اسرى الحرب..وحقوقهم في التشريع الاسلامي
مرسل: الاثنين يونيو 06, 2011 6:54 pm
يفضي اختلاف مصالح الناس وأهوائهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم باختلاف ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم، إلى نشوء كثير من النزاعات والسجالات التي قد تكون في البداية مقبولة في حدود الاختلاف في القول والرأي، ولكنها ربما تطورت لاحقاً إلى نشوب نزاعات تكون الحرب والتقاتل سبيلاً وحيداً لحسمها ـ في نظر الأطراف المتناحرة ـ فإذا أنشبت الحرب أظفارها، واندلعت المواجهات بين الخصوم، تمخضت العديد من النتائج والآثار إنْ على صعيد الأفراد، أو على صعيد الأموال.
ففيما يخص الأفراد يجب أن تكون الأعمال القتالية، بحسب الرؤية الإسلامية، منضبطة بأحكام الشرع وملتزمة بالنصوص التشريعية الناظمة لتلك الأحوال. وفي الغالب يفضي أي صراع عسكري أو عمل قتالي بين خصمين متناحرين إلى حسم الموقف ـ عسكرياً ـ لصالح أحدهما، بما يترتب على ذلك من وقوع فريق من المتحاربين في الأسر، وهو ما يصطلح على تسميته حديثاً بـ (أسرى الحرب). فما هو حكم الشريعة الإسلامية في هذا الصنف من المقاتلين الذين قد يكونون غير مسلمين أصلاً؟ وما هي طبيعة الممارسات التي أمرنا باتباعها تجاههم في هذه الحالة؟
لقد عرف الفقهاء المسلمون الأسرى بأنهم : " الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء". وعرف القانون الدولي أسير الحرب بأنه: "كل شخص يؤخذ لا لجريمة ارتكبها، وإنما لأسباب عسكرية". ووقوع هؤلاء المقاتلين في أيدينا طوعاً أو كرهاً اقتضى تخصيصهم بجملة من التصرفات والممارسات المتناسبة مع الوضع الجديد الناجم عن انتهاء حالة الحرب.
ورغم أن ذاكرة التاريخ تحتفظ لنا بصور شنيعة عن أساليب معاملة الأمم والشعوب السالفة للأسرى، فإن مطالعة الأحكام الخاصة بهم في الفقه الإسلامي تجعل من أسلوب معاملتهم مثالاً يحتذى لكافة القوانين والتشريعات الأخرى. ففي غابر العصور كان الأسير يذبح أو يقدم قرباناً للآلهة، ثم صار يستعبد ويباع رقيقاً كسلعة تجارية، فيما عامل الفرس أسراهم بقسوة بالغة لايتوانون خلالها عن التنكيل والتعذيب وحتى القتل والصلب لهم، وهو الأمر ذاته الذي انطبعت به عادات العرب في جاهليتهم فيما يخص معاملة أسراهم.
فإذا انتقلنا إلى الحقبة الإسلامية من التاريخ، فإننا سوف نجد أن الإسلام قد أقر بموضوعية بالغة بالآثار الناجمة عن انتهاء الحرب، ومنها وقوع عدد من المقاتلين في الأسر، بل إنه قنّن هذه الحالة بقوله تعالى: "وخذوهم واحصروهم"، ولعل الآية الرابعة من سورة (محمد) في القرآن الكريم تعد تقنيناً متكاملاً لأحكام أسرى الحرب وكيفية معاملتهم: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منّاً بعد، وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها".
لكن اعتراف الإسلام هذا لم يُحل دون أن ينال هذا الجانب التشريعي منه حظه في بيان أسس وأساليب المعاملة، والتي تنبع من مراعاة حال انتهاء الحرب التي كانت قائمة، واعتبار آدمية وإنسانية هؤلاء المقاتلين في التعامل، وحتى الإحسان إليهم، فجاء في إحسان معاملة أسرى بدر قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيراً).
