اليمن الحزين
مرسل: الثلاثاء يونيو 07, 2011 5:20 pm
مالذي قُدِّر لليمن؟! هل يمكن وصف ذاك السعيد في ايامه هذه بغير التعيس؟! ونقولها، لأنه لا من سوى مثلها من توصيف دقيق يمكن أن يطلق الآن على ما كانت مواريثنا الثقافية تطلق عليه ذات يوم اليمن السعيد. ولأن هذا الذي لم يعد بالإمكان وصفه بالسعيد، يعيش في أيامنا هذه نقيضين لاجامع بينهما. ولا يبدو أن تلك الحكمة اليمنية المأثورة بقادرة على حل مثل هذا التناقض التناحري بينهما الذي يفيض دماً ودماراً وعذابات هناك؟!
...الأول: هناك شعب رغم انحدار أيامه الحزينة المستلّة من رحم عقود إمامية بائدة حافلة بالتجهيل والتخلف والحرمان، تلتها ثورة فحرب أهلية رست لاحقاًعلى حقبة من الاستبداد وعقودٍ من الفساد، تخللتها الاحترابات الأهلية المبرمجة... رغم كل هذا، سطّر اليمن للعرب، وخطّ باسمهم في سجل الإنسانية ما أضافه لخصوصية هبتهم الشعبية الكبرى... ثورتهم السلمية الحضارية الشعبية، يقظتهم، إرهاصات نهضتهم، من نكهة يمانية مضافة أغنت رائد التوق التغييري البوعزيزي الغامر الراقي في تونس، وأثرت في هذا المدّ الثوري التحوّلي الطافح في مصر.
...سلمية... سلمية... قالها الشعب المسلح المقاتل بالسليقة، قالها القبيلي الذي يستحي أن يخرج من بيته عارياً من سلاحه، ورددها الشباب الثوري الذي تجري في عروقه حميّة أمجاد أقيال حمْير وما يتلفع به من تليد كبرياء سبأ، وتسكن في ثنايا وجدانه المعتق ما يُقتدى به من موروث مأثرة عمار بن ياسر... قالها، رددها لأربعة أشهر خلت، مواجهاً بها الرصاص وبالصدور العارية، ومعترضاً الدبابات بالهتافات: ارحل... ارحل... قالها معترضاً بها مسلسل مراوغ ممل من المناورات والمداورات والالتفافات، ومتوالية من حوك الأحابيل ونسج الدسائس... أربعة أشهر ظل مواجهاً ومعترضاً فيها بذات الوضوح والرسوخ والثبات والتضحيات... قديماً، آل ياسر قالوها فأرسلوها أبد الدهر: "أحد... أحد"... واليمانيون يقولونها اليوم ولن يعودوا عنها: ارحل... ارحل...
هنا، استراتيجية العض على الجراح الشعبية، المعبّر عنها بوعي عال هو ولا أرقى، وهو الغير مسبوق، والذي يصرّ أهله على أن يدرأوا نذر الاحتراب الأهلي المدبّر بصدورهم العارية، وأن يحفظوا يمنهم المستهدف من هلاك مبيت يجرّه النظام إليه حثيثاً... يواجهونه بسلمية ليست عفوية، يعلمون أنها الأشد فتكاً والأمضى حداً من سيف التسلط والاستبداد، الذي يعمل في رقابهم لثلاثين حولاً خلت، ويفلون بها لا إنسانية زادتها وحشية شهوة السلطة، وهمجية لازمت انعدام الضمير الوطني... ولأنهم يدركون بحسهم النضالي المميز أنها إنما وحدها الخيار الوحيد الناجع لحفظ يمنهم من الهلاك...
...انتهينا من النقيض الأول، فما هو الثاني؟
إنه هذا المزيج من رواسب التخلف وجموح الاستبداد واستشراء الفساد وطغيان التسلط، الذي يختصره نظام حوّل الدولة إلى ميليشيا بامرة عائلة، والسلطة إلى إعلان حرب على الشعب، والسياسة إلى حالة معادية للجميع. ثلاثة عقود من الدسائس المبرمجة، وابتكار الفتن المدروسة، وإشعال فتائل الحروب الأهلية المصغّرة أو قيد التحكم... الحرب على الحراك جنوباً، وعلى الحوثية شمالاً، وعلى "القاعدة" فيما يتوفر له من الأمكنة والأزمنة المختارة، وأخيراً الحرب على قبيلة حاشد، كبرى قبائل اليمن... وألوية الجيش المنحازة للثورة أو تلك الرافضة للحرب على الشعب... لدينا هنا نماذج قريبة لمن شـاء التأمل، صعدة،زنجبار، عمران، حي الحصبة في صنعاء، ميدان التحرير في تعز، وميادين سائر محافظات اليمن... نحن أمام استراتيجية لعسكرة الثورة رغم أنف الثوار، ومهما كلف الأمر من دم ودمار، لدرجة قصف وفود الوساطة وسعاة المصالحة، التي هم من يرسلونها بهدف المناورة وكسب الوقت وليس الصلح... وغداً مطاردة اللقاء المشترك، وغزو ساحات التغيير... نحن أزاء انموذج للدولة الفاشلة عن قصد وترصد وسبق إصرار... قبل ما لا يزيد عن أسبوعين، تلويح بالحرب الأهلية، ثم بدئها الآن عنوة وشاء من شاء وأبى من أبى... بالطائرات والدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ... بالتوازي مع استلال فزاعة "القاعدة" من غمدها... والتلويح بها لمدمني الحرب على الإرهاب... النظام في اليمن يعيد ليمنه المنكود لا السعيد ما خلى من ماضي حكاية "أصحاب الإخدود". شاء أن تتحوّل صنعاء علي صالح إلى نجران ذي نواس... وفي اليمن اليوم ومن أجل السلطة يتم اعتماد استراتيجية عليّ وعلى أعدائي يا ربّ، ومسيرة ليدمر الهيكل على من فيه... فهل من سبيل إلى الخروج بيمننا الرهينة من مثل هذه البلية؟!
