By فهد ماجد 5 - الاثنين نوفمبر 28, 2011 9:29 am
- الاثنين نوفمبر 28, 2011 9:29 am
#40557
يزيد صايغاتخذت القوات المسلحة الوطنية مواقف متباينة تجاه الثورات التي اندلعت في العديد من الدول العربية منذ نهاية عام 2010 . ففي تونس ومصر، كان الجيش هو من أخرج عملية الانتقال السياسي إلي النور، لكن في الأولى، انسحب الجيش خلف الكواليس، بينما في الأخيرة، تولي الجيش مقاليد السلطة مؤقتا. أما الجيش الليبي، فسرعان ما تمزق، حيث أخذت بعض وحداته جانب الثوار، وبعضها وقف علي الحياد، في الوقت الذي قاتلت فيه وحدات أخري لصالح العقيد "معمر القذافي" ونظامه. وفي اليمن، فقد ظل الجيش موحد الصف بشكل عام، لكن العديد من كبار القادة حذروا الرئيس "علي عبد الله صالح" علنيا من قمع الاحتجاجات، وقاموا بنشر قوات لحماية المتظاهرين العزل، وأخيرا طالبوا الرئيس بالتنحي.
وعلى العكس من ذلك، فمن المعتقد أن الجيش السوري يعاني انخفاض الروح المعنوية، وبعض الانشقاقات بين صفوف الرتب الأدنى من المجندين من المناطق الفقيرة في البلاد. فيما عدا ذلك، لا يزال الجيش مواليا للنظام بشكل غالب، مكررا تماسكه، خلال المواجهات المريرة التي وقعت مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ومع فرع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، منذ عام 1976، وصولا إلى مذبحة حماه مطلع عام 1982 .
إن ما حدد موقف القوات المسلحة في كل حالة من هذه الحالات هو طريقة ودرجة مأسستها في إطار الأنظمة السلطوية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى الدراسة التي أعدها "ألفريد ستيبان" حول أمريكا اللاتينية، خاصة تمييزه بين الجيش فيما يتصل بالدولة - كمؤسستين رسميتين تمارسان سلطات وواجبات دستورية - والجيش كجزء من النظام السياسي، حيث تتشكل العلاقات غير الرسمية متعددة الأوجه والمستويات.
وهناك ثلاثة أشكال رئيسية لعملية" مأسسة" الجيوش العربية: أولها: "زرع" الجيوش داخل هياكل السلطة والنخب الحاكمة، ثانيها : تشابكها مع الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي، ثالثها : توظيفها كنظام رعاية اجتماعية لقطاعات رئيسية من الشعب.
إن تحقيق وتدعيم السيطرة الديمقراطية علي القوات المسلحة يتطلب الوعي بكل تلك الأشكال واستخدام مناهج متعددة الأبعاد للتعامل مع كل منها. وربما لا يكون تغيير العلاقات المدنية - العسكرية هو الطريق الوحيد لتحقيق الإصلاح والحوكمة الديمقراطية في باقي قطاعات الأمن) أي الشرطة والأمن الداخلي)، لكنه من المرجح أن يجعل هذه العملية أكثر سهولة.
1- زرع الجيش في البني الاجتماعية والنخب الحاكمة
في شتي أنحاء المنطقة العربية، غالبا ما تتركز السلطة التنفيذية في شبكات ضيقة من أعضاء الأسر الحاكمة وكبار البيروقراطيين ورجال الأعمال. وهذا يعتمد علي- وأيضا ينعكس في- اعتماد الرؤساء والملوك علي حد سواء علي أفراد أسرهم في تولي المناصب القيادية العسكرية الرئيسية، كما هو واضح في الأنظمة الجمهورية في ليبيا وسوريا واليمن، والأنظمة الملكية في قطر والسعودية. علاوة على ذلك، غالبا ما تبني الجيوش على- وتتشكل من خلال- العصبيات أو الولاءات الإقليمية، الأمر الذي يجعل تماسكها وفاعليتها رهن هذه الولاءات.
ففي البحرين -علي سبيل المثال- شجع النظام الملكي علي محاباة المسلمين السنة في القوات المسلحة، واستبعاد الأغلبية الشيعية كوسيلة لمقاومة الضغوط الداخلية المطالبة بإقرار الديمقراطية. وفي المملكة الأردنية، تم تطبيق سياسة غير معلنة لاستبعاد الفلسطينيين منذ الحرب الأهلية عام 1970، حيث يمثل الجيش سكان الضفة الشرقية، خاصة المناطق الريفية والمنطقة الجنوبية الفقيرة والقبلية.
وإلى ناحية الشرق، ضم الجيش العراقي قبل عام 2003 عددا كبيرا من الشيعة العرب، منهم من تولي مناصب كبيرة، لكن السنة العرب- خاصة ممن جاءوا من مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين- هيمنوا علي ما يمكن تسميته "الجيش داخل الجيش" الذي تمثل في الحرس الجمهوري والحرس الرئاسي.
ومنذ عام 2003، أصبحت الانتماءات العرقية /الطائفية محددا رئيسيا لمن ينضم من العراقيين للجيش، وللألوية الإقليمية التي سينتمون إليها، وأيضا لما إذا كانوا سيطيعون القادة الذين لا ينتمون لنفس العرق أو الطائفة أم لا.
وتتضح هذه الأنماط أيضا في أماكن أخري; فالتحالفات القبلية والمناطقية تعد ذات أهمية في ليبيا والسعودية واليمن، لدرجة يمكن معها القول إن العلاقات القبلية قد اخترقت كلا من القوات المسلحة وكيان الدولة. وفي لبنان، لا تزال الهوية الطائفية أمرا مركزيا، حيث هناك نماذج متعددة علي فصل ودمج وحدات الجيش وشريحة الضباط علي أسس طائفية.