وسجلت لنا كتب السيرة النبوية صفحات ناصعة عن معاملة المسلمين لأعدائهم من مشركي مكة، وذلك بشهادة أولئك الأسارى أنفسهم، فيروى أن أبا عزيز بن عمير شقيق سيدنا مصعب بن عمير، أسر يوم بدر، فكان يحدث عن ذلك: " .. فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما يقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي فأردها على أحدهم، فيردها عليَّ ما يمسها". ومعلوم أن الجزيرة العربية في ذلك الوقت لم تكن تزرع البر أو القمح بقدر زراعتها للنخيل، وخاصة المدينة المنورة، فقد كان الخبز في ذلك الوقت أغلى قيمة وأندر زراعة من التمر. وقال عز وجل في ثنائه على المحسنين إلى الفئات البائسة من الناس: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً يتيماً وأسيراً" في إشارة واضحة إلى أهمية هذا الفعل وجسامته.
ونص الفقهاء على حرمة تعذيب الأسير بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب، ولا عبرة بعد ذلك باختراع أعذار واهية لممارسة أي صنف من صنوف المعاملة السيئة للأسير، ولو كان الثمن معلومات خطيرة الأهمية، في ضوء عناية القرآن والسنة واهتمامهما بإحسان معاملة الأسرى، خصوصاً وأن ذلك لايجدي ـ في الغالب ـ نفعاً معهم، والمثل العربي يقول : " أكذب من أخيذ الحرب" للدلالة على عدم جدوى المعلومات المنتزعة من الأسير بالتعذيب والإرهاب مالم يكن هو المبادر للإفصاح عنها باستخدام وسائل أخرى من الترغيب والترهيب.
وهذا الحكم يتوافق مع ما هو مقرر في القانون الدولي بأنه لا يجوز تعذيب الأسير للحصول على أسرار عسكرية، حسب اتفاقية جنيف سنة 1949م. ومنها الإدلاء باسمه ولقبه ورتبته العسكرية، ورقم تحقيق شخصيته في الجيش وتاريخ ميلاده.
ولكن، وفي ضوء المعاملة الحسنة التي يحظى بها أسير الحرب في التشريع الإسلامي، فما هو المصير الذي سوف يؤول إليه في نهاية المطاف؟ يتفق التشريع الإسلامي هنا مع القانون الدولي ( اتفاقية جنيف سنة 1929) على معاملة الأسير معاملة أسير الدولة، لا أسير الشخص أو الوحدة العسكرية التي أسرته، وبالتالي فإن البتّ في مصير أسرى الحرب موكول إلى الدولة ممثلة بالحاكم الأعلى ـ أو حسب نظامها السياسي ـ بشرط مراعاة المصلحة العامة والأعراف والاتفاقات الدولية المبرمة في هذا الخصوص. ونستطيع من خلال استقراء المذاهب والآراء الفقهية ملاحظة اجتهادات متعددة للبت في شأن الأسرى:
فقد ذهب الحنفية إلى تخيير ولي الأمر أو من ينيـبه عنه في شأن أسرى الحرب بين أمور ثلاثة: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما تركهم أحراراً ذمة للمسلمين إلا مشركي العرب والمرتدين، فإنهم لا يسترقون ولا يكونون ذمة. وحرم جمهور الحنفية ـ عدا الإمام محمد ـ المنّ على الأسرى ( وهو إطلاقهم إلى دار الحرب دون مقابل)، فيما أجازه الإمام محمد منهم، إن تحققت مصلحة معتبرة في ذلك.
وذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة والإمامية والإباضية وغيرهم: إلى تخيير الإمام أو نائبه بما يراه من المصلحة بين أحد أمور أربعة: وهي القتل والاسترقاق والمن والفداء بالمال أو بأسرى مثلهم. وانفرد المالكية بإضافة خيار خامس له، وهو ضرب الجزية على الأسرى.
