منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#38699

أمريكا وديمقراطية الأنابيب!




إدريس الكنبوري
أعلنت الإدارة الأمريكية يوم 9 فبراير على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش عن وضع مشروع جديد أطلقت عليه تسمية"الشرق الأوسط الكبير"، من أجل دمقرطة المنطقة العربية والعالم الإسلامي وتطوير الحالة السياسية فيهما، والدفع بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبالإطلاع على النص الكامل للمشروع، يتضح لنا بأنه لا يختلف كثيرًا عما طرحه قبل عامين كل من "ريتشارد هاس" مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية، وكولن باول كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية، باسم "مبادرة الديمقراطية" في العالم العربي، ويمكن ملاحظة أوجه الاختلاف بين المشروعين السابقين والمشروع الحالي في نقطتين:
ـ النقطة الأولى: أن مشروع بوش يأتي قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سيخوض فيها الرئيس الجمهوري منافسة قوية مع غريمه الحزب الديمقراطي، وهو لذلك يريد إقناع الرأي العام الأمريكي بأنه يحمل مشروعًا شاملاً لتغيير منطقة الشرق الأوسط، وأن احتلال العراق لم يكن سوى الحلقة الأولى في هذا البناء الكبير، ومن ثم فإن هذا الاحتلال مشروع من هذه الناحية، وهو رد غير مباشر على الحملة التي يواجهها بوش حاليًّا بعد انكشاف الأكاذيب المخابراتية بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
ـ النقطة الثانية: أن المشروعين السابقين كانا مشروعين أمريكيين، دعوة وتنفيذًا، وقد لقيا لهذا السبب اعتراضًا قويًّا من لدن بلدان الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك التي كانت تعارض الحرب على العراق، أما المشروع الحالي فتريد الإدارة الأمريكية إشراك الاتحاد الأوروبي ومجموعة الثمانية الكبار فيه، وسوف تقدمه لقمة هذه الأخيرة التي ستعقد في يونيو القادم بالولايات المتحدة الأمريكية، للحصول على دعم أعضائها، كما أن المشروع يتضمن عدة إشارات إلى هذه الدول باعتبارها مسؤولة عن تطبيق ما ورد فيه ورعاية تنفيذه وتحمّل جزء من تمويله.
لكن مشروع بوش لا يختلف كثيرًا من حيث مضامينه عن مشروعي هاس وباول، فهو استمرار لهما في الروح التبشيرية التي انطلقا منها، كما يشترك معهما في القناعة بأنه لا بد من تغيير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة.

مفهوم الشرق الأوسط الكبير

يعتبر المشروع أن مفهوم الشرق الأوسط الكبير، مع زيادة هذه الصفة إليه، يقصد به عموم المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، ولكنه يدخل فيه البلدان الإسلامية الأخرى غير المحسوبة على الشرق الأوسط مثل باكستان وإيران وتركيا وأفغانستان، وبطبيعة الحال الكيان الصهيوني الذي يعتبره المشروع جزءًا من الشرق الأوسط الكبير، مع ملاحظة أنه يعتبر الكيان الصهيوني البلد الديمقراطي الوحيد في هذا المحيط الجيوـ سياسي، ويهم المشروع كامل المنطقة التي تمتد من المغرب إلى باكستان.
مثل هذا المفهوم للشرق الأوسط لا بد أن يذكرنا بمفهوم آخر سبق وأن تم التسويق له على نطاق واسع في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، بعد المؤتمر الاقتصادي الشهير للشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي عقد بمدينة الدار البيضاء عام 1994، وهو"الشرق الأوسط الجديد"، والذي كان قد بشر به وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت شيمون بيريز الذي شارك في المؤتمر إلى جانب رئيس الوزراء المغتال أسحق رابين. ولكن مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي نادى به بيريز في كتاب له بنفس العنوان كان ذا أبعاد اقتصادية صرف، الهدف منه تحويل الكيان الصهيوني إلى دولة طبيعية في المحيط العربي من خلال آليات العمل الاقتصادي والتجاري المشترك مع البلدان العربية، وقطف ثمار التطبيع الاقتصادي الذي بدأ ينشط بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، بينما مفهوم الشرق الأوسط الكبير يتسع ليأخذ أبعادًا شاملة تصب في الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، وتشكل الولايات المتحدة محورًا له.