ولا تعد الهوية الطائفية والإقليمية أقل أهمية في سوريا، حيث يأتي أفراد الجيش من كل القطاعات المجتمعية، مع التفوق العددي الطبيعي لمسلمي السنة الذين يشكلون غالبية السكان. لكن المسلمون العلويون الذين يمثلون الأقلية يهيمنون علي القيادات والوحدات الرئيسية، بينما يأتي كبار الضباط السنة بشكل مكثف من منطقة حوران الجنوبية لموازنة السنة من الشمال والمدن الرئيسية.
يمكن القول إن انعدام الثقة المتبادل بين النخب الحاكمة وقطاعات مجتمعية معينة يساعد في تفسير الاعتماد علي الجنود الأجانب لإنجاز المهام العسكرية في بعض الدول العربية. فقد قامت البحرين بشكل متكرر بتجنيد مسلمين سنة من دول عربية أخري - خاصة سوريا - وأيضا من باكستان، كما تشير بعض التقارير، للخدمة في قواتها المسلحة، حتى تتجنب تجنيد الشيعة البحرينيين.
وقد ذهبت ليبيا إلي ما هو أبعد من ذلك، حيث قامت بدفع أموال لفصائل ومنظمات لبنانية وفلسطينية لتزويدها بأفراد ميليشياتها للقتال في حروبها الحدودية مع تشاد في ثمانينيات القرن الماضي. كما عملت علي تدريب "فيلق إسلامي" للعمل في منطقة الساحل، حيث ساعد أخيرا في الدفاع عن نظام القذافي ضد الثوار الليبيين.
ويعد افتقاد المواطنين الراغبين في الانضمام للقوات المسلحة في الممالك الخليجية ذات الأعداد السكانية الصغيرة عاملا آخر يدفع إلى استقدام الأجانب. فالكويت، علي سبيل المثال، تعتمد بشكل كبير علي الجنود "البدون"- وهم السكان الذين لا يحملون الجنسية الكويتية - بينما في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، يعمل المتعاقدون من غير المواطنين كضباط متوسطي المستوي، ومستشارين، وأيضا في الطواقم الأرضية للقوات الجوية.
2- تداخل أجهزة القوة .. الجيش والأمن الداخلي:
يتمثل الجانب الرئيسي الثاني من مأسسة القوات المسلحة الوطنية في الأنظمة السلطوية في تداخلها مع أجهزة القوة الأخرى التابعة للدولة، وهي: الشرطة، وأجهزة الاستخبارات، وأجهزة الأمن الداخلي الأخرى، حيث تشكل معظم الدول العربية أجهزة كبيرة ومتعددة، مهمتها الحفاظ علي القانون والنظام العام، ومكافحة الجريمة، وفرض سيطرة النظام الحاكم.
ولنأخذ أبرز الأمثلة التي تتوافر عنها بيانات موثوق فيها نسبيا: وزارة الداخلية المصرية، والتي يعمل بها 1.4 مليون موظف - من شرطة، وقوات أمن مسلحة، وحرس حدود، ومخبرين - ونظيرتها السعودية التي تضم 750 ألفا. وفي تونس، يبلغ عدد أفراد الأمن الداخلي120 ألفا، بينما يبلغ تعداد منظمة الأمن السياسي في اليمن 150 ألفا، وهي مجرد واحد من بين عدة أجهزة تعمل في مجال الأمن الداخلي والشرطة. أما قوات الأمن العراقية (الداخلية) المعاد بناؤها، فيبلغ إجمالي عدد كل فروعها ما بين 415 ألفا و600 ألف . في معظم هذه الحالات، يفوق عدد قوات الأمن الداخلي القوات المسلحة بفارق كبير.
جاء التداخل بين الجيش والأجهزة الأمنية، في معظم الأحيان، نتيجة للسعي لحماية النظام. يأخذ ذلك، علي سبيل المثال، شكل تحميل الجيش دورا دستوريا ثانويا في الأمن الداخلي، بالإضافة إلي مهمته الرئيسية الخاصة بالدفاع عن البلاد خارجيا. وفي الوقت ذاته، اتخذت بعض الإجراءات، بداية من سبعينيات القرن الماضي فصاعدا، لحماية الأنظمة من الانقلابات العسكرية، الأمر الذي ترتب عليه انتشار أجهزة الاستخبارات التي تأسست في الأصل لمراقبة الجيش ثم لمراقبة بعضها بعضا.
ومن ناحية أخري، أدت الزيادة الكبيرة في الإيرادات النفطية وتدوير الأشكال المختلفة لرءوس الأموال في المنطقة إلي توفير موارد مالية كبيرة للحكومات، الأمر الذي أسهم بشكل متوقع في التوسع الكبير في عدد الموظفين في القطاع العسكري وقطاع الأمن الداخلي.
وقد سار هذا جنبا إلي جنب مع الزيادة في أجور العسكريين، خاصة شريحة الضباط، وأيضا حجم العلاوات، ودعم أسعار الأغذية، والإسكان، والسلع الاستهلاكية، والإنفاق المستمر ببذخ علي شراء الأسلحة، وتدعيم البنية التحتية العسكرية. جدير بالذكر أن عملية حماية النظام دفعت أيضا إلى تشكيل أجهزة أمن داخلي شبه عسكرية، تستخدم الكثير منها الأسلحة الثقيلة.
وقد قام بهذا الدور في العراق قبل عام 2003 "الجيش الشعبي" التابع لحزب البعث، و"فدائيو صدام"، كذلك "سرايا الدفاع"، و"سرايا الصراع" الحاصلة على أعلى مستويات التدريب والتسليح في سوريا. وكان الهدف من "الحرس الثوري" في ليبيا القيام بالدور نفسه، كذلك كتائب الأمن الأكثر تنظيما، والتي يبدو أنها كانت لها الريادة في الهجمات المضادة التي شنها نظام "القذافي" خلال الصراع الذي اندلع عام 2011.
