- الأربعاء نوفمبر 30, 2011 8:57 pm
#40627
يسرف البعض إغراقا في التفاؤل، ويرون فيما جرى بالوطن العربي، تحريكا لمياه راكدة. لكن مثل هذا القول يتناسى أن مشروع الأمة للنهوض بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان تحريكا لمياه راكدة، انتهى بسايكس بيكو، ووعد بلفور
التطورات التي حدثت في مصر بالأيام الأخيرة لا تبعث على التفاؤل. والحال ليس أفضل في كثير من الأقطار العربية. سفينة تتمايل بقوة فوق أمواج عاتية، تهددها بالغرق كل حين.
والحال في ليبيا، أصعب بكثير من ذلك، فالصراعات تكاد تعصف بمستقبله. هناك صراع بين المجلس الانتقالي وبين الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة والصراعات بين الليبراليين والإخوان لم تعد سرا. وهناك قبائل تتصارع فيما بينها. وقد برز على السطح صراع آخر على تقاسم التركة الليبية بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وبقية أعضاء الناتو التي شكلت التحالف الدولي، الذي أسهم في إسقاط النظام السابق، تحت شعار الحماية الدولية للمدنيين.
والأوضاع في اليمن وسوريا، مرشحة للمزيد من الانهيارات، ما لم تتحقق مصالحة تاريخية بين القوى الحية في البلدين الشقيقين، تسهم في حمايتهما من التفتت، وتعيد الاعتبار لحضورهما التاريخي.
المتفائلون، يرون في ملاحظات كهذه تشاؤما، وركونا إلى التحليل الجامد، غير المتفاعل مع ما يجري من تحولات تاريخية حوله. ويرون أن الأجدى هو التحريض على البناء والدعوة لفتح صفحة جديدة من التعاون بين مختلف أبناء الشعب في البلدان التي شهدت التغيير. ويذهب البعض الآخر، إلى ما هو أبعد من ذلك فيصف مقالتنا حول مستقبل ليبيا، التي نشرت قبل عدة أسابيع بأنها تماه مع لغة المثقفين الغربيين، الذين لا يجدون في أمتنا سوى قبائل، تتصارع فيما بينها على الكلأ والماء.
ويقيني أن مهمة المثقف والباحث، هي أبعد من ذلك بكثير. إن المثقف ينبغي أن يكون ضمير الأمة والعين الفاحصة المؤتمنة على قراءة الواقع وتشخيصه، وفقا للمعايير العلمية الصارمة والدقيقة. وتلك قضية تقتضيها الأمانة العلمية، والموقف الأخلاقي والمصلحة الوطنية والقومية. وحتى إذا بدت النتائج التي يتوصل إليها التحليل والتقييم غير واعدة، فإنها تفتح آفاقا جديدة، وتسهم في التحريض على اصطناع طرق ومخارج وأدوات تمكن مشروع النهضة من أن يواصل مساره التاريخي. وأن يصل في النهاية لتحقيق الأهداف العظيمة التي هي مبرر انبعاثه. وذلك هو جوهر الالتزام بما نطلق عليه مجازا بـ"الواقعية الجديدة".
يسرف البعض إغراقا في التفاؤل، ويرون فيما جرى بالوطن العربي، تحريكا لمياه راكدة. لكن مثل هذا القول يتناسى أن مشروع الأمة للنهوض بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان تحريكا لمياه راكدة، انتهى بسايكس بيكو، ووعد بلفور، وسقوط المشرق العربي تحت مجنزرات الغزو البريطاني والفرنسي، وانقطاع دور مراكز النهضة، وقيام الكيان الصهيوني، ومن ثم فشل ثورات 1919 في مصر وثورة العشرين في العراق، و1936 في فلسطين، وانتفاضات أخرى كثيرة.
ولم تكن كرنفالات الفرح آنذاك بأقل منها الآن، لكن غياب القراءة الصحيحة للواقع، تسبب في اندحار الطبقة المتوسطة، ليرتد معها مشروع التنوير الذي برز بين الحربين الكونيتين، وليتسلم الراية الشبان اليافعون في المؤسسة العسكرية العربية، التي انبثق منها لاحقا عدد لا يستهان به من أنظمة الاستبداد. رغم تسليمنا بأن هذا القول ينبغي أن لا يؤخذ على علاته، وأن لكل قاعدة استثناء.