النواقص الثلاث

ينطلق المشروع الأمريكي الجديد في تسويغ مطالبته بالإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي والإسلامي من تقريري التنمية البشرية العربية لعامي 2002 و 2003 الذين شخصا مواضع الأزمات في المجتمعات العربية وعوامل التخلف فيها، من ذلك مؤشرات التنمية الاقتصادية ومستوى الدخل الفردي ونسبة الأمية وغياب الديمقراطية وضعف المشاركة السياسية والفساد السياسي وغياب حرية التعبير وتبعية الإعلام الرسمي وغياب مجتمع المعرفة والمعلومات والفقر والبطالة، وهي ظواهر حقيقية يعيشها العالم العربي ولا يمكن التغافل عنها.
ويرى المشروع أن هناك نواقص ثلاث يعتبر أنها" تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية"، وهي: الحرية والمعرفة وتمكين النساء، ويضيف أنه "طالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة"، وبعد أن يورد بعض الإحصاءات والأرقام الواردة في تقريري التنمية البشرية العربية المشار إليهما أعلاه، يقرر بأن"المنطقة العربية تقف عند مفترق طرق"، ليستنتج بأن"البديل هو الطريق إلى الإصلاح".

ما هي مرتكزات الإصلاح؟

يتضمن المشروع ثلاث أعمدة رئيسة ترتكز عليها خطة تغيير منطقة الشرق الأوسط الكبير:
ـ تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.
ـ بناء مجتمع معرفي.
ـ توسيع الفرص الاقتصادية.
وتعتبر هذه بمثابة الأولويات الضرورية لتغيير وتنمية المنطقة، حسب واضعي المشروع؛ "فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية"، ويدعو المشروع في إطار تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح في العالم العربي إلى تنظيم انتخابات حرة، وتنظيم زيارات متبادلة على الصعيد البرلماني بين هذه البلدان ودول مجموعة الثماني التي يدعوها المشروع إلى تبني أطروحاته وتمويل مشاريع الإصلاح في المنطقة العربية، ورعاية معاهد لتدريب النساء على القيادة السياسية، وتقديم المساعدة القانونية للناس العاديين. كما يدعم المشروع مبادرة تطوير وسائل الإعلام المستقلة والحرة في العالم العربي، وتنمية دور المجتمع المدني.
أما على صعيد بناء مجتمع معرفي؛ فالمشروع يرى أن الفجوة المعرفية في المنطقة العربية ونزيف الأدمغة يشكلان تحديًا لآفاق التنمية فيها، لذلك فهو يدعو إلى دعم التعليم الأساسي وتعميمه والقضاء على الأمية، وتحديث التعليم بحيث يواكب التطورات التكنولوجية الحالية، داعيًا إلى إنشاء ما أسماه "مدارس الاكتشاف" أسوة بالأردن، ويدعو المشروع في نفس السياق إلى عقد قمة خاصة بإصلاح التعليم في المنطقة في شهر مارس الجاري أو أبريل المقبل، قبل انعقاد قمة دول الثماني في شهر يونيو القادم.
وفيما يتعلق بالشطر الثالث من مبادرة الإصلاح الخاص بتوسيع الفرص الاقتصادية، يلح المشروع على تجسير الفجوة الاقتصادية بين بلدان الشرق الأوسط الكبير، عبر إحداث تحولات اقتصادية تشبه في مداها ما حدث في البلدان الأوروبية الشرقية الشيوعية، وإطلاق قدرات القطاع الخاص، ويدعو البلدان الثمانية الأوروبية المتقدمة إلى دعم وتمويل ما يسميه"مبادرة تمويل النمو" التي تقوم على مشاريع الإقراض الصغيرة وإنشاء "مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير" تقوم دول الثماني بالمساهمة في تمويله، وهدفه تمويل مشروعات التنمية في المنطقة، كما يدعو إلى إنشاء"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" على غرار البنك الأوروبي للإعمار والتنمية، لمساعدة الدول الراغبة في الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية ( نشير إلى أن مشروع بيريز الذي أشرنا إليه أعلاه دعا إلى إنشاء بنك خاص بشمال إفريقيا والشرق الأوسط تقوم دول الخليج بتمويل القسط الأوفر فيه).

