منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#40568
الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية

بالتقليب في كتبنا السابقة التي تحدثت عن الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية لا نجد لهذا ‏المصطلح وجودا مع أن مفرداته "الدولة" و"المدنية" هي من مفردات لغتنا، مما يتبين معه أن المصطلح ‏مستورد من بيئة غير بيئتنا-وهذا في حد ذاته ليس عيبا، لو كان لا يحمل مضمونا مخالفا لما هو مقرر في ‏ديننا-وعليه فإن محاولة البحث عنه في تراثنا لن تجدي شيئا، وعلينا أن نبحث عن معناه في البيئة التي ‏ورَّدته إلينا ثم ننظر في معناه في تلك البيئة هل يناسبنا فنقبله أم يتعارض مع ديننا فنرفضه؟ .‏
ولعل هذا ما دعا بعض الكتاب إلى القول: "بما أن مصطلحات‎ ‎الدولة‎ ‎المدنية، والدينية ‏‏(الثيوقراطية)، و(الأوتوقراطية) مصطلحات نشأت في الغرب‎ ‎أساساً، فلا بد قبل أن نسعى إلى تطبيقها ‏على واقعنا، أو نقرر رفضها وقبولها اجتماعياً ودينياً، أن نستوعب معانيها كما هي في الثقافة التي أنشأتها، ‏وأي منها يتعارض مع‎ ‎الإسلام ويتفق معه"‏ ‏.‏

لكن عدم وجود المصطلح نفسه في تراثنا، هل يعني أن المضمون الذي يحمله-سواء بالسلب أو ‏الإيجاب-لم يكن موجود أيضا؟.‏
‏ الدَّوْلة تعني في اللغة الغلبة، والغلبة يترتب عليها سلطان للغالب على المغلوب، ومن هنا يمكن ‏القول أن العامل الأساس في تعريف الدولة هو السلطان أو السلطة، فإنه راجع إلى أصلها اللغوي، وفي ‏كثير من كتب القانون الدستوري يعرفون الدولة عن طريق بيان أركانها دون الحديث عن ماهيتها، ‏وأركان الدولة كما يجيء في هذه الكتب ثلاثة: ركن جغرافي يطلق عليها لفظ إقليم وهو متمثل في قطعة ‏محددة من الأرض ، وركن إنساني يطلق عليهم شعب وهو متمثل في مجموعة من الناس تعيش في هذا ‏الإقليم ، وركن معنوي يطلق عليه السلطة العامة المستقلة ذات السيادة وهو متمثل في الحكومة التي تملي ‏إرادتها على ذلك الإقليم وما حواه من مخلوقات أو موجودات، وهذا الركن الأخير يتفق مع المعنى ‏اللغوي في الدلالة على الدولة.‏

‏ وإذا كان كثير ممن كتب في السياسة الشرعية يقتصرون في كلامهم على ما يتعلق بالدولة في ديار ‏الإسلام، ولا يتعدون ذلك إلى تفسير تنوع الدول، فإننا نجد ابن خلدون رحمه الله تعالى يقدم تفسيرا في ‏ذلك حيث يبين أنه نظرا لاختلاف الإرادات والمقاصد بين الناس وملوكهم فقد يجر ذلك إلى هرج ‏وتقاتل فكان لا بد للتغلب على هذا الاحتمال من " أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها ‏الكافة، وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم، وإذا خلت الدولة من مثل هذه ‏السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها: " سنة الله في الذين خلوا من قبل"، ثم يبين أنواع السلطة في ‏الدولة فيقول: " فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة ‏عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي ‏الآخرة" فهو يفرق هنا بين سياسة عقلية وهي الأشبه بما يدعونه الدولة المدنية، وبين سياسة دينية ثم ‏يقدم رحمه الله تعالى أصول التنوع الكامل للدول فيقول: "أن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى ‏الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضي النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع ‏المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة ‏إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن ‏صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"‏ ‏ فكانت الدولة عنده ثلاثة أنواع: فدولة قائمة على ‏حمل الناس على مقتضى الغرض والشهوة وهي ما يمكن أن نطلق عليه الدولة المستبدة، أو الديكتاتورية، ‏ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، وهي ما ‏يمكن أن نطلق عليه الدولة المدنية، ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم ‏الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الدولة الإسلامية أو الشرعية ‏