في راهن اليمن نحن أزاء نقيضين، شعب قرر أن يحيا، ونظام اختار أن يموت، وهو بصدد إعادة حفر اخدود نجران في صنعاء، وتعميمه في سائر الديار اليمانية ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وحيث لا تموت الشعوب ولا تحرق الجبال، فالفناء يظل من حظ من اختار الموت وحده... بدأ العد العكسي لصاحب الأخدود، وليس في التاريخ ما يقول بعكس هذا...
هناك ميوعة دولية متواطئة... أهلياً، يتحدثون في الغرب عن جرائم ضد الإنسانية ترتكب في اليمن التعيس بنظامه، ورسمياً ينصحون المرتكب ويشجبون فعائله على استحياء بعبارات تترجم في صنعاء دعماً موارباً للنظام.
...وهناك أمة على جسدها المنتفض تكسرت النصال على النصال، منشغلة بقلع أشواكهم المسمومة التي نثروها في درب التغيير الذي اختطته... ونظامها الرسمي، أو ما يدعى كذلك، ليس في أغلبه إلا فوالج لا تعالج عنوانها الصارخ جامعة فعلت فعلتها كاشفة سوءتها في ليبيا ذات الأيام الأطلسية الجارية... واستراحت..!
...إنما هي في اليمن استراتيجية العض على الجراح الشعبية تقابلها استراتيجية حافر الاخدود الرسمية... صراع تناحري لن يطول ولسوف يحسم لصالح الجرح اليمني النبيل، وسينتهي إلى رحيل ذي نواس العصر ملاحقاً من قبل غضبة وطن لم ينفك ولي أمره يحفر الأخاديد لإحراق أهله في أتونها.
...الأول: هناك شعب رغم انحدار أيامه الحزينة المستلّة من رحم عقود إمامية بائدة حافلة بالتجهيل والتخلف والحرمان، تلتها ثورة فحرب أهلية رست لاحقاًعلى حقبة من الاستبداد وعقودٍ من الفساد، تخللتها الاحترابات الأهلية المبرمجة... رغم كل هذا، سطّر اليمن للعرب، وخطّ باسمهم في سجل الإنسانية ما أضافه لخصوصية هبتهم الشعبية الكبرى... ثورتهم السلمية الحضارية الشعبية، يقظتهم، إرهاصات نهضتهم، من نكهة يمانية مضافة أغنت رائد التوق التغييري البوعزيزي الغامر الراقي في تونس، وأثرت في هذا المدّ الثوري التحوّلي الطافح في مصر.
...سلمية... سلمية... قالها الشعب المسلح المقاتل بالسليقة، قالها القبيلي الذي يستحي أن يخرج من بيته عارياً من سلاحه، ورددها الشباب الثوري الذي تجري في عروقه حميّة أمجاد أقيال حمْير وما يتلفع به من تليد كبرياء سبأ، وتسكن في ثنايا وجدانه المعتق ما يُقتدى به من موروث مأثرة عمار بن ياسر... قالها، رددها لأربعة أشهر خلت، مواجهاً بها الرصاص وبالصدور العارية، ومعترضاً الدبابات بالهتافات: ارحل... ارحل... قالها معترضاً بها مسلسل مراوغ ممل من المناورات والمداورات والالتفافات، ومتوالية من حوك الأحابيل ونسج الدسائس... أربعة أشهر ظل مواجهاً ومعترضاً فيها بذات الوضوح والرسوخ والثبات والتضحيات... قديماً، آل ياسر قالوها فأرسلوها أبد الدهر: "أحد... أحد"... واليمانيون يقولونها اليوم ولن يعودوا عنها: ارحل... ارحل...
