- الاثنين أكتوبر 24, 2011 12:31 am
#39898
مبادئ معاصرة في الفلسفة السياسية
هاشم صالح
انه لكتاب مهم وشديد الوضوح ذلك الذي أصدره مؤخرا المفكر الفرنسي كريستيان دولاكمبانييه، والباحث المذكور هو استاذ في احدى الجامعات الاميركية بعد ان كان ملحقا ثقافيا لفرنسا
في بوسطن بأميركا. وبالتالي فتكمن ميزته في انه مطلع على المناقشات الدائرة
في اميركا واوروبا على السواء. وهو منذ البداية يطرح السؤال التالي: ما هي الفلسفة السياسية؟ ويجيب بأنها تلك الفلسفة التي تهتم بالمسائل الأساسية التالية:
مسألة الحرية، مسألة العدالة، مسألة الديمقراطية، ثم مسألة النظام العالمي الجديد.
يرى الباحث ان تاريخ (9) نوفمبر (1989)، يشكل بداية حقبة جديدة في تاريخ البشرية. وهذه الحقبة تتميز بانتصار وعولمة نظام اقتصادي محدد هو: الرأسمالية، وعندما نقول «عولمة» فاننا نقصد تعميمه على شتى انحاء العالم. كما وتتميز هذه الحقبة بانتصار النظام الديمقراطي الغربي باعتباره أفضل نظام ممكن للحكم، أو أقل الانظمة سوءاً كما كان يقول تشرشل. ويرى البروفيسور كريستيان دولاكمبانييه ان مسألة «ما هو افضل نظام سياسي» هي أقدم المسائل المطروحة على الفلسفة السياسية. فمن المعلوم ان مؤسس هذه الفلسفة قبل ألفين وخمسمائة عام هو أفلاطون. وقد خصص لها كتابا ضخما بعنوان «الجمهورية». وجميع الفلاسفة الذين توالوا على التاريخ بعد أفلاطون حاولوا تحديد ماهية أفضل نظام سياسي ممكن. فهل توصلنا أخيراً، وبعد خمسة وعشرين قرناً، الى تحديد ملامح هذا النظام؟ هل وجدناه، أو توصلنا اليه، بعد طول تخبط وضياع؟ هل توصلنا الى المدينة الفاضلة التي حلم بها فلاسفة العرب وبخاصة الفارابي؟!..
هذا ما يزعمه فرانسيس فوكوياما الذي شغل الناس قبل عشر سنوات أو أكثر عندما نشر كتابه المعروف: نهاية التاريخ والانسان الأخير (1992 بالنسبة للطبعة الفرنسية). فبعد ثلاث سنوات من سقوط جدار برلين قال فوكوياما بأن هذا الحدث لا يعني فقط نهاية الحرب الباردة، وانما ايضا الانتصار النهائي للنموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي على النظام التوتاليتاري الشيوعي. ثم اعتمد على فلسفة هيغل من أجل القول بان البشرية توصلت الى المرحلة الأخيرة من مسارها أو من تطورها. فبعد أن اعترفت جميع شعوب الأرض بتفوق الديمقراطية الليبرالية كنظام حكم على جميع الأنظمة الأخرى، فإنه يمكننا ان نعتبر تاريخ الانسان وكأنه قد اقترب من غايته الاساسية أو نهايته. لقد انتهى التاريخ أو قل وصل الى مستقره الاخير.. هذا ما يزعمه فوكوياما في أطروحته الشهيرة. ولكن الفلاسفة ومفكري العلوم السياسية سرعان ما ردوا عليه ونقدوا أطروحته. نضرب على ذلك مثلا الباحث جان ماري جيهينو الذي نشر كتاباً مهماً عام (1993) بعنوان: «نهاية الديمقراطية». واما الباحث الامريكي بنيامين باربير فقد نشر كتاباً مهماً أيضاً بالانكليزية ثم ترجم إلى الفرنسية بسرعة تحت عنوان «الحركات الجهادية ضد العولمة» (1995). وأما صموئيل هانتنغتون فقد أقام الدنيا وأقعدها مثل فوكوياما وربما أكثر عندما نشر كتابه المشهور: «صراع الحضارات» (1996). وأما الفيلسوف جاك دريدا فقد احتج على أطروحات فوكوياما وسواه وقال بان ماركس لم يمت أو لم يقل كلمته الأخيرة بعد. فهذا الانتصار الصارخ للرأسمالية على الشيوعية ليس نهائيا، أو قل ان الرأسمالية تعاني من تناقضات داخلية لا يستهان بها. وبالتالي فلا ينبغي ان نغترّ كثيراً بانتصارها. وقد حللّ كل ذلك بالتفصيل من خلال كتابه «أطياف ماركس»، أو «أشباح ماركس».. يرى الباحث جان ماري جيهينو ان الرابطة الايجابية والاسهامية التي كانت تربط المواطن بالجماعة أو بالنظام الحاكم في ظل الأنظمة الديمقراطية الكلاسيكية قد انحلت عراها الآن أو هي في طورها للانحلال والزوال. فالقرارات الأساسية للدولة أصبحت تُتخذ من قبل مجموعات الضغط (اللوبي) التي تشتغل في الظل. وهذا ما يفرّغ الديمقراطية من معناها. واما البحاثة الامريكان من أمثال برزنسكي وهانتنغتون وباربير وهوفمان وسواهم فيرون، على عكس فوكوياما بأن التاريخ لم يتوقف ولم ينته، والدليل على ذلك ان مناطق الحروب تتزايد في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة. لنضرب على ذلك مثلاً ما حصل في البلقان ويوغوسلافيا السابقة، وأفريقيا، وسواها من مناطق الأرض. يضاف الى ذلك ان العالم أصبح متعدد الأقطاب على الرغم من هيمنة الولايات المتحدة الامريكية كقوة وحيدة عظمى. ولكن لا أحد يستطيع ان ينكر أهمية أوروبا الغربية، أو روسيا، أو الصين أو اليابان وربما قريبا الهند. ويرى هؤلاء البحاثة ان انتشار هذه الحروب في مناطق مختلفة من العالم سوف يؤدي الى زعزعة الاستقرار وسيشكل اكبر تحدٍ للديمقراطية. يضاف الى ذلك ان وقائع الاحداث في العالم منذ عدة سنوات لا تؤكد على صحة اطروحة فوكوياما. فالديمقراطية ـ كنظام سياسي ـ لا تزال مرفوضة أو غير مطبَّقة من قبل معظم دول العالم. وبالتالي فلم تتحقق نبوءة فوكوياما فيما يخص هذه النقطة. فالديمقراطية ليست ممارسة فعلاً الا في دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واليابان. وحتى في هذه البلدان فإن ممارستها تظل ناقصة وغير مكتملة. اما بقية بلدان العالم فالديمقراطية فيها صورية أو شكلية أكثر مما هي حقيقية. نقول ذلك على الرغم من وجود البرلمانات في هذه الدول. ولكنها ليست منتخبة بشكل فعلي. فمثلاً روسيا كان دائماً فيها برلمان بدءاً من نقولا الثاني مروراً بستالين وانتهاء بيلتسين. ولكنها لم تكن في أي يوم من الأيام ديمقراطية. انها تحاول ان تكون ديمقراطية حالياً ولكنها لم تتوصل الى ذلك بعد. ما هو النظام الديمقراطي في نهاية المطاف؟ على هذا السؤال يجيب المؤلف قائلاً: بأنه ذلك النظام الذي يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية. وهي مبادئ لا يمكن ضمانها إلا في نظام تمثيلي برلماني. وهذه المبادئ لا تعود الى الاغريق كما يتوهم البعض، وانما الى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسكيو فيما يخص المبدأ الثاني، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث. وهؤلاء الفلاسفة ينتمون جميعاً الى ما يمكن ان ندعوه بعصر الفردانية الليبرالية.