الدولة المدنية في الثقافة الغربية: ‏

الدولة المدنية: "هذا مفهوم مترجم ومعرب من الثقافة الغربية الحديثة ويقصد به الدولة التي ‏تستقل بشئونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة، فالدولة المدنية هي التي تضع قوانينها حسب المصالح ‏والانتخابات والأجهزة والتي في نفس الوقت لا يخضع لتدخلات الكنيسة"‏ ‏ والكنيسة في الغرب كانت ‏هي راعية الدين والممثلة له، فاستقلال الدولة المدنية عن تدخل الكنيسة ووضعها للقوانين حسب ‏المصالح، معناه عند القوم استقلالها عن الدين ‏ وهو ما يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.‏
‏ ويقول كاتب آخر: "فمن الناحية التاريخية إذا رجعنا إلى أصل اصطلاحها الغربي، نجد أن للدولة ‏المدنية مفهوما فلسفيا- سياسيا، مناقضا للدولة الدينية (الثيوقراطية)، والتي يتأرجح مفهومها (نظريا) ‏بين حكم رجال الدين وتحكيم الدين نفسه في السياسة، بغض النظر عن طبيعة من يحكم به ! ويتمثل ‏مفهومها عمليا بتنحية الدين عن السياسية مطلقا، باعتبار الدين هو مجموعة قوانين إلهية مميزة للدولة ‏الدينية... فكانت الدولة المدنية بمبدئها الرافض لتدخل الدين في السياسة دولة علمانية.. وأنها تمثل عبر ‏التاريخ سواء في الشرق أو الغرب عند دعاتها إطارا سياسيا للعلمانية قابلا لتوظيف أي اتجاه فلسفي ‏إيديولوجي في الحياة بشرط تنحية الدين عن السياسية"‏ ‏. "الحكومة المدنية في الفضاء المعرفي الغربي تعني ‏تنظيم المجتمع وحكمه بالتوافق بين‎ ‎أبنائه بعيدا عن أي سلطة أخرى سواء دينية أو غيرها، أي إن شرط ‏‏(العلمانية) أساسي في‎ ‎تلك الحكومات"‏
‏ وإذا رجعنا إلى الوراء ثمانين سنة إلى أول من أدخل هذه المصطلحات إلى بيئتنا أو من يُعد من ‏أولهم نجد الكلام نفسه حيث يقول: "طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة ‏دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلا بالرسالة ‏ولا قائما على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئا أقل ولا أكثر من ‏الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين وهذا الذي قد كان"‏ ، فالدولة ‏‏(الزعامة) المدنية عنده هي دولة (زعامة) لا دينية .‏

والمتابع لما يكتب هذه الأيام عن الدولة المدنية يمكنه رصد اتجاهات أربعة في بيان ما تعنيه الدولة ‏المدنية ، كلها تدور حول ما تقدم من معنى سواء بالموافقة عليه أو المخالفة له

