المعاهدات في الاسلام
مرسل: السبت يونيو 04, 2011 11:29 pm
اقتضت طبيعة الاجتماع البشري مجموعة من العلاقات التي ما لبثت أن تناسلت وتطورت إلى أن وصلت إلى درجة عالية من التعقيد والتشابك، وإذا كانت العهود والمواثيق بين الأفراد شكلاً قديماً من العلاقات التي تجري في المجتمعات البشرية فإن ما يسمى بـ (المعاهدات والمواثيق) على مستوى الدول والشعوب، هو شكل متطور عن تلك الاتفاقات الفردية الجزئية، وإن كان نابعاً ومتولداً منها بالضرورة.
ومع مرور الزمن أصبحت المعاهدات الأداة الطبيعية لبلورة العلاقات السياسية الخارجية للأمم والدول، وطريقاً لتنظيم الشؤون المشتركة بينها، وتعبيراً عن المصالح المتبادلة، فضلاً عن كونها وسيلة لحل المشكلات العالقة بين المجتمعات. فهي غنية متنوعة تنوع العلاقات الإنسانية في السلم والحرب.
لقد راعى الإسلام هذا الجانب، فشهدت العديد من الآيات بوجوب الوفاء بالعهود والمواثيق المنعقدة مع الطرف الآخر أياً كان ]يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود[ ]إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق[، ودعا إلى إتمام الآجال المحددة فيها : (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم). فكان من أهم أوصاف المؤمنين إيفاؤهم بعهودهم: ]والموفون بعدهم إذا عاهدوا[ بل رتب في بعض الأحيان الإيمان على مدى التمسك بالعهود والمواثيق : (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له). والغدر من صفات المنافقين: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). ولهذا لم يلحظ في تاريخ المسلمين، ولاسيما بلن مجدهم وعزهم الحضاري، أنهم نكثوا بعهودهم مع الآخرين.
على الرغم من تقرير علماء الأمة لمبدأ أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو السلم لا الحرب، وأن الإسلام هو دين السلام، فإن هذا الأصل في التعامل مع الآخر، وحرص الشريعة الإسلامية على توثيق الوشائج بين الشعوب بالمعاهدات والحفاظ عليها، لاينفي وقوع الاستثناء حال تغير الظروف والمعطيات، فاليهود المغتصبين لأجزاء من الأرض العربية وعلى رأسها فلسطين، تحكم العلاقة بهم صيغة الحرب لا السلم، ويصبح أسلوب التعامل معهم هو الجهاد فحسب، نظراً لاعتداءاتهم المتكررة واغتصابهم لأراضينا وعدم تورعهم عن إعلان وممارسة العدوان على الأمة كلما سنحت لهم الظروف بذلك.
بيد أن البعض ـ متأثراً بالظروف والأحوال الدولية السيئة بالنسبة للمسلمين ـ بحلوله الحديث عن إجراء (صلح) مع الصهاينة، يجنب به على حسب زعمه ـ المنطقة ويلات الحروب ومآسيها، متذرعاً بدوران الدائرة على العرب والمسلمين الآن، وحال الضعف والتفرق الذي تعانيه الأمة، ومستنداً في ذلك إلى مشروعية عقد المعاهدات مع العدو حال الضعف، وممثلاً لذلك تاريخياً بصلح الحديبية، إذ عقد فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع مشركي مكة بشروط مجحفة ـ على حد تعبيره ـ دون أن يكون ذلك مانعاً من صحة الصلح، أو ثانياً للنبي عليه الصلاة والسلام عن إجرائه. فما مدى صحة هذه الادعاءات وانسجامها مع التراث والتاريخ الإسلامي؟
قبل الشروع في بيان وتفنيد هذه الادعاءات، أشير إلى أن المتلمسين لشرعية عقد معاهدات الصلح مع الصهاينة في التراث والتاريخ الإسلامي، سوف يخيب ظنهم، عندما يطالعون أن الفقه الإسلامي بصيغته التقليدية لم يتعرض لذكر أو بحث ما يسمى بـ (معاهدات صلح أو سلام دائمة)؟! لقد بحث الفقهاء المسلمون في تصنيف المعاهدات، ورأوا انقسامها إلى مؤقتة ودائمة، وهم يعنون بالدائمة منها عقد الذمة الممنوح لغير المسلمين داخل الدار الإسلامية ودون تحديد لأجل مالم ينقض هذا العهد بأمور لا يتسع المقام لذكرها. فيما يعنون بالمعاهدة المؤقتة عهد الأمان الممنوح لأفراد غير مسلمين يأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم ما داموا ملتزمين بشروط العقد، فإن كان المعاهدون فئة كبيرة، سمي العقد بالهدنة أو المهادنة، وفيما تشدد قسم من الفقهاء في تحديد زمن الهدنة بأربعة أشهر إلى السنة حال قوة المسلمين، وعشر سنين حال ضعفهم، فإن جمهور الفقهاء قد ذهبوا على تفويض الحاكم بتحديد المدة المتعاقد عليها دون اشتراط مقدار محدد إلا أنه محكوم في ذلك بالطبع بما تمليه عليه المصالح العليا للمسلمين.