أما المبدأ الأول فهو مبدأ التسامح. وهو يلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية، والدينية، بشرط ألا تؤدي هذه المعتقدات الى اشاعة الاضطراب أو الفوضى داخل المجتمع. وينص المبدأ الثاني على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، فالتنفيذية، فالقضائية. فالسلطة التشريعية هي التي تصدر أو تبلور القوانين، والسلطة التنفيذية هي التي تطبقها أو تحولها الى واقع، والسلطة القضائية هي التي تعاقب من ينتهكون هذه القوانين حتى ولو كانوا من رجال السلطة نفسها! انظر ما يحصل لشيراك حالياً وهذا المبدأ يهدف إلى اقامة دولة الحق والقانون. وهي تختلف عن الدولة السابقة القائمة على القوة فقط، أو التعسف والاعتباط والمحسوبية. واما المبدأ الثالث الذي لا يمكن لأي ديمقراطية ان تنهض وتستمر بدونه فهو مبدأ العدالة. فالديمقراطية الحقيقية لا ينبغي ان تكتفي بكونها ديمقراطية شكلانية مفرغة من المساواة والعدل فماذا تفعل بالحرية اذا كنت لا تستطيع ان تأكل؟!.. فالديمقراطية تخص أيضا الجانب المادي أو الاقتصادي وليس فقط جانب القوانين والعدالة الاجتماعية هي جوهر النظام الديمقراطي ومحتواه. ولكن هذا لا يعني القضاء الكامل على التفاوتات الاجتماعية بين المواطنين الذين يشكلون المجتمع. فمن الواضح ان هذه التفاوتات سوف تستمر في الوجود، ولكن لا ينبغي ان تكون صارخة أو ضخمة جداً. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. فإذا كان راتب العامل ألف دولار مثلا فإنه لا ينبغي ان يتجاوز راتب رب العمل الخمسة وعشرين ألف دولار. ولكنه يتجاوز الآن احياناً عشرة أضعاف ذلك أو أكثر.. والآن نطرح هذا السؤال: ما الذي نقصده بالحرية؟ وهل ينبغي على مبدأ التسامح ان ينطبق على أعداء التسامح؟ بمعنى آخر: هل يحق للقوى المتطرفة من قومية أو أصولية دينية ان تستغل الجو الديمقراطي وتبث دعايتها القائمة على الكره والفرقة، بل والتحريض على القتل احياناً؟ بالطبع لا. فلا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية. يقول المؤلف موضحاً: في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور يوجد ما لا يقل عن اربعمائة موقع على الانترنت تبث الدعاية للنازية الجديدة. فماذا يمكن ان نفعل أمام حركات اليمين القومي المتطرف الصاعدة في اوروبا والتي تدعو إلى العدوان على الأجانب؟ وقل الأمر ذاته عن الأصوليين المتطرفين الذين يمارسون العنف اللفظي أو الجسدي تجاه كل من لا ينتمي إلى دينهم أو مذهبهم انظر الزرقاوي أو بن لادن أو أشباههم من جماعة القاعدة في الواقع ان هذين التيارين يشكلان تهديداً للفكرة الديمقراطية من أساسها. وبالتالي فإن مقاومتهما تعد واجباً على الديمقراطيين. ذلك أنه لا حرية لأعداء الحرية. هناك مسألة ثانية تخص العلاقة بين السلطات: التشريعية، فالتنفيذية، فالقضائية. فأحياناً تحاول السلطة التنفيذية (أي الحكومة) ان تتملَّص من مراقبة السلطة التشريعية (أو البرلمان). وهذا ما يؤدي إلى نوع من الاضطراب في ممارسة الديمقراطية. ولكنه لا يعني ان الديمقراطية التمثيلية سيئة من اساسها، أو انها أقل ديمقراطية من نظام الديمقراطية المباشرة كما يزعم اليسار المتطرف سواء أكان ذا استلهام فوضوي او ماركسي. ولكنه يعني ان ممارسة الديمقراطية، أو تطبيقها فعلياً عملية صعبة وحرجة. وينبغي بالتالي على المواطنين ان يكونوا دائماً منتبهين أو يقظين. فهم الذين ينتخبون النواب، أي ممثلي الشعب، وهم الذين يسقطونهم في الانتخابات اذا ما شاءوا. كما انهم هم الذين ينتخبون رئيس الجمهورية او يسقطونه. وهناك مشكلة ثانية تخص الصراع الذي قد ينشب بين السلطتين التنفيذية والقضائية فبما ان القضاة يُعيَّنون في الغالب من قبل الحكومة فإنه يصعب عليهم ان يقنعوا الوزراء والحكام بأنه لا يوجد أي شخص فوق القانون. وقد اندلعت قضايا فساد عديدة في الدول الديمقراطية كفرنسا، والمانيا، وسواهما مؤخراً. ولم يستطع احد ملاحقة المسؤولين إلا بعد ان فقدوا السلطة! انظر حالة شيراك مثلا التي أثرناها آنفاً. فالرجل اصبح ملاحقاً الآن بتهمة الفساد ولكن بعد ان فقد السلطة كلياً. وهنا تكمن احدى نقاط الضعف في النظام الديمقراطي.