وقبل أن نناقش هذه الآراء لابد من الإشارة إلى أن تخيير الإمام أو نائبه بين هذه الأمور يجب أن يكون منضبطاً بمراعاة مصلحة الأمة، لا لمجرد الهوى والتشهي، وإلا كان تصرفه باطلاً اتفاقاً. فإذا استقرت هذه القاعدة في أذهاننا، وعلمنا مدى ارتباط المصلحة الشرعية العامة بموضوع البت في مصير الأسرى، نظراً لاندراجه تحت فصول السياسة الشرعية المنضبطة أساساً بالنصوص الشرعية ثم بالمصلحة العامة للأمة، أمكننا أن نقرأ النص القرآني المتعلق مباشرة بهذا الشأن، وأن نتفهم الأحداث التي يزخر بها التاريخ الإسلامي عن تباين واختلاف أساليب معاملة أسرى الحرب، عن الرؤية الشرعية الأساسية في هذا الموضوع والمؤصلة في القرآن الكريم.
يقول الله عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها" [ محمد:4] . فالآية ترشد، بداية، المؤمنين إلى وجوب اعتماد الشدة و(الإثخان في القتل) في صفوف العدو، الذي ينطبق عليه وصف الاختلاف في الدين (كفروا)، مما يعني اختلاف الأسلوب حالة كون العدو مسلماً، سواء في طريقة القتال (الإثخان)، أو في أسلوب المعاملة بعد انتهاء الحرب (حالة الأسر). وبعد أن تضع الحرب أوزارها، ويثخن المسلمون في عدوهم الكافر قتلاً وتنكيلاً، تطلب الآية من المؤمنين (شد الوثاق) على أسرى الحرب حتى لا يتمكنوا من الهرب والفرار، وهو أمر مشروع في كافة القوانين والشرائع ولا مجال للجدال أو السجال حوله، ثم ترشد الآية، ختاماً، إلى الخيارات المتاحة أمام المسلمين (أو ولي الأمر على وجه الدقة)، وهي : إما أن يمنّ المسلمون على هؤلاء الأسرى بالحرية وفك الأسر دون مقابل، إذا تحصلت مصلحة أخرى جديرة بالاعتبار في مقابل ذلك، وإما أن يفادي المسلمون أسرى الحرب بمال أو بنظرائهم من أسرى المسلمين.
إذن، هذه هي الخيارات المتاحة أمام الأمة ( المن أو الفداء)، وقد جاءت السيرة النبوية العطرة تطبيقاً عملياً لهذه المبادئ القرآنية السامية، وحفلت كتب السنة بالاحتفاء بمعاملة أسرى الحرب، بل والإحسان إليهم وتمييزهم بالمعاملة حتى على المسلمين أنفسهم. أما بقية الخيارات التي اقترحها الفقهاء في مصير الأسرى، فإننا نستطيع القول: إن حجة من ذهب إلى جواز قتل الأسير لا تعدو أن تكون نسخاً لهذه الآية المحكمة من سورة (محمد) بآية السيف : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، أو آثاراً من السنة وردت بقتل أفراد معينين من العدو بعد أسرهم في بعض المواقع، كيوم بدر واحد وقريظة وفتح مكة. والصحيح أن آية السيف التي تمسك بها بعض العلماء إلى درجة أن وصل بهم الأمر إلى نسخ عشرات الآيات الواردة في موضوع الجهاد والقتال في القرآن، لا تنسخ هذه الآية لعدم تحقق شروط النسخ المعروفة لدى العلماء في هذه الحال، ومنها معرفة المتقدم من المتأخر من الآيتين، وتحقق وجود المعارضة بينهما، وهو الأمر الذي يمكن نفيه من خلال الجمع بين الآيتين وإعمال آية السيف فيمن كان حرباً على المسلمين من المشركين، وآية سورة محمد فيمن وقع في الأسر منهم بعد انتهاء الحرب، أما الحوادث الفردية التي تم الاستشهاد بها، فإنها لا تعدو أن تكون اجتهاداً نبوياً لحسم فساد بعض الأفراد الذين كانوا من مسعري الحرب على الإسلام، بل إن منهم من كان قد منَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك بشرط عدم معاودة الكرّة، فإذا به ينخرط مجدداً في الحرب على المسلمين، وهو شبيه بما يسمى حديثاً بمحاكمة مجرمي الحرب الذين بلغوا من الإفساد والتنكيل بخصومهم في ساحات الحرب وخارجها مالم يبلغه غيرهم من الأسرى.