المشروع والخلافات الأوروبية ـ الأمريكية

كما سبق القول، لا يختلف المشروع الحالي لدمقرطة العالم العربي وتغييره عما طرحه مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس في 4 ديسمبر 2002 حول"المزيد من الديمقراطية في العالم العربي"، ووزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 12 ديسمبر 2002 بعده بأيام حول مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط، وما طرحه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه يوم 6 نوفمبر 2003 أمام"الصندوق القومي للديمقراطية"، ولكن الجديد في المشروع الأخير هو أن الولايات المتحدة تريد تقسيم الأدوار بينها وبين الاتحاد الأوروبي والبلدان الصناعية الكبرى، عبر إيكال بعض الأدوار إليها، لا تتجاوز التمويل وبعض التقنيات التي لا تمس بجوهر المشروع، بمعنى أن الإدارة الأمريكية تريد لمخطط إصلاح العالم العربي أن يكون أمريكي الصنع أوروبي التسويق والتمويل.
إن واشنطن من خلال رغبتها في إشراك الأوروبيين في مشروعها، تريد أن تعطي دفعًا أكبر له وتأييدًا دوليًّا أوسع لأهدافه، وهي بذلك تحاول في نفس الوقت كسب أوروبا إلى جانبها بعد الفجوة التي اتسعت بينهما منذ ما قبل الحرب على العراق في أبريل من السنة الماضية، خاصة فرنسا وألمانيا، وأن تظهر للبلدان الأوروبية بأنها لا ترغب في أن تستحوذ لوحدها على المنطقة، ولكنها تمنح لها فرصة للمشاركة في تشكيل مستقبل بلدانها، من خلال الإحالة في إحدى الفقرات على مسلسل برشلونة الأوروبي ـ متوسطي لعام 1995، على الرغم من أن ما هو مخول لأوروبا لا يتجاوز الجوانب المالية والفنية، كما تفعل الولايات المتحدة دائمًا في منطقة الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، حيث تكون مبادرات التسوية السياسية أمريكية، وتمويل الإعمار والبناء أوروبيًّا.
وقد وضعت ألمانيا في السابع من فبراير الماضي، بعد اطلاعها على المبادرة الأمريكية، مبادرة جديدة لتشكل نواة لمبادرة أوروبية أوسع تخص التغيير في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وركزت المبادرة الألمانية على الاعتبارات الأمنية في المنطقة التي تشكل خطرًا على الأمن الأوروبي والأمريكي، وهو ما يوحي بأن هناك تقاربًا أمريكيًّا ـ أوروبيًّا قيد التبلور فيما يتعلق بمبادرات الإصلاح السياسي في العالم العربي. ويوم السبت الماضي، انطلقت في بروكسيل مناقشات فرنسية ـ ألمانية بمشاركة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا بشأن ورقة عمل تتعلق بالشراكة الاستراتيجية مع الشرق الأوسط، سوف تتم مناقشتها في إطار أوروبي أوسع، قصد وضع تصور أوروبي مشترك قبل انعقاد قمة البلدان الثمانية بين 8 و 10 يونيو القادم، والتي سيقوم فيها جورج بوش شخصيًّا بطرح مشروع "الشرق الأوسط الكبير" فيها، كما أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد سيدافع عن الجوانب الأمنية في المشروع في قمة دول حلف شمال الأطلسي التي ستنعقد يومي 28 و29 يونيو في استانبول بتركيا. غير أن الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة فرنسا وألمانيا، ما زلت متسعة فيما يخص هذه المبادر؛ فأوروبا ترى أن المطلوب أولاً إنهاء ملف الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المسؤول عن توتر المنطقة، وطي الملف العراقي بزوال القوات الأمريكية وتفويض السلطة للعراقيين.