يرى كريستيان دولا كمبانييه ان فكرة النظام العالمي الجديد تولّدت في الاصل عن رغبة كان عدد من رجال السياسة والمثقفين قد شعروا بها منذ زمن طويل. تهدف هذه الرغبة إلى ايجاد حل سلمي أو قانوني للصراعات الدولية بدلاً من الحل العسكري أو الحرب. بمعنى آخر فإن هؤلاء الفلاسفة والسياسيين كانوا يهدفون إلى تصحيح العلاقات الدولية او جعلها أكثر اخلاقية. ولكن اذا ما أردنا تحقيق هذه الرغبة فإنه لا بد من تغيير الأوضاع السائدة حالياً.
ولذلك راح بعضهم ينتقد مؤخراً الدولة القومية المتعصبة عرقياً ويدعو إلى تجاوزها عن طريق تشكيل تكتل أوسع كالوحدة الأوروبية مثلاً، أو حتى العولمة الشمولية. ومن هنا انبثقت فكرة تشكيل نظام عالمي جديد يتجاوز كل القوميات الخصوصية. وهؤلاء وأولئك يقولون بان حق التدخل في شؤون الآخرين من قبل النظام العالمي الجديد ليس له أساس قانوني محدد بدقة، ثم ان العالم لا ينقسم إلى أخيار وأشرار بطريقة مانوية الخ.. وإذا كان النظام العالمي الجديد اثبت فعاليته في حل مشكلة يوغسلافيا وتحرير الكويت إلا انه فشل حتى الآن في حل بعض الصراعات الكبيرة الأخرى. والمسألة مفتوحة.
هاشم صالح
انه لكتاب مهم وشديد الوضوح ذلك الذي أصدره مؤخرا المفكر الفرنسي كريستيان دولاكمبانييه، والباحث المذكور هو استاذ في احدى الجامعات الاميركية بعد ان كان ملحقا ثقافيا لفرنسا
في بوسطن بأميركا. وبالتالي فتكمن ميزته في انه مطلع على المناقشات الدائرة
في اميركا واوروبا على السواء. وهو منذ البداية يطرح السؤال التالي: ما هي الفلسفة السياسية؟ ويجيب بأنها تلك الفلسفة التي تهتم بالمسائل الأساسية التالية:
مسألة الحرية، مسألة العدالة، مسألة الديمقراطية، ثم مسألة النظام العالمي الجديد.
يرى الباحث ان تاريخ (9) نوفمبر (1989)، يشكل بداية حقبة جديدة في تاريخ البشرية. وهذه الحقبة تتميز بانتصار وعولمة نظام اقتصادي محدد هو: الرأسمالية، وعندما نقول «عولمة» فاننا نقصد تعميمه على شتى انحاء العالم. كما وتتميز هذه الحقبة بانتصار النظام الديمقراطي الغربي باعتباره أفضل نظام ممكن للحكم، أو أقل الانظمة سوءاً كما كان يقول تشرشل. ويرى البروفيسور كريستيان دولاكمبانييه ان مسألة «ما هو افضل نظام سياسي» هي أقدم المسائل المطروحة على الفلسفة السياسية. فمن المعلوم ان مؤسس هذه الفلسفة قبل ألفين وخمسمائة عام هو أفلاطون. وقد خصص لها كتابا ضخما بعنوان «الجمهورية». وجميع الفلاسفة الذين توالوا على التاريخ بعد أفلاطون حاولوا تحديد ماهية أفضل نظام سياسي ممكن. فهل توصلنا أخيراً، وبعد خمسة وعشرين قرناً، الى تحديد ملامح هذا النظام؟ هل وجدناه، أو توصلنا اليه، بعد طول تخبط وضياع؟ هل توصلنا الى المدينة الفاضلة التي حلم بها فلاسفة العرب وبخاصة الفارابي؟!..