ورغم أن هذه الظاهرة أكثر ارتباطا بالأنظمة الجمهورية، فإنها توجد أيضا في بعض النظم الملكية بأشكال مختلفة. وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه التشكيلات شبه العسكرية غالبا ما يترأسها أقارب ذكور مقربون لزعماء الدولة.
وقد أدت "الحرب ضد الإرهاب" إلى عسكرة الأمن الداخلي بشكل أكبر، حيث أسقطت الفواصل بين مهام الدفاع الخارجي، بين المهام المتعلقة بفرض القانون، وحفظ النظام العام، وحماية النظام، وبالتالي الفواصل بين القوات المسلحة الوطنية والأجهزة الاستخباراتية والشرطة.
ففي العديد من الدول العربية، تم إنشاء وحدات شرطية جديدة لمكافحة الإرهاب، أو تمت إعادة تجهيز الوحدات القديمة للقيام بهذه المهمة. والأمثلة علي ذلك كثيرة، منها فرق مكافحة الإرهاب، والقوات الخاصة (علي غرار الكوماندوز)، وكتائب متخصصة في محاربة الإرهاب. وتخضع هذه الوحدات - إما بحكم الدستور أو بحكم الأمر الواقع - لسلطات مختلفة.
ففي بعض الحالات، تخضع لوزارات الداخلية. وفي حالات أخرى، تخضع لهياكل موازية تقع تحت الرئاسة المباشرة لقادة الدول، حيث تنقسم في الحقيقة طبقا للانتماءات الطائفية أو الحزبية.ولمعظم الدول أيضا قوات درك (جندرمة) شبه عسكرية، كانت تستخدم تاريخي ا في الحفاظ علي النظام في المناطق الريفية وتأمينها، ويبلغ عدد هذه القوات في الجزائر 60 ألفا، وفي المغرب 50 ألفا، كما أن قوات الدرك هي عماد جهاز الأمن الداخلي في لبنان ، وليست قوات الشرطة.
وقد قام الأردن بتأسيس إدارة عامة مستقلة للقوات شبه العسكرية عام 2008 . وحتى السلطة الفلسطينية والحكومة الإقليمية الكردية شكلت وحدات شرطية مسلحة - بتدريب أمريكي - من العناصر التي سبق أن شاركت في "حروب العصابات" الداخلية.
وتكشف عملية التداخل بين القوات المسلحة الوطنية والأجهزة الاستخباراتية والشرطة عن الطبيعة والأهداف المختلطة لأجهزة القوة التابعة للدولة، حيث نادرا ما يتم التمييز بوضوح بين مجال الأمن الداخلي والمجال العسكري، مما يعقد من بسط السيطرة المدنية أو الحوكمة الديمقراطية علي أي منهما.
وقد يكون لتدخل الجيوش في الأمن الداخلي وحماية الأنظمة آثار عكسية، إذ تبدي بعض الجيوش عدم ارتياح إزاء تجاوزات أجهزة الأمن الداخلي والزعماء الذين ينهبون ثروات بلادهم، وينصبون أنفسهم رؤساء مدي الحياة.
ومن الواضح أن هذا الشعور بعدم الارتياح كان عاملا أساسيا في الدور الذي لعبه الجيش التونسي في الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011 . وربما ترغب الجيوش أيضا في فك الاشتباك بين دورها ودور الأجهزة الاستخباراتية والأمنية ذات الصبغة العسكرية، وتحد من استقلاليتها، مثلما حدث في تجربة الانفتاح السياسي "أبرتورا"، في البرازيل بين منتصف السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ولهذه الأسباب ولأسباب أخري، قد تساند الجيوش الانتقال المنظم إلي نظم سياسية أكثر ليبرالية.
3- البعد الاجتماعي:
كل ما سبق يؤكد اتساع دائرة التوظيف في الأجهزة العسكرية والأمنية، الأمر الذي يكشف النقاب عن وظيفة اجتماعية أساسية، حيث تستخدم الحكومات التوظيف في القطاعات العسكرية لحماية شرائح اجتماعية معينة من التأثير السلبي لعمليات التحرر الاقتصادي والخصخصة.
فمع الإسراع من هذه العمليات، تزايدت نسبة السكان التي تعيش عند أو تحت خط الفقر في الكثير من الدول، حيث وصلت إلى 40% من السكان في عام 2008 في كل من مصر والأردن علي سبيل المثال.
ويضمن التوظيف في الأجهزة العسكرية (والأمنية) تمتع الشرائح الاجتماعية، مثل العسكريين، وأفراد الشرطة والاستخبارات، والموظفين، بالحماية النسبية. ولا يحقق ذلك الغني لهذه القطاعات، ولا يوفر لهم الحماية الكاملة من انخفاض مستويات المعيشة الناشئة عن خصخصة وتحديث الاقتصاد، لكنه يبطئ ويلطف من أسوأ التأثيرات، في الوقت الذي تتعرض فيه أعداد متزايدة من المواطنين لتفاوتات كبيرة في مستوي الدخل، وتنزلق إلي الفقر.
ويتضح حجم هذه الوظيفة الاجتماعية من خلال استعراض عدد أفراد الجيوش والشرطة والأجهزة الاستخباراتية الداخلية مجتمعة، حيث تبلغ - وفق ما يثار - مليوني فرد في مصر، و 850 ألفا في العراق، وأكثر من 200 ألف في الأردن، و 950 ألفا في السعودية.
وهذه الأعداد تمثل نسبة كبيرة من القوي العاملة الوطنية، التي تتلقي دعما ماديا مباشرا من الدولة، مما يوضح أهمية التوظيف في القطاعات الأمنية والعسكرية بالنسبة لدخل عدد كبير من الأسر. ويتداخل هذا الشكل من الرعاية الاجتماعية مع الأشكال الأخرى من الدعم التي تقدمها الدولة، حيث إن جزءا كبيرا من هذا العبء المالي ي حمل على بنود ميزانيات الوزارات الأخرى، مثل الصحة والإسكان والمالية بالنسبة لمعاشات التقاعد.