العرب أمام التحدي الجديد

رفضت بعض الدول العربية حتى الآن المشروع الأمريكي الداعي للتغيير السياسي والاقتصادي، بدعوى أنه يحاول الإتيان بالتغيير من الخارج وفرضه قسرًا على البلدان العربية، ووقعت الحكومتان السعودية والمصرية بيانًا رفضتا فيه الخطة لكونها مفروضة وتتجاهل الخصوصيات العربية، والتحقت سوريا بهما لاحقًا، لكن كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية كولن باول رد على هذه الاعتراضات بأن واشنطن" لن تقترح أبدًا خطة إصلاحات قادمة من الخارج"، وقال في الأسبوع الماضي في تصريحات له بأن كل ما تحاول الولايات المتحدة القيام به هو مساعدة هذه الدول على الإصلاح "بالطريقة التي يختارونها".
الإدارة الأمريكية أوفدت مبعوثًا خاصًّا إلى بعض الدول العربية هو مارك غروسمان وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، الذي بدأ جولة له في بلدان المغرب والمشرق العربي يوم الأحد الماضي بهدف طرح المبادرة الأمريكية على زعماء هذه الدول قبل انعقاد القمة العربية المقررة في العشرين من الشهر الجاري بتونس، وكانت بعض البلدان العربية قد أكدت بعد الاطلاع على الوثيقة الأمريكية بأن هذه الأخيرة يمكن أن تعرض للمناقشة في القمة إذا رغبت الدول العربية، ويبدو أن غرض جولة غروسمان هو فرض المشروع على القمة العربية لتتم مدارستها رسميًّا. وغروسمان هو المسؤول الأمريكي الثاني الذي يزور المنطقة العربية للترويج للمشروع، بعد الجولة التي قام بها ألان لارسون مساعد كاتب الدولة في الشؤون الاقتصادية والزراعية في الأسبوع الماضي.
هذه هي ديمقراطية الأنابيب الصناعية التي تريد الولايات المتحدة إنزالها من أعلى على بلدان العالم العربي وزرعها في جسمه، وهي تطرح تحديًّا جديًّا على العالم العربي والإسلامي الذي لم يعد يملك زمام أمره، وتفرض عليه بالتالي الاختيار بين نوعين من التغيير: التغيير من الداخل، أو التغيير القادم من الخارج والمفروض بالقوة والتهديد وربما بوسائل أكثر بشاعة. ويمكن القول إن هذه المشاريع الأمريكية المتعددة والمتوالية، وآخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، قد رسخت لدى القيادات والنخبة العربية قناعة مفادها أن المنطقة قد أصبحت اليوم في مرمى الاستهداف الأمريكي والغربي، ولكنها أيضًا رسخت قناعة أخرى من الضروري التجاوب معها، وهي أن الإصلاح بات مطلبًا ضروريًّا، وأن تفادي المخاطر الخارجية ينطلق من الإنصات للدعوات الداخلية بالتغيير.
والواضح أن المشروع الأمريكي يكتسي الكثير من النفاق، فهو يتجاوز المشكلات الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني والاحتلال الصهيوني لفلسطين، وما يحدث في العراق يقدم الدليل حسب العديد من الملاحظين الأوروبيين على فشل الولايات المتحدة في إرساء الديمقراطية التي تنادي بها، علمًا بأنها تدّعي بأن العراق سيكون اللبنة الأولى في بناء الشرق الأوسط الجديد الذي تدعو إليه.


http://islamtoday.net/bohooth/artshow-14-3417.htm