هنا، استراتيجية العض على الجراح الشعبية، المعبّر عنها بوعي عال هو ولا أرقى، وهو الغير مسبوق، والذي يصرّ أهله على أن يدرأوا نذر الاحتراب الأهلي المدبّر بصدورهم العارية، وأن يحفظوا يمنهم المستهدف من هلاك مبيت يجرّه النظام إليه حثيثاً... يواجهونه بسلمية ليست عفوية، يعلمون أنها الأشد فتكاً والأمضى حداً من سيف التسلط والاستبداد، الذي يعمل في رقابهم لثلاثين حولاً خلت، ويفلون بها لا إنسانية زادتها وحشية شهوة السلطة، وهمجية لازمت انعدام الضمير الوطني... ولأنهم يدركون بحسهم النضالي المميز أنها إنما وحدها الخيار الوحيد الناجع لحفظ يمنهم من الهلاك...
...انتهينا من النقيض الأول، فما هو الثاني؟
إنه هذا المزيج من رواسب التخلف وجموح الاستبداد واستشراء الفساد وطغيان التسلط، الذي يختصره نظام حوّل الدولة إلى ميليشيا بامرة عائلة، والسلطة إلى إعلان حرب على الشعب، والسياسة إلى حالة معادية للجميع. ثلاثة عقود من الدسائس المبرمجة، وابتكار الفتن المدروسة، وإشعال فتائل الحروب الأهلية المصغّرة أو قيد التحكم... الحرب على الحراك جنوباً، وعلى الحوثية شمالاً، وعلى "القاعدة" فيما يتوفر له من الأمكنة والأزمنة المختارة، وأخيراً الحرب على قبيلة حاشد، كبرى قبائل اليمن... وألوية الجيش المنحازة للثورة أو تلك الرافضة للحرب على الشعب... لدينا هنا نماذج قريبة لمن شـاء التأمل، صعدة،زنجبار، عمران، حي الحصبة في صنعاء، ميدان التحرير في تعز، وميادين سائر محافظات اليمن... نحن أمام استراتيجية لعسكرة الثورة رغم أنف الثوار، ومهما كلف الأمر من دم ودمار، لدرجة قصف وفود الوساطة وسعاة المصالحة، التي هم من يرسلونها بهدف المناورة وكسب الوقت وليس الصلح... وغداً مطاردة اللقاء المشترك، وغزو ساحات التغيير... نحن أزاء انموذج للدولة الفاشلة عن قصد وترصد وسبق إصرار... قبل ما لا يزيد عن أسبوعين، تلويح بالحرب الأهلية، ثم بدئها الآن عنوة وشاء من شاء وأبى من أبى... بالطائرات والدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ... بالتوازي مع استلال فزاعة "القاعدة" من غمدها... والتلويح بها لمدمني الحرب على الإرهاب... النظام في اليمن يعيد ليمنه المنكود لا السعيد ما خلى من ماضي حكاية "أصحاب الإخدود". شاء أن تتحوّل صنعاء علي صالح إلى نجران ذي نواس... وفي اليمن اليوم ومن أجل السلطة يتم اعتماد استراتيجية عليّ وعلى أعدائي يا ربّ، ومسيرة ليدمر الهيكل على من فيه... فهل من سبيل إلى الخروج بيمننا الرهينة من مثل هذه البلية؟!
في راهن اليمن نحن أزاء نقيضين، شعب قرر أن يحيا، ونظام اختار أن يموت، وهو بصدد إعادة حفر اخدود نجران في صنعاء، وتعميمه في سائر الديار اليمانية ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وحيث لا تموت الشعوب ولا تحرق الجبال، فالفناء يظل من حظ من اختار الموت وحده... بدأ العد العكسي لصاحب الأخدود، وليس في التاريخ ما يقول بعكس هذا...
هناك ميوعة دولية متواطئة... أهلياً، يتحدثون في الغرب عن جرائم ضد الإنسانية ترتكب في اليمن التعيس بنظامه، ورسمياً ينصحون المرتكب ويشجبون فعائله على استحياء بعبارات تترجم في صنعاء دعماً موارباً للنظام.
...وهناك أمة على جسدها المنتفض تكسرت النصال على النصال، منشغلة بقلع أشواكهم المسمومة التي نثروها في درب التغيير الذي اختطته... ونظامها الرسمي، أو ما يدعى كذلك، ليس في أغلبه إلا فوالج لا تعالج عنوانها الصارخ جامعة فعلت فعلتها كاشفة سوءتها في ليبيا ذات الأيام الأطلسية الجارية... واستراحت..!
...إنما هي في اليمن استراتيجية العض على الجراح الشعبية تقابلها استراتيجية حافر الاخدود الرسمية... صراع تناحري لن يطول ولسوف يحسم لصالح الجرح اليمني النبيل، وسينتهي إلى رحيل ذي نواس العصر ملاحقاً من قبل غضبة وطن لم ينفك ولي أمره يحفر الأخاديد لإحراق أهله في أتونها.