وفيما يتعلق بالاسترقاق، فإن النهج الإسلامي كان واقعياً في التعامل مع هذا الموضوع بمراعاة الأعراف والعادات الشائعة في ذلك العصر، والقاضية بمعاملة العدو بالمثل، بل إن إغفال القرآن لهذا الخيار عمداً بصيغة لغوية تفيد الحصر والاقتصار على هذين الخيارين ليرهص بموقف سلبي من هذا الخيار، ويبشر بقرب انتفائه بحسب توافق الإرادات البشرية فيما بعد، وإلا لبقي هذا الخيار واجباً قرآنياً إلى يوم الدين مع بقية الخيارات الأخرى.
أما ضرب الجزية على الأسرى أو إلزامهم بمبلغ معين من المال، فإنه لا يعدو أن يكون ضرباً من الإلزام المادي بالفداء، وهو أمر مشروع حسب النص القرآني. ولا حجة بعد ذلك في ادعاء عدم حصر دلالة الآية على هذين الخيارين، بحجة وجود بعض النقول اللغوية التي تفيد عدم حصر دلالة ( إما) لغوياً، فإننا إذا سلمنا جدلاً بذلك، فإننا سوف نحار في الإجابة على التساؤل التالي وهو: لماذا لم يذكر القرآن صراحة بقية الخيارات التي نص عليها العلماء، واقتصر على ذكر هذين الخيارين بالذات؟ وما الحكمة في ذلك؟ ويبدو أننا لن نجد جواباً مقنعاً لهذا التساؤل سوى الإذعان بدلالة (إما) الحصرية في هذه الآية على المعنى المراد منها، إعمالاً للنص القرآني والتزاماً بمقتضى أحكامه.
قد يوهم هذا الاستقراء السريع لأحكام أسرى الحرب في التشريع الإسلامي أنها أحكام متهاونة، متهاودة الجزاء مع عدد مفترض، بيد أن الالتزام بمضمون الرؤية الإسلامية النابعة من النصوص التشريعية الأصلية (الكتاب والسنة) مقدم على هذا الشعور أو الإحساس الزائف. ولا ننسى أن الاستثناء من القاعدة العامة موجود وحاضر دوماً، وأن وظيفة هذا الاستثناء هي تأكيد القاعدة لا نفيها، وفي ضوء ذلك يمكننا فهم الحوادث التاريخية المتناثرة على أنها استثناء من الأصل الشرعي للحكم، وهو ما يعني جواز اللجوء إلى ذلك الاستثناء في حالات نادرة، كما في حالة ( مجرمي الحرب).
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن ما تم استعراضه من أحكام أسرى الحرب، هي أحكام موجهة في الأصل إلى عدو الأمة وخصومها من المحاربين وغير المسلمين (حسب اصطلاح الفقهاء)، فيما تختلف زاوية الرؤية في التعامل والحكم عندما يكون الأسير مسلماً مهما كان مجرماً في حق أمته ودينه وأهله، وهو الأمر الذي راعته أحكام الشريعة، فقررت عدم جواز الإذفاف على الجريح المسلم، أو ملاحقة الهارب من ساحة المعركة، أو قتله صبراً بعد انتهائها، وعندما تتم محاكمته وفق قوانين الشريعة الإسلامية، فإننا يجب أن ننظر إلى فداحة أفعاله وجسامتها بحد ذاتها، لا أن نعامله كأسير حرب لقوم محتلين لبلادنا، مهما كانت الضغوط الدولية والإقليمية الممارسة علينا من الاحتلال ذاته، أو ممن لفّ لفه من أبناء جلدتنا بدافع الحقد والضغينة والثأر.