هذا ما يزعمه فرانسيس فوكوياما الذي شغل الناس قبل عشر سنوات أو أكثر عندما نشر كتابه المعروف: نهاية التاريخ والانسان الأخير (1992 بالنسبة للطبعة الفرنسية). فبعد ثلاث سنوات من سقوط جدار برلين قال فوكوياما بأن هذا الحدث لا يعني فقط نهاية الحرب الباردة، وانما ايضا الانتصار النهائي للنموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي على النظام التوتاليتاري الشيوعي. ثم اعتمد على فلسفة هيغل من أجل القول بان البشرية توصلت الى المرحلة الأخيرة من مسارها أو من تطورها. فبعد أن اعترفت جميع شعوب الأرض بتفوق الديمقراطية الليبرالية كنظام حكم على جميع الأنظمة الأخرى، فإنه يمكننا ان نعتبر تاريخ الانسان وكأنه قد اقترب من غايته الاساسية أو نهايته. لقد انتهى التاريخ أو قل وصل الى مستقره الاخير.. هذا ما يزعمه فوكوياما في أطروحته الشهيرة. ولكن الفلاسفة ومفكري العلوم السياسية سرعان ما ردوا عليه ونقدوا أطروحته. نضرب على ذلك مثلا الباحث جان ماري جيهينو الذي نشر كتاباً مهماً عام (1993) بعنوان: «نهاية الديمقراطية». واما الباحث الامريكي بنيامين باربير فقد نشر كتاباً مهماً أيضاً بالانكليزية ثم ترجم إلى الفرنسية بسرعة تحت عنوان «الحركات الجهادية ضد العولمة» (1995). وأما صموئيل هانتنغتون فقد أقام الدنيا وأقعدها مثل فوكوياما وربما أكثر عندما نشر كتابه المشهور: «صراع الحضارات» (1996). وأما الفيلسوف جاك دريدا فقد احتج على أطروحات فوكوياما وسواه وقال بان ماركس لم يمت أو لم يقل كلمته الأخيرة بعد. فهذا الانتصار الصارخ للرأسمالية على الشيوعية ليس نهائيا، أو قل ان الرأسمالية تعاني من تناقضات داخلية لا يستهان بها. وبالتالي فلا ينبغي ان نغترّ كثيراً بانتصارها. وقد حللّ كل ذلك بالتفصيل من خلال كتابه «أطياف ماركس»، أو «أشباح ماركس».. يرى الباحث جان ماري جيهينو ان الرابطة الايجابية والاسهامية التي كانت تربط المواطن بالجماعة أو بالنظام الحاكم في ظل الأنظمة الديمقراطية الكلاسيكية قد انحلت عراها الآن أو هي في طورها للانحلال والزوال. فالقرارات الأساسية للدولة أصبحت تُتخذ من قبل مجموعات الضغط (اللوبي) التي تشتغل في الظل. وهذا ما يفرّغ الديمقراطية من معناها. واما البحاثة الامريكان من أمثال برزنسكي وهانتنغتون وباربير وهوفمان وسواهم فيرون، على عكس فوكوياما بأن التاريخ لم يتوقف ولم ينته، والدليل على ذلك ان مناطق الحروب تتزايد في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة. لنضرب على ذلك مثلاً ما حصل في البلقان ويوغوسلافيا السابقة، وأفريقيا، وسواها من مناطق الأرض. يضاف الى ذلك ان العالم أصبح متعدد الأقطاب على الرغم من هيمنة الولايات المتحدة الامريكية كقوة وحيدة عظمى. ولكن لا أحد يستطيع ان ينكر أهمية أوروبا الغربية، أو روسيا، أو الصين أو اليابان وربما قريبا الهند. ويرى هؤلاء البحاثة ان انتشار هذه الحروب في مناطق مختلفة من العالم سوف يؤدي الى زعزعة الاستقرار وسيشكل اكبر تحدٍ للديمقراطية. يضاف الى ذلك ان وقائع الاحداث في العالم منذ عدة سنوات لا تؤكد على صحة اطروحة فوكوياما. فالديمقراطية ـ كنظام سياسي ـ لا تزال مرفوضة أو غير مطبَّقة من قبل معظم دول العالم. وبالتالي فلم تتحقق نبوءة فوكوياما فيما يخص