المهم أن الفقهاء لم يتعرضوا لبحث حالة الصلح الدائم، بل نصوا على منعها صراحة، لأن في ذلك حسب رأيهم تفريطاً بمبدأ الجهاد المستمر، وتضييعاً له، في الوقت الذي يقصد فيه من عقد الهدنة هو استجماع القوى وإعادة ترتيب الأوضاع وذلك لاستئناف الجهاد ضد الأعداء من جديد
وعلى الرغم من ذلك أقول: إن ما انتهى إليه فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ من عدم مشروعية عقد صلح دائم مع العدو إنما انبثق مع تأصيلهم للعلاقة مع الآخر بكون الأصل فيها الحرب لا السلم، ونظرتهم لمجريات الأمور والأحداث في ذلك الزمان، الأمر الذي لم يكن يسمح بمثل هذا الإجراء في ظل استمرار الفتوحات وحالة الجهاد المعلنة على الدوام، فهو تصور تاريخي لواقع زمني.
بيد أن ما انتهى إليه بعد ذلك بزمن علماء الأمة من الأصل في العلاقة مع الآخر هو السلم لا الحرب، يسمح لنا بالقول بمشروعية عقد الصلح الدائم مع العدو بالشروط الشرعية الضابطة لذلك. ومع هذا لا يستطيع أولئك الداعون إلى عقد صلح مع الصهاينة الاستناد إلى ذلك، إذا قمنا بتمحيص الشروط الشرعية الخاصة بعقد مثل هذه الاتفاقيات.
أول هذه الشروط يوجب أن يتولى عقد اتفاقية على درجة من الخطورة كهذه إمام المسلمين أو نائبه، ومعلوم أن المقصود بذلك هو الخليفة الأعلى للمسلمين أو من يكلفه وينوب عنه في ذلك، ولو تمسكنا بصورية هذا الشرط وحرفيته لانقطع أمل المهرولين إلى صلح الصهاينة، لانهيار نظام الخلافة الإسلامية منذ عقود، وانفراط عقد الأمة هنا وهناك، قد يتعلل البعض بمشروعية عقد رئيس أو ملك كل دولة إسلامية بنفسه لهذا الاتفاق، مع فتوى بعض الفقهاء بجواز ذلك للضرورة، بيد أن هذه الحال أيضاً مقيدة بكون المتولي لهذا العقد جماعة من ولاة المسلمين عند بعض الفقهاء، وجميع الولاة دون استثناء عند جمهور الفقهاء، بما يضمن اتفاق كلمتهم، وعدم تعرض فئة من المسلمين للأذى والضرر نتيجة عقد صلح دائم مع عدو لجميع المسلمين لا لفئة منهم. الأمر الذي لم يتحقق في اتفاقيات الصلح المعقودة مع الصهاينة الغاصبين.