ففيما يخص الأفراد يجب أن تكون الأعمال القتالية، بحسب الرؤية الإسلامية، منضبطة بأحكام الشرع وملتزمة بالنصوص التشريعية الناظمة لتلك الأحوال. وفي الغالب يفضي أي صراع عسكري أو عمل قتالي بين خصمين متناحرين إلى حسم الموقف ـ عسكرياً ـ لصالح أحدهما، بما يترتب على ذلك من وقوع فريق من المتحاربين في الأسر، وهو ما يصطلح على تسميته حديثاً بـ (أسرى الحرب). فما هو حكم الشريعة الإسلامية في هذا الصنف من المقاتلين الذين قد يكونون غير مسلمين أصلاً؟ وما هي طبيعة الممارسات التي أمرنا باتباعها تجاههم في هذه الحالة؟
لقد عرف الفقهاء المسلمون الأسرى بأنهم : " الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء". وعرف القانون الدولي أسير الحرب بأنه: "كل شخص يؤخذ لا لجريمة ارتكبها، وإنما لأسباب عسكرية". ووقوع هؤلاء المقاتلين في أيدينا طوعاً أو كرهاً اقتضى تخصيصهم بجملة من التصرفات والممارسات المتناسبة مع الوضع الجديد الناجم عن انتهاء حالة الحرب.
ورغم أن ذاكرة التاريخ تحتفظ لنا بصور شنيعة عن أساليب معاملة الأمم والشعوب السالفة للأسرى، فإن مطالعة الأحكام الخاصة بهم في الفقه الإسلامي تجعل من أسلوب معاملتهم مثالاً يحتذى لكافة القوانين والتشريعات الأخرى. ففي غابر العصور كان الأسير يذبح أو يقدم قرباناً للآلهة، ثم صار يستعبد ويباع رقيقاً كسلعة تجارية، فيما عامل الفرس أسراهم بقسوة بالغة لايتوانون خلالها عن التنكيل والتعذيب وحتى القتل والصلب لهم، وهو الأمر ذاته الذي انطبعت به عادات العرب في جاهليتهم فيما يخص معاملة أسراهم.
فإذا انتقلنا إلى الحقبة الإسلامية من التاريخ، فإننا سوف نجد أن الإسلام قد أقر بموضوعية بالغة بالآثار الناجمة عن انتهاء الحرب، ومنها وقوع عدد من المقاتلين في الأسر، بل إنه قنّن هذه الحالة بقوله تعالى: "وخذوهم واحصروهم"، ولعل الآية الرابعة من سورة (محمد) في القرآن الكريم تعد تقنيناً متكاملاً لأحكام أسرى الحرب وكيفية معاملتهم: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منّاً بعد، وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها".
لكن اعتراف الإسلام هذا لم يُحل دون أن ينال هذا الجانب التشريعي منه حظه في بيان أسس وأساليب المعاملة، والتي تنبع من مراعاة حال انتهاء الحرب التي كانت قائمة، واعتبار آدمية وإنسانية هؤلاء المقاتلين في التعامل، وحتى الإحسان إليهم، فجاء في إحسان معاملة أسرى بدر قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيراً).