هذه النقطة. فالديمقراطية ليست ممارسة فعلاً الا في دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واليابان. وحتى في هذه البلدان فإن ممارستها تظل ناقصة وغير مكتملة. اما بقية بلدان العالم فالديمقراطية فيها صورية أو شكلية أكثر مما هي حقيقية. نقول ذلك على الرغم من وجود البرلمانات في هذه الدول. ولكنها ليست منتخبة بشكل فعلي. فمثلاً روسيا كان دائماً فيها برلمان بدءاً من نقولا الثاني مروراً بستالين وانتهاء بيلتسين. ولكنها لم تكن في أي يوم من الأيام ديمقراطية. انها تحاول ان تكون ديمقراطية حالياً ولكنها لم تتوصل الى ذلك بعد. ما هو النظام الديمقراطي في نهاية المطاف؟ على هذا السؤال يجيب المؤلف قائلاً: بأنه ذلك النظام الذي يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية. وهي مبادئ لا يمكن ضمانها إلا في نظام تمثيلي برلماني. وهذه المبادئ لا تعود الى الاغريق كما يتوهم البعض، وانما الى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسكيو فيما يخص المبدأ الثاني، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث. وهؤلاء الفلاسفة ينتمون جميعاً الى ما يمكن ان ندعوه بعصر الفردانية الليبرالية.
أما المبدأ الأول فهو مبدأ التسامح. وهو يلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية، والدينية، بشرط ألا تؤدي هذه المعتقدات الى اشاعة الاضطراب أو الفوضى داخل المجتمع. وينص المبدأ الثاني على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، فالتنفيذية، فالقضائية. فالسلطة التشريعية هي التي تصدر أو تبلور القوانين، والسلطة التنفيذية هي التي تطبقها أو تحولها الى واقع، والسلطة القضائية هي التي تعاقب من ينتهكون هذه القوانين حتى ولو كانوا من رجال السلطة نفسها! انظر ما يحصل لشيراك حالياً وهذا المبدأ يهدف إلى اقامة دولة الحق والقانون. وهي تختلف عن الدولة السابقة القائمة على القوة فقط، أو التعسف والاعتباط والمحسوبية. واما المبدأ الثالث الذي لا يمكن لأي ديمقراطية ان تنهض وتستمر بدونه فهو مبدأ العدالة. فالديمقراطية الحقيقية لا ينبغي ان تكتفي بكونها ديمقراطية شكلانية مفرغة من المساواة والعدل فماذا تفعل بالحرية اذا كنت لا تستطيع ان تأكل؟!.. فالديمقراطية تخص أيضا الجانب المادي أو الاقتصادي وليس فقط جانب القوانين والعدالة الاجتماعية هي جوهر النظام الديمقراطي ومحتواه. ولكن هذا لا يعني القضاء الكامل على التفاوتات الاجتماعية بين المواطنين الذين يشكلون المجتمع. فمن الواضح ان هذه التفاوتات سوف تستمر في الوجود، ولكن لا ينبغي ان تكون صارخة أو ضخمة جداً. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. فإذا كان راتب العامل ألف دولار مثلا فإنه لا ينبغي ان يتجاوز راتب رب العمل الخمسة وعشرين ألف دولار. ولكنه يتجاوز الآن احياناً عشرة أضعاف ذلك أو أكثر.. والآن نطرح هذا السؤال: ما الذي نقصده بالحرية؟ وهل ينبغي على مبدأ التسامح ان ينطبق على أعداء التسامح؟ بمعنى آخر: هل يحق للقوى المتطرفة من قومية أو أصولية دينية ان تستغل الجو الديمقراطي وتبث دعايتها القائمة على الكره والفرقة، بل والتحريض على القتل احياناً؟ بالطبع لا. فلا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية. يقول المؤلف موضحاً: في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور يوجد ما لا يقل عن اربعمائة موقع على الانترنت تبث الدعاية للنازية الجديدة. فماذا يمكن ان نفعل أمام حركات اليمين القومي المتطرف الصاعدة في اوروبا والتي تدعو إلى العدوان على الأجانب؟ وقل الأمر ذاته عن الأصوليين المتطرفين الذين يمارسون العنف اللفظي أو الجسدي تجاه كل من لا ينتمي إلى دينهم أو مذهبهم انظر الزرقاوي أو بن لادن أو أشباههم من جماعة القاعدة في الواقع ان هذين التيارين يشكلان تهديداً للفكرة الديمقراطية من أساسها. وبالتالي فإن مقاومتهما تعد واجباً على الديمقراطيين. ذلك أنه لا حرية لأعداء الحرية. هناك مسألة ثانية تخص العلاقة بين السلطات: التشريعية، فالتنفيذية، فالقضائية. فأحياناً تحاول السلطة التنفيذية (أي الحكومة) ان تتملَّص من مراقبة السلطة التشريعية (أو البرلمان). وهذا ما يؤدي إلى نوع من الاضطراب في ممارسة الديمقراطية. ولكنه لا يعني ان الديمقراطية التمثيلية سيئة من اساسها، أو انها أقل ديمقراطية من نظام الديمقراطية المباشرة كما يزعم اليسار المتطرف سواء أكان ذا استلهام فوضوي او ماركسي. ولكنه يعني ان ممارسة الديمقراطية، أو تطبيقها فعلياً عملية صعبة وحرجة. وينبغي بالتالي على المواطنين ان يكونوا دائماً منتبهين أو يقظين. فهم الذين ينتخبون النواب، أي ممثلي الشعب، وهم الذين يسقطونهم في الانتخابات اذا ما شاءوا. كما انهم هم الذين ينتخبون رئيس الجمهورية او يسقطونه. وهناك مشكلة ثانية تخص الصراع الذي قد ينشب بين السلطتين التنفيذية والقضائية فبما ان القضاة يُعيَّنون في الغالب من قبل الحكومة فإنه يصعب عليهم ان يقنعوا الوزراء والحكام بأنه لا يوجد أي شخص فوق القانون. وقد اندلعت قضايا فساد عديدة في الدول الديمقراطية كفرنسا، والمانيا، وسواهما مؤخراً. ولم يستطع احد ملاحقة المسؤولين إلا بعد ان فقدوا السلطة! انظر حالة شيراك مثلا التي أثرناها آنفاً. فالرجل اصبح ملاحقاً الآن بتهمة الفساد ولكن بعد ان فقد السلطة كلياً. وهنا تكمن احدى نقاط الضعف في النظام الديمقراطي.
يرى كريستيان دولا كمبانييه ان فكرة النظام العالمي الجديد تولّدت في الاصل عن رغبة كان عدد من رجال السياسة والمثقفين قد شعروا بها منذ زمن طويل. تهدف هذه الرغبة إلى ايجاد حل سلمي أو قانوني للصراعات الدولية بدلاً من الحل العسكري أو الحرب. بمعنى آخر فإن هؤلاء الفلاسفة والسياسيين كانوا يهدفون إلى تصحيح العلاقات الدولية او جعلها أكثر اخلاقية. ولكن اذا ما أردنا تحقيق هذه الرغبة فإنه لا بد من تغيير الأوضاع السائدة حالياً.
ولذلك راح بعضهم ينتقد مؤخراً الدولة القومية المتعصبة عرقياً ويدعو إلى تجاوزها عن طريق تشكيل تكتل أوسع كالوحدة الأوروبية مثلاً، أو حتى العولمة الشمولية. ومن هنا انبثقت فكرة تشكيل نظام عالمي جديد يتجاوز كل القوميات الخصوصية. وهؤلاء وأولئك يقولون بان حق التدخل في شؤون الآخرين من قبل النظام العالمي الجديد ليس له أساس قانوني محدد بدقة، ثم ان العالم لا ينقسم إلى أخيار وأشرار بطريقة مانوية الخ.. وإذا كان النظام العالمي الجديد اثبت فعاليته في حل مشكلة يوغسلافيا وتحرير الكويت إلا انه فشل حتى الآن في حل بعض الصراعات الكبيرة الأخرى. والمسألة مفتوحة.