وقد يخلق هذا النظام "العسكري" للرعاية الاجتماعية أنظمة دعم فرعية مرتبطة به. ففي السعودية، توجد لوزارتي الدفاع والطيران المدني والداخلية والحرس الوطني بنية تحتية موازية تقدم خدمات في مجالات الإسكان والتعليم والصحة للعاملين بها.
ويشكل الحفاظ علي هذه الأنظمة عبئا متزايدا، لا يمكن للمالية العامة أن تتحمله في العديد من الدول، مما دعا بعضها للسماح للجيش بالمشاركة في أنشطة تجارية واقتصادية. ففي مصر، على سبيل المثال، أصبح للجيش نشاط اقتصادي واسع أجازته الدولة قانونيا، حيث يدير الجيش مصانع، تنتج أشياء عديدة، وصولا إلى الإطارات والمركبات.
في البداية، كان الهدف من هذا النشاط توفير الخدمات والسلع المنتجة لأفراد الجيش فقط. لكن على مدي العقدين الماضيين، أصبحت هذه السلع متاحة بشكل متزايد في الأسواق، حيث يتنافس الجيش مع القطاع الخاص، وفي الوقت نفسه، يحتفظ الجيش بأرباحه لتحسين ظروف جنوده وضباطه.
وعلي الجانب الآخر، تنخرط بعض الجيوش العربية في نوع مختلف من النشاط الاقتصادي. فمن المعروف أن الجيش السوري، علي سبيل المثال، قد اشترك علي مدى عقود في أنشطة السوق السوداء علي نطاق واسع، خاصة خلال فترة انتشاره الطويلة في لبنان ما بين عامي 1976 و2005، وأيضا علي طول الحدود مع العراق وتركيا والأردن.
وقد كان التساهل مع الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة وسيلة للتعويض عن الميزانيات غير الكافية، وانخفاض الأجور، وأيضا لضمان ولاء كبار القادة للنظام. أما اليمن، فيقدم مثالا ثالثا، حيث يسيطر الرئيس وأسرته على أكبر كتلة اقتصادية في الدولة، من خلال صندوق المعاشات العسكرية الخاص بالجيش، محتفظين بحصص ضخمة في مجالات الإنتاج المختلفة والخدمات والتجارة الخارجية.
في كل هذه الحالات، قد يقاوم الجيش أى إصلاحات تؤثر في أنشطته الاقتصادية، سواء بشكل مباشر، أو من خلال خصخصة أصول وخدمات الدولة التي قد يستغلها في أنشطة اقتصادية تعود عليه بالربح. كما تقاوم الجيوش إخضاعها لأي رقابة أو متابعة من جانب مجالس الوزراء أو البرلمانات أو وزارات المالية.
ومن المستبعد أن توافق علي الانسحاب من النشاط الاقتصاد المدني. وهنا، تكمن المفارقة; فالجيش يرغب في الاستقرار الداخلي، لكي يبقي بمنأي عن الانخراط في السياسة الداخلية، لكنه في الوقت نفسه يسعي لضمان ميزانيته وحماية اقتصاده الخاص.
ورغم أن ذلك قد لا يمثل أهمية في الدول العربية الأكثر ثراء، مثل دول مجلس التعاون الخليجي النفطية، حيث تتمتع الجيوش بقدر محدود من الاستقلالية، ولا تشارك في أنشطة اقتصادية مستقلة، فإن محاولات الفصل بين آلة صنع القرار السياسي والملكية الاقتصادية قد تثير مستقبلا توترات وتحديات جديدة ذات تأثير في العلاقات المدنية- العسكرية.
بوجه عام، ربما يلعب هدف حماية الميزانيات والرعاية الاجتماعية دورا في تشكيل موقف الجيوش في المنطقة من عملية التحول الديمقراطي، كما يمكن أن يؤدي أيضا إلى حدوث خلاف وشقاق داخل الجيوش طبقا للرتبة، والجيل، والبعد الاجتماعي والمهني، وأثر العلاقات الخارجية التي تتصل بالتدريب والعقيدة القتالية والقيم المعيارية.
الخاتمة- التوجهات والأدوار السياسية:
سوف يلعب الموقف الذي تأخذه الجيوش واختيارها بين مسارات الانتقال السلمي أو استخدام القمع أو التفكك والتشرذم دورا في تحديد قدرتها علي الحفاظ علي هوياتها المهنية وتطورها في المستقبل.وسوف يكون مستقبل الجيوش مرهونا باستعدادها لتعديل وضعها المؤسسي في إطار نظم الدولة، وعلي وجه التحديد الأسلوب الذي تتم به هذه العملية وسرعتها، وطبيعة أي تسويات قد يتم التفاوض عليها مع الأطراف الأخرى.
ويبدو الاحتمال الأكبر أن تأتي الضغوط الحاسمة- سواء كان تأييد ا للانتقال وإعادة التفاوض بشأن العلاقات المدنية / العسكرية، أو اعتراضا عليها- من جانب القوات البرية. وهذه القوات ليست فقط المكون الأكبر لأي قوات مسلحة وطنية، لكنها أيضا، نظرا لاعتمادها علي المجندين الإلزاميين من بين الشرائح الاجتماعية منخفضة الدخل والمهارات، هي الأكثر تأثرا بالضغوط الواقعة على المستويات المعيشية ومعاشات التقاعد، وبالتالي فهي الأكثر عرضة لنفس العوامل الاجتماعية / الاقتصادية التي كانت الدافع وراء الثورات الشعبية في "الربيع العربي".