وسجلت لنا كتب السيرة النبوية صفحات ناصعة عن معاملة المسلمين لأعدائهم من مشركي مكة، وذلك بشهادة أولئك الأسارى أنفسهم، فيروى أن أبا عزيز بن عمير شقيق سيدنا مصعب بن عمير، أسر يوم بدر، فكان يحدث عن ذلك: " .. فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما يقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي فأردها على أحدهم، فيردها عليَّ ما يمسها". ومعلوم أن الجزيرة العربية في ذلك الوقت لم تكن تزرع البر أو القمح بقدر زراعتها للنخيل، وخاصة المدينة المنورة، فقد كان الخبز في ذلك الوقت أغلى قيمة وأندر زراعة من التمر. وقال عز وجل في ثنائه على المحسنين إلى الفئات البائسة من الناس: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً يتيماً وأسيراً" في إشارة واضحة إلى أهمية هذا الفعل وجسامته.
ونص الفقهاء على حرمة تعذيب الأسير بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب، ولا عبرة بعد ذلك باختراع أعذار واهية لممارسة أي صنف من صنوف المعاملة السيئة للأسير، ولو كان الثمن معلومات خطيرة الأهمية، في ضوء عناية القرآن والسنة واهتمامهما بإحسان معاملة الأسرى، خصوصاً وأن ذلك لايجدي ـ في الغالب ـ نفعاً معهم، والمثل العربي يقول : " أكذب من أخيذ الحرب" للدلالة على عدم جدوى المعلومات المنتزعة من الأسير بالتعذيب والإرهاب مالم يكن هو المبادر للإفصاح عنها باستخدام وسائل أخرى من الترغيب والترهيب.
وهذا الحكم يتوافق مع ما هو مقرر في القانون الدولي بأنه لا يجوز تعذيب الأسير للحصول على أسرار عسكرية، حسب اتفاقية جنيف سنة 1949م. ومنها الإدلاء باسمه ولقبه ورتبته العسكرية، ورقم تحقيق شخصيته في الجيش وتاريخ ميلاده.
ولكن، وفي ضوء المعاملة الحسنة التي يحظى بها أسير الحرب في التشريع الإسلامي، فما هو المصير الذي سوف يؤول إليه في نهاية المطاف؟ يتفق التشريع الإسلامي هنا مع القانون الدولي ( اتفاقية جنيف سنة 1929) على معاملة الأسير معاملة أسير الدولة، لا أسير الشخص أو الوحدة العسكرية التي أسرته، وبالتالي فإن البتّ في مصير أسرى الحرب موكول إلى الدولة ممثلة بالحاكم الأعلى ـ أو حسب نظامها السياسي ـ بشرط مراعاة المصلحة العامة والأعراف والاتفاقات الدولية المبرمة في هذا الخصوص. ونستطيع من خلال استقراء المذاهب والآراء الفقهية ملاحظة اجتهادات متعددة للبت في شأن الأسرى:
فقد ذهب الحنفية إلى تخيير ولي الأمر أو من ينيـبه عنه في شأن أسرى الحرب بين أمور ثلاثة: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما تركهم أحراراً ذمة للمسلمين إلا مشركي العرب والمرتدين، فإنهم لا يسترقون ولا يكونون ذمة. وحرم جمهور الحنفية ـ عدا الإمام محمد ـ المنّ على الأسرى ( وهو إطلاقهم إلى دار الحرب دون مقابل)، فيما أجازه الإمام محمد منهم، إن تحققت مصلحة معتبرة في ذلك.
وذهب جمهور العلماء من الشافعية والحنابلة والإمامية والإباضية وغيرهم: إلى تخيير الإمام أو نائبه بما يراه من المصلحة بين أحد أمور أربعة: وهي القتل والاسترقاق والمن والفداء بالمال أو بأسرى مثلهم. وانفرد المالكية بإضافة خيار خامس له، وهو ضرب الجزية على الأسرى.