الاتجاه الأول: وهو يمثل من قَبِل هذا المصطلح كما جاء من الغرب:‏

وهذا الاتجاه يمكن تقسيمه إلى فئتين:‏
فئة قبلت اللفظ ومفرداته لكن لم تصل به إلى غايته، أما الفئة الثانية فقد وصلت باللفظ إلى غايته ‏وصرحت بأن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية:‏
الفئة الأولى: فإذا ذهبنا إلى من قَبِل هذا المصلح في بيئتنا العربية لننظر كيف تلقوه عن الغرب ‏وكيف يفهمونه، فإننا نجد من يقول مبينا خصائص هذه الدولة: والدولة‎ ‎المدنية هي الدولة التي تقوم ‏على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون ، ومن يقول: الدولة المدنية هي الدولة التي يحكم ‏فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسية والاقتصاد ... الخ وليس علماء الدين بالتعبير ‏الإسلامي أو " رجال الدين " بالتعبير المسيحي"‏
ومن يقول: الدولة المدنية هي دولة المؤسسات التي تمثل الإنسان بمختلف أطيافه الفكرية ‏والثقافية والأيدلوجية داخل محيط حر لا سيطرة فيه لفئة واحدة على بقية فئات المجتمع الأخرى، مهما ‏اختلفت تلك الفئات في الفكر والثقافة والأيدلوجيا ‏.، ‏
لكن هذا الكلام إذا أُخذ مفصولا عن لواحقه فقد لا يتبين منه شيء، فهو كلام محتمل يسهل ‏التخلص من لوازمه، لذا لو رجعنا إلى تفصيلات الكلام فإنها تكشف كثيرا من هذا الإجمال أو ‏الغموض، ففي تفصيلات الكاتب الأول ، نجده يضع الدولة المدنية في مقابل ما يسمونه بالإسلام ‏السياسي، ما يعني أن علاقة هذا المصطلح في فهمهم بالإسلام ليست علاقة توافق، وإنما هي علاقة ‏تعارض.‏
‏ والحقيقة أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى إسلاما سياسيا وإسلاما غير سياسي، فتلك مسميات ‏ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فالإسلام هو الدين الذي رضيه رب العباد للعباد، بما فيه من عقائد ‏وعبادات وتشريعات ومعاملات، فتقسيم الإسلام إلى سياسي وغير سياسي ونحو ذلك من ‏المصطلحات، وقبول ما يزعمونه بأنه إسلام غير سياسي وينعتونه بالإسلام المعتدل، ورفض ما يسمونه ‏بالإسلام السياسي وينعتونه بالإسلام المتشدد، هو مناظر لفعل المشركين من قبل: "الذين جعلوا القرآن ‏عضين"، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّءُوهُ أَجْزَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا ‏بِبَعْضِهِ "‏ ‏.‏
يقول الكاتب المذكور: "فالخوف على‎ ‎الدولة المدنية‎ ‎قائم، والسؤال عن مستقبلها مطروح، في عدد ‏متزايد من الدول التي يتنامى فيها دور حركات الإسلام السياسي"‏ ، ويعلق على محاولة الملك فؤاد-بعد ‏سقوط الخلافة في تركيا-أن يجعل من نفسه خليفة فيقول: "عندما أغرى سقوط الخلافة العثمانية عام ‏‏1924الملك الراحل فؤاد بأن يحمل اللقب الذي بات بلا‎ ‎صاحب، لم يكن واضحاً حينئذ لكثير من ‏المصريين مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث في‎ ‎طبيعة الدولة إذا نجح فؤاد في تنصيب نفسه خليفة، لم ‏يدرك الخطر على‎ ‎الدولة المدنية‎ ‎إلا قسم في‎ ‎النخبة السياسية والثقافية. ولكن هذه النخبة في مجملها كانت ‏مؤمنة بأن الخلط بين‎ ‎السياسة والدين هو نوع من الشعوذة التي تسيء إلى كليهما، على نحو ما أبلغه الزعيم‎ ‎الوطني الراحل مصطفى النحاس بعد ذلك بسنوات إلى مؤسس جماعة "الإخوان" حسن البنا"‏ ‏ ، ‏ويقول أيضا :" وسجل التاريخ لرجال مثل علي عبد الرازق وطه حسين وعبد العزيز فهمي وغيرهم، ‏دورهم المقدر في حماية‎ ‎الدولة المدنية "‏ ‏.‏
‏ ومعروف ماذا كان دور علي عبد الرازق الذي يعد أول من أنكر علاقة الدين بالحكم أو السياسة، ‏وأنكر أن تكون خلافة الصديق رضي الله تعالى خطة دينية، وكذلك دور طه حسين التغريبي وغيره ممن ‏ذكرهم الكاتب أو أشار إليه، وهذا الاعتراف يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية، وإن كان بعض ‏الناس يفضل استخدام لفظ المدنية على العلمانية من أجل الخداع والمراوغة.‏
ويقول الكاتب الثاني: نريد أن نتجاوز التسميات إلى المضامين أي أن المضمون للفكرة هي: قيام ‏الدولة على أساس مدني، وعلى دستور بشري أيا كان مصدره، وعلى احترام القانون وعلى المساواة وحرية ‏الاعتقاد، ويزيد الأمر تفصيلا فيضيف: نقبل وننادي وندعم الدولة المدنية الحديثة القائمة على سلطة ‏الشعب في التشريع وكما ورد بالنص في برنامج حزب الوسط الجديد في المحور السياسي " الشعب ‏مصدر جميع السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام ، ‏وهذا المبدأ يتضمن حق الشعب في أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانين التي تتفق ومصالحه.. ويؤمنون ‏بأساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات بكافة أشكالها ومنها السياسية بين الرجل والمرأة والمسلم ‏وغير المسلم على أساس المواطنة الكاملة ، ويؤمنون بالتعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية
ويقول الكاتب الثالث: في الدولة المدنية يضع الإنسان قوانينه التي تنظم حياته كونه أعرف بأمور ‏دنياه، ويستمد من قوانين دينه القوانين التي تنظم علاقته بربه، ليكون مؤمنا لا يمنح لنفسه الحق أن ‏يكون مدعيا لامتلاك الحقيقة ومفسرا‎ ‎وحيدا لمفاهيم الدين، مما يجعل الدولة كهنوتية تخضع لحكم ‏الكهنوت وليس لحكم القانون ، فالدولة المدنية في فهمه تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي ‏تحكم أمور الحياة، وحصر الدين في المفهوم العلماني الذي يقصر الدين على الشعائر التعبدية في معناها ‏الضيق
وإذا كان ذلك الكاتب الأول والثاني من دولة والثالث من دولة أخرى فإن هنا كاتبا آخر من دولة ‏ثالثة يردد المقولة نفسها، فعلى بعد ما بينهم من المسافات وافتراق الديار وحدت بينهم الأفكار، فيقول: ‏‏"إن مصدر السلطة في‎ ‎الدولة‎ ‎المدنية‎ ‎هو الأمة والشعب، فالأمة باب الشرعية الوحيد لها ... وللسلطة في‏‎ ‎الدولة‎ ‎المدنية‎ ‎ثلاثة أنواع مستقلة عن بعضها تمام الاستقلال، ولكل منها مؤسساتها‏‎ ‎واختصاصاتها، ‏وهي: السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ... والمواطنة في‏‎ ‎الدولة‎ ‎المدنية‎ ‎حق لكل من توافرت فيه ‏شروطها، بغض النظر عن دينه وعرقه، ومن حصل عليه كفلت حقوقه باسم القانون، فلا طبقية ولا ‏طائفية ولا عنصرية "‏ ‏.‏
وهناك من يقابل بين الدولة المدنية والدولة البوليسية فيزعم أن كل دولة ليست مدنية هي دولة ‏بوليسية قائمة على القمع والظلم بغض النظر عن أي انتماء عقدي، وكلامه هنا يعني أن الدولة الإسلامية ‏دولة بوليسية لا يمكن القبول بها، لأنها من وجهة نظره ليست دولة ديمقراطية فيقول: والدولة المدنية : ‏نقيض الدولة العسكرية، وكل حكم سلطوي قمعي لا يقوم على الأسس الديمقراطية، هو حكم بوليسي ‏سواء كان متسميا باسم الدولة الدينية أو بغيره من الأسماء التي مهما تنوعت فإن السلطة التي تحتكر ‏الحكم عن طريق فئة واحدة وفكر واحد هي سلطة لدولة بوليسية استبدادية متخلفة... ليس هناك دولة ‏دينية، وإنما دولة مدنية أو دولة بوليسية، لان الدولة المدنية كفيلة باحتضان كل الأديان والأفكار، أما ‏الدولة البوليسية. فإنها دولة لا تقبل الآخر وتستعدي التعدد والتنوع مرة تحت مظلة الحكم العسكري ‏المعلن ومرة تحت مظلة الحكم الديني، وكلاهما حكم بوليسي لا علاقة له بمبادئ الدين ، فكل حكم لا ‏يقوم على الأسس الديمقراطية-عنده- هو حكم بوليسي استبدادي متخلف، سواء كان يستمد مرجعيته ‏من الإسلام أو من غيره، ‏
‏ الفئة الثانية: وهناك من يصرح تصريحا دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ أن الدولة المدنية تعني ‏الدولة العلمانية، فهذا كاتب يقول في مقال له بعنوان لماذا ننادي بالدولة العلمانية؟: "ومن هنا حرصت ‏البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة، وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين ‏دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة،... إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة ‏لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل وحالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة والكبيرة ‏التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها وبالتالي الاختلاف المرير حولها"‏ ، وهذا كاتب آخر ‏يقول: " لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية، لأن العقيدة، ‏أية عقيدة كانت لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. ‏ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في المجتمع المدني...إلى أن يقول: وأخيرا نؤكد أن الدولة المدنية العلمانية ‏الليبرالية الدستورية ليست شكلا مجردا إنما مضمونا يساهم في تقدم المجتمع بكل مكوناته وقومياته ‏وأديانه "‏ ، وهذا كاتب آخر يضع الشروط الأساس لبناء الدولة المدنية فيقول : "استكمال بناء الدولة ‏المدنية الحديثة بما يتطلب من خلو المجال العام من كل الإِشارات والرموز الدينية، حتى يصبح من ‏الرحابة إلى الحد الذي يسع فيه كل المختلفين. وأن تجرى السياسة على أساس المصلحة، وأن يكون ‏التشريع تعبيرا عن تنوع الأمة"‏ ‏.‏

الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا:‏
يحلو لكثير من الكتاب في هذا الموضوع من أصحاب الاتجاه التغريبي المقابلة بين ما يسمونه دولة ‏مدنية ودولة ثيوقراطية، أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة ‏والقداسة، ويذكرون ما في الدولة الثيوقراطية من المثالب والعيوب والآفات، ويسقطون ذلك على الدولة ‏الإسلامية، وهذا ليس من المنهج العلمي الذي يتبجح به هؤلاء فإن هذا اللفظ (ثيوقراطية) ليس من ‏الألفاظ العربية، وهو لم يأت في أي كتاب من كتب المسلمين فكيف يحاسبوننا عليه؟ وهل هذا إلا كمثل ‏من يتهم غيره بتهمة من عند نفسه ثم يحاسبه عليها وهو لا يعلم بها؟، فإذا كانت الدولة الثيوقراطية ‏ليست من مصطلحاتنا أو مفرداتنا، لم يجز لأحد أن يحاكمنا إليها، ومن أراد فليجأ إلى ألفاظنا ‏ومصطلحاتنا حتى يكون النقاش علميا. ‏
إن الدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا نعلم عن وجودها إلا ما ‏كان في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح، حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء ‏حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية، فهذه خبرة نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب ‏أو بعيد، فما الذي يدعو هؤلاء إلى محاكمتنا إلى لفظ ليس من عندنا ولا يحاكموننا إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا ‏الثابتة في كتب أعلام هذه الأمة؟ وهل هذه إلا دليل على أن هؤلاء يحاكمون تاريخنا وهم في الوقت نفسه ‏ينظرون إلى تاريخ الغرب النصراني؟ وهو يعني اختزال الخبرة السياسية في العالم كله في الخبرة الغربية؟ ‏وهذا في منتهى التبعية واحتقار الذات، يقول أحد الكتاب: "ثقافتنا الإسلامية لم تعرف دولة مدنية ‏وأخرى دينية، فهذا التقسيم أفرزته حركة التنوير في الغرب المناهضة لسلطة الكنيسة المطلقة، والتي كانت ‏تمثل نمط السلطة الدينية غير المرغوب فيها، وهو المعنى الذي يعنيه مصطلح (ثيوقراطية) الذي هو نظام ‏حكم يستند على أفكار دينية في الأساس مستمدة من المسيحية واليهودية، وتعني حكماً بموجب الحق ‏الإلهي المزعوم، وهو نظام كان له وجود في العصور الوسطى في أوروبا، نتجت عنه دول دينية مستبدة ‏ولكننا في الشرق الإسلامي لم نعرف هذا اللون من الحكم، فليس في الإسلام مؤسسة دينية كالكنيسة، ‏التي فيها التراتيبية المعهودة بين رهبانها ولا يجب أن يسمح بقيامها
لقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب، ما يحاول هؤلاء بافتراء واضح أن يلصقوه بأمة ‏المسلمين، فقال تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" وقد بين أهل التفسير أن تلك ‏الربوبية كانت في استقلال الأحبار والرهبان بالتشريع حتى إنهم ليحلون ما حرم الله تعالى ويحرمون ما ‏أحل الله تعالى، وهذا لم يكن بحمد الله تعالى في أمة المسلمين