ويشعر كبار القادة بالحساسية الشديدة تجاه هذا الأمر، لكن ذلك في حد ذاته لا يعد ضمانا لأن يؤيد الجيش ككل في النهاية الحركات الديمقراطية.ومن المحتمل أن يظهر تحالف جديد يضم عناصر من الأنظمة القديمة مع الأجنحة المحافظة لحركات المعارضة بهدف إعطاء الأولوية لـ"الاستقرار"، الأمر الذي من المحتمل أن تؤيده معظم القوي الخارجية. إن تحقيق حوكمة ديمقراطية حقيقية للقوات المسلحة، ناهيك عن تحقيق إصلاحات حقيقية داخلها، لا يزال يتطلب نضالا سياسيا مطولا علي مستويات عديدة
وعلى العكس من ذلك، فمن المعتقد أن الجيش السوري يعاني انخفاض الروح المعنوية، وبعض الانشقاقات بين صفوف الرتب الأدنى من المجندين من المناطق الفقيرة في البلاد. فيما عدا ذلك، لا يزال الجيش مواليا للنظام بشكل غالب، مكررا تماسكه، خلال المواجهات المريرة التي وقعت مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ومع فرع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، منذ عام 1976، وصولا إلى مذبحة حماه مطلع عام 1982 .
إن ما حدد موقف القوات المسلحة في كل حالة من هذه الحالات هو طريقة ودرجة مأسستها في إطار الأنظمة السلطوية. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى الدراسة التي أعدها "ألفريد ستيبان" حول أمريكا اللاتينية، خاصة تمييزه بين الجيش فيما يتصل بالدولة - كمؤسستين رسميتين تمارسان سلطات وواجبات دستورية - والجيش كجزء من النظام السياسي، حيث تتشكل العلاقات غير الرسمية متعددة الأوجه والمستويات.
وهناك ثلاثة أشكال رئيسية لعملية" مأسسة" الجيوش العربية: أولها: "زرع" الجيوش داخل هياكل السلطة والنخب الحاكمة، ثانيها : تشابكها مع الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي، ثالثها : توظيفها كنظام رعاية اجتماعية لقطاعات رئيسية من الشعب.
إن تحقيق وتدعيم السيطرة الديمقراطية علي القوات المسلحة يتطلب الوعي بكل تلك الأشكال واستخدام مناهج متعددة الأبعاد للتعامل مع كل منها. وربما لا يكون تغيير العلاقات المدنية - العسكرية هو الطريق الوحيد لتحقيق الإصلاح والحوكمة الديمقراطية في باقي قطاعات الأمن) أي الشرطة والأمن الداخلي)، لكنه من المرجح أن يجعل هذه العملية أكثر سهولة.
1- زرع الجيش في البني الاجتماعية والنخب الحاكمة
في شتي أنحاء المنطقة العربية، غالبا ما تتركز السلطة التنفيذية في شبكات ضيقة من أعضاء الأسر الحاكمة وكبار البيروقراطيين ورجال الأعمال. وهذا يعتمد علي- وأيضا ينعكس في- اعتماد الرؤساء والملوك علي حد سواء علي أفراد أسرهم في تولي المناصب القيادية العسكرية الرئيسية، كما هو واضح في الأنظمة الجمهورية في ليبيا وسوريا واليمن، والأنظمة الملكية في قطر والسعودية. علاوة على ذلك، غالبا ما تبني الجيوش على- وتتشكل من خلال- العصبيات أو الولاءات الإقليمية، الأمر الذي يجعل تماسكها وفاعليتها رهن هذه الولاءات.
ففي البحرين -علي سبيل المثال- شجع النظام الملكي علي محاباة المسلمين السنة في القوات المسلحة، واستبعاد الأغلبية الشيعية كوسيلة لمقاومة الضغوط الداخلية المطالبة بإقرار الديمقراطية. وفي المملكة الأردنية، تم تطبيق سياسة غير معلنة لاستبعاد الفلسطينيين منذ الحرب الأهلية عام 1970، حيث يمثل الجيش سكان الضفة الشرقية، خاصة المناطق الريفية والمنطقة الجنوبية الفقيرة والقبلية.
وإلى ناحية الشرق، ضم الجيش العراقي قبل عام 2003 عددا كبيرا من الشيعة العرب، منهم من تولي مناصب كبيرة، لكن السنة العرب- خاصة ممن جاءوا من مدينة تكريت مسقط رأس صدام حسين- هيمنوا علي ما يمكن تسميته "الجيش داخل الجيش" الذي تمثل في الحرس الجمهوري والحرس الرئاسي.
ومنذ عام 2003، أصبحت الانتماءات العرقية /الطائفية محددا رئيسيا لمن ينضم من العراقيين للجيش، وللألوية الإقليمية التي سينتمون إليها، وأيضا لما إذا كانوا سيطيعون القادة الذين لا ينتمون لنفس العرق أو الطائفة أم لا.
وتتضح هذه الأنماط أيضا في أماكن أخري; فالتحالفات القبلية والمناطقية تعد ذات أهمية في ليبيا والسعودية واليمن، لدرجة يمكن معها القول إن العلاقات القبلية قد اخترقت كلا من القوات المسلحة وكيان الدولة. وفي لبنان، لا تزال الهوية الطائفية أمرا مركزيا، حيث هناك نماذج متعددة علي فصل ودمج وحدات الجيش وشريحة الضباط علي أسس طائفية.
ولا تعد الهوية الطائفية والإقليمية أقل أهمية في سوريا، حيث يأتي أفراد الجيش من كل القطاعات المجتمعية، مع التفوق العددي الطبيعي لمسلمي السنة الذين يشكلون غالبية السكان. لكن المسلمون العلويون الذين يمثلون الأقلية يهيمنون علي القيادات والوحدات الرئيسية، بينما يأتي كبار الضباط السنة بشكل مكثف من منطقة حوران الجنوبية لموازنة السنة من الشمال والمدن الرئيسية.