ثاني هذه الشروط، أن يكون الدافع لعقد مثل هذه المعاهدة مع العدو، ضرورة ملجئة، وهي الحال التي يترتب على فقدانها هلاك وفساد عظيم في الدنيا أو الدين، كخشية الهلاك والاستئصال لكافة المسلمين إذا رفضوا المصالحة، أو ضياع أجزاء جديدة من أراضيهم لا يستطيعون الدفاع عنها مطلقاً فإذا كانت المهادنة تؤدي إلى الخطر ذاته ـ وهو ما يحصل اليوم ـ فلا يجوز اللجوء إليها، بل الواجب يحتم الجهاد وتحمل كافة المشاق في سبيل ذلك، فإن وجدت ضرورة ملحة لذلك وجب أن يكون التصرف في حدود ما ألجأت إليه ولا يجوز تجاوز ذلك بالمزيد من التنازلات غير المبررة، فأين الضرورة الملجئة بحيثياتها المتقدمة لدى من دعا إلى معاهدة سلام مع العدو، وهل التزم العاقدون لها بحدود الضرورة (المزعومة) أم أنهم تجاوزوها، فارضين بذلك تنازلات مؤلمة وفظيعة على الأمة جمعاء!؟؟
ثالث هذه الشروط أن يكون للمسلمين مصلحة معتبرة في هذه المعاهدة تبرر الإقدام عليها، إلا أن المتفحص لهذه الاتفاقات يعلم خلوها عن أية مصلحة تذكر للمسلمين، بل إن المفاسد التي لحقت بهم جراء عقدها، أعظم من أن تحصى، فالغزو والاختراق العقائدي والثقافي والفكري الذي نخر في جسدنا الواهن أصلاً شاهد على ذلك، فضلاً عن الاختراق الأخلاقي والاقتصادي المنسوب إلى مجتمعاتنا وصولاً إلى تفكيك الروابط الاجتماعية وزرع الخلافات الداخلية في العالم الإسلامي والعربي على الخصوص، مما أضحى معروفاً لدى أطفال المدارس في صفوفهم الأولى!!
أما الشرط الرابع وهو شرط شكلي ـ حسب التعبيرات القانونية ـ فيبحث في كتابة هذه الاتفاقات والإشهاد عليها لتكون واضحة لا لبس فيها، ولا مجال لاحتمالية تفسيرها، وما نراه في الوقوف على كل بند من بنود تلك الاتفاقات والاختلاف فيه، يثبت أن من صاغها لم يقصد سوى صياغة شروط ضبابية عائمة تؤجل الهام من قضاياها إلى مرحلة لاحقة، ولا يستبين منها سوى تلك البنود التي تلزم العرب بحفظ أمن الصهاينة وتثبيت كيانهم بل والمحافظة عليه؟! .
الشرط الخامس لصحة هذه الاتفاقات شرعاً، ينص على ضرورة خلوه من الشروط الفاسدة التي لا تنسجم مع مصالح المسلمين، أولاً تتفق مع تعاليم الشريعة الغراء ويكفي لإثبات مخالفة هذا الشرط، أن نعلم ما تنص عليه هذه الاتفاقات صراحة من ضرورة الاعتراف بالصهاينة وكيانهم المصطنع وبشرعية احتلاله للأراضي المغتصبة عام 1948وملكيتهم لها إلى الأبد، والتعاون الأمني معه بما لا يخدم إلا مصالحه وأهدافه الدنيئة.
على الرغم من دعوة الإسلام إلى السلم ورفضه لكافة أشكال العلاقات المؤسسة على التنافر والتناحر المفضية للحروب وسعيه لتأسيس مجتمعات آمنة، تشيع فيها مفردات التعارف والإخاء لإتاحة الفرصة أمام دعوته للانتشار والوصول إلى العقول والأفئدة، فإن ذلك لا يعني بأي حال أن يتم الرضوخ للظلم والعدوان والاحتلال، وأن (يتسامح) مع الغاصبين للحقوق والأراضي ذاك (التسامح المقيت) الذي يشرع للتفريط بالحقوق والمقدرات، تحت أي ذريعة ومبرر، مهما كانت الظروف المكتنفة لهذا الاتفاق، أو الحال التي وصل إليها المسلمون من الضعف والتشتت والمهانة، فالحقوق لا تضيع بضعف أهلها، وأضعف الإيمان أن يلتزم المرء الصمت حيال تلك الدعوات الخبيثة، أن يمارس بدلاً من ذلك شتى صنوف المقاومة للمحتل والغاصب، فلكل زمان دولة ورجال، وإذا كان دوام الحال من المحال، إلا أن ]الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[.
