تأثير الكوارث البيئية على العلاقات الدولية
مرسل: الاثنين يونيو 06, 2011 1:00 am
بسم الله الرحمن الرحيم
تحية طيبه, وبعد :تقدم قضايا البيئة برهاناً عملياً على ما للمعرفة من سلطان، بل وتضفي عليه بعداً دولياً، من خلال ما سمي «الجماعات المعرفية»، وهي مجموعة الخبراء الذين تتخطى اهتماماتهم وأنشطتهم حدود القوميات، وينحازون إلى المعرفة ويعلون من دورها، من دون نظر إلى دولة أو مجتمع بعينه، ويجمعهم فهم مشترك لقضية أو مشكلة، أو استجابات سياسية مفضلة. ويزيد من سلطان هذه المجموعة أن بعض جوانب قضايا البيئة ذات طابع تقني وعلمي معقد من جهة، وأن الكوارث الطبيعية أصبحت مشكلة عالمية، ولا تقتصر على بلد أو إقليم معين، من جهة ثانية.
وبصفة عامة، فقد أدى توزع الجدل العلمي حول البيئة على مختلف نظريات العلاقات الدولية، إلى تعميق الفهم في تلك النظريات جميعاً، فالعلماء الذين عكفوا على دراسة هذا الأمر ينتمون إلى مدارس وتوجهات مختلفة، واستغل كل منهم تعقد هذا الموضوع وتشعبه، ليجذب القضية إلى المساحة النظرية التي يقف عليها، مستخدماً الكثير من الأدلة التي تدعم وجهة نظره، سواء كان من أصحاب النظرية الواقعية، أم الواقعية الجديدة، أم التعددية، أم المؤسساتية الليبرالية، أم البنيوية، أم الماركسية الجديدة، أم ممن يطالبون بالمساواة بين الجنسين (الجندر).
ومما أسهم في زيادة هذا العمق أن هناك همزات وصل بين البشري والطبيعي في الكوارث، بل إن العلاقة بين الاثنين تصل إلى حد السببية في بعض الظواهر. فبعض العلماء يرى مثلاً أن إعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة الأميركية نجم عن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، وعن عدم مطابقة تخطيط مدينة نيو أورلينز، التي اجتاحها الإعصار، لشروط حماية البيئة، من زاوية تجفيف معظم الأرض الرطبة التي تحيط بالمدينة، والتي كان من شأنها أن تمتص جزءاً كبيراً من مياه الفيضان، وبالتالي تنقذ عشرات الآلاف من البشر من التشرد.
ونظراً الى عجز البشر عن مواجهة «غضب الطبيعة» فقد وجدوا أنه من المفيد أن يتعاونوا ويتكاتفوا، وأدى هذا إلى نوع من أنسنة العلاقات الدولية. وعلى رغم أن هذه مسألة تبدو مثالية في ظل علاقات دولية تجنح إلى التنافس والصراع أكثر مما تميل إلى التعاون والتكامل، فإن هذه الرؤية وجدت ظلها في «القانون الدولي الإنساني»، الذي لم يكتف بتنظيم علاقات الدول وقت السلم، بل امتد إلى ساحات الحرب، لحماية المتضررين من النزاعات المسلحة. وجسَد قانونا جنيف ولاهاي هذا الأمر، فالأول يتعلق بحماية فئات معينة من الأشخاص والأموال الثابتة والمنقولة، في حين ينظم الثاني استخدام وسائل القتال وطرقه وسلوك المتحاربين. وكل ما سبق يمثل «قانون الحرب»، وهو الحد الذي لم يقف عنده فقهاء القانون الدولي، بل طرحوا مفهوماً أكثر تقدماً، هو القانون المضاد للحرب، أو منع «حق الحرب»، باعتبار أن حظر الحرب يجب أن يكون هو الأصل.
كما أدى التفكير في الكوارث الطبيعية والبشرية إلى نوع من تسييس الطبيعة، وذلك استناداً إلى أن حياتنا صارت مسيسة في شكل أو آخر، بعد أن أصبحت السياسة متداخلة مع الكثير من سلوكنا، وعاداتنا اليومية، وامتدت ذراعها، فطوقت كل ما كنا نعتقد في الماضي أنه بعيد منها كل البعد. وعملية تسييس الظواهر الاجتماعية كانت هي الآلية التي ميزت علم السياسة في القرن العشرين عن القرون التي خلت. فقديماً، كان هناك فرق واضح بين السياسي والأخلاقي.