يمكن القول إن انعدام الثقة المتبادل بين النخب الحاكمة وقطاعات مجتمعية معينة يساعد في تفسير الاعتماد علي الجنود الأجانب لإنجاز المهام العسكرية في بعض الدول العربية. فقد قامت البحرين بشكل متكرر بتجنيد مسلمين سنة من دول عربية أخري - خاصة سوريا - وأيضا من باكستان، كما تشير بعض التقارير، للخدمة في قواتها المسلحة، حتى تتجنب تجنيد الشيعة البحرينيين.
وقد ذهبت ليبيا إلي ما هو أبعد من ذلك، حيث قامت بدفع أموال لفصائل ومنظمات لبنانية وفلسطينية لتزويدها بأفراد ميليشياتها للقتال في حروبها الحدودية مع تشاد في ثمانينيات القرن الماضي. كما عملت علي تدريب "فيلق إسلامي" للعمل في منطقة الساحل، حيث ساعد أخيرا في الدفاع عن نظام القذافي ضد الثوار الليبيين.
ويعد افتقاد المواطنين الراغبين في الانضمام للقوات المسلحة في الممالك الخليجية ذات الأعداد السكانية الصغيرة عاملا آخر يدفع إلى استقدام الأجانب. فالكويت، علي سبيل المثال، تعتمد بشكل كبير علي الجنود "البدون"- وهم السكان الذين لا يحملون الجنسية الكويتية - بينما في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، يعمل المتعاقدون من غير المواطنين كضباط متوسطي المستوي، ومستشارين، وأيضا في الطواقم الأرضية للقوات الجوية.
2- تداخل أجهزة القوة .. الجيش والأمن الداخلي:
يتمثل الجانب الرئيسي الثاني من مأسسة القوات المسلحة الوطنية في الأنظمة السلطوية في تداخلها مع أجهزة القوة الأخرى التابعة للدولة، وهي: الشرطة، وأجهزة الاستخبارات، وأجهزة الأمن الداخلي الأخرى، حيث تشكل معظم الدول العربية أجهزة كبيرة ومتعددة، مهمتها الحفاظ علي القانون والنظام العام، ومكافحة الجريمة، وفرض سيطرة النظام الحاكم.
ولنأخذ أبرز الأمثلة التي تتوافر عنها بيانات موثوق فيها نسبيا: وزارة الداخلية المصرية، والتي يعمل بها 1.4 مليون موظف - من شرطة، وقوات أمن مسلحة، وحرس حدود، ومخبرين - ونظيرتها السعودية التي تضم 750 ألفا. وفي تونس، يبلغ عدد أفراد الأمن الداخلي120 ألفا، بينما يبلغ تعداد منظمة الأمن السياسي في اليمن 150 ألفا، وهي مجرد واحد من بين عدة أجهزة تعمل في مجال الأمن الداخلي والشرطة. أما قوات الأمن العراقية (الداخلية) المعاد بناؤها، فيبلغ إجمالي عدد كل فروعها ما بين 415 ألفا و600 ألف . في معظم هذه الحالات، يفوق عدد قوات الأمن الداخلي القوات المسلحة بفارق كبير.
جاء التداخل بين الجيش والأجهزة الأمنية، في معظم الأحيان، نتيجة للسعي لحماية النظام. يأخذ ذلك، علي سبيل المثال، شكل تحميل الجيش دورا دستوريا ثانويا في الأمن الداخلي، بالإضافة إلي مهمته الرئيسية الخاصة بالدفاع عن البلاد خارجيا. وفي الوقت ذاته، اتخذت بعض الإجراءات، بداية من سبعينيات القرن الماضي فصاعدا، لحماية الأنظمة من الانقلابات العسكرية، الأمر الذي ترتب عليه انتشار أجهزة الاستخبارات التي تأسست في الأصل لمراقبة الجيش ثم لمراقبة بعضها بعضا.
ومن ناحية أخري، أدت الزيادة الكبيرة في الإيرادات النفطية وتدوير الأشكال المختلفة لرءوس الأموال في المنطقة إلي توفير موارد مالية كبيرة للحكومات، الأمر الذي أسهم بشكل متوقع في التوسع الكبير في عدد الموظفين في القطاع العسكري وقطاع الأمن الداخلي.
وقد سار هذا جنبا إلي جنب مع الزيادة في أجور العسكريين، خاصة شريحة الضباط، وأيضا حجم العلاوات، ودعم أسعار الأغذية، والإسكان، والسلع الاستهلاكية، والإنفاق المستمر ببذخ علي شراء الأسلحة، وتدعيم البنية التحتية العسكرية. جدير بالذكر أن عملية حماية النظام دفعت أيضا إلى تشكيل أجهزة أمن داخلي شبه عسكرية، تستخدم الكثير منها الأسلحة الثقيلة.
وقد قام بهذا الدور في العراق قبل عام 2003 "الجيش الشعبي" التابع لحزب البعث، و"فدائيو صدام"، كذلك "سرايا الدفاع"، و"سرايا الصراع" الحاصلة على أعلى مستويات التدريب والتسليح في سوريا. وكان الهدف من "الحرس الثوري" في ليبيا القيام بالدور نفسه، كذلك كتائب الأمن الأكثر تنظيما، والتي يبدو أنها كانت لها الريادة في الهجمات المضادة التي شنها نظام "القذافي" خلال الصراع الذي اندلع عام 2011.
ورغم أن هذه الظاهرة أكثر ارتباطا بالأنظمة الجمهورية، فإنها توجد أيضا في بعض النظم الملكية بأشكال مختلفة. وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه التشكيلات شبه العسكرية غالبا ما يترأسها أقارب ذكور مقربون لزعماء الدولة.
وقد أدت "الحرب ضد الإرهاب" إلى عسكرة الأمن الداخلي بشكل أكبر، حيث أسقطت الفواصل بين مهام الدفاع الخارجي، بين المهام المتعلقة بفرض القانون، وحفظ النظام العام، وحماية النظام، وبالتالي الفواصل بين القوات المسلحة الوطنية والأجهزة الاستخباراتية والشرطة.