يبرر البعض تفاؤلهم، بالقول إن ما يجري من انهيارات سياسية واجتماعية، واقتصادية، ومن احترابات داخلية في البلدان التي شهدت تحولات في هرم السلطة، منذ بداية هذا العام، أمر طبيعي. ويستدلون على ذلك، بأن انبثاق النظام الديمقراطي الأوروبي استغرق خمسمئة عام، وحروب أهلية وأخرى بين بلدان القارة الأوروبية، ذهب ضحيتها ملايين من البشر، ولكن أوروبا في النهاية وقفت على قدميها، وشقت طريقها كقوة صاعدة، استطاعت أن تتحول إلى قلب العالم، وأن تدحر الإمبراطوريات التي وقفت ضدها.
إن ما يجري الآن في بعض البلدان العربية، من وجهة النظر هذه يشبه إلى حد كبير ما شهدته أوروبا، قبيل وأثناء انفجار الثورة الصناعية. ويتناسى هذا القول جملة من الحقائق أهمها أن التحولات الكبرى في القارة الأوروبية هي نتاج تطور تاريخي، وانتقال في مراكز القوى، وبروز قوى اجتماعية جدية، وجدت في البنى القائمة معوقا لانطلاقتها، فقامت بكنس كل الترسبات التي تحول دون انطلاقتها. وقد انطلقت من قوالب فكرية وبرامج سياسية، عبرت عن نفسها في الأدب والفنون والفلسفة. وكان الصراع الاجتماعي، يتفاعل مع عوامل ذاتية محركة، لم تتأثر سلبا بالمناخات المحيطة بالقارة الأوروبية وبهيمنة القوى العظمى السائدة، التي كانت هي الأخرى في طريقها للأفول.
والنتيجة أن الصراع في القارة الأوروبية، كان صراعا يتجه نحو المستقبل، من جوانب كثيرة. كان الصراع يصهر الإمارات الصغرى، ويخلق منها أمما حية، وفي معمعانه يندحر الإقطاع، والكنيسة وتبرز فلسفة الأنوار، وتتعزز أطروحة مبدأ فصل السلطات بين المؤسسات الثلاث، ويعلن بشكل لا لبس فيه أن الناس ولدوا أحرارا، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون. وتتحول العلاقات من طابعها البطركي، إلى الطابع التعاقدي. وكلما تصاعد الصراع، ضمن هذه السياقات تعززت المكاسب الديمقراطية.
في الوطن العربي، تأثرت الحركة السياسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالعوامل المحيطة، ولم تكن نشأتها بتأثيرات ذاتية، وبقيت كذلك عقودا طويلة. وكان التأثير الكولونيالي واضحا على مسار حركات الاستقلال. يكفي أن حركة التحرر بنت تحالفاتها على النوايا الحسنة بالمندوب السامي البريطاني في القاهرة، مكمامون، وأن النخب العربية انخرطت في كتائب الجيش العربي الذي يقوده لورانس العرب، وكان الأمل أن يكون التحالف مع الغرب مقدمة لاستقلال المشرق العربي، لكن النتائج جاءت كارثية ومخيبة للآمال. هل لنا أن نعيد تكرار التجربة، بسياقات أخرى، بعد أن أكدت تجارب أكثر من قرن من الزمن على أن القوى التي اضطلعت بمشروع النهضة غير مهيأة تاريخيا لقيادة أي مشروع يتجه نحو المستقبل، خاصة وأن أدواتها ووسائلها، ما زالت هي ذات الوسائل التي تسببت في الماضي في هزيمتنا وسحق كرامتنا.
وعلى صعيد الانتقال الاجتماعي، ساهم اندماج البلدان العربية، بالاقتصاد الخارجي، إلى جعل التشكل الاجتماعي مشوها، فلا هو بقي في حدود العلاقات البطركية والاقطاعية التي سادت من قبل، ولا هو استطاع تجاوزها لمرحلة تشكيل الدولة المدنية الحديثة. وذلك ما يستحق منا تسليطا أكبر، لعلنا نتمكن من الإسهام مع غيرنا في خلق رؤية تمكن من الخروج من النفق، وتعيد بعضا من الأمل واليقين والثقة في المستقبل.