ومع مرور الزمن أصبحت المعاهدات الأداة الطبيعية لبلورة العلاقات السياسية الخارجية للأمم والدول، وطريقاً لتنظيم الشؤون المشتركة بينها، وتعبيراً عن المصالح المتبادلة، فضلاً عن كونها وسيلة لحل المشكلات العالقة بين المجتمعات. فهي غنية متنوعة تنوع العلاقات الإنسانية في السلم والحرب.
لقد راعى الإسلام هذا الجانب، فشهدت العديد من الآيات بوجوب الوفاء بالعهود والمواثيق المنعقدة مع الطرف الآخر أياً كان ]يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود[ ]إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق[، ودعا إلى إتمام الآجال المحددة فيها : (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم). فكان من أهم أوصاف المؤمنين إيفاؤهم بعهودهم: ]والموفون بعدهم إذا عاهدوا[ بل رتب في بعض الأحيان الإيمان على مدى التمسك بالعهود والمواثيق : (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له). والغدر من صفات المنافقين: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). ولهذا لم يلحظ في تاريخ المسلمين، ولاسيما بلن مجدهم وعزهم الحضاري، أنهم نكثوا بعهودهم مع الآخرين.
على الرغم من تقرير علماء الأمة لمبدأ أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو السلم لا الحرب، وأن الإسلام هو دين السلام، فإن هذا الأصل في التعامل مع الآخر، وحرص الشريعة الإسلامية على توثيق الوشائج بين الشعوب بالمعاهدات والحفاظ عليها، لاينفي وقوع الاستثناء حال تغير الظروف والمعطيات، فاليهود المغتصبين لأجزاء من الأرض العربية وعلى رأسها فلسطين، تحكم العلاقة بهم صيغة الحرب لا السلم، ويصبح أسلوب التعامل معهم هو الجهاد فحسب، نظراً لاعتداءاتهم المتكررة واغتصابهم لأراضينا وعدم تورعهم عن إعلان وممارسة العدوان على الأمة كلما سنحت لهم الظروف بذلك.
بيد أن البعض ـ متأثراً بالظروف والأحوال الدولية السيئة بالنسبة للمسلمين ـ بحلوله الحديث عن إجراء (صلح) مع الصهاينة، يجنب به على حسب زعمه ـ المنطقة ويلات الحروب ومآسيها، متذرعاً بدوران الدائرة على العرب والمسلمين الآن، وحال الضعف والتفرق الذي تعانيه الأمة، ومستنداً في ذلك إلى مشروعية عقد المعاهدات مع العدو حال الضعف، وممثلاً لذلك تاريخياً بصلح الحديبية، إذ عقد فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع مشركي مكة بشروط مجحفة ـ على حد تعبيره ـ دون أن يكون ذلك مانعاً من صحة الصلح، أو ثانياً للنبي عليه الصلاة والسلام عن إجرائه. فما مدى صحة هذه الادعاءات وانسجامها مع التراث والتاريخ الإسلامي؟
قبل الشروع في بيان وتفنيد هذه الادعاءات، أشير إلى أن المتلمسين لشرعية عقد معاهدات الصلح مع الصهاينة في التراث والتاريخ الإسلامي، سوف يخيب ظنهم، عندما يطالعون أن الفقه الإسلامي بصيغته التقليدية لم يتعرض لذكر أو بحث ما يسمى بـ (معاهدات صلح أو سلام دائمة)؟! لقد بحث الفقهاء المسلمون في تصنيف المعاهدات، ورأوا انقسامها إلى مؤقتة ودائمة، وهم يعنون بالدائمة منها عقد الذمة الممنوح لغير المسلمين داخل الدار الإسلامية ودون تحديد لأجل مالم ينقض هذا العهد بأمور لا يتسع المقام لذكرها. فيما يعنون بالمعاهدة المؤقتة عهد الأمان الممنوح لأفراد غير مسلمين يأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم ما داموا ملتزمين بشروط العقد، فإن كان المعاهدون فئة كبيرة، سمي العقد بالهدنة أو المهادنة، وفيما تشدد قسم من الفقهاء في تحديد زمن الهدنة بأربعة أشهر إلى السنة حال قوة المسلمين، وعشر سنين حال ضعفهم، فإن جمهور الفقهاء قد ذهبوا على تفويض الحاكم بتحديد المدة المتعاقد عليها دون اشتراط مقدار محدد إلا أنه محكوم في ذلك بالطبع بما تمليه عليه المصالح العليا للمسلمين.
