه أن تنمو به نُذُر الفرقة الآجلة؛ لاختلاف كل حزب في نظره لضوابط العاجل والآجل من الأهداف، ولأن قضايا المستقبل الأبعد لا بد أنها ستنعكس على نظرة كل فريق بالنسبة لرؤية الحاضر ومشاكله؛ ولأن موضوع "القيادة" السياسية سيثير نوازع التنافس بين حلفاء الفترة ذاتها، ومن ثَم تنمو الذاتية العازلة لكل فريق عن أخيه، وتنمو الريبة وسوء الظن وتحل آليات التفكير الفردي محل آليات التفكير الجماعي.

أقول: لا يكفي الاجتماع على برامج الحد الأدنى أو برامج الحاضر الراهن أو المستقبل قصير المدى، إنما يتعين في ظني، لا أقول الاندماج ولا التوحد السياسي فهو غير مطلوب وقد يكون ضارًّا، ولكني أقول بوجوب قيام درجة من التآخي الفكري أو التقبل والاحتمال، بالنسبة لكل تيار فكري إزاء التيارات الأخرى، ووجود قدر من التهيؤ للتعايش الفكري بين أهل كل فريق، وذلك في إطار المشترك الثقافي الوطني والتاريخي، ولا أظن أن اطمئنانًا سياسيًّا يعول عليه في عمل مشترك يمكن أن يقوم مع تدابر وتنافر فكري وإحساس لدى كل جانب بأن الآخر ينفيه، وأن ثمة خصاما لا بد أن ينشأ وينمو في آجل الأيام الحاضرة، وبعد انتهاء ما نسميه "العدو المشترك"، احتلالاً أجنبيًّا كان أو استبدادًا داخليًّا.

ونحن نذكر في مصر أن إمكانات التآزر السياسي، وطنيًّا وديمقراطيًّا واجتماعيًّا التي كانت قائمة فعلاً وواعدة بالنمو في بداية الثمانينيات، قد ضربت وتكاد تكون صفيت لأكثر من عقد من الزمان، وجاء ضربها لا من الجوانب السياسية، فالكل بقي على أهدافه، ولكن من الجوانب الثقافية، ويبدو ذلك جليًّا من نوعية القضايا التي أثيرت، وبإيجاز وإجمال يمكن أن نعتبر السنوات من 1982 - 1984 فاصلاً بين فترتين: الفترة السابقة على هذه السنوات كانت القضايا المطروحة هي الصلح مع إسرائيل، والمشروع الاستثماري لبيع هضبة الأهرام، ومسألة دفن النفايات النووية، وقضية فلسطين طبعًا بكل تداخلاتها، والقوانين ومشاريع القوانين الخاصة بتفتيح آفاق الديمقراطية أو كبحها وحرية تكوين الأحزاب، وعروبة مصر أو فرعونيتها، وكانت كل هذه القضايا تجمع التيارات السياسية بما انعكس أثره في المؤتمرات السياسية والانتخابات العامة والتشكيلات النقابية.

أما الفترة اللاحقة لهذه السنوات، أي ما بعد 1984، فقد تصدر الساحة الفكرية، قضايا مثل قصة سلمان رشدي، وقصة أولاد حارتنا، وأعمال نسرين تسليمة، ومدى حرية "الإبداع" الفكري، وإن اقتحم حرمات الدين، وشركات توظيف الأموال، ومشروعات تعديل قانون الأحوال الشخصية.. وقد أدير الجدل في وسائل الإعلام الخارجية والمحلية بما ينمو به الخصام في هذه الأمور، وبما يتسلط به الضوء على هذه القضايا دون غيرها، وهكذا ضربت حركة التقارب السياسي من المقاتل الثقافية، وحل التنافر محل التجاذب، وحلت الريبة محل الثقة.

وفي هذه الأيام الحالية من مفتتح سنوات القرن الحادي والعشرين، صار الشأن السياسي هو ما عليه المعول، وصارت المخاطر المحدقة بالوطنيين تشد ذوي التيارات المختلفة، وهذا ما يثير التفاؤل، ولكن يتعين أن نعي درس الثمانينيات جيدًا ونحذر ألا يتكرر. ومن هنا يحسن لا أن نكون على حذر فقط من دسائس الوقيعة الفكرية، ولكن أن نعمل بجد وإيجابية لكي نزيل مثيرات النزاع الفكري، وذلك بالنقاش الهادئ وبروح التجميع والتركيز على وجوه التقارب، وتحديد جوانب الخلاف وفهمه ومحاصرته.