التطورات التي حدثت في مصر بالأيام الأخيرة لا تبعث على التفاؤل. والحال ليس أفضل في كثير من الأقطار العربية. سفينة تتمايل بقوة فوق أمواج عاتية، تهددها بالغرق كل حين.
والحال في ليبيا، أصعب بكثير من ذلك، فالصراعات تكاد تعصف بمستقبله. هناك صراع بين المجلس الانتقالي وبين الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة والصراعات بين الليبراليين والإخوان لم تعد سرا. وهناك قبائل تتصارع فيما بينها. وقد برز على السطح صراع آخر على تقاسم التركة الليبية بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وبقية أعضاء الناتو التي شكلت التحالف الدولي، الذي أسهم في إسقاط النظام السابق، تحت شعار الحماية الدولية للمدنيين.
والأوضاع في اليمن وسوريا، مرشحة للمزيد من الانهيارات، ما لم تتحقق مصالحة تاريخية بين القوى الحية في البلدين الشقيقين، تسهم في حمايتهما من التفتت، وتعيد الاعتبار لحضورهما التاريخي.
المتفائلون، يرون في ملاحظات كهذه تشاؤما، وركونا إلى التحليل الجامد، غير المتفاعل مع ما يجري من تحولات تاريخية حوله. ويرون أن الأجدى هو التحريض على البناء والدعوة لفتح صفحة جديدة من التعاون بين مختلف أبناء الشعب في البلدان التي شهدت التغيير. ويذهب البعض الآخر، إلى ما هو أبعد من ذلك فيصف مقالتنا حول مستقبل ليبيا، التي نشرت قبل عدة أسابيع بأنها تماه مع لغة المثقفين الغربيين، الذين لا يجدون في أمتنا سوى قبائل، تتصارع فيما بينها على الكلأ والماء.
ويقيني أن مهمة المثقف والباحث، هي أبعد من ذلك بكثير. إن المثقف ينبغي أن يكون ضمير الأمة والعين الفاحصة المؤتمنة على قراءة الواقع وتشخيصه، وفقا للمعايير العلمية الصارمة والدقيقة. وتلك قضية تقتضيها الأمانة العلمية، والموقف الأخلاقي والمصلحة الوطنية والقومية. وحتى إذا بدت النتائج التي يتوصل إليها التحليل والتقييم غير واعدة، فإنها تفتح آفاقا جديدة، وتسهم في التحريض على اصطناع طرق ومخارج وأدوات تمكن مشروع النهضة من أن يواصل مساره التاريخي. وأن يصل في النهاية لتحقيق الأهداف العظيمة التي هي مبرر انبعاثه. وذلك هو جوهر الالتزام بما نطلق عليه مجازا بـ"الواقعية الجديدة".
يسرف البعض إغراقا في التفاؤل، ويرون فيما جرى بالوطن العربي، تحريكا لمياه راكدة. لكن مثل هذا القول يتناسى أن مشروع الأمة للنهوض بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان تحريكا لمياه راكدة، انتهى بسايكس بيكو، ووعد بلفور، وسقوط المشرق العربي تحت مجنزرات الغزو البريطاني والفرنسي، وانقطاع دور مراكز النهضة، وقيام الكيان الصهيوني، ومن ثم فشل ثورات 1919 في مصر وثورة العشرين في العراق، و1936 في فلسطين، وانتفاضات أخرى كثيرة.
ولم تكن كرنفالات الفرح آنذاك بأقل منها الآن، لكن غياب القراءة الصحيحة للواقع، تسبب في اندحار الطبقة المتوسطة، ليرتد معها مشروع التنوير الذي برز بين الحربين الكونيتين، وليتسلم الراية الشبان اليافعون في المؤسسة العسكرية العربية، التي انبثق منها لاحقا عدد لا يستهان به من أنظمة الاستبداد. رغم تسليمنا بأن هذا القول ينبغي أن لا يؤخذ على علاته، وأن لكل قاعدة استثناء.