وقبل أن نناقش هذه الآراء لابد من الإشارة إلى أن تخيير الإمام أو نائبه بين هذه الأمور يجب أن يكون منضبطاً بمراعاة مصلحة الأمة، لا لمجرد الهوى والتشهي، وإلا كان تصرفه باطلاً اتفاقاً. فإذا استقرت هذه القاعدة في أذهاننا، وعلمنا مدى ارتباط المصلحة الشرعية العامة بموضوع البت في مصير الأسرى، نظراً لاندراجه تحت فصول السياسة الشرعية المنضبطة أساساً بالنصوص الشرعية ثم بالمصلحة العامة للأمة، أمكننا أن نقرأ النص القرآني المتعلق مباشرة بهذا الشأن، وأن نتفهم الأحداث التي يزخر بها التاريخ الإسلامي عن تباين واختلاف أساليب معاملة أسرى الحرب، عن الرؤية الشرعية الأساسية في هذا الموضوع والمؤصلة في القرآن الكريم.
يقول الله عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها" [ محمد:4] . فالآية ترشد، بداية، المؤمنين إلى وجوب اعتماد الشدة و(الإثخان في القتل) في صفوف العدو، الذي ينطبق عليه وصف الاختلاف في الدين (كفروا)، مما يعني اختلاف الأسلوب حالة كون العدو مسلماً، سواء في طريقة القتال (الإثخان)، أو في أسلوب المعاملة بعد انتهاء الحرب (حالة الأسر). وبعد أن تضع الحرب أوزارها، ويثخن المسلمون في عدوهم الكافر قتلاً وتنكيلاً، تطلب الآية من المؤمنين (شد الوثاق) على أسرى الحرب حتى لا يتمكنوا من الهرب والفرار، وهو أمر مشروع في كافة القوانين والشرائع ولا مجال للجدال أو السجال حوله، ثم ترشد الآية، ختاماً، إلى الخيارات المتاحة أمام المسلمين (أو ولي الأمر على وجه الدقة)، وهي : إما أن يمنّ المسلمون على هؤلاء الأسرى بالحرية وفك الأسر دون مقابل، إذا تحصلت مصلحة أخرى جديرة بالاعتبار في مقابل ذلك، وإما أن يفادي المسلمون أسرى الحرب بمال أو بنظرائهم من أسرى المسلمين.
إذن، هذه هي الخيارات المتاحة أمام الأمة ( المن أو الفداء)، وقد جاءت السيرة النبوية العطرة تطبيقاً عملياً لهذه المبادئ القرآنية السامية، وحفلت كتب السنة بالاحتفاء بمعاملة أسرى الحرب، بل والإحسان إليهم وتمييزهم بالمعاملة حتى على المسلمين أنفسهم. أما بقية الخيارات التي اقترحها الفقهاء في مصير الأسرى، فإننا نستطيع القول: إن حجة من ذهب إلى جواز قتل الأسير لا تعدو أن تكون نسخاً لهذه الآية المحكمة من سورة (محمد) بآية السيف : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، أو آثاراً من السنة وردت بقتل أفراد معينين من العدو بعد أسرهم في بعض المواقع، كيوم بدر واحد وقريظة وفتح مكة. والصحيح أن آية السيف التي تمسك بها بعض العلماء إلى درجة أن وصل بهم الأمر إلى نسخ عشرات الآيات الواردة في موضوع الجهاد والقتال في القرآن، لا تنسخ هذه الآية لعدم تحقق شروط النسخ المعروفة لدى العلماء في هذه الحال، ومنها معرفة المتقدم من المتأخر من الآيتين، وتحقق وجود المعارضة بينهما، وهو الأمر الذي يمكن نفيه من خلال الجمع بين الآيتين وإعمال آية السيف فيمن كان حرباً على المسلمين من المشركين، وآية سورة محمد فيمن وقع في الأسر منهم بعد انتهاء الحرب، أما الحوادث الفردية التي تم الاستشهاد بها، فإنها لا تعدو أن تكون اجتهاداً نبوياً لحسم فساد بعض الأفراد الذين كانوا من مسعري الحرب على الإسلام، بل إن منهم من كان قد منَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك بشرط عدم معاودة الكرّة، فإذا به ينخرط مجدداً في الحرب على المسلمين، وهو شبيه بما يسمى حديثاً بمحاكمة مجرمي الحرب الذين بلغوا من الإفساد والتنكيل بخصومهم في ساحات الحرب وخارجها مالم يبلغه غيرهم من الأسرى.