وفي ظني أن أهم ما يثور بشأنه الجدل الثقافي بين التيارات الوطنية في بلادنا هو ما يتعلق بالمرجعية الإسلامية والمرجعية الوضعية، وهو جدل يثور أساسًا بين الإسلاميين والقوميين، وهذا الجدل خطا خطوات إيجابية في السنوات العشر الأخيرة، لعل اشتعال الانتفاضة الفلسطينية منذ 1987 زكى جوانب التقارب بينهم والتقوا في ساحة الجهاد، ولعل حرب الخليج بين العراق والكويت زكته أيضًا؛ لأن هذه الأزمة فرزت أنصار كل تيار فكري وسياسي وأعادت تصنيف عناصر كل تيار على أساس الموقف من الاستعمار والدفاع عن الحوزة، وتنبه الجميع إلى أن الاستقطاب الفكري يتعين أن يراعي المؤدى السياسي وما تؤول إليه الأمور في مجال الدفاع عن الحوزة ومواجهة مخاطر الخارج، ومن ثَم ظهر في كل تيار تصنيف داخلي، ووجد قوميون يقفون مع إسلاميين وقوميون يقفون ضد قوميين، وإسلاميون يصنعون الأمرين ذاتهما.

ونحن الآن نلحظ أن وجوه التقارب تنمو، وبوجه الخصوص مع انتصار المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان على الإسرائيليين، ومع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، ومع العدوان الأمريكي على أفغانستان ثم على العراق، ومع المقاومة العراقية الباسلة وغير ذلك، ولكننا نلحظ أيضا أن محاولات صرف الأذهان عن حقائق الصراع الدائر لا تكف، ومحاولات إعادة الوقيعة لا تكف أيضًا، ونرى ذلك في نشاط أجهزة إعلامية وثقافية تعقد المؤتمرات حول الحق في التعبير وحرية الإبداع، وتثير الأحداث نشر قصص أو تعليقات على صحابة أو تأويل نصوص دينية أو اعتراضا على تمثيلية، وغير ذلك.

والحقيقة أن جوانب التقارب الثقافي والفكري بين التيارين الإسلامي والقومي كثيرة وفسيحة، ولا أريد أن أستطرد في هذا الأمر المشتهر والمعروف في كثير من كتابات العقد الماضي من مفكرين إسلاميين وقوميين، وأن التاريخ المشترك المستند إليه واحد أو متداخل، والجامعة السياسية الإسلامية والعربية لا يختلفان إلا اختلاف عموم وخصوص، والتراث المشترك واحد، والخلاف لا يتعلق بالقومية بذاتها ولا بالإسلام بذاته، لكنه يتعلق بالنظر العلماني الذي حملته بعض تيارات الفكر القومي وكل ذلك ميسور المعالجة.

ولكن ما دام أن ثمة تركيزًا ملحًّا على موضوع حرية التعبير والثوابت الدينية، بحسبان أن هذا الأمر هو ما يُرى إمكان إثارة التعارض بشأنه بين التيارات الوطنية الإسلامية والوضعية، وهو ما تعقد من أجله المؤتمرات الآن وتجيش نفوس المثقفين في كل حين، وتصطنع بشأنه الأحداث (في مصر لا تكاد تنقضي شهور إلا ويثور ثائر يتعلق بأمر كهذا وجذب الانتباه إليه) ما دام الأمر كذلك فيحسن الحديث في هذا الشأن والاجتهاد لإيجاد بعض الضوابط بشأنه.

وإن المشكلة التي تقوم هنا تثار دائمًا بين الحق في التعبير والثوابت الدينية، وهي تكسب حدتها وصعوبة حلها من أن كلاًّ من العبارتين تنحدر لدى المتمسكين بها من مرجعية فكرية مناقضة للأخرى، فالمشكلة لا تقوم بين حق التعبير وثوابت الدين بمعنييهما المتبادر، ولكنها تقوم بين مرجعيتين فكريتين: المرجعية المتحصنة في ثوابت الدين، والمرجعية الوضعية التي تستخدم "حرية التعبير" بوصفها مقدسًا أوجده البشر في تاريخهم الحديث ليحل محل المرجعية الدينية، فالحرية في التعبير هنا إنما تستخدم لا للإفساح السياسي ولا لنقد الحكام، ولكن لإزاحة ثوابت الدين أو المساس بها.