ففي العديد من الدول العربية، تم إنشاء وحدات شرطية جديدة لمكافحة الإرهاب، أو تمت إعادة تجهيز الوحدات القديمة للقيام بهذه المهمة. والأمثلة علي ذلك كثيرة، منها فرق مكافحة الإرهاب، والقوات الخاصة (علي غرار الكوماندوز)، وكتائب متخصصة في محاربة الإرهاب. وتخضع هذه الوحدات - إما بحكم الدستور أو بحكم الأمر الواقع - لسلطات مختلفة.
ففي بعض الحالات، تخضع لوزارات الداخلية. وفي حالات أخرى، تخضع لهياكل موازية تقع تحت الرئاسة المباشرة لقادة الدول، حيث تنقسم في الحقيقة طبقا للانتماءات الطائفية أو الحزبية.ولمعظم الدول أيضا قوات درك (جندرمة) شبه عسكرية، كانت تستخدم تاريخي ا في الحفاظ علي النظام في المناطق الريفية وتأمينها، ويبلغ عدد هذه القوات في الجزائر 60 ألفا، وفي المغرب 50 ألفا، كما أن قوات الدرك هي عماد جهاز الأمن الداخلي في لبنان ، وليست قوات الشرطة.
وقد قام الأردن بتأسيس إدارة عامة مستقلة للقوات شبه العسكرية عام 2008 . وحتى السلطة الفلسطينية والحكومة الإقليمية الكردية شكلت وحدات شرطية مسلحة - بتدريب أمريكي - من العناصر التي سبق أن شاركت في "حروب العصابات" الداخلية.
وتكشف عملية التداخل بين القوات المسلحة الوطنية والأجهزة الاستخباراتية والشرطة عن الطبيعة والأهداف المختلطة لأجهزة القوة التابعة للدولة، حيث نادرا ما يتم التمييز بوضوح بين مجال الأمن الداخلي والمجال العسكري، مما يعقد من بسط السيطرة المدنية أو الحوكمة الديمقراطية علي أي منهما.
وقد يكون لتدخل الجيوش في الأمن الداخلي وحماية الأنظمة آثار عكسية، إذ تبدي بعض الجيوش عدم ارتياح إزاء تجاوزات أجهزة الأمن الداخلي والزعماء الذين ينهبون ثروات بلادهم، وينصبون أنفسهم رؤساء مدي الحياة.
ومن الواضح أن هذا الشعور بعدم الارتياح كان عاملا أساسيا في الدور الذي لعبه الجيش التونسي في الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011 . وربما ترغب الجيوش أيضا في فك الاشتباك بين دورها ودور الأجهزة الاستخباراتية والأمنية ذات الصبغة العسكرية، وتحد من استقلاليتها، مثلما حدث في تجربة الانفتاح السياسي "أبرتورا"، في البرازيل بين منتصف السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ولهذه الأسباب ولأسباب أخري، قد تساند الجيوش الانتقال المنظم إلي نظم سياسية أكثر ليبرالية.
3- البعد الاجتماعي:
كل ما سبق يؤكد اتساع دائرة التوظيف في الأجهزة العسكرية والأمنية، الأمر الذي يكشف النقاب عن وظيفة اجتماعية أساسية، حيث تستخدم الحكومات التوظيف في القطاعات العسكرية لحماية شرائح اجتماعية معينة من التأثير السلبي لعمليات التحرر الاقتصادي والخصخصة.
فمع الإسراع من هذه العمليات، تزايدت نسبة السكان التي تعيش عند أو تحت خط الفقر في الكثير من الدول، حيث وصلت إلى 40% من السكان في عام 2008 في كل من مصر والأردن علي سبيل المثال.
ويضمن التوظيف في الأجهزة العسكرية (والأمنية) تمتع الشرائح الاجتماعية، مثل العسكريين، وأفراد الشرطة والاستخبارات، والموظفين، بالحماية النسبية. ولا يحقق ذلك الغني لهذه القطاعات، ولا يوفر لهم الحماية الكاملة من انخفاض مستويات المعيشة الناشئة عن خصخصة وتحديث الاقتصاد، لكنه يبطئ ويلطف من أسوأ التأثيرات، في الوقت الذي تتعرض فيه أعداد متزايدة من المواطنين لتفاوتات كبيرة في مستوي الدخل، وتنزلق إلي الفقر.
ويتضح حجم هذه الوظيفة الاجتماعية من خلال استعراض عدد أفراد الجيوش والشرطة والأجهزة الاستخباراتية الداخلية مجتمعة، حيث تبلغ - وفق ما يثار - مليوني فرد في مصر، و 850 ألفا في العراق، وأكثر من 200 ألف في الأردن، و 950 ألفا في السعودية.
وهذه الأعداد تمثل نسبة كبيرة من القوي العاملة الوطنية، التي تتلقي دعما ماديا مباشرا من الدولة، مما يوضح أهمية التوظيف في القطاعات الأمنية والعسكرية بالنسبة لدخل عدد كبير من الأسر. ويتداخل هذا الشكل من الرعاية الاجتماعية مع الأشكال الأخرى من الدعم التي تقدمها الدولة، حيث إن جزءا كبيرا من هذا العبء المالي ي حمل على بنود ميزانيات الوزارات الأخرى، مثل الصحة والإسكان والمالية بالنسبة لمعاشات التقاعد.
وقد يخلق هذا النظام "العسكري" للرعاية الاجتماعية أنظمة دعم فرعية مرتبطة به. ففي السعودية، توجد لوزارتي الدفاع والطيران المدني والداخلية والحرس الوطني بنية تحتية موازية تقدم خدمات في مجالات الإسكان والتعليم والصحة للعاملين بها.