المهم أن الفقهاء لم يتعرضوا لبحث حالة الصلح الدائم، بل نصوا على منعها صراحة، لأن في ذلك حسب رأيهم تفريطاً بمبدأ الجهاد المستمر، وتضييعاً له، في الوقت الذي يقصد فيه من عقد الهدنة هو استجماع القوى وإعادة ترتيب الأوضاع وذلك لاستئناف الجهاد ضد الأعداء من جديد
وعلى الرغم من ذلك أقول: إن ما انتهى إليه فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ من عدم مشروعية عقد صلح دائم مع العدو إنما انبثق مع تأصيلهم للعلاقة مع الآخر بكون الأصل فيها الحرب لا السلم، ونظرتهم لمجريات الأمور والأحداث في ذلك الزمان، الأمر الذي لم يكن يسمح بمثل هذا الإجراء في ظل استمرار الفتوحات وحالة الجهاد المعلنة على الدوام، فهو تصور تاريخي لواقع زمني.
بيد أن ما انتهى إليه بعد ذلك بزمن علماء الأمة من الأصل في العلاقة مع الآخر هو السلم لا الحرب، يسمح لنا بالقول بمشروعية عقد الصلح الدائم مع العدو بالشروط الشرعية الضابطة لذلك. ومع هذا لا يستطيع أولئك الداعون إلى عقد صلح مع الصهاينة الاستناد إلى ذلك، إذا قمنا بتمحيص الشروط الشرعية الخاصة بعقد مثل هذه الاتفاقيات.
أول هذه الشروط يوجب أن يتولى عقد اتفاقية على درجة من الخطورة كهذه إمام المسلمين أو نائبه، ومعلوم أن المقصود بذلك هو الخليفة الأعلى للمسلمين أو من يكلفه وينوب عنه في ذلك، ولو تمسكنا بصورية هذا الشرط وحرفيته لانقطع أمل المهرولين إلى صلح الصهاينة، لانهيار نظام الخلافة الإسلامية منذ عقود، وانفراط عقد الأمة هنا وهناك، قد يتعلل البعض بمشروعية عقد رئيس أو ملك كل دولة إسلامية بنفسه لهذا الاتفاق، مع فتوى بعض الفقهاء بجواز ذلك للضرورة، بيد أن هذه الحال أيضاً مقيدة بكون المتولي لهذا العقد جماعة من ولاة المسلمين عند بعض الفقهاء، وجميع الولاة دون استثناء عند جمهور الفقهاء، بما يضمن اتفاق كلمتهم، وعدم تعرض فئة من المسلمين للأذى والضرر نتيجة عقد صلح دائم مع عدو لجميع المسلمين لا لفئة منهم. الأمر الذي لم يتحقق في اتفاقيات الصلح المعقودة مع الصهاينة الغاصبين.