ونحن عندما نتكلم عن ثوابت الدين إنما نصدر عن المرجعية الدينية وأصولها، والمرجعية الدينية تلزم المتدين، واختياره لتدينه يلزمه إراديًّا بحراسة ثوابت ما يتدين به، ولا تقوم لديه مشكلة في احتكامه إلى ثوابت ما يريد أن يحفظه، كما لا تقوم مشكلة لدى من يتحاور معه من المتدينين؛ وذلك لاستقرار توافقهما على الاحتكام إلى ما يتوافقون على حفظه من ثوابت وأصول ومرجعيات.

إنما تقوم المشكلة عندما لا يكون الطرف الآخر في الحوار متدينًا، ويكون صادرًا عن مرجعية وضعية يريد لها السيادة، هنا يدور الجدال، كما دار دائمًا في السنين الأخيرة، على محورين متوازيين لا يلتقيان، ولا يستطيع المتدين أن يلزم غير المتدين بموجبات التدين، ولا يستطيع أن يلزمه بحاكمية لا يقبلها غير المتدينين ولا يقبلون حكمها، ولعل البعض منهم يجتهد في سعيه إلى تنحيتها.

وما دام الوضع الاجتماعي المشترك والعيش المشترك يفرض علينا أن نتحاور ونتجادل ونضم جهودنا إلى بعضها البعض لنواجه ما نواجه من مخاطر، فعلينا أن نسعى إلى استخراج معايير للاحتكام تمكن من المجادلة بالتي هي أحسن، أقول ذلك لأنه يتعين أن نبحث عن الحلول، وأن نستجمع قوانا وأن نتشارك، بقدر ما يسعنا الجهد وما تحتملنا الثوابت التي نركن إليها ارتكان وجود وحياة، وترد هنا ثلاثة ضوابط للمجادلة:

الأول: إن ثمة ما يميز الحق عن الحرية. والحرية هي بتعبيرات الفقه الإسلامي "رخصة" أي هي إتاحة وهي إمكانية، وإن مطالعة بيانات حقوق الإنسان العالمية توضح هذا الأمر؛ لأن الحق هو ما ثبت ووجب وصار معينًا ومحددًا أو قابلاً للتعيين أو التحديد، بينما الحرية هي إتاحة عامة وإباحة عامة، وهي مكفولة للشخص بنص مواثيق حقوق الإنسان، ولكنها في استخدام المرء لها إنما يتعين ألا يخل استخدامها "الحر"، "بحقوق" الآخرين، فحريتي تقف عند أعتاب حق غيري، وحريتي في الحركة والتنقل تقف عند حدود ملك غيري، أرضًا كان أو سكنًا؛ ولذلك كانت حرية التعبير وما يتعين أن يتمتع به الإنسان من حرية التعبير والتفكير والرأي، اعتناقًا وتلقيًا وإذاعة حسبما تنص المادة 18 من بيان حقوق الإنسان (10 ديسمبر 1948) هذه الحرية إنما يضبطها ويحدها ما أوردته الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة في 1976، عندما نصت في المادة 17 على عدم جواز التدخل التعسفي في خصوصيات أحد أو المساس بشرفه وسمعته، وعندما نصت في المادة 20 على منع أية دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، ومن هنا يظهر الضابط الواجب الالتزام به في ممارسة حرية التعبير وهو ألا يسيء إلى ذوي الأديان والعقائد.

الثاني: إن الحريات أمر مكفول للشخص أو للفرد، وهذان اللفظان هما ما استخدم في كل إعلانات حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والمقرر المعترف به أنه إذا تعارض حق الفرد مع حق الجماعة، وجب بذل الجهود للتوفيق بينهما، فإن لم يكن التوفيق، وفيما لم يمكن فيه التوفيق، يجب تقديم حق الجماعة، ويصير حق الجماعة أولى بالمراعاة من حقوق الفرد، وهذا المعيار ثابت في الفقه الإسلامي الذي يجعل حق الجماعة من حقوق الله سبحانه، إعلاء لهذا الحق وتعظيمًا (لأن الله مستغن عن الناس وجماعاتهم)، وحتى لا يصادر أحد من الطغاة حق الجماعة فيدعي لنفسه القوامة عليها. وفي الفكر الوضعي أخضعت الفقرة 3 من المادة 18 من الاتفاقية الدولية الحقوق المدنية والسياسية (1976) أخضعت حرية الفرد في التعبير عن ديانته ومعتقداته "للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية"، وكذلك ضبطت المادة 19 من الاتفاقية ذاتها حرية التعبير باحترام حقوق الآخرين وسمعتهم وحماية الأمن الوطني والنظام العام والصحة العامة والأخلاق.