الاتجاه الثاني: وهو يمثل من حاول المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام ‏

يرى هذا الاتجاه أن المسألة هينة وأنها مجرد اصطلاح والاصطلاح لا مشاحة فيه كما يذكر أهل العلم، ‏وعلى ذلك فهم يقررون إن الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة،: "إن ‏الدولة مدنية لا دينية، أما مصدر الدستور والقانون فيها فحتما هو الكتاب والسنة ومورث الأمة فقهاً ‏وفكراً، والدولة المدنية في عصرنا هي دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها"‏ ،‎ ‎وهذا لا شك فيه محاولة ‏للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة بلا خلاف بين أحد من الأمة، إذ لم يدَّع أحد ‏أن للأمة أن تشرع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة من دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، ‏لكن هذا الكلام في الحقيقة يحمل التناقض في ثناياه، إذا كيف نقول عنها إنها لا دينية ثم نقول في الوقت ‏نفسه إن دستورها هو الكتاب والسنة، فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين، وكون دستورها ‏الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض، وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات ‏في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.‏
‏ والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح، فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في ‏الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمال مستقر مناقض ‏للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوصف الدولة في الإسلام سببا في اللبس وخلط الأمور، ‏لأن هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحا مجردا وإنما صار اصطلاحا محملا بالدلالات التي حملها من البيئة ‏التي قدم منها.‏
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة، فما الذي يحملهم ‏على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا ‏إلى جمعها، كما يمثل نوعا من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مسوغ مقبول ‏للإصرار على هذا الاستعمال. ‏
ومما هو مقبول في العقل السليم أن الكلمة ذات المعنى الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسدا فإنه ‏يعدل عنها إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد ، وهذا الأمر المعقول قد أرشد إليه القرآن حينما قال الله ‏تعالى: [‏‎ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] [البقرة: 104 ] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في ‏مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص -عليهم ‏لعائن الله-فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا. يورون بالرعونة"‏ ‏ وقال القرطبي رحمه الله ‏تعالى: "في هذه الآية دليلان: أحدهما - على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص ‏والغض... الدليل الثاني - التمسك بسد الذرائع وحمايتها... والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه ‏يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع"‏ ‏.‏