وفيما يتعلق بالاسترقاق، فإن النهج الإسلامي كان واقعياً في التعامل مع هذا الموضوع بمراعاة الأعراف والعادات الشائعة في ذلك العصر، والقاضية بمعاملة العدو بالمثل، بل إن إغفال القرآن لهذا الخيار عمداً بصيغة لغوية تفيد الحصر والاقتصار على هذين الخيارين ليرهص بموقف سلبي من هذا الخيار، ويبشر بقرب انتفائه بحسب توافق الإرادات البشرية فيما بعد، وإلا لبقي هذا الخيار واجباً قرآنياً إلى يوم الدين مع بقية الخيارات الأخرى.
أما ضرب الجزية على الأسرى أو إلزامهم بمبلغ معين من المال، فإنه لا يعدو أن يكون ضرباً من الإلزام المادي بالفداء، وهو أمر مشروع حسب النص القرآني. ولا حجة بعد ذلك في ادعاء عدم حصر دلالة الآية على هذين الخيارين، بحجة وجود بعض النقول اللغوية التي تفيد عدم حصر دلالة ( إما) لغوياً، فإننا إذا سلمنا جدلاً بذلك، فإننا سوف نحار في الإجابة على التساؤل التالي وهو: لماذا لم يذكر القرآن صراحة بقية الخيارات التي نص عليها العلماء، واقتصر على ذكر هذين الخيارين بالذات؟ وما الحكمة في ذلك؟ ويبدو أننا لن نجد جواباً مقنعاً لهذا التساؤل سوى الإذعان بدلالة (إما) الحصرية في هذه الآية على المعنى المراد منها، إعمالاً للنص القرآني والتزاماً بمقتضى أحكامه.
قد يوهم هذا الاستقراء السريع لأحكام أسرى الحرب في التشريع الإسلامي أنها أحكام متهاونة، متهاودة الجزاء مع عدد مفترض، بيد أن الالتزام بمضمون الرؤية الإسلامية النابعة من النصوص التشريعية الأصلية (الكتاب والسنة) مقدم على هذا الشعور أو الإحساس الزائف. ولا ننسى أن الاستثناء من القاعدة العامة موجود وحاضر دوماً، وأن وظيفة هذا الاستثناء هي تأكيد القاعدة لا نفيها، وفي ضوء ذلك يمكننا فهم الحوادث التاريخية المتناثرة على أنها استثناء من الأصل الشرعي للحكم، وهو ما يعني جواز اللجوء إلى ذلك الاستثناء في حالات نادرة، كما في حالة ( مجرمي الحرب).
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن ما تم استعراضه من أحكام أسرى الحرب، هي أحكام موجهة في الأصل إلى عدو الأمة وخصومها من المحاربين وغير المسلمين (حسب اصطلاح الفقهاء)، فيما تختلف زاوية الرؤية في التعامل والحكم عندما يكون الأسير مسلماً مهما كان مجرماً في حق أمته ودينه وأهله، وهو الأمر الذي راعته أحكام الشريعة، فقررت عدم جواز الإذفاف على الجريح المسلم، أو ملاحقة الهارب من ساحة المعركة، أو قتله صبراً بعد انتهائها، وعندما تتم محاكمته وفق قوانين الشريعة الإسلامية، فإننا يجب أن ننظر إلى فداحة أفعاله وجسامتها بحد ذاتها، لا أن نعامله كأسير حرب لقوم محتلين لبلادنا، مهما كانت الضغوط الدولية والإقليمية الممارسة علينا من الاحتلال ذاته، أو ممن لفّ لفه من أبناء جلدتنا بدافع الحقد والضغينة والثأر.