ثاني هذه الشروط، أن يكون الدافع لعقد مثل هذه المعاهدة مع العدو، ضرورة ملجئة، وهي الحال التي يترتب على فقدانها هلاك وفساد عظيم في الدنيا أو الدين، كخشية الهلاك والاستئصال لكافة المسلمين إذا رفضوا المصالحة، أو ضياع أجزاء جديدة من أراضيهم لا يستطيعون الدفاع عنها مطلقاً فإذا كانت المهادنة تؤدي إلى الخطر ذاته ـ وهو ما يحصل اليوم ـ فلا يجوز اللجوء إليها، بل الواجب يحتم الجهاد وتحمل كافة المشاق في سبيل ذلك، فإن وجدت ضرورة ملحة لذلك وجب أن يكون التصرف في حدود ما ألجأت إليه ولا يجوز تجاوز ذلك بالمزيد من التنازلات غير المبررة، فأين الضرورة الملجئة بحيثياتها المتقدمة لدى من دعا إلى معاهدة سلام مع العدو، وهل التزم العاقدون لها بحدود الضرورة (المزعومة) أم أنهم تجاوزوها، فارضين بذلك تنازلات مؤلمة وفظيعة على الأمة جمعاء!؟؟
ثالث هذه الشروط أن يكون للمسلمين مصلحة معتبرة في هذه المعاهدة تبرر الإقدام عليها، إلا أن المتفحص لهذه الاتفاقات يعلم خلوها عن أية مصلحة تذكر للمسلمين، بل إن المفاسد التي لحقت بهم جراء عقدها، أعظم من أن تحصى، فالغزو والاختراق العقائدي والثقافي والفكري الذي نخر في جسدنا الواهن أصلاً شاهد على ذلك، فضلاً عن الاختراق الأخلاقي والاقتصادي المنسوب إلى مجتمعاتنا وصولاً إلى تفكيك الروابط الاجتماعية وزرع الخلافات الداخلية في العالم الإسلامي والعربي على الخصوص، مما أضحى معروفاً لدى أطفال المدارس في صفوفهم الأولى!!
أما الشرط الرابع وهو شرط شكلي ـ حسب التعبيرات القانونية ـ فيبحث في كتابة هذه الاتفاقات والإشهاد عليها لتكون واضحة لا لبس فيها، ولا مجال لاحتمالية تفسيرها، وما نراه في الوقوف على كل بند من بنود تلك الاتفاقات والاختلاف فيه، يثبت أن من صاغها لم يقصد سوى صياغة شروط ضبابية عائمة تؤجل الهام من قضاياها إلى مرحلة لاحقة، ولا يستبين منها سوى تلك البنود التي تلزم العرب بحفظ أمن الصهاينة وتثبيت كيانهم بل والمحافظة عليه؟! .
الشرط الخامس لصحة هذه الاتفاقات شرعاً، ينص على ضرورة خلوه من الشروط الفاسدة التي لا تنسجم مع مصالح المسلمين، أولاً تتفق مع تعاليم الشريعة الغراء ويكفي لإثبات مخالفة هذا الشرط، أن نعلم ما تنص عليه هذه الاتفاقات صراحة من ضرورة الاعتراف بالصهاينة وكيانهم المصطنع وبشرعية احتلاله للأراضي المغتصبة عام 1948وملكيتهم لها إلى الأبد، والتعاون الأمني معه بما لا يخدم إلا مصالحه وأهدافه الدنيئة.
على الرغم من دعوة الإسلام إلى السلم ورفضه لكافة أشكال العلاقات المؤسسة على التنافر والتناحر المفضية للحروب وسعيه لتأسيس مجتمعات آمنة، تشيع فيها مفردات التعارف والإخاء لإتاحة الفرصة أمام دعوته للانتشار والوصول إلى العقول والأفئدة، فإن ذلك لا يعني بأي حال أن يتم الرضوخ للظلم والعدوان والاحتلال، وأن (يتسامح) مع الغاصبين للحقوق والأراضي ذاك (التسامح المقيت) الذي يشرع للتفريط بالحقوق والمقدرات، تحت أي ذريعة ومبرر، مهما كانت الظروف المكتنفة لهذا الاتفاق، أو الحال التي وصل إليها المسلمون من الضعف والتشتت والمهانة، فالحقوق لا تضيع بضعف أهلها، وأضعف الإيمان أن يلتزم المرء الصمت حيال تلك الدعوات الخبيثة، أن يمارس بدلاً من ذلك شتى صنوف المقاومة للمحتل والغاصب، فلكل زمان دولة ورجال، وإذا كان دوام الحال من المحال، إلا أن ]الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[.