الثالث: حرية التعبير تتعلق بأمر بشري، وأمور البشر نسبية، وهي دائمًا محدودة بقيود تتعلق بحقوق الغير وحرياتهم، والأمور البشرية تحتمل الزيادة والنقصان وترد عليها احتمالات التجزؤ. ونحن إذا راجعنا أي دستور من الدساتير، نلحظ أن الحقوق العامة والرخص يرد عليها الإقرار الدستوري لها مضبوطة بضوابط التنسيق والتنظيم، أما الثوابت الدينية فهي مطلقة سواء في الإسلام أو في المسيحية أو في غيرها، والمطلق لا يحتمل النقص ولا الزيادة، ولا ترد عليه تجزئة ولا تبعيض، وهو لو انجرح لا يبقى منه شيء؛ لذلك نهينا عن أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضه، ولا يمكن أن يوجد معيار يمكن به استبعاد بعض آيات القرآن واستبقاء الباقي منها؛ ولذلك فإن حقوق البشر وحرياتهم -وهي نسبية- ينبغي أن تقف عند حدود المطلق من ثوابت الدين، والنسبي إذا نقص يستمر الباقي موجودًا بينما المطلق لو نقص لا يبقي منه باق.

وخلاصة المعيار المقترح في هذا الشأن:

1- أن الحريات والرخص تقف عند حدود الحقوق وما يحوطها من حرمات.

2- حق الفرد يقف عند حدود الجماعة، وحق الجماعة المحدودة تقف عند حدود حق الجماعة الأشمل.

3- أن النسبي من الحقوق والحريات والرخص عن شئون البشر يقف عند حدود المطلق من ثوابت الدين.

الأمر الآخر الذي يحسن أن نهتم به هو تنقية الجو الفكري من خصومات الماضي، بقدر ما تستوجب ذلك مطالب الحاضر، ونحن لا يجوز أن نحيا في الماضي، نحن طبعًا نحتوي ماضينا، بل نحن نمثل ماضيًا موصولاً بحاضرنا، ومتطلعًا إلى مستقبلنا، وسنكون هباء منثورًا إن تجردنا من ماضينا، وإن حاضرنا المعاش هو حصيلة الماضي متعاملاً مع أحداث وظروف المرحلة الراهنة، وكتاباتنا عن الماضي هي جزء متمم لحديثنا عما نحن فيه، واستدعاؤنا لأحداث الماضي لازم للاستفادة من تجاربه ودروسه، وكل ذلك يرد في البحوث ودراسات التاريخ.

لكن ما يتعين علينا أن نعيه، أنه عندما نستدعي دروس الماضي لننتفع بخبراتها لا بد أن نتذكر أن الماضي انتهى ولا يمكن تصحيح وقائعه، وثمة فارق كبير بين ما يجب حفظه من وقائع التاريخ وبين ما لا يجوز ولا يصح من إعادة إحياء الماضي وآثار خصوماته وإحياء عداواته وثاراته، إننا إن فعلنا ذلك -ونحن للأسف نفعله- نكون قد غفلنا عن حاضرنا وأضررنا بمستقبلنا دون أن نغير من أوضاع الماضي شيئًا، أي نكون قد حكمنا على أنفسنا بأنفسنا أن نجعل مستقبلنا صورة من ماضينا، ماضينا الذي لم ينجح أي من أطراف خصوماته في تحقيق ما كانوا ينشدونه أو في تثبيت ما أنجزوه.

هناك ما يمكن تسميته "كيمياء التفكيك" وذلك بمعرفة مواطن الخلاف التاريخية والفكرية ودراسة تفاصيل أحداثها، ثم العمل على إثارة أحداث من الماضي أو التذكير بها أو اصطناع أحداث جديدة مشابهة ليشتعل الجدل ويثور الخصام.

أما غير هذه الأمور فالراجح في تقديري أن التيارين الإسلامي والقومي قد تجاوزا أهم العقبات التي قامت بينهما من قبل، لا أقول اتفقا اتفاقًا كاملاً ولا شبه كامل، ولكنني يمكن أن أقول إنهما تجاوزا من الخلافات ما يسمح لهما بإزالة سوء الظن، وما يسمح لهما بالمشاركة في النشاط من حيث تشابه النظر إلى مشاكل الخارج وإلى أساليب مواجهته في كل قطر وإلى أولويات العمل السياسي، وأنهما تجاوزا الاستقطاب الفكري والسياسي والشخصي إلى قدر من التداخل الحميد، لا سيما بالنسبة لقسم من الناشئة فيهما. والحمد لله.

المصدر: إسلام أون لاين المستشار طارق البشري : مفكر وقاضٍ ومؤرخ مصري.