ويشكل الحفاظ علي هذه الأنظمة عبئا متزايدا، لا يمكن للمالية العامة أن تتحمله في العديد من الدول، مما دعا بعضها للسماح للجيش بالمشاركة في أنشطة تجارية واقتصادية. ففي مصر، على سبيل المثال، أصبح للجيش نشاط اقتصادي واسع أجازته الدولة قانونيا، حيث يدير الجيش مصانع، تنتج أشياء عديدة، وصولا إلى الإطارات والمركبات.
في البداية، كان الهدف من هذا النشاط توفير الخدمات والسلع المنتجة لأفراد الجيش فقط. لكن على مدي العقدين الماضيين، أصبحت هذه السلع متاحة بشكل متزايد في الأسواق، حيث يتنافس الجيش مع القطاع الخاص، وفي الوقت نفسه، يحتفظ الجيش بأرباحه لتحسين ظروف جنوده وضباطه.
وعلي الجانب الآخر، تنخرط بعض الجيوش العربية في نوع مختلف من النشاط الاقتصادي. فمن المعروف أن الجيش السوري، علي سبيل المثال، قد اشترك علي مدى عقود في أنشطة السوق السوداء علي نطاق واسع، خاصة خلال فترة انتشاره الطويلة في لبنان ما بين عامي 1976 و2005، وأيضا علي طول الحدود مع العراق وتركيا والأردن.
وقد كان التساهل مع الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة وسيلة للتعويض عن الميزانيات غير الكافية، وانخفاض الأجور، وأيضا لضمان ولاء كبار القادة للنظام. أما اليمن، فيقدم مثالا ثالثا، حيث يسيطر الرئيس وأسرته على أكبر كتلة اقتصادية في الدولة، من خلال صندوق المعاشات العسكرية الخاص بالجيش، محتفظين بحصص ضخمة في مجالات الإنتاج المختلفة والخدمات والتجارة الخارجية.
في كل هذه الحالات، قد يقاوم الجيش أى إصلاحات تؤثر في أنشطته الاقتصادية، سواء بشكل مباشر، أو من خلال خصخصة أصول وخدمات الدولة التي قد يستغلها في أنشطة اقتصادية تعود عليه بالربح. كما تقاوم الجيوش إخضاعها لأي رقابة أو متابعة من جانب مجالس الوزراء أو البرلمانات أو وزارات المالية.
ومن المستبعد أن توافق علي الانسحاب من النشاط الاقتصاد المدني. وهنا، تكمن المفارقة; فالجيش يرغب في الاستقرار الداخلي، لكي يبقي بمنأي عن الانخراط في السياسة الداخلية، لكنه في الوقت نفسه يسعي لضمان ميزانيته وحماية اقتصاده الخاص.
ورغم أن ذلك قد لا يمثل أهمية في الدول العربية الأكثر ثراء، مثل دول مجلس التعاون الخليجي النفطية، حيث تتمتع الجيوش بقدر محدود من الاستقلالية، ولا تشارك في أنشطة اقتصادية مستقلة، فإن محاولات الفصل بين آلة صنع القرار السياسي والملكية الاقتصادية قد تثير مستقبلا توترات وتحديات جديدة ذات تأثير في العلاقات المدنية- العسكرية.
بوجه عام، ربما يلعب هدف حماية الميزانيات والرعاية الاجتماعية دورا في تشكيل موقف الجيوش في المنطقة من عملية التحول الديمقراطي، كما يمكن أن يؤدي أيضا إلى حدوث خلاف وشقاق داخل الجيوش طبقا للرتبة، والجيل، والبعد الاجتماعي والمهني، وأثر العلاقات الخارجية التي تتصل بالتدريب والعقيدة القتالية والقيم المعيارية.
الخاتمة- التوجهات والأدوار السياسية:
سوف يلعب الموقف الذي تأخذه الجيوش واختيارها بين مسارات الانتقال السلمي أو استخدام القمع أو التفكك والتشرذم دورا في تحديد قدرتها علي الحفاظ علي هوياتها المهنية وتطورها في المستقبل.وسوف يكون مستقبل الجيوش مرهونا باستعدادها لتعديل وضعها المؤسسي في إطار نظم الدولة، وعلي وجه التحديد الأسلوب الذي تتم به هذه العملية وسرعتها، وطبيعة أي تسويات قد يتم التفاوض عليها مع الأطراف الأخرى.
ويبدو الاحتمال الأكبر أن تأتي الضغوط الحاسمة- سواء كان تأييد ا للانتقال وإعادة التفاوض بشأن العلاقات المدنية / العسكرية، أو اعتراضا عليها- من جانب القوات البرية. وهذه القوات ليست فقط المكون الأكبر لأي قوات مسلحة وطنية، لكنها أيضا، نظرا لاعتمادها علي المجندين الإلزاميين من بين الشرائح الاجتماعية منخفضة الدخل والمهارات، هي الأكثر تأثرا بالضغوط الواقعة على المستويات المعيشية ومعاشات التقاعد، وبالتالي فهي الأكثر عرضة لنفس العوامل الاجتماعية / الاقتصادية التي كانت الدافع وراء الثورات الشعبية في "الربيع العربي".
ويشعر كبار القادة بالحساسية الشديدة تجاه هذا الأمر، لكن ذلك في حد ذاته لا يعد ضمانا لأن يؤيد الجيش ككل في النهاية الحركات الديمقراطية.ومن المحتمل أن يظهر تحالف جديد يضم عناصر من الأنظمة القديمة مع الأجنحة المحافظة لحركات المعارضة بهدف إعطاء الأولوية لـ"الاستقرار"، الأمر الذي من المحتمل أن تؤيده معظم القوي الخارجية. إن تحقيق حوكمة ديمقراطية حقيقية للقوات المسلحة، ناهيك عن تحقيق إصلاحات حقيقية داخلها، لا يزال يتطلب نضالا سياسيا مطولا علي مستويات عديدة