يبرر البعض تفاؤلهم، بالقول إن ما يجري من انهيارات سياسية واجتماعية، واقتصادية، ومن احترابات داخلية في البلدان التي شهدت تحولات في هرم السلطة، منذ بداية هذا العام، أمر طبيعي. ويستدلون على ذلك، بأن انبثاق النظام الديمقراطي الأوروبي استغرق خمسمئة عام، وحروب أهلية وأخرى بين بلدان القارة الأوروبية، ذهب ضحيتها ملايين من البشر، ولكن أوروبا في النهاية وقفت على قدميها، وشقت طريقها كقوة صاعدة، استطاعت أن تتحول إلى قلب العالم، وأن تدحر الإمبراطوريات التي وقفت ضدها.
إن ما يجري الآن في بعض البلدان العربية، من وجهة النظر هذه يشبه إلى حد كبير ما شهدته أوروبا، قبيل وأثناء انفجار الثورة الصناعية. ويتناسى هذا القول جملة من الحقائق أهمها أن التحولات الكبرى في القارة الأوروبية هي نتاج تطور تاريخي، وانتقال في مراكز القوى، وبروز قوى اجتماعية جدية، وجدت في البنى القائمة معوقا لانطلاقتها، فقامت بكنس كل الترسبات التي تحول دون انطلاقتها. وقد انطلقت من قوالب فكرية وبرامج سياسية، عبرت عن نفسها في الأدب والفنون والفلسفة. وكان الصراع الاجتماعي، يتفاعل مع عوامل ذاتية محركة، لم تتأثر سلبا بالمناخات المحيطة بالقارة الأوروبية وبهيمنة القوى العظمى السائدة، التي كانت هي الأخرى في طريقها للأفول.
والنتيجة أن الصراع في القارة الأوروبية، كان صراعا يتجه نحو المستقبل، من جوانب كثيرة. كان الصراع يصهر الإمارات الصغرى، ويخلق منها أمما حية، وفي معمعانه يندحر الإقطاع، والكنيسة وتبرز فلسفة الأنوار، وتتعزز أطروحة مبدأ فصل السلطات بين المؤسسات الثلاث، ويعلن بشكل لا لبس فيه أن الناس ولدوا أحرارا، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون. وتتحول العلاقات من طابعها البطركي، إلى الطابع التعاقدي. وكلما تصاعد الصراع، ضمن هذه السياقات تعززت المكاسب الديمقراطية.
في الوطن العربي، تأثرت الحركة السياسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالعوامل المحيطة، ولم تكن نشأتها بتأثيرات ذاتية، وبقيت كذلك عقودا طويلة. وكان التأثير الكولونيالي واضحا على مسار حركات الاستقلال. يكفي أن حركة التحرر بنت تحالفاتها على النوايا الحسنة بالمندوب السامي البريطاني في القاهرة، مكمامون، وأن النخب العربية انخرطت في كتائب الجيش العربي الذي يقوده لورانس العرب، وكان الأمل أن يكون التحالف مع الغرب مقدمة لاستقلال المشرق العربي، لكن النتائج جاءت كارثية ومخيبة للآمال. هل لنا أن نعيد تكرار التجربة، بسياقات أخرى، بعد أن أكدت تجارب أكثر من قرن من الزمن على أن القوى التي اضطلعت بمشروع النهضة غير مهيأة تاريخيا لقيادة أي مشروع يتجه نحو المستقبل، خاصة وأن أدواتها ووسائلها، ما زالت هي ذات الوسائل التي تسببت في الماضي في هزيمتنا وسحق كرامتنا.
وعلى صعيد الانتقال الاجتماعي، ساهم اندماج البلدان العربية، بالاقتصاد الخارجي، إلى جعل التشكل الاجتماعي مشوها، فلا هو بقي في حدود العلاقات البطركية والاقطاعية التي سادت من قبل، ولا هو استطاع تجاوزها لمرحلة تشكيل الدولة المدنية الحديثة. وذلك ما يستحق منا تسليطا أكبر، لعلنا نتمكن من الإسهام مع غيرنا في خلق رؤية تمكن من الخروج من النفق، وتعيد بعضا من الأمل واليقين والثقة في المستقبل.