الاتجاه الثالث: وهو يمثل من يرى أن الدولة المدنية هي جوهر الإسلام وحقيقته

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن مصطلح الدولة المدنية تعبير عن حقيقة الإسلام وجوهره، "فالدولة ‏الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة‎ ‎مَدَنِيَّة، تقوم السلطة بها على البَيْعة ‏والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن‎ ‎الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة ـ مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد ‏فيها ـ أن‎ ‎تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل‎ ‎مسلم، بل كل ‏مواطن، أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكرًا، أو ضيَّع‎ ‎معروفًا، بل على الشعب أن يُعلن ‏الثورة عليه إذا رأي كفرًا بَوَاحًا عنده من الله‎ ‎برهان"‏ ‎.‎‏ لكن أصحاب هذا الاتجاه لم يقدموا شيئا ‏يدعمون به تلك المقولة، فمن حيث اللفظ فإن هذا المصطلح جديد، فلا يمكن البحث عنه في التراث ‏الشرعي للتدليل على تلك الفرضية، ومن حيث المعنى فإن هذا المعنى المذكور لا يوافق عليه جميع ‏القائلين بالدولة المدنية الموافقين عليها، فضلا عن اشتمال هذا المصطلح لمضامين مناقضة للعقيدة ‏والشريعة.‏
على أن هناك ممن يدعي هذه الدعوى لا يقدم مشاريع وأطروحات واضحة مفصلة تبين بها تلك ‏المسألة، بعيدا عن الكلام المجمل الذي يمكن صرفه إلى عدة معاني محتملة غير قاطعة في المراد منها ‏

الاتجاه الرابع: رفض هذا المصطلح لما اشتمل عليه من مفاسد ولعدم الحاجة إليه:‏

‏ يرى هذا الاتجاه أن الدولة المدنية التي يجري عنها الحديث هي دولة علمانية، "هذا الاصطلاح ‏‏(الدولة المدنية) هو مطاطي ينكمش في أحسن حالاته ليحاكي الغرب في كثير من مناهجه السياسية في ‏الحكم مع الحفاظ على بعض الخصوصيات، ويتمدد حتى يصل إلى أصل استعماله دولة علمانية صرفة"‏ ، ‏‏"ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ ... ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق ‏الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها ‏إسلامية، ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت. وكل حكم سوى حكم الله هو ‏طاغوت"‏ ‏ ‏
وفي هذا الجانب يتفق هذا الاتجاه مع الاتجاه الأول ولكن بفارق جوهري جدا، وهو أن الاتجاه ‏الأول لا يظهر منه رفض واضح لعلمانية الدولة المدنية، بل منهم من يصرح بعلمانيتها ويدعو إلى ذلك، ‏وأما هذا الاتجاه فيظهر منه الرفض الواضح لعلمانية الدولة ويحذر منها، ويرى أن الدين والعلمانية ‏نقيضان لا يجتمعان معا، وأما الاتجاه الثاني فيحاول أن يوائم بين الأمرين فيقبل شيئا من هؤلاء وشيئا من ‏هؤلاء، وأما الاتجاه الثالث فهو يجعل الدولة المدنية من صميم الإسلام .‏

ومن هنا يتبين أن القابلين لهذا المصطلح مختلفون فيما بينهم فيما يظهر من كلامهم، فإن كان ‏اختلافهم هذا حقيقيا، فهو دليل منهم على غموض هذا المصطلح وعدم وضوحه، واشتماله على كثير من ‏الأمور التي يناقض بعضها بعضا، فهم مدعوون لتنقيته من تلك التناقضات، واللائق بمثل هذا المصطلح ‏في هذه الحالة تركه وعدم التعويل عليه، والبحث-إن كان لا بد-عن مصطلح آخر بريء من هذه ‏التناقضات والغموض الذي يحيط به ‏.

المصدر :

http://www.saaid.net/Doat/alsharef/37.htm
http://www.saaid.net/Doat/alsharef/38.htm

الشيخ محمد بن شاكر الشريف
منقول من منتدى أنا مسلم