وفي ثنايا هذا الفضاء العام لتسييس الظواهر، تأتي الكوارث الطبيعية لتلقي بنفسها في غمار العملية السياسية، في بعديها المحلي والدولي. فهذه القضايا برزت في نهاية القرن العشرين إلى واجهة الاهتمامات السياسية العالمية، فهي حتى في جانبها التقني تستدعي استجابات سياسية. وجاء رد الفعل السياسي على ما فرضته البيئة من قضايا في شكل استحداث أنظمة ومؤسسات للتحكم في البيئة، وإبرام اتفاقات عالمية في شأنها، وقيام أنماط عدة من التفاعلات الدولية حولها.
وبلغ تسييس الكوارث البيئية والبشرية ذروته مع ظهور فاعلين دوليين جدد أطلوا على الدنيا، بعد أن كانوا في رحم الغيب. فنظرية العلاقات الدولية التقليدية كانت تنظر إلى الدولة على أنها الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، لكن التاريخ الحديث والمعاصر شهد ميلاد «فاعلين دوليين» آخرين. وكان لقضية البيئة نصيب في هذا المضمار. فخلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، ولدت ونمت حركات «الخضر» والكثير من المنظمات البيئية والصناعية غير الحكومية، وراحت تمارس دوراً عالمياً في سبيل الحفـــاظ علــــي البيئة، جنباً إلى جنب مع الدول، كما ظهرت منظمات وهيئـــات دولية تعمل في مجال تجنب الكوارث الإنسانية، وتحض على أن يساعد البشر بعضهم بعضاً، حال وقوع أي كارثة طبيعية.
كما أرخت قضايا الكوارث بظلالها على مسألة السيادة. فما فرضته العولمة قسراً أو بالتراضي، نال كثيراً من المفهوم التقليدي لسيادة الدول، إذ لم يعد بمقدور الأخيرة أن تدعي أن لها حدوداً بوسعها أن تمنع تدفق السلع والمعلومات، وأن بإمكانها رفض مطالب مؤسسات «المجتمع المدني العالمي»، بخاصة تلك المهتمة بحقوق الإنسان والتبشير بالقيم الديموقراطية.
وأتت قضايا الكوارث البيئية لتضيف زخماً جديداً إلى الجدل الدائر حول حدود سيادة الدولة في ظل تجبر العولمة. فالمشكلات البيئية التي تتخطى الحدود تفرض تحديات الأفكار السائدة حول سيادة الدولة، لا سيما أن هذه المشكلات نادراً ما تنتجها سياسات وطنية متعمدة، بل هي في الأساس تنجم عن تأثيرات جانبية غير مقصودة لعمليات اقتصادية - اجتماعية أوسع نطاقاً.
لكن الأهم أن الكوارث رسمت حدوداً للقوة وقيوداً عليها. فالكوارث الطبيعية، خصوصاً الضخمة، باتت محكاً مهماً لاختبار حدود القوة، إذ إنها تكون في كثير من الأحيان فادحة إلى درجة لا تستطيع أي دولة بمفردها أن تواجهها، مهما كانت قدراتها، ومهما علت مكانتها. بل إن جميع دول العالم، غنية أم فقيرة، سواسية أمام هذه الكوارث. وهذا الوضع ساعد كثيراً أنصار المدرسة العلمية، التي تحاول أن تجعل من العلاقات الدولية مجالاً للتكامل، وليست ساحة للصراع الممقوت، الذي يسبب مزيداً من التعاسة للبشرية جمعاء.
كما أدى التفكيــر في سبل التغلب على الكوارث الطبيعية والبشرية إلى الاهتمام بنظريات التنمية المستدامة وتطبيقاتها العملية. فهذا المفهوم، الذي تستعمله الأدبيات الاقتصادية بإفراط، ولد من خلال المناقشات التي دارت حول البيئة والاقتصاد، وظهر تحديداً في التقرير الصادر عام 1987 عن «اللجنة العالمية للبيئة والتنمية» التابعة للأمم المتحدة، والمعروفة بـ «لجنة بورنتلاند»، ورمى إلى أن تضع الخطط الاقتصادية في حسبانها عدم الجور على البيئة من جهة، وعلى احتياجات الأجيال القادمة من جهة ثانية، وإيجاد حالة من التوازن بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة. فالإفراط في استخدام الموارد الطبيعية، من أجل تلبية الاحتياجات الآنية، يكون على حساب المطالب الآتية، خصوصاً إن صوحب استعمال الموارد بتلويث للبيئة وتدمير لبعض الثروات الطبيعية، وفتح الطريق أمام حدوث كوارث طبيعية، أو زيادة حجم الأضرار التي تنجم عن أي إعصار أو فيضان أو زلزال أو بركان.